(إلى أستاذي الجليل عباس محمود العقاد)
عادت خضرة وقد أنهكها التعب من جمع القطن تحت أشعة الشمس المحرقة في الحقل
عادت خضرة إلى الدار ذات الحيطان السود والسقف المتداعي وجلست بجانب أخيها حسن على الحصير البالية وسألته:
. . . ألم تجد عملاً في القاهرة؟
. . . لم أجد
ألم تذهب إلى عمك؟
. . . لا فائدة
تذكرت خضرة زيارات عمها الغني للقرية وكيف كان يستقبله القرويون وما استدانه والدها الفقير مبالغة في إكرامه
بل تذكرت كيف كان حديث عمها لا يدور إلا عن نفسه وأملاكه ومركزه الرفيع في الجيش وعن قصره وما يحويه من تحف وصور وتماثيل
وتذكرت خضرة أن عمها عرض على والدها قبل وفاته أن يستصحبها معه إلى القاهرة ورفض والدها إذ ذاك
فاليوم وقد مات أبوها وماتت زوج عمها المخيفة التي ورث عنها كل هذه الثروة فلِمَ لا تذهب؟
. . . ألا تأخذني معك يا حسن إلى قصر عمي
. . . إنك لم تذهبي إلى القاهرة قط
. . . أرجو يا حسن! ربما كان لي من التأثير على عمي ما ليس لك فيهتم بشأنك
سافرا إلى القاهرة وأدهشت حركة المدينة الكبيرة الفتاة وبلغت أخيراً قصر عمها وتساءلت عن محتوياته في دهشة والعم يشرح: هذا البساط النادر ثمنه مائة جنيه. فخلعت الفتاة خفيها ووضعتهما تحت إبطها خشية تلويثه
العم: وهذه السجادة الفارسية الأثرية ثمنها ثلاثمائة جنيه.
فتحسستها الفتاة وقالت: لكنها قديمة يا عمي، فقهقه صاحب القصر وأجابها: لهذا كانت ثمينة، فإنها أثرية منذ ألف سنة
. . . انظري هذا التمثال النصفي البديع! صنعه أكبر مثال فرنسي معاصر
. . . وهذه صورة زوجتي بريشة الرسام سوسانت كلفتنا مائة جنيه
قالت الفتاة: هل هي أثرية أيضاً أي منذ ألف سنة؟
فقهقه العم مرة أخرى لسذاجتها
وفي المساء نامت الفتاة تحلم بالقصر البديع الذي يقطنه عمها وحيداً لا يشاركه فيه إلا خادمه العجوز وإلا هذه التحف والتماثيل. ونام أخوها حسن وهو يدبر أمراً
في مساء اليوم التالي عاد حسن إلى القصر بعد أن جال في شوارع العاصمة وقال لعمه:
عثرت اليوم يا عمي على صورة فنية بديعة للرسام الشهير ج. س
قال العم: يا لشوقي لصورة من ريشته!
حسن: رفض الإيطالي العنيد أن يبيعها
العم: أغره بالمال، هذه ألف جنيه؛ وإذا طلب أكثر فأنا مستعد
وعاد حسن في صباح اليوم الثالث يحمل إطاراً كبيراً أسدل عليه ستار من الحرير الأزرق حجب الصورة، ووضع الإطار بصورته الغامضة في صدر قاعة الاستقبال الكبرى بقصر عمه
وفي المساء حضر صاحب القصر ومعه رهط من الغواة والفنانين والمعجبين بالفنون
ووقف حسن بجانب الإطار ورفع عن الصورة الستار وتكلم:
أيها السادة. ترون الآن صورة (فانتين البائسة) صورها هوجو بقلمه كلاماً، وعربها حافظ بلاغة، ورسمها ج. س الرسام الإيطالي الشهير صورة ناطقة
كم أتقن الفنان تصويرها وتصوير البؤس فيها! ألا تعد آية من آيات الفن؟ كم تقدرون ثمناً لها؟ العم: ألف جنيه
بعضهم: وأكثر
واستطرد حسن يقول: يجب أن نقدر الفن فالفن ضروري للحياة (بل ضروري جداً)
فمن الواجب أن نقلع عن تقويم مطالبنا بمقدار الحاجة إليها، فإن ذلك التقويم غير صحيح، فنحن نستطيع أن نفقأ أعيننا بأصابعنا أو نقطع ألسنتنا ونعيش بغير ملكة النظر والكلام سبعين سنة ولا نستطيع أن نعيش بغير الخير. . .
وندع تقويم الفكر إلى تقويم السوق، فالحلية أقوم من الآنية الضرورية، ولأن نشيد قصراً بديعاً ينحت فيه عشرة مثالين فينتجون تماثيل للزينة خير ألف مرة من بناء مصنع أو سفينة يعمل فيهما الآلاف فينتجون. . .
(والتمثال أغلى من الكساء) وكأس الويسكي أغلى من طن الماء، والطباق أغلى من الهواء.
(وأقصى ما نبلغه في تحصيل الخبز أن نتساوى وسائر الأحياء، ونحن إذا حصلنا الفنون الجميلة فما نحن بأناسي فحسب بل أناسي ممتازون نعيش في أمة ممتازة) نعيش في أكواخ من اللبن والطين
(فإن كنا نبغي أن نعيش كما تعيش الأحياء فحسبنا الضروريات المزعومة) حتى تأتي الكماليات فتلاشيها (وحتى يأتي غيرنا) فينزع هذه وتلك.
(ومن الواجب ثالثاً أن نذكر ما هو العلم الذي يفوقنا به الغربيون) فليس هو التجارب العويصة في مصانع السيارات، ولا الاختبارات والمخاطرات الشاقة في عالم الطيارات والسفن والدبابات، كلا، لا يفوقنا الغربيون بهذا فإن الشرقي ليحذق صناعة الطيارة. . . إذا. . . (فتأملوا من فضلكم إذا).
أيها السادة! في علم حسابنا أن القصيدة الغرامية تساوي طيارة، وفي نحونا أن التمثال يعني سفينة أو سيارة، وقال أمين الريحاني: يا من يبيعني فلسفة بطيارات فلم يعبأ به أحد.
(ولقد يخطئ بعض المصلحين في تقويم الفنون فيستكثرون ما أنفقت عليها الدول والملوك والسروات) وأخطأ اللورد بافرلوك لما قال (إن المقتصدين أسياد العالم) ورو كفلر مجنون إذ رفض رسم صورته نظير ثلثمائة جنيه بريشة أكبر رسام أمريكي.
أيها السادة! قدرتم ألف جنيه لصورة (فانتين البائسة) فكم تقدرون لها الآن إذا عرفتم أنها بائسة حقيقية من اللحم والدم؟ (تتحرك الصورة وتخرج من الإطار لأنها امرأة حقيقية)
كم تقدرون لها الآن؟
أصوات - لا شئ
أيها السادة. . . هكذا نقوم الحقيقة. وهكذا نقوم الخيال، وهكذا نبيع نصف عقولنا ونخسر نصف أعمارنا وننفق نصف أموالنا لنظهر بمظهر الامتياز واللباقة والتهذيب
أيها السادة. . . تلك أمم بلغت شأوها ونالت الضروريات ثم التفتت إلى الكماليات، ونحن أمة لا نزال في أشد الحاجة إلى الضروريات، والضروريات القصوى أولاً
للسيدة كرم حسن فهمي
حرم ناظر محطة م. أ
عادت خضرة وقد أنهكها التعب من جمع القطن تحت أشعة الشمس المحرقة في الحقل
عادت خضرة إلى الدار ذات الحيطان السود والسقف المتداعي وجلست بجانب أخيها حسن على الحصير البالية وسألته:
. . . ألم تجد عملاً في القاهرة؟
. . . لم أجد
ألم تذهب إلى عمك؟
. . . لا فائدة
تذكرت خضرة زيارات عمها الغني للقرية وكيف كان يستقبله القرويون وما استدانه والدها الفقير مبالغة في إكرامه
بل تذكرت كيف كان حديث عمها لا يدور إلا عن نفسه وأملاكه ومركزه الرفيع في الجيش وعن قصره وما يحويه من تحف وصور وتماثيل
وتذكرت خضرة أن عمها عرض على والدها قبل وفاته أن يستصحبها معه إلى القاهرة ورفض والدها إذ ذاك
فاليوم وقد مات أبوها وماتت زوج عمها المخيفة التي ورث عنها كل هذه الثروة فلِمَ لا تذهب؟
. . . ألا تأخذني معك يا حسن إلى قصر عمي
. . . إنك لم تذهبي إلى القاهرة قط
. . . أرجو يا حسن! ربما كان لي من التأثير على عمي ما ليس لك فيهتم بشأنك
سافرا إلى القاهرة وأدهشت حركة المدينة الكبيرة الفتاة وبلغت أخيراً قصر عمها وتساءلت عن محتوياته في دهشة والعم يشرح: هذا البساط النادر ثمنه مائة جنيه. فخلعت الفتاة خفيها ووضعتهما تحت إبطها خشية تلويثه
العم: وهذه السجادة الفارسية الأثرية ثمنها ثلاثمائة جنيه.
فتحسستها الفتاة وقالت: لكنها قديمة يا عمي، فقهقه صاحب القصر وأجابها: لهذا كانت ثمينة، فإنها أثرية منذ ألف سنة
. . . انظري هذا التمثال النصفي البديع! صنعه أكبر مثال فرنسي معاصر
. . . وهذه صورة زوجتي بريشة الرسام سوسانت كلفتنا مائة جنيه
قالت الفتاة: هل هي أثرية أيضاً أي منذ ألف سنة؟
فقهقه العم مرة أخرى لسذاجتها
وفي المساء نامت الفتاة تحلم بالقصر البديع الذي يقطنه عمها وحيداً لا يشاركه فيه إلا خادمه العجوز وإلا هذه التحف والتماثيل. ونام أخوها حسن وهو يدبر أمراً
في مساء اليوم التالي عاد حسن إلى القصر بعد أن جال في شوارع العاصمة وقال لعمه:
عثرت اليوم يا عمي على صورة فنية بديعة للرسام الشهير ج. س
قال العم: يا لشوقي لصورة من ريشته!
حسن: رفض الإيطالي العنيد أن يبيعها
العم: أغره بالمال، هذه ألف جنيه؛ وإذا طلب أكثر فأنا مستعد
وعاد حسن في صباح اليوم الثالث يحمل إطاراً كبيراً أسدل عليه ستار من الحرير الأزرق حجب الصورة، ووضع الإطار بصورته الغامضة في صدر قاعة الاستقبال الكبرى بقصر عمه
وفي المساء حضر صاحب القصر ومعه رهط من الغواة والفنانين والمعجبين بالفنون
ووقف حسن بجانب الإطار ورفع عن الصورة الستار وتكلم:
أيها السادة. ترون الآن صورة (فانتين البائسة) صورها هوجو بقلمه كلاماً، وعربها حافظ بلاغة، ورسمها ج. س الرسام الإيطالي الشهير صورة ناطقة
كم أتقن الفنان تصويرها وتصوير البؤس فيها! ألا تعد آية من آيات الفن؟ كم تقدرون ثمناً لها؟ العم: ألف جنيه
بعضهم: وأكثر
واستطرد حسن يقول: يجب أن نقدر الفن فالفن ضروري للحياة (بل ضروري جداً)
فمن الواجب أن نقلع عن تقويم مطالبنا بمقدار الحاجة إليها، فإن ذلك التقويم غير صحيح، فنحن نستطيع أن نفقأ أعيننا بأصابعنا أو نقطع ألسنتنا ونعيش بغير ملكة النظر والكلام سبعين سنة ولا نستطيع أن نعيش بغير الخير. . .
وندع تقويم الفكر إلى تقويم السوق، فالحلية أقوم من الآنية الضرورية، ولأن نشيد قصراً بديعاً ينحت فيه عشرة مثالين فينتجون تماثيل للزينة خير ألف مرة من بناء مصنع أو سفينة يعمل فيهما الآلاف فينتجون. . .
(والتمثال أغلى من الكساء) وكأس الويسكي أغلى من طن الماء، والطباق أغلى من الهواء.
(وأقصى ما نبلغه في تحصيل الخبز أن نتساوى وسائر الأحياء، ونحن إذا حصلنا الفنون الجميلة فما نحن بأناسي فحسب بل أناسي ممتازون نعيش في أمة ممتازة) نعيش في أكواخ من اللبن والطين
(فإن كنا نبغي أن نعيش كما تعيش الأحياء فحسبنا الضروريات المزعومة) حتى تأتي الكماليات فتلاشيها (وحتى يأتي غيرنا) فينزع هذه وتلك.
(ومن الواجب ثالثاً أن نذكر ما هو العلم الذي يفوقنا به الغربيون) فليس هو التجارب العويصة في مصانع السيارات، ولا الاختبارات والمخاطرات الشاقة في عالم الطيارات والسفن والدبابات، كلا، لا يفوقنا الغربيون بهذا فإن الشرقي ليحذق صناعة الطيارة. . . إذا. . . (فتأملوا من فضلكم إذا).
أيها السادة! في علم حسابنا أن القصيدة الغرامية تساوي طيارة، وفي نحونا أن التمثال يعني سفينة أو سيارة، وقال أمين الريحاني: يا من يبيعني فلسفة بطيارات فلم يعبأ به أحد.
(ولقد يخطئ بعض المصلحين في تقويم الفنون فيستكثرون ما أنفقت عليها الدول والملوك والسروات) وأخطأ اللورد بافرلوك لما قال (إن المقتصدين أسياد العالم) ورو كفلر مجنون إذ رفض رسم صورته نظير ثلثمائة جنيه بريشة أكبر رسام أمريكي.
أيها السادة! قدرتم ألف جنيه لصورة (فانتين البائسة) فكم تقدرون لها الآن إذا عرفتم أنها بائسة حقيقية من اللحم والدم؟ (تتحرك الصورة وتخرج من الإطار لأنها امرأة حقيقية)
كم تقدرون لها الآن؟
أصوات - لا شئ
أيها السادة. . . هكذا نقوم الحقيقة. وهكذا نقوم الخيال، وهكذا نبيع نصف عقولنا ونخسر نصف أعمارنا وننفق نصف أموالنا لنظهر بمظهر الامتياز واللباقة والتهذيب
أيها السادة. . . تلك أمم بلغت شأوها ونالت الضروريات ثم التفتت إلى الكماليات، ونحن أمة لا نزال في أشد الحاجة إلى الضروريات، والضروريات القصوى أولاً
للسيدة كرم حسن فهمي
حرم ناظر محطة م. أ