انعقدت محكمة الجنايات للنظر في قضايا مختلفة ومنها جناية قتل اتهم فيها فتى طيب الأحدوثة لم يسبق له الإجرام. وظهر من التحقيق أن الجناية لم تقع بقصد السرقة، إذ أن خاتم القتيل الماسي وساعته الذهبية - وهو كهل غني - وأشياء أخر ذات قيمة لم يمسها القاتل، مع أن المجال كان فسيحاً أمامه لسرقتها والاختفاء بها، وإنما اكتفى القاتل بما فعل واللجوء إلى مسكنه الذي كان قريباً من محل الحادثة والذي كان يأوي إليه مع أمه المقعدة، وقد قضت المسكينة نحبها حينما قبض الجند على ابنها من غلبة الخوف والرعب عليها.

ذلك ملخص خبر الجناية التي شغلت أهل المدينة وخاصة سكان الحي الذي وقعت فيه الحادثة وكانت موضع سمرهم لا أسفاً على القتيل الذي عرف بعتوه وصلفه وشحه، بل شفقة على القاتل الذي عرفوا فيه الفتى الحسن الخلق، يكد ويشتغل لينفق على أمه البائسة التي لم يك لها من عائل سواه. لذلك كله امتازت هذه الجلسة بوفرة عدد المستمعين فيها، وكلهم مشفقون على القاتل راثون له.

ظهر في قفص المتهمين شاب لا يتجاوز العشرين من عمره، نحيل الجسم غائر العينين لا تظهر عليه علامة من تلك العلامات التي يمتاز بها المجرمون، بل كان بادي الانكسار هادئ النظرات مستسلما لخواطر تجول في رأسه وأحاديث تهجس في نفسه. وبعد سماع شهادة الشهود ومرافعة النيابة ومحامي الدفاع سأله الرئيس الأسئلة المعتادة التي تلقى على المتهمين وطلب منه إذا كان عنده ما يدافع به عن نفسه. وهنا أرهف المستمعون آذانهم وتطاولوا بأعناقهم حتى لا تفوتهم كلمة من قصة ذلك المجرم البائس قال:

إنني إذا سردت قصتي فأنني لا أسردها بغية الدفاع عن نفسي أو حباً في الحياة فقد سئمت العيش واستولت علي النفرة من الناس، بل لتعلموا أنني فرد من أفراد المجتمع البشري قدر عليه أن يعيش عيشة ضنك وشقاء ويحيا حياة مليئة بضروب الألم والعذاب، وكنت في ربيعي الثاني عشر حينما فتحت عيناني على صورة من صور الحياة المؤلمة التي تركتني أرزح تحت كلكلها وأصبحت حياتي بعدها جافة قاسية خالية من المباهج التي تساعد المرء على اجتياز ما قد يتخلل طريقه من حصى وأشواك

مات أبي وأنا صغير، ولم يترك لنا أنا وأمي من حطام الدنيا سوى أساس عتيق بال في مسكن صغير تداعت أركانه، وتشققت سقوفه وجدرانه، وكان ذلك المسكن لجار لنا غني كنا نؤدي إليه أجرته من دون مطل أو تسويف. وكان أبي بنّاء يتناول في يومه بضعة قروش يأتي بها إلينا وهو فرح مغتبط مع ما يحيط به من فاقة وبلاء. فيملأ البيت بهجة ورواء، ويحوله إلى قصر من أوفر القصور سعادة وأعظمها هناء.

وبالرغم من قدم العهد فأنا أذكر ذلك اليوم الرهيب يوم أن عرفت أن ذلك الإنسان الذي يستنزف قواه ليدفع عنا غائلة السغب والعرى قد أخرسه الموت ونام نومه الأبدي.

ففي أمسية من أمسيات الشتاء الباردة، وفي ليلة دجوجية الجناح غدافية الأديم، كانت الريح صر صرا عاتية، وكرات الجليد تتساقط على جوانب بيتنا المتداعي فيسمع لسقوطها صوت كأصوات الأرواح الهائمة. طرق الباب فدخل رجلان يماثلاننا في الفاقة والبؤس يحملان جثة أبي مهشمة أو كتلة من لحم ودم. ولقد نسيت كيف مرت علينا تلك الليلة المشؤومة، غير أنني أذكر أن جثمانه ظل مسجى طول اليوم التالي حتى شعر بذلك من لم تخل قلوبهم من عناصر الرحمة والشفقة فأمدونا بقليل من المال جهزنا به فقيدنا وأودعناه مرقده الأخير. ومما زاد لوعتنا أن الطبيب الذي قام بفحص الجثة قرر أنه كان مريضاً بعلة القلب فلم يستطع احتمال العمل المجهد تحت حر الشمس في أعلى البناء فأصابه دوار عرضه للسقوط والموت السريع. وكأن ذلك الأب الشفيق كان يخفي علته هذه عن أمي خشية قلقها أو محاولتها منعه من متابعة عمله المضني، وقد أصيبت تلك التاعسة على أثر هذه الصدمة التي بلينا بها بمرض عضال أقعدها عن مواصلة السعي لكسب القوت ودفع أجرة المسكن، ومع هذا فقد كانت تتحمل الفقر والشقاء والمرض والإعياء بصبر واستسلام.

لقد ألقت الأقدار بي من حيث لا أشعر في بيداء هذه الحياة وضربتني ضربة قاسية لا رفق فيها ولا هوادة، وأرادتني أحداث الزمان على أن أحمل حملاً أعجز عنه وأنا صبي صغير فتلاشت ابتسامتي واربد وجهي، وعادت الحياة في نظري هماً ناصباً. أمي مقعدة لا تستطيع حراكا وهي تحتاج إلى قوت ودواء، وصاحب المسكن يطالبنا بأجرته في نهاية كل شهر، وعلينا أن نؤديها إليه صاغرين وإلا كان الشارع لنا مأوى، وقد أشار عليّ بعضهم بإيداع المريضة في إحدى المستشفيات، فقبلت ذلك على مضض، ولكن إدارة المستشفى أبت قبولها بحجة أن مرضها عضال لا يرجى منه شفاء. على أنني مع ذلك لم أيأس ولم أحزن رغبة في أن أظل بجانبها أخدمها وأروح عنها ما تجده من آلام محرقة تحاول جهد طاقتها أن تخفيها عني فتتكلف لي الابتسام، ابتسام المريضة الصبور المستسلمة. لقد ذاق أطفال قبلي مرارة اليتم، وذاق الكثيرون مثلي مرارة الحرمان والعدم، ولكن آلامهم لم تك تشبه آلامي: إذ كانت آلامي آلام صبي في أول مرحلة من مراحل حياته يرى تحت نظره أعز الناس لديه يدنو من الموت أو يدنو الموت منه بخطى سريعة فلا يستطيع التخفيف عنه أو إسعافه بجرعة دواء.

أجل كنت أذرع البلدة وأجوس خلال شوارعها باحثاً بحث اليائس عن لقمة أتبلغ بها أو عن عمل يكفل العيش لي ولتلك المريضة المدنفة، وكنت إذا حصلت على بضع دريهمات أضن بها على نفسي فأعود وأنا أطفر فرحاً فأشتري لها ما تحتاج إليه من غذاء ودواء وأوفر الباقي أجرة لمسكننا الحقير.

وقد كنت أستطيع أن ألجأ إلى تلك الطريقة التي يلجأ إليها الكثيرون من أمثالي - أعني السرقة - وكانت أحياناً تتجسم هذه الفكرة في مخيلتي حينما أصاب بتلك الآفة الغشوم - آفة الجوع - ولكنني لا ألبث أن أرجع عن هذا العزم إذ أربأ بنفسي أن تنحط إلى هذه المنزلة مفضلاً كل شقاء على الوقوع في هذا المنحدر الرهيب.

وكنت أعرف أيضاً أن هناك سبيلاً أفضل من هذا كله أقصر مدى وأقل تعباً وجهداً. سبيلاً ينتهي بي إلى تخفيف متاعبي وآلامي وينقطع به همومي وأحزاني. فقد كان في استطاعتي أن أقصر ساعات عذابي بالانتحار، ولكن ذكرى المريضة المقعدة كانت تبعد عني هذا الخاطر، وتجعلني أبتسم لليأس المميت في ظل الحياة التعيسة التي أحياها.

سدت في وجهي أبواب الرزق، وأمي تزداد مرضاً على مرض فلجأت إلى بيع أثاثنا البالي، فبدأت بالفراش الذي أنام عليه والكرسي الذي أجلس فوقه وجميع الأمتعة الحقيرة التي يضمها مسكننا، فنفذ ذلك كله وهو مبلغ تافه لا تأثير له في دفع الشقاء. ومما زاد في بليتنا أن صاحب المسكن أخذ يطالبنا بتأدية ما تأخر له عندنا من الأجرة التي لا نملك منها شيئاً، وأمهلنا بذلك ثلاثة أيام وإلا طردنا دون شفقة أو ورحمة.

طوفت في هذه الأيام الثلاثة في الشوارع ضاوياً متعباً مريض النفس والجسم والفكر، صفر الكف، فلم يفتح علي بشيء حتى أعياني التجوال، وأرهقني اليأس، فرجعت إلى البيت أبكي بدموع غزار.

انقضت المهلة المعينة لتنفيذ وعيد ذلك الظالم، ولم يبق منها سوى ليلة واحدة لم يغمض لي فيها جفن ولم يرقأ لي دمع. وشعرت آنئذ بجميع ضروب اليأس، وذقت من الألم أشكالا، ثم اعتراني بحران عميق، أصبحت فيه أشبه بالصنم. وعندما انبلج الصبح ولاح لي وجه ذكاء بدا وجه أمي النحيل الشاحب، وهي تتنفس تنفساً خافتاً، فانبثق في لبي خاطر استجبت له: هو لقاء صاحب المسكن واستعطافه علني أجد بذلك من الضيق مخرجاً. فنهضت متثاقلاً، وأنا ضائع الفكر مضطرب البال، أقرب إلى اليأس من ذلك الغريق الذي يرتجف وسط الخضم وقد تعلق بأوهى الأسباب أملاً في النجاة.

وعندما وصلت قصر صاحب الدار تجلدت وطرقت الباب ففتح لي خادم كنت أجد عنده بعض العطف، فسهل لي لقاء سيده فدخلت عليه وأنا أرتجف كريشة في مهب الريح.

تذللت بين يديه واستعطفته وشرحت له ما أقاسيه من بؤس وهم، واستلهمته ريثما تقضي تلك البائسة فهي على أبواب الأبدية، وكنت أحدثه وهو صامت ساكن لا تطرف عينه ولا يرفع نظره إلي، حتى إذا فرغت من شكواي صرخ في وجهي صرخة جافة قاسية ملؤها العنف والقسوة وختمها بأبشع الشتائم وأقبح النعوت.

يصبر عزيز النفس على الموت والخطر والعذاب والجوع، ولكنه لا يصبر على الإهانة والطرد. يهون على أبي النفس كبيرها أن يرمي في أتون ملتهب يشوي جسمه شياً دون أن تلقى عليه نظرة ازدراء أو كلمة اشمئزاز. ومع هذا لم أحرك ساكناً بادئ ذي بدء بل تصاممت عن سماع كلماته المرة عسى أن تهدأ ثورة غضبه ويثوب إلى رشده ويرفق بي. ولكنه أعاد الكرة وأمعن في طردي وتحقيري بلهجة تفوق الأولى عظماً وهولا، فكانت كلماته هذه كسهم أصاب مركز الصبر من فؤادي فمزقه، فأحسست أن الدم يتصاعد إلى رأسي، وأن الأرض تدور بي، ولاح لي طيف أمي وهو ملقى في العراء. فلم أشعر إلا وأنا ممسك بخناقه أضغط عليه بين يدي حتى سقط جثة هامدة.

يقولون عني إنني مجرم خطر، وإني أستحق الموت عبرة لأمثالي، وما أنا إلا إنسان حكمت عليه الظروف القاسية بأقسى أحكامها، وأراد له أخوه الإنسان أن يصبح مجرماً بعدما تعب واجتهد اجتهاد الأبي ليعيش عيشة الكفاف فلم ير قلباً يعطف عليه وينتشله مما هو فيه.

هذه قصتي المكتومة أعلنتها. وأحزاني الحبيسة أطلقتها، فلتحكم علي محكمتكم الموقرة بما يمليه ضميرها ويرضاه عدلها

وأخيراً خلت المحكمة للمداولة، فأجلت البت في هذه القضية إلى أسبوع آخر.


للآنسة نعيمة المغربي




09 - 11 - 1936

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى