هذه صورة من صور الريف، حملتها ذاكرتي مذ كانت شاباً في مقتبل العمر، وقد انتهيت من مجهود عام دراسي شاق في زمان كنا ندرس أكثر المواد باللغة الإنجليزية؛ وما كدت أنتهي من تاريخ رومية واليونان والحساب والهندسة والجبر وأدب شكسبير، حتى سارعت بالسفر إلى الريف أستجم بسكونه وسذاجته، وأطلب في حقوله وهوائه وشمسه راحة القلب وسلوى النفس ورخاء البال، وأسعد بالعمل في الحقول جهد استطاعتي لأشارك في عمل له نتاجه وثمره القريب. غير أني شعرت بعد قليل من الاستقرار في الريف أن الحياة قلما تهبنا الراحة التي نطلبها أو تحقق بعض ما نتمنى من الوحدة والاتساق يشيعان في نواحي العقل والنفس، ويعوضان على المرء بعض ما ينفق في حياة المدن من إرهاق يأنسه في تنافر الصور في المرئيات والمعقولات. ذلك بأن قريتنا الصغيرة كانت قد احتلت بكائن غريب الأطوار من نسل آدم وحواء، أجدر به أن يكون على نشوء الإنسان من صورة دنيا، المثل الأعلى والبرهان الصادق الملموس الظاهر للعيان
بمقربة من غدير يمر بجوار القرية. شجرة من الصفصاف تتدلى فروعها الطويلة فتمس صفحة الماء الجاري، حتى ليخيل إليك أن بين الماء وفروع تلك الشجرة صراعاً؛ كأن الماء يحاول أن يقتلعها ويجرفها بتياره، وكأن الشجرة تحاول أن تقاوم إرادته فتتشبث بالأرض. أما الغدير فيجري هادئاً مطمئناً بريئاً من فكرة العنف والفساد. وأما الشجرة فتطل بفروعها على صفحة الماء الهادئ، كأنها نرجس في خرافات الأقدمين.
فلا جلاد إذن ولا عراك، ولا تناحر ولا خصام، في ذلك العالم الجميل الذي يضم الشجرة والغدير، وما العاصفة والعراك إلا في خيالك وفي نظرك إذ يخدعك عن هذه الحقيقة، كما يخدعك عن كثير من حقائق الحياة.
وبين أصل الشجرة وحافة الماء منسطح صغير من الأرض كسته الأعشاب البرية، ونبتت فيه حشائش النجيل الجميلة وقليل من السعد، تناثرت من فوقه بضع شجيرات من عشب البرنوف الأخضر الزاهي. وقد هجر فتيان القرية وعذاراها الحسان هذه البقعة الجميلة، شأنهم في هجر كل جميل، سعياً وراء العيش والضرب في مناكب الأرض، لعنة الله على مناكبها.
تلك بقعة من الأرض أصح ما توصف به أنها ملك الطبيعة على قلة ما تملك الطبيعة من وادينا العظيم، فلا محراث يبجُّ بطنها، ولا فأس تقلب طبقاتها، ولا منجل يحصد ما نبت فيها، بل ولا إنسان يحييها تحية الحب والجمال. فهي أحق بأن تدعى (الشقة الحرام) كما يسمون البقعة التي تكون بين جيشين متحاربين. '
وكنت أمر على هذه البقعة المهجورة عجلان مسرع الخطو فأحييها تحية صامتة، وأتمنى لو أن مشاغل الزرع والإنتاج، والحرث والحصاد، والري والصرف، تمكنني أن أسعد بيوم واحد أقضيه في ظل هذه الصفصافة، وفوق بساطها السندسي الجميل. وكانت هذه الأمنية تعاودني صبيحة كل يوم وأنا رائح إلى الحقل، وفي كل أمسية وأنا غاد إلى داري. ولكن الأمل باق مادامت هذه البقعة بكراً لم يغشها إنسان ولم يفكر مخلوق في أن يسعد بجمالها قبلي. ودرجت على ذلك الأيام. فالصفصافة واقفة مشرفة بهامة الجبار على مجرى الغدير، وغدائرها الطويلة يمايلها النسيم على الماء، وخيال العراك الدائم بين الشجرة والغدير قائم في وجداني، وأمل المتعة بيوم أقضيه في ظل الشجرة المحبوبة متجدد كل يوم.
ولكن لا فلابد من يوم تغشى فيه الآمال الحلوة الخلابة سحائب من الكدر. فإن مخلوقاً غريباً احتل البقعة الحرام، واستظل بالصفصافة المقدسة. وقد خلع رداءه وجلس على حافة الغدير ينظر في مائه المنساب الدافق كأنه يستوحيه الأسرار، مثبتاً ناظريه في نقطة واحدة كأنما جاذبية الأرض قد تجمعت فيها، والماء ينساب متحدراً إلى غاياته، والصفصافة قائمة بظلها الوارف ما يعنيها في هذه الحياة من شيء، استظل بها فيلسوف من طبقة أفلاطون، أو أبله (ممسوخ) شوهت الطبيعة من خلقه كذلك الشبح الذي رأيته على ما وصفت صبيحة ذات يوم.
هو مخلوق هبط هذه البقعة من عالم سحري عجيب، ضئيل الجسم نحاسي اللون صغير العينين أفطس الأنف دقيق الشفتين على غير قياس، بارز الذقن إلى غاية غير مألوفة، مكتل الرأس طويل الوجه بارز الصدر مخشوف الظهر، طويل الذراعين قصير الرجلين. وقد اندكت رقبته بين كتفيه، فقصرت قامته على قصرها، وغشيت نحاسية وجهه بقعة من السواد الفاحم أتلفت مساحة منه غير صغيرة، ونبت فيها شعرات قصار ملس كأنها الحشائش الفطرية في حرجة كثيفة حجبت الأشجار الباسقة عن أرضها ضوء الشمس. وهو فوق ذلك أجرد، فلا شارب ولا لحية له، غليظ اليدين والقدمين واسع الشدقين بارز الأسنان إذا مشى فهو الهرة إذ تتلبث؛ وإذا نظر فكأنه يريد أن ينفذ ببصره إلى ما في سريرتك. وما تنم حدة نظراته وجمودها، إلا عن شدة ما قاسى من الزمن ومن الطبيعة ومن الناس.
مررت بهذا المخلوق محسوراً على أملي الذي سوف لا يتجدد بعد اليوم، وعلى البقعة الحرام يستبيحها هذا القزم الأسود العجيب. فكنت أراه كل صباح ثم أخلفه من ورائي في رواحي إلى الحقل وفي غدوتي إلى الدار وما رأيته يوماً بعيداً عن ظل الصفصافة أو غير ناظر إلى صفحة الغدير. وقد ألف المكان وألفه نظري، فكان يخيل إلي أن الصفصافة والغدير قد أصبحا له، على حد قول هوجو، بمثابة البيضة والعش والسكن والوطن والكون
ولقد هممت مرات عديدة بأن أسأل ما شأنه، وما حاله، وما الذي جعله يختار قريتنا دون القرى الأخرى. وكنت أقمع هذه الرغبة وأسلط إرادتي على حب الاستطلاع في نفسي. ولكني هزمت ذات يوم فوقفت إزاءه وأطلت النظر فيه، فأخذ يخالسني النظر وحول عينيه نحوي وما تزالان تنظران في الأرض وتتحركان حركة عصبية شديدة، حتى ليخيل إليك أن هذا الإنسان ما يظن فيك إلا أنك وحش مقدس يريد الانقضاض على الفريسة المسكينة الوادعة. ولم يكن في هذا غير مصيب. فقد هممت أولاً أن أقرئه السلام، ثم ترددت وقام في نفسي أن أجره من أذنه الغليظ لأريه الطريق المسلم إلى القرية الأخرى. ولكن لم كل هذا التعب؟ فهو جالس على حافة الغدير مستجمع كأنه النسر الأجرب العجوز وقدمي حاضرة. فركلة واحدة تسلم به إلى الغدير يتولاه برحمته الأبدية. ولأي شيء خلقت الرجل وفيها القدم، ولأي شيء زودت بهذه العضلات القوية، إن لم يكن لمثل هذا الظرف ولمثل هذا المخلوق الأشوه. فإن الطبيعة ما أبدعت من شيء إلا وأبدعت معه طريقة التخلص منه. وقد قام في نفسي أن الطبيعة لم تدربنا على العدو والقفز، والركل واللكز، والطفر والوكز، في طفولتنا إلا لتكون عدتنا لمثل هذه الساعة، وفي مثل هذا الظرف، ولمثل هذا القرد الأزعر العجيب
ولقد قويت في نفسي هذه الشهوة وخيل إليّ أن الأمر سهل هين والطريق مقفر والحقول خاوية. وقد انحدرت الشمس فغابت في عينها الحمئة السحيقة. وما أجَّل لهذا المخلوق في الحياة بعد هذا كله إلا استيقاظه نفسية، سرعان ما تبخرت معها فكرة الثورة على النظام وعلى الطبيعة، وتحركت شفتاي على غير إرادة مني وقرأته السلام
يا لله! هاهو ذا قد نظر إليّ بكامل وجهه، وعيناه تبعثان بصيصاً فيه الرعب والوجل والألم والقسوة والجمود. وأخذ يجاهد جهاد المستميت ليرد تحيتي بأحسن منها، وأخذت الكلمات تخرج من شفتيه غير متماسكة الحروف، فكان فيها مد وغن، وقصر واستطالة، وعوج واستقامة، وإمالة وشمام، ومضت دقائق ما أعرف عددها قبل أن يتم رد السلام:
- وعليكم السلام. . . ورحمة الله وبركاته. . . إزاي حضرتك سلمات. . . أهلا وسهلا. . . يا مرحب
- اسم أخينا إيه؟
- اسمي. . .
- أيوه
- اسمي. . . والله اسمي. . . اسمي. . . محمد
- بتعمل إيه
- أ. . . نا
- أيوه أنت
- أنا. . . بشتغل. . . في غيط. . . عم حمدان. . . اللي. . . قصادك ده!
- وبلدك إيه؟
- أ. . نا
- أيوه إنت
- بلدي. . . بلدي. . . بعيد من هنا! بينا وبينها. . . تلاته تعريفه تمام. واسمها. . . اسمها. . . الخرابة
ولقد صدق المسكين. فأية بقعة من بقاع هذا العالم الواسع تقذف الإنسانية المسواة في أحسن تقويم بمثل هذا الشبح الممسوخ إلا بقعة خراب!
إذن فقط هبط علينا من الخرابة. وكيف يستوي أن يعيش في العمران والمدنية، من تلفظه الخرائب الموحشة الجرداء. وبلدة الخرابة قرية لا يدور اسمها على ألسنة موظفي الحكومة إلا قليلا فهي في شمالي الدقهلية وفي أرض بور تبلغ مساحتها بضعة آلاف من الأفدنة كلها مرتفعات وأخاديد، وقد تجمعت المياه في بعض المنحدرات ونبتت فيها النِّسيلة والبَشْنين. أما المرتفعات فقد تجمع من فوقها السبخ الأحمر وتوجتها أدغال من الطرفاء، وما أن تبعث على هذا الخراب الشامل بنظرة حتى يخيل إليك أن الله قد أنزل على هذه الأرض حسباناً من السماء فأصبحت صعيداً زلقاً
وعلى تبة من تباب هذه الأرض السبخة المالحة تقوم أكواخ قرية الخرابة، وقد نبت عليها شوك العاقول الأخضر، وتسلقتها حشائش العليق، وامتدت الرطوبة إلى نصف ارتفاعها. وعقدت أسطح الحجرات باللبن النبيء، وفتحت في أعلاها النواريز بارزة من أواسطها، فيخيل إليك إذا نظرت فيها أنهن عجائز القرية المهجورات مسخن بكارثة، وهن يتطلعن جميعاً إلى الشمال. فإذا جن الليل وأرسل القمر أشعته الفضية على هذا الكون الميت العجيب، شبه لك أن القرية قطيع من الفيلة السود، تتساوق متزاحمة، ولكن في صمت كأنه صمت القبور
ومن حول هذه القرية تقوم بضعة شجيرات من السنط بهت لونها وامتقعت أوراقها، وما يغشاها من طرفي النهار إلا غربان تنعق، وما يألفها في الليل إلا البوم تنوح من حول القرية طيلة ساعات السواد، نادبة حظ الأحياء والأموات، مرسلة بأناتها الطويلة الشجية الحزينة، ترثي الطبيعة المجرودة الغبراء
وعلى مسيرة بضع دقائق تقع جبانة القرية، وقد انتثرت فيها القبور كأنها كثبان الرمل سفتها الرياح، فتجاورت مزدحة في بقعة من الأرض، والأرض من حولها فسيحة براح، كأن طبيعة الإنسان الاجتماعية قد أقسمت لتزحمنَّه في القبور كما تزحمه في الحياة. وقد ترى اللحد ومن فوقه ذلك الكثيب علاه السبخ الكئيب، ومن حوله نبت الشوك وحوَّط القبر من جميع جهاته، كأن الطبيعة قد أرادت أن تحدد تخوم كل قبر لتكفي الموتى مؤونة العراك على امتلاك القبور، وهنالك تقع على جحر ذئب، وهنا على نبيشة ثعلب، وقد تنتبه على حركة طائر في وحشة ذلك الصمت الأبدي، فترى قطاة أزعجها مسيرك في مدينة الأموات، فتركت عشها من فوق قبر لتثقل به على صدر ميت كان بالأمس جباراً لا يرحم، عنيداً لا يلين، مشبوب الشهوات واسع الأمل مستثار الجنان
وإنك لتعجب كيف أن قزم الخرابة يترك تلك الجبانة التي نشأ بمقربة منها، بل وفي حضنها الرهيب، ليهبط قريتنا، فلا نراه إلا ونذكر الخراب والغربان والبوم، ولا نحييه إلا وفي مخيلتنا مجمل هذه الصور التي صورتها، يحييها منظره ويدعوها إلى الوعي مجرد الذكرى، بأن في بلدتنا شخصاً من الخرابة. وتداعي الأفكار صفة نفسية، ولكن لابد من باعث يحركها ويدعوها. فكان هذا سبباً في أن يبعد الناس عن طريق هذا الإنسان لئلا تقوم في مخيلتهم ذكريات الخرابة وذلك القفر المجذب الحزين والأكواخ تسلقتها الحشائش والأشواك والأشجار الميتة القائمة من حولها، والغربان والبوم، والجبانة والقبور، فتغشي الطبيعة المرحة الباسمة سلسلة من تلك الذكريات الباكية. فلا ريب إذن في أن الأقدار قد تناصرت على هذا المسخ المشؤوم. ولكن لم يقس عليه من الأقدار شيء بقدر ما قست عليه الطبيعة التي شوهت من خلقه، و (الخرابة) التي نبذته وقذفت به إلى الوجود.
وقد يولد بعض الناس مثقلين بأوزار، أو محكوماً عليهم بأن يعيشوا في جفوة عما يحيط بهم من الأشياء؛ فمنهم من تجني عليه الطبيعة، ومنهم من تجني عليه الأسرة، ومنهم من يجني عليه الناس، ومنهم من تجني عليه البيئة، وكثير منهم يجني على نفسه، ومنهم من يخرج إلى الدنيا حاملاً وزر أبيه، أو وزر أمه، أو وزريهما معاً. وهو بعد تلك الأداة الضعيفة، وذلك المخلوق البائس. الذي لا اختيار له فيما اختارت له الأقدار، ولا حيلة في ما مضت به الكلمة المبرمة في ألواح الأبد والأزل.
في الإنسان طبيعة مشتركة، من تفاسير الوجود ما ينم عنها، ومن الذكريات وتداعي الأفكار ما يرسم على وجوه أبناء آدم تعابير واحدة. فكنت إذا ذكرت (محمداً) مساعد حمدان العربي وبلدته (الخرابة)، أرتسم على الوجوه ما يدل على ما قام في النفوس من الاستيحاش والتشاؤم والاستفزاز.
وفي صبيحة ذات يوم، أشبه بذلك اليوم الذي احتل فيه ذلك القزم سيف الغدير المحبوب، اجتمع نفر من أهل القرية وقد ذر قرن ذكاء بأبهته السماوية، ينظرون في الماء ليتبينوا شيئاً يعلو ويهبط أمام قنطرة تحجز مياه الري
تلك جثة (محمد الخرابة)، فقد تولاه الغدير برحمته الأبدية، أما أهل القرية فقد ظهرت على وجوههم تعابير الرحمة ممزوجة بالكثير من راحة البال والضمير. فلا الشوه يمازج ذكرياتهم، ولا الخرابة بغربانها وبومها وأشجارها الميتة وقبورها الموحشة وسكونها الرهيب الأليم، وليلها المربد الهادئ هدوء الموت، يمر على مخيلاتهم أو يلابس وعيهم من بعد ذلك
ولكن. . . هنالك بمقربة من الجثة المسجاة، جلست (فاطمة) ابنة حمدان، بوجهها الصبوح وعينيها الواسعتين، وبشرتها القمحية الجميلة وقوامها اللين المتعاطف، جلست وحدها بغير شريك من فتيان القرية وفتياتها، وهي أفتنهن جميعاً، تخالس الجثة النظرات صامتة مبهوتة، وترمق الجسد البارد بعينين حائرتين جامدتي النظرات، وقد تقاطرت منهما دموع انحدرن كالحمصات الكبار

إسماعيل مظهر


26 - 07 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى