د. أحمد الحطاب - الأحزاب السياسية والسياسة الملكية

هناك سؤالٌ لطالما تردَّدَ في خاطري وأظن أن نفسَ السؤال يتردَّدُ في خاطر الكثير من المواطنات والمواطنين. هذا السؤال هو الآتي : "لماذا أحزابنا السياسية ليست لها الجرأة على اتخاذ القرارات وأخذ المبادرات في قضايا وطنية حاسمة ومصيرية، رغم أن الدستورَ وقوانينَها التَّنظيمية تسمح لها بذلك؟".

أحزابنا السياسية، وخصوصا تلك التي وصلت إلى السلطة، تنتظر دائما المبادرات والقرارات الملكية لتهُبَّ من كل صوب للإشادة بها واتخاذها كخارطة طريق للسياسة الحكومية. فكيف يمكن تفسيرُ هذا الوضع الذي، أقل ما يُقال عنه، أنه لا يستجيب للأعراف السياسية المتعارف عليها؟ وهل هناك أشياءٌ تمنع الأحزابَ السياسية من اتِّخاذ القرارات وأخذ المبادرات؟

نعم وبكل تأكيد، هناك أشياء كثيرة تجعل أحزابَنا السياسية لا تولي أي اهتمام لما يُمليه عليها الواجب السياسي والوطني. أول هذه الأشياءِ أن أحزابَنا السياسية تتناحر وتتطاحن وتتلامز بالألقاب وبالشتائم، أثناء الحملات الانتخابية، فقط وحصريا من أجل الوصول إلى السلطة لأجل السلطة.
أما الأشياءُ الأخرى، يمكن تلخيصُها في كون أهداف ملِكِ البلاد في وادٍ واضح المعالم وأهداف الأحزاب السياسية في وادٍ آخر.

الأهداف الملكية يمكن أن تُستشفَّ من الخُطب التي يوجِّهها جلالة الملك للشعب المغربي بمناسبة عيد العرش أو بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب أو بمناسبة افتتاح ولايةٍ برلمانيةٍ جديدة. والأهداف الملكية، كلها، بدون استثناء، تصبُّ في المصلحة العامة للبلاد وتسعى إلى جعل هذه البلاد من أرقى البلدان اقتصاديا، اجتماعيا، ثقافيا، صناعيا، تكنولوجياً، فلاحيا، أمنيا، صِحِّيا…

وللتَّوضيح، فكلُّ ما يحدث في بلادِنا من تطوُّرٍ اجتماعي، اقتصادي، تكنولوجي، ثقافي، فلاحي، صناعي…، فهو ناتجٌ عن مبادراتٍ ملكية.

كل خطاب من الخُطب الملكية يتميَّز بحَمولة من المبادئ والقيم الإنسانية والأخلاقية التي لا يمكن فصلُها عن حب الوطن وعن العمل من أجل تطوُّره وازدهارِه. كل خطابٍ يرسم الطريقَ لكل المسئولين السياسيين ولمَن أراد أن يُخلِصَ في عمله ويتحمَّلَ ما عليه من واجبات سياسية و وطنية.

جلالة الملك، من خلال خُطَبِه، يزفُّ إلى الشعب أخبارا سارة عن فتح أوراش تنموية ضخمة كالتغطية الاجتماعية والصحية والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية وتدبير الماء والطاقات المتجدِّدة… أو يُعلن انطلاقَ بنيات تحتية ضخمة كميناء المتوسط ومينائَي الناظور والداخلة والقطار السريع…

أما الأهداف الحقيقية للأحزاب السياسية، فجلُّها غير معلنٍ، أي أن الأهدافَ الحقيقيةَ لهذه الأحزاب السياسية مخالفة لتلك التي يُعلنون عنها في الحملات الانتخابية، في البرلمان وفي تصريحاتِهم الحزبية الرسمية. هذا يعني أن هذه الأهداف لا يمكن، على الإطلاق، استشفافُها من خُطَبِ قادة الأحزاب السياسية، كما هو الشأن للخُطب الملكية.

الأهداف الحقيقية لأحزابِنا السياسية تظهر للعِِيان وبوضوحٍ، من خلال تدبير الشأنين العام والمحلي، وكذلك من خلال ممارسة العمل السياسي على أرض الواقع. ودَوِيُّ هذه الأهداف، غير المُعلنة، يُسمَع عاليا في المشهد السياسي، وأحيانا، في تقارير المجلس الأعلى للحسابات وحتى في دهاليز المحاكم.

فلماذا أحزابُنا السياسية تُخفي أهدافها الحقيقية؟ لأن هذه الأهداف كلها تصبُّ في الفساد والنفاق والغدر والتَّحايل والمكر… أو، كما نقول نحن المغاربة بلهجتِنا الدَّارجة : " كُلْ سِياسِي ساكْتْ عْلَ دَقتو" أوكما نقول، كذلك، بلهجَتِنا الدَّارجة : "السياسيين خارجين من الخيمة مايلين"، أي دخلوا عالمَ السياسة بخلفِيةٍ ماكرةٍ.

وهذا المكر والخِداع ينطبقان، بالضبط والكمال، على الأحزاب السياسية التي تعاقبت على الحكم وعلى تدبير الشأن العام في مختلف الحكومات، أو تعاقبت على تدبير الشأن الجماعي بشقَّيه المحلِّي والجهوي. لماذا؟

لأن أعلى سلطة في البلاد أشارت، غير ما مرة، من خلال الخُطب الملكية، إلى انحرافات السياسيين، برلمانيين وجماعيين. وإذا عابَ ملِكُ البلاد على الأحزاب السياسية انحرافاتِها، فإنه يتحدَّث عن سابق معرفة. فلا غرابةَ أن يفقدَ الشعب المغربي ثقتَه في الأحزاب السياسية! ومن أثر انعدام الثقة بين الأحزاب السياسية والشعب، عزوف فئة عريضة من المواطنات والمواطنين عن السياسة وعن الانتخابات.

وما يزيد في الطين بلَّةً، هو أن أحزابَنا السياسيةَ لا يُزعجُها أن تُظهِرَ نفاقَها للعموم حيث تتسابق، مباشرةً بعد إلقاءِ الخُطب الملكية، للإشادة بها واعتبارها "خارطات طريق" تُوضِّح ما يجب أن يكونَ عليه العملُ السياسي، الجماعي منه والحكومي. لا يُزعجها ذلك لأن الحاجات التي تُضمِرها في نفس يعقوب أفيدُ بكثير من ما يفرضه عليها القيامُ بالواجب الذي ترسم الخطبُ الملكية خطوطَه العريضة.

ويزداد النفاقُ حجما واتِّساعا عندما نستمع إلى تصريحات قادة الاحزاب السياسية والوزراء، رغم اختلاف توجُّهاتِهم الإيديولوجية ظاهريا، وخصوصا الأحزاب السياسية المُشكِّلة للأغلبية البرلمانية. ليس هناك، ولو تصريح واحدٌ لا يُشيدُ بالسياسة الملكية العامة وبانعكاساتِها الإيجابية على البلاد، على المستويات الاجتماعي، الاقتصادي، الصناعي… وهذا شيءٌ صحيح ويعترف به كل مَن له غيرة على هذه البلاد.

أحزابُنا السياسية، بدون استثناء، ليست إلا دكاكين تُتاجر بمصالح البلاد والعباد. متاجرةٌ محركها الأساسي هو المكر والخداع والنفاق. لماذا؟

لأن الحزب السياسي، عادةً، هو عبارة عن تكتُّلٍ بشري شعبي أو قوة اجتماعية انشغالُها الوحيد هو الاهتمام بمصالح الشعب والسعي إلى تكريسها على أرض الواقع، من خلال الوصول إلى السلطة. بل الحزب السياسي الذي يحترم الأعراف السياسية، يعتبر نفسَه جزأً لا يتجزَّأ من المشهد السياسي يتأثَّر به ويُؤثِّر عليه ويسعى دائما إلى خدمة الصالح العام.

وأكثر من هذا وذاك، الحزب السياسي الذي يحترم نفسَه، من الضروري، بل من واجبه، أن تتوفَّرَ لديه رؤيةٌ vision أو سياسة يُبيِّن فيها كيف سينهض بالبلاد والعباد اجتماعيا، اقتصاديا، ثقافيا، صناعيا، فلاحيا، صحيا، تعلميا، أمنيا، علميا، تكنولوجياً… وهذا يعني أن الهمَّ الوحيدَ الذي يجب أن يشغلَ بالَ الأحزاب السياسية هو، كما سبق الذكر، خدمة الصالح العام.

الجزب السياسي الذي يحترم نفسَه، من الضروري، بل من واجبه أن تتوفَّرَ لديه شخصياتٌ من الطراز العالي لها باعٌ طويل في مختلف مجالات السياسة بمعناها العلمي. شخصيات لها القدرة على التنظير فيما يخص القضايا الاجتماعية، الاقتصادية، التعليمية، الصحية وكل ما له علاقة بتطوُّر المجتمع وتقدُّمه. فعوض أن يتوفَّر لديها هذا النوعُ من الشخصيات، أحزابُنا السياسية أصبحت تعج ب"مُولْ الشكارة".

الحزب السياسي الذي يحترم نفسَه، هو الحزب الذي يكون صادقا مع نفسِه ومع الشعب. كيف ذلك؟ بكل بساطة، أن يكون دراعُه امتدادا للسانه. بعبارة أخرى، أن يُحقِّقَ على أرض الواقع ما وعد به أثناء الحملات الانتخابية.

وهذا شيءٌ لم يحدث أبدا منذ عقود. كل الأحزاب السياسية تلتزم أثناء الحملات الانتخابية بتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمواطنات والمواطنين بالقضاء على الفقر والأمية والبطالة وتجويد التعليم والصحة… لا شيءَ من هذا حدث وتحقَّق. آفاتُ الفقر والأمية والبطالة لا تزال قائمة. والتعليم والصحة مشاكلهما أعوص.

الحزب السياسي الذي يحترم نفسَه، حينما يصل إلى السلطة، هو الحزب الذي لا ينتظر التَّعليمات من الدوائر العليا للقيام بواجبه. الحزب السياسي المواطن، هو الحزب الذي يتَّخذ المبادرات ويتحمَّل مسئوليتَه لتجسيدها على أرض الواقع.

الحزب السياسي الذي يحترم نفسَه، هو الحزب الذي يطرح القضايا الكبرى للبلاد للنقاش العمومي ويتبَّى ما هو مفيدٌ منها ويخدم مصلحةَ البلاد والعباد.

عندنا، ليس هناك ولو جزبٌ سياسي واحد يحترم نفسَه ويُقيم الدنيا ويُقعدها من أجل خدمة الصالح العام، سواءً كان داخلَ الحكومة والبرلمان أو خارجَهما. ما تُقام وتُقعَد عليه الدنيا عند أحزابنا السياسية هو الوصول إلى السلطة من أجل السلطة والاستفادة من مزاياها.

أحزابُنا السياسية، عندما تصل إلى السلطة، تنسى ما ينصُّ عليه الدستور، في شأنها، وتنسى ما تنص عليه قوانينُها التنظيمية منتظرةً التَّعليمات الفوقية لتتحرَّك. والدليل على ذلك أن أي وزير متحزِّب، عندما يتدخَّل في البرلمان أو حينما يقوم بأحد التَّصريحات، يقول إن كل ما يتم إنجازه في قطاعِه، يتم طبقا للسياسة الملكية.

وهذا يعني أنه، لولا السياسة الملكية، لبقيت الأحزاب السياسية مكتوبة الأيدي. فما هو إذن دور الأحزاب السياسية والبرلمان والحكومة؟

فلا غرابة أن يعتزَّ المغاربة والمغربيات بملكِهم، ولا غرابةُ أن يمقتوا السياسةَ ويتجاهلون وجودَ الأحزاب السياسية ولا يعترفون إلا بوجود المؤسسة الملكية. يكفي أن نرى ونسمع ما يقوله المواطنون والمواطنات عندما يكونون مظلومين : "الله يعز سِيدْنا". ولا أحد منهم يتوجه لرئيس الحكومة أو لوزيرٍ أو لأي سياسي كيفما كان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى