محمد شكري - مجنون الورد.. قصة قصيرة

الأطفال يصخبون في الحي.
استيقظت و جلست.تدلت ساقها على حافة مضجعها. حنت رأسها إلى أمام. يأكلان خبزا مغموسا في الزيت. يشربان شايا أخضر باردا تركته أمهما في الإبريق. ينظران إليها ماضغين. شاردة ودائخة. تمسك رأسها بيدها و تضغط. تنهض مترنحة واضعة يدها على فمها . تدخل المرحاض. رائحته الكريهة تسعفها على القيء القوي. يمد لها أخوها الأكبر سطلا من البلاستيك فيه ماء. تتهالك على المضجع. تشهق. الأخ الأصغر يخرج إلى الحي. الآخر جاس صامتا أمامها. تجلس. يتناظران بحزن. عيناها دامعتان، ذابلتان. تبسم. يبسمان. استجاءته بحركة من رأسها و يديها. تجلسه جنبها. تضمه إلى صدرها باسمة.تمسك وجهه الصغير بين يديها. تمسح بيديها رشح دموعه باسمة.
.
الأطفال في الحي يلعبون الكرة صاخبين. تعطيه قطعة نقدية.يبسم. يبوس خدها و يخرج.
في الحي صار البؤس أكثر صداقة للصغار و الكبار. الجمال فيه يطل في فضول من الأبواب الصغيرة الكاحلة. هو الجمال نفسه الذي يباع في المدينة الجديدة.
شاعر الحي الكسيح شاهد على ما يحدث منذ أن كان أهل هذا الحي كلهم يسكنون الأكواخ.
يعلم الصغار و الكبار،
بالأجر و الشكران،
يقرأ،يكتب رسائل الأحباب،
يؤازر المصاب بالقرآن،
و العشق بالأشعار،
يلاعب الأطفال،
يجالس الشيوخ في المساء.
طفلة تأكل رغيفا و شوكولاتة. جالسة على عتبة تنظر إلى أشياء الحي.تستذوق ما تأكله. طفل أمامها يحمل وردة حمراء.يرقص ساقها بين أصابعه النحيلة الوسخة. جوعه في عينيه يغازل رغيفها. تكف عن الأكل و الكسرة قريبة من فمها. ناظرا إليها يشمها و إليها يباسمها يغريها.رقصة الجوع في عينيه، رجليه، يديه، في كل جسمه. عيناها الحالمتان تطلبان وردته الراقصة. امتدت يده إلى الفم و يدها إلى الأنف.
تنهض. تستقطر الإبريق في إحدا الكأسين اللزجتين بالزيت. ترشف من الثمالة العكرة. تفرك عينيها. تخرج من حقيبتها علبة سجائر شقراء. تجلس على مضجعها. تشعل واحدة. تنظر إلى صورة أبيها. تسعل بقوة . تتذكر سعال أبيها وخيوط الدم يبصقها . تدوخ من جديد . تقوم إلى المرحاض ساعلة وترمي السيجارة تقىء بجهد خيطا رفيعا من اللعاب. تتذكر لعاب السكارى ولغوهم وعنفهم وسط صخب الغناء وضباب الدخان . تذهب أمام مرآة صغيرة عالقة قرب مضجعها . وجهها الليلي في لون الزيت محتقن وعيناها راشحتان . تشبك يديها أمامها . تضغط على عضلات كتفيها بحركة متواترة وصدرها يخفق مندفعا إلى الأمام. جست نهديها. وجدتهما صلبين. جلست على مضجعها زافرة كشفت عن ساقها ثم حكت شعرها الكث الذي لم تحلقه منذ مدة طويلة. تحب كثيرا عريها في عينيها أكثر مما تحبه في عيون الرجال . قيل في أسفل جسدها من الغزل أكثر مما قيل في أعلاه.
مجنون الورد. هكذا أسماه أهل الحي .الشاعر الكسيح شاهد. مجنون الورد يعيش مع أمه في كوخ .يذهبان معا كل صباح إلى المدينة ولا يعودان إلا مساء. هي تتسول وهو يوزع وروده على النساء و الفتيات الجميلات . لا شيىء يطلب منهن. وروده يشتريها من مال أمه أو يسرقها . قبض عليه وحوكم مرات،لكن رأفة بجنون الورد يسامح . وردته الأخيرة يرميها دائما للساكنة في الطابق الأرضي . رحمة بجنون الورد رمت له يوما منديلا . يوم المنديل خير من ألف يوم .سلام هي المرأة بعد يوم المنديل .هكذا صار يقول لكل من يعرفه . أخد يؤرخ لحياته بيوم المنديل : هذا حدث قبل يوم المنديل . هذا حدث بعد يوم المنديل . حتى المرأة قبل المنديل ليست هي بعد المنديل . لم يعد يعطي وروده لكل النساء . الباقة المشتراة أو المسروقة هي لامرأة المنديل. مجيئه بالورد ووجودها في النافذة وعد وميعاد بينهما . حين شفي الزوج من زكام شم رائحة مجنون الورد في جسد امرأته تخرج بخفة من الباب راكضة خلف مجنون الورد . كان أسمن من أن يركض ورائهما.
جملت وجهها الليلي بالمساحيق وقطرت قطرة زرقاء في عينيها و فاح منها عطر غال. أخرجت من خزانة ملابسها الصغيرة ثوبا ثمينا أكثر شفافية و ملموية والتصاقا بجسمها من كل أثوابها الأخرى و حذاء فضي اللون كعباه عاليان.لفته في ورقة مجلة أجنبية تشتريها من أجل حذائها الجديد و البالي. احتذت البالي و تأبطت الجديد .قبل أن تخرج ألقت نظرة على دميتها الكبيرة في لباسها الجميل التي اشترتها بمالها عندما كبرت وصارت تكسب.
أخوها الأصغر جالس قدام عتبة الباب يلاعب قطة صغيرة بكرة ورقية مربوطة بخيط وكلب أمامه سقيم يستلقي في الظل يغالبه النعاس والتعب . ترك القطة وأقبل يودعها. أعطته قطعة نقدية وقبلته . رجاها أن تعود في المساء باكرا قبل أن ينام أخوها الآخر يلعب الكرة بعيدا مع فرقة صغار الحي .نساء وأطفال يستسقون من حنفية الحي في ضجيج وسباب . طفلة تتبرز قرب السياج تنكث برازها بعود صغير وتشمه .كلب هزيل يحوم حولها . عيناه تكبران وذيله يبصبص . فتاتان تتشاتمان حول صف سطليهما . إحداهما رفعت ثوبها كاشفة عن أسفلها العاري وقالت لغريمتها في الصف حول الحنفية :
- هذا ما تساوينه أنت عندي .
أبرزت لها الأخرى وسطاها في وجهها ثم تشابكتا لكما وشدا وشتما.شبان جالسون على الأرض إلى الحائط مستندين يدخنون بسأم يتأملون ما يحدث بسخرية صفر لها واحد من هؤلاء الشبان بغزل ضاحك وطفلان يستجديانها . أعطتهما قطعتين نقديتين ومضت في الوحل بمسكنة وحرج . بعضهن ينظرن إليها بإعجاب وبعضهن بحقد وحسد.
قرب مدخل الحي الموحل خبأت البالي واحتذت الجديد ثم مشت في الطريق المزفت إلى المدينة الجديدة .
شاعر الحي الكسيح يكتب عن هذه الأشياء في حيه وأيضا عن أشياء في المدينة ما عاشها وما رآها لكنه سميع ممن رآها ورواها . هذه بعض من مذكراته:
أمس فكرت من جديد في حياتي من خلال الأصفار . من اليمين إلى اليسار فكرت في قيمة الأصفار . فكرت في كل شيىء من خلال لاشيىء. « لا يسأل عما يفعل وهم يسألون...»، ما أصابك من اليمين فمن الله وما أصابك من اليسار فمن نفسك .
الله يقسم وأنتم تجمعون .لكنكم لاتعدلون في شيىء والله خير من يعدل في الحساب.
أن تحطموا كل الأصنام . هذا ما تعرفون . لكن الله لايمكر بكم إن كنتم تعدمون ما تبنون لأنفسكم.
جنس! جنس! جنس! هاهو ذا شقاؤكم فاطلبوا سعادة الوعد إن كنتم صابرين ومؤمنين . إنني غاضب على هذا الجوع البشري الذي لا يكف حتى الموت . لم أعد اذكر كبريائي التي كانت تمنعني من أن أحب . البعد الحلو كان كل عزائي دائما يغلبني الفجور الأقوى من العفاف في نفسي . أبدا ما جائتني هي التي في أوانها أشتهيها . تلك التي تنحسرون على فراقها وتملون من بقائها . الجمال! آه! من الجمال الذي يفترسني مالكا إياه سواي ساخرا مني. لم افهم امرأة واحدة إلا في نزوات الخيال: في الرشفات لا في رشفة . ربما فكرت في كلهن . كانت رغباتي موزعة فيهن. الحياة التي فكرت فيها لم أعشها .سلوا ذلك الذي عاشها ولم يفكر فيها.
إنه اعتراف آخر كأس وآخر صديق يغادرني .سلوا ذلك الذي هو في غربته.لي صديق يقهره الجمال مثلي يكرهني في عيني زوجته ويحبني في أعين العابرات في حياتي . سلوا ذلك الذي مل من الوجه الأليف . طفت في البيت الحرام حول امرأة ثلاثة أيام قهرا وبعدما ما عدت أطوف أكثر من يوم في شمسه أو في قمره . إن عقد الإستهلاك هو كل كرامة ذلك الصديق وصار عندي كلاما في آخر الليل وآخر كأس وآخر إفلاس . إذا كنت دوما كارها للفرض فمن يكون لائمي وحاكمي في السنة؟ نحن إخوة في الخيار وأعداء في الجبر.
إن عزاب هذه المدينة أدمنوا على الليل و الكأس مثلي أو على الثواب والهجرة قبل الثلاثين فرارا من الجنون أو الجهل والموت . أنا اليوم وحيد مع كأسي . مثل الذين يهربون إلى المشارب والمواخير لعلهم يستعيدون شيئا من عزوبتهم . إنهم يمجدون الخمر في المساء ويلعنونه في الصباح . كل نفس ذائقة الموت عزوبتها ومجدها ولعنتها . لكنني وجدت في كل المواخير أخواتي وأخوات أصدقائي . رأيت هذيان الليل يذبذب مساحيقهن ويمزق أقنعتهن وأسنانهن ينخرها السوس في عز شبابهن . سمعتهن يستعدن عفاف طفولتهن في الأناشيد المدرسية المبتورة في ذاكرتهن والروايات الحزينة وأفلام الغرام و الذكريات القديمة والحديثة.
إنه اعتراف آخر كأس وآخر فلس وآخر صديق يسافر إلى عالم فاتني أن أزوره في زمن بلا جواز سفر ولانقود .
في الشارع الرئيسي دخلت البنك .أخرجت شيكا من حقيبتها الجلدية الجميلة ،الثمينة، ووقعت اسمها بصعوبة ويدها راعشة . نظر الصراف بفضول إلى الشيك وإليها . سحبت مائتي درهم وخرجت مضطربة . اشترت من دكان مجلة نسوية مصورة وعلبة سجائر مذهبة .
في قاعة شاي مدام بورط جائتها الخادمة الجميلة ووقفت بلطافة . إنها تعرف سخائها معها . قالت بصوت تشوبه بحة تعب الليل:
أعطني عصير برتقال. حليبا وخبزا محمصا بالزبدة والمربى .
في السوق الكبيرة صاحت أمها وعيناها على حارس الأمن يطارد بعيدا عنها البائعات المتجولات مثلها.
- ها البصل !ها الفجل!ها الليمون !
في الحي صرخ أخوها اللاعب:
- جوول...!
و أخوها الأصغر يلاعب القطة الصغيرة قرب شاعر الحي الكسيح والكلب السقيم ينعس أمامها . وطفل في يده طائر دوري يموت يبول عمدا على حذائها في السياج.






1709797298062.jpeg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى