أحب الحرافيش العاملين الكادحين المطحونين.. والآملين أيضا. أحب الحرافيش؛ فهم – كالشعراء – ملح الأرض! وأحب الحرفوش (شحاته) وأحب شعره.
وأحب في شحاته أيضا وعيه الجيد ونظرته النافذة إلى دور الشعر في الإمتاع الفني من ناحية، وفي بناء الإنسان والمجتمع من ناحية أخرى، وأحب فيه إيمانه بأن الشعر – كي يحيا – يلزمه الانتشار؛ فهو حريص على إذاعة قصائده، يواظب على حضور الملتقيات الشعرية، ويسعد بأن يسمع الناس شعره وأن يناقشوه وأن ينشروه، ولست أدري هل قرأ شحاته قول (أحمد عبد المعطي حجازي):
كلماتنا مصلوبة فوق الورق
لما تزل طيفا ضريرًا ليس في جنبيه روح
وأنا أريد لها الحياة
وأنا أريد لها الحياة على الشفاه
تمضي بها شفة إلى شفة؛ فتُولد من جديد
إذن.. فالشاعر لا يقول من أجل أن يظل إنتاجه مصلوبًا على أوراقه، حبيسًا لأدراجه، الشاعر يريد لشعره أن ينتقل – بالرواية والمداولة – من شفة إلى شفة، وكأنه القُبلات تمهّد لتواصل حميم تتبعه الولادة والخلق الجديد، يريد له الحياة التي هي المحور الأول في قصائد شحاته.
ولا خلاف في أن القول الذي يستحق أن يوصف بأنه (شعر) – لا شك أنه إنتاج فردي، ولا يمكن أن يكون إلا إنتاجًا فرديًّا، لكنني – والناس أهواء – لا أحب (الذاتية الانعزالية) في الفن، وإنما يميل هواي إلى (الذاتية غير الانعزالية)، ولا أؤمن بالتفسير الحرفي لعبارة "الفن من أجل الفن". بل إني أذهب مع من يقول إنه "شاع بين الكثرين أن هذه العبارة تقف بمدلولها في موقف معارض للعبارة الأخرى "الفن من أجل الحياة"... والواقع أنه لا تعارض هناك؛ لأنه إذا كان الفن لا يمكن تصوّره، ولا يمكن أن يقوم، منفصلا عن الحياة؛ فإن عبارة "من أجل الفن" تتضمن - ولا تعارض - عبارة "من أجل الحياة". فكون الشيء قائمًا من أجل ذاته لا يتعارض مطلقًا مع الفوائد التي تُجنى من علاقته بالأشياء الأخرى". ص 34/44 الأدب وفنونه/ عز الدين إسماعيل.
وبعد.. فبين أيدينا ديوان "خيول في حلق برواز" للشاعر شحاته أبو جالوس، وهو ديوان يغري بالقراءة، ويشجّع على محاولة القول في بعض جوانبه دون بعض؛ فهو ديوان ثري بالرؤية وبالفن بحيث لا تحيط به مقالة واحدة.
بداية من صياغة العنوان، أو انتهاء به، يُشركنا الشاعر في ذاتيته الموصولة بذواتنا جميعا، ويشاركنا قضيتنا، فما نحن وما هو إلا خيول من طبيعتها التوق إلى الحرية والتطلع إلى الانعتاق والانطلاق، خيول تحب أن تستقطر الحياة النبيلة الجميلة من الدنيا المريرة القبيحة، وأن تسمو نحو المثل العليا للوجود الإنساني. هذا ما نحب، لكننا في الحقيقة مجرد "خيول مصلوبة في حلق برواز" تتماثل تمامًا مع عجزنا ومع كلماتنا المصلوبة فوق الورق! وتصوّر تطلعاتنا وآمالنا التي لم تزل طيفًا ضريرًا ليس في جنبيه روح.. وشحاته – ونحن معه – يريد لها الحياة، بالكلمات على الأقل.. ولكن..
يا قلم أيه فايدة خطك
ما دام اللي خط الحروف
واقف ضدك!
هل يقول شحاته إننا نقف ضد أحلامنا، ضد خيولنا؟ هل يتهم عزيمتنا؟ إذا كان ذلك.. فما أصدقه!
وخيول الجنوبي الثاني شحاته تذكّرنا بخيول الجنوبي الأول (أمل دنقل) التي تركض كالسلاحف نحو زوايا المتاحف بعد أن جفّ في رئتيها الصهيل! كلا الجنوبيين يعبّر عن مأساة الإنسان من خلال مأساة الخيول التي حُبست في (حلق) برواز لتغدو مجرد صورة جامدة لا حياة لها ولا فعل ولا تأثير، ولا حتى مجرد قدرة على التفكير أو التعبير بعد أن أمست "تماثيل من حجر في الميادين"، أو مجرد صورة محبوسة لا في إطار براح البرواز، وإنما في حلقه الضيق الخانق الصامت، وهي التي كانت بريّة "تتنفس حريّة/ مثلما يتنفسها الناس/ في ذلك الزمن الذهبي النبيل"، ذلك الزمن (المتخيّل) الذي يسعى إليه الجنوبيان الأول والثاني، ونحن معهما خيول تسعى.
وما أبعد هذه الخيول الجمعية، خيول الحرفوش المطحون، من ذاك الجواد الفردي، جواد (المتنبي) الذي يعيش مترفًا في كنف الحاكم، يتقلّب في الحياة الرغيدة والعيش الخفيض والجمام الممرض المؤذي..
وما في طبّه أني جوادٌ
أضرّ بجسمه طول الجمامِ!
جواد المتنبي يشكو مرض الراحة ورغد العيش؛ فهو ليس جوادنا نحن، جيادنا نحن هي خيول شحاته التي تشكو الفقر والمرض وشظف العيش، والأيام "المتزوّقة بريش غربان".
لكن شحاته يتمرّد، فإذا كان هو الذي رسم صورة الخيول في حلق برواز، وهو الذي يقول: "وسكّنت روحي في جثة مهجورة"؛ فإنه هو نفسه شحاته الحالم الآمل المتطلع الذي يضيق بهذه الصورة وتوابعها:
ملعونة الصورة اللي في البرواز
اللي نايمة في بحر الغش
من غير إحساس
ملعونة كلمة نعم
اللي طاحنة حلمك
على رحايا الأيام!
ويبدو أن شحاته الذي يضم حلمه بكلتا يديه إلى عنقه ويغالي به، يبدو أنه يرى الحلم هو طوق النجاة، وأن ضعف هذا الحلم هو الذي أضاع على خيوله فرصة الحياة التي تليق بها..
أحلام مغزولة في خيوط العنكبوت
لا قادرة تطير ولا راضية تموت!
ولأن أحلامه لا ترضى بالموت؛ ينفض الشاعر عن نفسه رداء الخوف، هذا الرداء الذي وضعه بين أمور يبغضها: الصمت في حلق البرواز، وكلمة نعم، وموت الإحساس، والغش.. وينطلق ثائرًا يبحث عن الأمل.. عن الحياة:
لحظة ما جيت أكتب الكلمة
انكسرت كل الحروف
واتشعبطت الرعشة
في أحضان الكفوف
وانكسر النورج
وانقلع من قلب الساقية القادوس
انشقّت الأرض ولملمت كل الحروف
ده خوف والا كسوف؟
(لا) مش هتموّتك
انت اللي هيموّتك شيطان الخوف
ملهوف ع الموت؟
وانته ميت متكفّن بالسكون!
خدت ايه من الوعود؟
وحلمك لسّه ساكن في قلب التابوت!
هكذا تحاول الخيول أن تنفذ من الحلق الضيق وأن تحطّم البرواز المُحكم، بالكتابة، بكسر برواز الخوف، بكلمة (لا)، بتحدّي الموت، باستنقاذ الأمل من جوف التابوت.. وبالبحث عن السبب!
يرى شحاته أن مأساة الخيول والحرافيش بدأت مع (الخصخصة) التي خالف فيها (السادات) مبادئ ثورة يوليو..
مات يوليو في العينين
واتولد قدّامي تاريخ ميلاد جدي
واتحاصر ما بين الخطوة والعين حلمي
لحظة ما أصدرت عيون القصر
فرمان خصخصة فصيلة دمي!
ولعل صديقنا الحروفوش – وكل الحرافيش – توسّموا خيرا في الأحداث التي بدات بانتفاضة يناير 2011 وانتهت بثورة يونيو 2013 كنا جميعا نحلم خلال هذه السنوات، وكان الحلم – على غير العادة – مشروعًا..
حبيبتي تحفة من الطين
شكّلتها بأيديّا
شلتها في عتيّا
سمّيتها أغلى اسم في الوجود
عاشت معايا سنين وسنين
ولما جيت ازوّقها وقعت من بين ايديّا
طرطشت الألوان.. رسمت الحزن
اللي في الدنيا!
كان الحلم قويا.. واقترب.. ثم، يقول الشاعر:
لحظة ما اجّمعت كل الشوارع.. خلص الطريق!
لقد عاش الجنوبي الأول عصرًا مضطربّا موّارًا بالأحداث والقلاقل، لذلك كان حريصًا على ألا يُغضب "أبانا الذي في الدور الرابع"! وجاء الحرفوش الثاني يكتب في عصر حرج وأشد حساسية من عصر الأول؛ فطوى صدره على قول كثير ليس هذا أوانه، واكنفى بإشارة رمزية تقول:
أحلام عجيبة
عايشة تجرّح فيّا
وترسم في شكلي
ملامح غريبة
عشان كان
كل تفكيري
ان الكلام مع الكبار عيبة
ولو كانت العروسة الطين اللي في حتتنا
تبقى مصيبة!
لكن هذه الظروف لا تمنع العتاب، والعتاب قرين الحب..
قولي لي عايزة ايه؟
عايزة القلب تطحنيه تحت الرحاية؟
والا تلضميني في حبّات العقد؟
ولا عايزة تضفّريني في شعرك
وتحبّيني من عيون الناس؟
ما انا خلاص شربت السحر
وبقيت طوع ايديكي!
ليس بعد هذا عتاب.. ولا حب!
والشاعر النبيل، العاتب المحب، الآمل المتألم، يقدّم للمحبوبة، للوطن، صكّ الوطنية الحريصة الشفيقة، ويبذل لها النصح والتضحية.. تقول قصيدة "خيول في حلق برواز":
كسّري حدودي
وسكوتي
وخطّي لقلب الشمس
ومدي ايديكي شقّي قاع البحر
دوّبي جبال الضعف
واسقيني من شريان البرق
اشتليني في بركان غرام
اطحني قلب البرواز
في رحايا الحنان
ابدري بذور الأمل في الغيطان
صحّي سواقي الليل
تروي حروف الكلام
خطّيني حدود الأحلام
انزعي مكن صدر الكون
كل البراويز والحجبان
اطلقي ع الخوف عبيد الجان
ارسمي عينيكي في كف الأرض
بروزيها في الفنجان
خلّيني أعدّ العيدان واكلّم الحيطان
وأنام في حضن الطريق
واتفرش ع الجرنان
واوعاكي في يوم ترحميني
حتى لو نزف من عضم السنين الدم
علّميني ازاي افك خروف الحب
اللي في حلق الصمت!
وبعد..
فقد قلت آنفا أن الديوان ثري. وأقول إنه يحتاج إلى دراسة أطول وأعمق بحيث تشمل النظر في هذه اللغة الرشيقة المنسابة عبر قصائده كلها، وبحيث تحاول أن تتلمس الجمال في صوره البديعة المعبّرة، أما حديث الديوان عن الحياة التي يربطها بالحب وبالزراعة وبالرحيل أيضا- هذا حديث يستحق دراسة مستقلة.
مسعد بدر – شمال سيناء
وأحب في شحاته أيضا وعيه الجيد ونظرته النافذة إلى دور الشعر في الإمتاع الفني من ناحية، وفي بناء الإنسان والمجتمع من ناحية أخرى، وأحب فيه إيمانه بأن الشعر – كي يحيا – يلزمه الانتشار؛ فهو حريص على إذاعة قصائده، يواظب على حضور الملتقيات الشعرية، ويسعد بأن يسمع الناس شعره وأن يناقشوه وأن ينشروه، ولست أدري هل قرأ شحاته قول (أحمد عبد المعطي حجازي):
كلماتنا مصلوبة فوق الورق
لما تزل طيفا ضريرًا ليس في جنبيه روح
وأنا أريد لها الحياة
وأنا أريد لها الحياة على الشفاه
تمضي بها شفة إلى شفة؛ فتُولد من جديد
إذن.. فالشاعر لا يقول من أجل أن يظل إنتاجه مصلوبًا على أوراقه، حبيسًا لأدراجه، الشاعر يريد لشعره أن ينتقل – بالرواية والمداولة – من شفة إلى شفة، وكأنه القُبلات تمهّد لتواصل حميم تتبعه الولادة والخلق الجديد، يريد له الحياة التي هي المحور الأول في قصائد شحاته.
ولا خلاف في أن القول الذي يستحق أن يوصف بأنه (شعر) – لا شك أنه إنتاج فردي، ولا يمكن أن يكون إلا إنتاجًا فرديًّا، لكنني – والناس أهواء – لا أحب (الذاتية الانعزالية) في الفن، وإنما يميل هواي إلى (الذاتية غير الانعزالية)، ولا أؤمن بالتفسير الحرفي لعبارة "الفن من أجل الفن". بل إني أذهب مع من يقول إنه "شاع بين الكثرين أن هذه العبارة تقف بمدلولها في موقف معارض للعبارة الأخرى "الفن من أجل الحياة"... والواقع أنه لا تعارض هناك؛ لأنه إذا كان الفن لا يمكن تصوّره، ولا يمكن أن يقوم، منفصلا عن الحياة؛ فإن عبارة "من أجل الفن" تتضمن - ولا تعارض - عبارة "من أجل الحياة". فكون الشيء قائمًا من أجل ذاته لا يتعارض مطلقًا مع الفوائد التي تُجنى من علاقته بالأشياء الأخرى". ص 34/44 الأدب وفنونه/ عز الدين إسماعيل.
وبعد.. فبين أيدينا ديوان "خيول في حلق برواز" للشاعر شحاته أبو جالوس، وهو ديوان يغري بالقراءة، ويشجّع على محاولة القول في بعض جوانبه دون بعض؛ فهو ديوان ثري بالرؤية وبالفن بحيث لا تحيط به مقالة واحدة.
بداية من صياغة العنوان، أو انتهاء به، يُشركنا الشاعر في ذاتيته الموصولة بذواتنا جميعا، ويشاركنا قضيتنا، فما نحن وما هو إلا خيول من طبيعتها التوق إلى الحرية والتطلع إلى الانعتاق والانطلاق، خيول تحب أن تستقطر الحياة النبيلة الجميلة من الدنيا المريرة القبيحة، وأن تسمو نحو المثل العليا للوجود الإنساني. هذا ما نحب، لكننا في الحقيقة مجرد "خيول مصلوبة في حلق برواز" تتماثل تمامًا مع عجزنا ومع كلماتنا المصلوبة فوق الورق! وتصوّر تطلعاتنا وآمالنا التي لم تزل طيفًا ضريرًا ليس في جنبيه روح.. وشحاته – ونحن معه – يريد لها الحياة، بالكلمات على الأقل.. ولكن..
يا قلم أيه فايدة خطك
ما دام اللي خط الحروف
واقف ضدك!
هل يقول شحاته إننا نقف ضد أحلامنا، ضد خيولنا؟ هل يتهم عزيمتنا؟ إذا كان ذلك.. فما أصدقه!
وخيول الجنوبي الثاني شحاته تذكّرنا بخيول الجنوبي الأول (أمل دنقل) التي تركض كالسلاحف نحو زوايا المتاحف بعد أن جفّ في رئتيها الصهيل! كلا الجنوبيين يعبّر عن مأساة الإنسان من خلال مأساة الخيول التي حُبست في (حلق) برواز لتغدو مجرد صورة جامدة لا حياة لها ولا فعل ولا تأثير، ولا حتى مجرد قدرة على التفكير أو التعبير بعد أن أمست "تماثيل من حجر في الميادين"، أو مجرد صورة محبوسة لا في إطار براح البرواز، وإنما في حلقه الضيق الخانق الصامت، وهي التي كانت بريّة "تتنفس حريّة/ مثلما يتنفسها الناس/ في ذلك الزمن الذهبي النبيل"، ذلك الزمن (المتخيّل) الذي يسعى إليه الجنوبيان الأول والثاني، ونحن معهما خيول تسعى.
وما أبعد هذه الخيول الجمعية، خيول الحرفوش المطحون، من ذاك الجواد الفردي، جواد (المتنبي) الذي يعيش مترفًا في كنف الحاكم، يتقلّب في الحياة الرغيدة والعيش الخفيض والجمام الممرض المؤذي..
وما في طبّه أني جوادٌ
أضرّ بجسمه طول الجمامِ!
جواد المتنبي يشكو مرض الراحة ورغد العيش؛ فهو ليس جوادنا نحن، جيادنا نحن هي خيول شحاته التي تشكو الفقر والمرض وشظف العيش، والأيام "المتزوّقة بريش غربان".
لكن شحاته يتمرّد، فإذا كان هو الذي رسم صورة الخيول في حلق برواز، وهو الذي يقول: "وسكّنت روحي في جثة مهجورة"؛ فإنه هو نفسه شحاته الحالم الآمل المتطلع الذي يضيق بهذه الصورة وتوابعها:
ملعونة الصورة اللي في البرواز
اللي نايمة في بحر الغش
من غير إحساس
ملعونة كلمة نعم
اللي طاحنة حلمك
على رحايا الأيام!
ويبدو أن شحاته الذي يضم حلمه بكلتا يديه إلى عنقه ويغالي به، يبدو أنه يرى الحلم هو طوق النجاة، وأن ضعف هذا الحلم هو الذي أضاع على خيوله فرصة الحياة التي تليق بها..
أحلام مغزولة في خيوط العنكبوت
لا قادرة تطير ولا راضية تموت!
ولأن أحلامه لا ترضى بالموت؛ ينفض الشاعر عن نفسه رداء الخوف، هذا الرداء الذي وضعه بين أمور يبغضها: الصمت في حلق البرواز، وكلمة نعم، وموت الإحساس، والغش.. وينطلق ثائرًا يبحث عن الأمل.. عن الحياة:
لحظة ما جيت أكتب الكلمة
انكسرت كل الحروف
واتشعبطت الرعشة
في أحضان الكفوف
وانكسر النورج
وانقلع من قلب الساقية القادوس
انشقّت الأرض ولملمت كل الحروف
ده خوف والا كسوف؟
(لا) مش هتموّتك
انت اللي هيموّتك شيطان الخوف
ملهوف ع الموت؟
وانته ميت متكفّن بالسكون!
خدت ايه من الوعود؟
وحلمك لسّه ساكن في قلب التابوت!
هكذا تحاول الخيول أن تنفذ من الحلق الضيق وأن تحطّم البرواز المُحكم، بالكتابة، بكسر برواز الخوف، بكلمة (لا)، بتحدّي الموت، باستنقاذ الأمل من جوف التابوت.. وبالبحث عن السبب!
يرى شحاته أن مأساة الخيول والحرافيش بدأت مع (الخصخصة) التي خالف فيها (السادات) مبادئ ثورة يوليو..
مات يوليو في العينين
واتولد قدّامي تاريخ ميلاد جدي
واتحاصر ما بين الخطوة والعين حلمي
لحظة ما أصدرت عيون القصر
فرمان خصخصة فصيلة دمي!
ولعل صديقنا الحروفوش – وكل الحرافيش – توسّموا خيرا في الأحداث التي بدات بانتفاضة يناير 2011 وانتهت بثورة يونيو 2013 كنا جميعا نحلم خلال هذه السنوات، وكان الحلم – على غير العادة – مشروعًا..
حبيبتي تحفة من الطين
شكّلتها بأيديّا
شلتها في عتيّا
سمّيتها أغلى اسم في الوجود
عاشت معايا سنين وسنين
ولما جيت ازوّقها وقعت من بين ايديّا
طرطشت الألوان.. رسمت الحزن
اللي في الدنيا!
كان الحلم قويا.. واقترب.. ثم، يقول الشاعر:
لحظة ما اجّمعت كل الشوارع.. خلص الطريق!
لقد عاش الجنوبي الأول عصرًا مضطربّا موّارًا بالأحداث والقلاقل، لذلك كان حريصًا على ألا يُغضب "أبانا الذي في الدور الرابع"! وجاء الحرفوش الثاني يكتب في عصر حرج وأشد حساسية من عصر الأول؛ فطوى صدره على قول كثير ليس هذا أوانه، واكنفى بإشارة رمزية تقول:
أحلام عجيبة
عايشة تجرّح فيّا
وترسم في شكلي
ملامح غريبة
عشان كان
كل تفكيري
ان الكلام مع الكبار عيبة
ولو كانت العروسة الطين اللي في حتتنا
تبقى مصيبة!
لكن هذه الظروف لا تمنع العتاب، والعتاب قرين الحب..
قولي لي عايزة ايه؟
عايزة القلب تطحنيه تحت الرحاية؟
والا تلضميني في حبّات العقد؟
ولا عايزة تضفّريني في شعرك
وتحبّيني من عيون الناس؟
ما انا خلاص شربت السحر
وبقيت طوع ايديكي!
ليس بعد هذا عتاب.. ولا حب!
والشاعر النبيل، العاتب المحب، الآمل المتألم، يقدّم للمحبوبة، للوطن، صكّ الوطنية الحريصة الشفيقة، ويبذل لها النصح والتضحية.. تقول قصيدة "خيول في حلق برواز":
كسّري حدودي
وسكوتي
وخطّي لقلب الشمس
ومدي ايديكي شقّي قاع البحر
دوّبي جبال الضعف
واسقيني من شريان البرق
اشتليني في بركان غرام
اطحني قلب البرواز
في رحايا الحنان
ابدري بذور الأمل في الغيطان
صحّي سواقي الليل
تروي حروف الكلام
خطّيني حدود الأحلام
انزعي مكن صدر الكون
كل البراويز والحجبان
اطلقي ع الخوف عبيد الجان
ارسمي عينيكي في كف الأرض
بروزيها في الفنجان
خلّيني أعدّ العيدان واكلّم الحيطان
وأنام في حضن الطريق
واتفرش ع الجرنان
واوعاكي في يوم ترحميني
حتى لو نزف من عضم السنين الدم
علّميني ازاي افك خروف الحب
اللي في حلق الصمت!
وبعد..
فقد قلت آنفا أن الديوان ثري. وأقول إنه يحتاج إلى دراسة أطول وأعمق بحيث تشمل النظر في هذه اللغة الرشيقة المنسابة عبر قصائده كلها، وبحيث تحاول أن تتلمس الجمال في صوره البديعة المعبّرة، أما حديث الديوان عن الحياة التي يربطها بالحب وبالزراعة وبالرحيل أيضا- هذا حديث يستحق دراسة مستقلة.
مسعد بدر – شمال سيناء