(لا تزال أطلال مدينة (تدمر) قائمة بالقرب من دمشق ينقب فيها العلماء عن الآثار، وقد حكمت هذه المدينة من سنة 267 إلى 272 بعد الميلاد فتاة تدعى (زينوبيا) فاتنة عنيدة شديدة المراس لاقى منها الرومانيون الأهوال، وقصتها ممتعة شائقة)
- مولاتي. . . مولاتي. . . أين مولاتي؟
- ما ورائك يا مرندا؟
- إنه بيلنوس يا مولاتي. . . تالله لقد رأيته بعيني هاتين. أنصتوا. . . ألا تسمعون قرع الطبول؟. . . لقد عاد بيلنوس من مصر على رأس جيشه الظافر
- لئن كان ذلك حقاً فلن يضع أحد سواك على رأسه الغار
ودنت كتائب الجيش من المدينة فقامت (تدمر) بأسرها تحيي الظافرين، وغص قصر الملكة بزرافات الشعب ترقب عود الفاتحين. . .
وتحدج الملكة بنظرها قائدها بيلنوس وقد نال منه الونى، وبدا عليه الوهن لفرط ما بذل في دحر الرومان، فتهتف: يا ابنة ناديوس ضعي على رأسه الغار
ويفتر ثغر مرندا لهذا الشرف ويهتز له قلبها وتطوق رأسه بالغار، وتسأله في خفر: كيف وجدت مصر؟
- لقد عاث فيها الرومان الطغاة وأنزلوا بها الهوان، فانقضت جيوشي عليهم فروعتهم وملأتهم رعباً وتساقط جنودهم تحت أقدام فرساننا كالذباب واندفعت وراء فلولهم حتى انجلى آخر روماني عن أرض وادي النيل
وتبسم الملكة فيميد لابتسامتها قلبه، وتقول له: لقد أعجبت بما جندلت من جنود العدو مشاة وفرسانا، وقد وليتك أرض مصر فكن بأهلها رحيما، وأعلم أن بها أناسا يكنزون الم وآخرين لا يجدون إلى القوت سبيلاً، فخذ من غنيهم وأعط فقيرهم، فإن أبوا فخذ رقابهم من أموالهم بديلاً، فإن جئتك زائرة لا أجد فيها معوزاً ولا ذليلاً
واهتز جسم القائد وشحب لونه شحوباً عظيما وتمتم في صوت خافت:
- أفيكون جزائي بلائي وما أكنه لك من بالغ الوجد إقصائي؟ فتدرك مرماه وتهمس له مؤنبة:
- ما رأيت أشد منك هولاً الحرب وأوهى جلداً أمام النساء
فتفصد جبينه عرقاً ولوى عنانه وانسل بين جموع الجنود
أخذ الكرى بأجفان الجنود إلا بيلنوس، فقد أمضه السهد، ورانت على نفسه الأحزان، فانطرح على الرمال يؤرقه الشوق إلى وجه مليكته التي أرسلته إلى مصر وهو الذي كان يستمد السعادة من النظر إلى عينيها
وفي ذات ليلة هاجه إليها الوجد، فجلس يقلب في السماء عينيه السادرتين، وذكر أنها تنعم الآن بالحياة، لا يخطر اسمه على بالها ولا تفكر إلا في شن الغارات على ممتلكات الرومان، أما قلبها فلن تهبه له ولا لسواه لأنها تهيمن عليه وتخضعه لإرادة من فولاذ
وأحاط به اليأس، فقام يمشي كسير النفس جريح القلب، ذاهلاً، لا يشعر إلا بألمه. وفي منعطف الطريق رأى سائلا، فتحسس جيوبه ليعطيه شيئاً فلم يجد، وأراد قتل الوقت فسأل السائل عمن يكون، فتكلم السائل أو تحدثت الفتاة التي تمد يدها في الطريق، فكأنما كانت تسكب في روحه نغما موسيقياً يسحره ويسلبه. وقالت: إنها رومانية فقدت ذويها في الحرب، فلبست مسوح الرهبان، ووقفت تستندي الأكف لتطعم أبناء جلدتها الجائعين
ويشفق بيلنوس لهذا الجمال يهصره برد الليل ويقبره الدير، ويأسى لهذه الفتنة يدب فيها الذبول، وهذه العيون ينطفئ فيها البريق، وتراه (دورا) مقبلاً عليها بنفسه وبقلبه، فتسكن إلى حديثه، وتنصت له بسمعها وقلبها، حتى إذا ما كشف عن نفسه وعلمت فيه المبدد لجيوش وطنها القاتل لذويها ثارت نفسها سخطاً عليه
نحن في القصر الإمبراطوري بروما وقد جلس الإمبراطور أورليان على عرشه يحف به الجلال، ونراه يستبطئ قدوم شخص دعاه فيزلزل البهو بصوته الجهوري:
- أين مارسيوس؟ - هوذا أنا يا مولاي
وترى فتى مديد القامة يهش الإمبراطور لقدومه ويبش ويسأله عما إذا كانت السفن قد أعدت للرحيل، فيجيب: نعم، فيقول: ألم يصل بعد أوكتاف، فينبئه أنه وصل الآن وأن الراهبة ستعمل بمشيئة الإمبراطور
- حسن. ستكون أنت إذاً يا مارسيوس على رأس الجيش المغير على أرض تدمر، وعليك أعتمد في محو هذه المملكة، وعليك أن تولي وجهك إذا ما حالفك النصر شطر مصر، ولدى دورا أوامري المشددة بإقصاء القائد بيلنوس عن مركز رياسة جيشه
- ما لي أرى وجه الحبيبة كالحاً كالظلام؟
- قد تركني حبك يا بيلنوس نهباً بين نداء القلب ونداء الدير، ولي الآن شهور انقطعت فيها عن جمع الإحسان لأنعم بقربك وتراني أذوب كمداً كلما ذكرت أهلي الذين جندلوا في الحرب، ولم يبق منهم غير شقيقي الذي لاذ ببطن الصحراء وركب النيل إلى بلاد النوبة
- جعلت فداك، فما تشائين؟
- أريد اللحاق به فما يهتأ لي عيش بدونه
- وأنا يا دورا. . . أفتتركين هذا الحب يعبث بقلبي لا ينفعني طب ولا رقي؟
- فلم لا ترافقني في رحلتي نبحث عنه ونعود به فأعيش بينكما؟؟
- ومصر يا دورا؟
- ليقم عليها لبيد بن عبد الله حتى تعود
ونجحت دورا في إقصاء القائد عن جيشه، وتوغلت به في ذرا الهضاب وبين النجود والوهود تسأل الغادين والرائحين عن شقيقها المزعوم، وشغله هواها عن ملكته وجيشها الذي ائتمنته عليه.
أبحر مارسيوس وألقت سفنه مراسيها، ووثب جنوده إلى شاطئ (تدمر) كأنهم موج يتلوه موج، وساح جيشه في أرض تدمر كأنه الطوفان، وأفل نجم زينوبيا فلم تصمد لهجومهم العنيف
وصعدت الملكة إلى مخدعها حيث كانت خادمتها تمسح عن سيفها ودرعها دماء الأعداء
وتهالكت على مقعد وقد بدا على وجهه الجميل الغضب فزادها جمالاً وتمتمت: كيف يكون هذا يا رب؟
أين أنت يا بيلنوس. . . يا خائن؟
تا لله لو رأيته لأجعلن جسده طعاماً للنسور
واقترب مارسيوس من القصر الملكي وملكه العجب لهذا الفردوس وهذا الدوح المحيط بقصرها الممرد المنيف. وما كاد يطأ وصيد البهو حتى رأى زينوبيا جالسة على عرشها وقوراً
وسمرت قدماه وقد شدهته هذه الفتنة، وسبته عيناها الفيروزيتان، وراعه جمالها فزلزل كيانه وانعقد لسانه فما كاد يبين
ووقر في قلبه أن هذا الجسد الفتان سيكون هدفاً للسهام إن أرسلها أسيرة حرب إلى روما
وهتفت نفسه: ماذا أفيد من دك هذا العرش وموت هذه الفتاة؟
ودنا منها متوسلاً إليها أن تفر من وجهه إلى حيث يحلو لها المقام
واستضحكت زينوبيا وقالت:
- أما وقد ثل عرشي واجتاحت جيوش الرومان بلادي فليس لي رغبة في الحياة
وحملق فيها مارسيوس وأخذ يعبث بيده في قوسه وسهامه ورأسه يفور كبركان أوشك أن ينفجر
قال وهو يرسف في إسار سحرها:
- لاشك أنني أخطأت بلقائك يا زينوبيا بعد ما انتهى إلي من فعل سحرك بمن يراك، ولقد غلبني هواك فما أستطيع إرسالك إلى روما ليعجل الإمبراطور أورليان بك إلى الموت
- أتخاف الموت أيها الشاب؟
- كنت لا أخافه قبل أن أراك، أما الآن فقد تبدل الحال وأحببت الحياة لأنك معنى كبير من معانيها
- إنك تجيد الغزل إلى حد ما. . . ولكن قلبي منيع لم يتطرق إليه يوماً عبث الحب وسفاسف العشق التي أودت بقائدي الخائن بيلنوس الذي شغفته الرومانية حباً، وتوغلت به في الجبال، فلم يعثر عليه رسولي ولا سمع استغاثتي
أفعل ما توحي به إليك وطنيتك وما أمرك به إمبراطورك أيها الشاب فتكسب احترامي وتقدير مواطنيك
فما سمع منها ذلك حتى هب لونه وتفصد جبينه عرقاً، حتى لقد ظنت الملكة أن فالجاً قد عالجه، واقتلع قدميه اقتلاعاً حتى دنا منها وسلك يديها البضتين في سلسلة من ذهب
وحالف النصر مارسيوس فاجتاح مصر وثأر لمواطنيه، وغدرت (دورا) ببيلنوس فأسلمته إلى مارسيوس
وهبت روما تستقبل من عجلت بفناء فلذات أكبادها أعواماً تلي أعواماً، وكان الناس يؤذونها بما يرمونها به من فاحش القول وبذئ الفعال؛ على أنها كانت وسط هذا الضجيج رافعة الرأس هادئة البال، فكانت في محفتها ملكة لم يغير من أبهتها ما لاقته من هوان، فإذا ما بلغوا بها السجن ألقوها في قبو منه يعاف النوم فيه الكلاب. . .
قال الإمبراطور في مجلس الأعيان:
- سأرمي بها للأسود في ملعب الأولمبياد لتخف لوعة المحزون على ولده من شعبي
فضج المجلس بالاستحسان، واسترسل الإمبراطور:
- سيكون يوم موتها عيداً تقام فيها الصلوات للآلهة شكراً، وسأضع بيدي هاتين الغار على رأس مارسيوس العظيم!
وعجل مارسيوس العودة إلى روما إذ دعاه إمبراطوره. ولما علم بالعزم على طرح زينوبيا فريسة للأسود اشتد وجيب قلبه، حتى خيل إليه أن صوت هذا الوجيب قد طغى على أصوات الجماهير التي تزخر بها جوانب الطرق. وكان يبسم للشعب وقلبه، يقطر كمداً. وقبله الإمبراطور فأحس كأن عقرباً قد لدغته، ووضع على رأسه الغار فشعر كأن ناراً توضع على جبينه. . .
وأحنى مارسيوس هامته حتى كادت تلامس الأرض، وطلب إذن الإمبراطور له بالكلام فأذن:
- خدمت مولاي ثلاثين عاماً أو تزيد لم ألتمس فيها شيئاً ولي الآن حاجة. . .
فقاطعه الإمبراطور:
- كل خزائن الدولة وهن رغبتك
- ليس لي بها حاجة - فما حاجتك؟
- حياة زينوبيا
فتجهم وجه الإمبراطور وتمتم:
- هي ملك الشعب وقد خرجت من يدي
ووقعت الكلمات على قلب مارسيوس فدكته بين ضلوعه، ومشى مستأنيا والناس من ورائه ذاهلون، وسقط في فراشه يقبض بأصابعه على بطنه فيكاد يفريها، ويشد شعره فيكاد يقتلعه، وينتابه اليأس فيومئ إلى بعض أنصاره لإنقاذها فيصرع حرس السجن منهم كثيراً ومن يبق يبتلعه السجن
وجلس الإمبراطور في الحفل الهائل يضحك حيناً ويشير حيناً إلى الأسود التي تزأر في ساحة الملعب، فيتردد صدى أصواتها في جنبات القصور، وغص الأولمبياد بمن جاء من القرى والحضر ليرى المشهد المروع
ويؤتى بالملكة إلى ساحة الموت فتقترب منها الأسود في بطء كأنها ترهب ترهب هذا الجمال وتدوي أصواتها كالرعد فيغشى على النساء ويخفى بعضهن عيونهن بأيديهن، وكلما ضاقت المسافة جفت الحلوق وذهبت الألوان حتى الإمبراطور لم يملك نفسه فتهف: (يا لهذا الجمال!)
ووقفت الملكة يتدلى شعرها الأسود اللامع على كتفيها العاجيتين تنظر إلى الأسود لا تجفل ولا تفزع كأنها مقبلة منها على صديق، فإذا لم يبق بينها وبين أول أسد إلا عشرون متراً رأته يقفز وبين عينيه سهم رائش نفذ في رأسه وراح يتخبط في الأرض، وذعر الأسود فتفرقوا شذراً. وبسرعة خاطفة سقط مارسيوس إلى جانب الملكة، وأخذ يذود عنها الأسود بالسيف، ويدفع زينوبيا إلى الوراء حتى إذا اقتربت من الحاجز رفعها أنصاره. . . وتراجع المنقذ ليلحق بها فأنشب فيه أسد جريح أظفاره وراح يعمل فيه
صرخ الإمبراطور: أليس لك رغبة ننفذها يا مارسيوس؟
فهتف بما وسعته قوته: زينوبيا
محمد محمد مصطفى
: 29 - 07 - 1940
- مولاتي. . . مولاتي. . . أين مولاتي؟
- ما ورائك يا مرندا؟
- إنه بيلنوس يا مولاتي. . . تالله لقد رأيته بعيني هاتين. أنصتوا. . . ألا تسمعون قرع الطبول؟. . . لقد عاد بيلنوس من مصر على رأس جيشه الظافر
- لئن كان ذلك حقاً فلن يضع أحد سواك على رأسه الغار
ودنت كتائب الجيش من المدينة فقامت (تدمر) بأسرها تحيي الظافرين، وغص قصر الملكة بزرافات الشعب ترقب عود الفاتحين. . .
وتحدج الملكة بنظرها قائدها بيلنوس وقد نال منه الونى، وبدا عليه الوهن لفرط ما بذل في دحر الرومان، فتهتف: يا ابنة ناديوس ضعي على رأسه الغار
ويفتر ثغر مرندا لهذا الشرف ويهتز له قلبها وتطوق رأسه بالغار، وتسأله في خفر: كيف وجدت مصر؟
- لقد عاث فيها الرومان الطغاة وأنزلوا بها الهوان، فانقضت جيوشي عليهم فروعتهم وملأتهم رعباً وتساقط جنودهم تحت أقدام فرساننا كالذباب واندفعت وراء فلولهم حتى انجلى آخر روماني عن أرض وادي النيل
وتبسم الملكة فيميد لابتسامتها قلبه، وتقول له: لقد أعجبت بما جندلت من جنود العدو مشاة وفرسانا، وقد وليتك أرض مصر فكن بأهلها رحيما، وأعلم أن بها أناسا يكنزون الم وآخرين لا يجدون إلى القوت سبيلاً، فخذ من غنيهم وأعط فقيرهم، فإن أبوا فخذ رقابهم من أموالهم بديلاً، فإن جئتك زائرة لا أجد فيها معوزاً ولا ذليلاً
واهتز جسم القائد وشحب لونه شحوباً عظيما وتمتم في صوت خافت:
- أفيكون جزائي بلائي وما أكنه لك من بالغ الوجد إقصائي؟ فتدرك مرماه وتهمس له مؤنبة:
- ما رأيت أشد منك هولاً الحرب وأوهى جلداً أمام النساء
فتفصد جبينه عرقاً ولوى عنانه وانسل بين جموع الجنود
أخذ الكرى بأجفان الجنود إلا بيلنوس، فقد أمضه السهد، ورانت على نفسه الأحزان، فانطرح على الرمال يؤرقه الشوق إلى وجه مليكته التي أرسلته إلى مصر وهو الذي كان يستمد السعادة من النظر إلى عينيها
وفي ذات ليلة هاجه إليها الوجد، فجلس يقلب في السماء عينيه السادرتين، وذكر أنها تنعم الآن بالحياة، لا يخطر اسمه على بالها ولا تفكر إلا في شن الغارات على ممتلكات الرومان، أما قلبها فلن تهبه له ولا لسواه لأنها تهيمن عليه وتخضعه لإرادة من فولاذ
وأحاط به اليأس، فقام يمشي كسير النفس جريح القلب، ذاهلاً، لا يشعر إلا بألمه. وفي منعطف الطريق رأى سائلا، فتحسس جيوبه ليعطيه شيئاً فلم يجد، وأراد قتل الوقت فسأل السائل عمن يكون، فتكلم السائل أو تحدثت الفتاة التي تمد يدها في الطريق، فكأنما كانت تسكب في روحه نغما موسيقياً يسحره ويسلبه. وقالت: إنها رومانية فقدت ذويها في الحرب، فلبست مسوح الرهبان، ووقفت تستندي الأكف لتطعم أبناء جلدتها الجائعين
ويشفق بيلنوس لهذا الجمال يهصره برد الليل ويقبره الدير، ويأسى لهذه الفتنة يدب فيها الذبول، وهذه العيون ينطفئ فيها البريق، وتراه (دورا) مقبلاً عليها بنفسه وبقلبه، فتسكن إلى حديثه، وتنصت له بسمعها وقلبها، حتى إذا ما كشف عن نفسه وعلمت فيه المبدد لجيوش وطنها القاتل لذويها ثارت نفسها سخطاً عليه
نحن في القصر الإمبراطوري بروما وقد جلس الإمبراطور أورليان على عرشه يحف به الجلال، ونراه يستبطئ قدوم شخص دعاه فيزلزل البهو بصوته الجهوري:
- أين مارسيوس؟ - هوذا أنا يا مولاي
وترى فتى مديد القامة يهش الإمبراطور لقدومه ويبش ويسأله عما إذا كانت السفن قد أعدت للرحيل، فيجيب: نعم، فيقول: ألم يصل بعد أوكتاف، فينبئه أنه وصل الآن وأن الراهبة ستعمل بمشيئة الإمبراطور
- حسن. ستكون أنت إذاً يا مارسيوس على رأس الجيش المغير على أرض تدمر، وعليك أعتمد في محو هذه المملكة، وعليك أن تولي وجهك إذا ما حالفك النصر شطر مصر، ولدى دورا أوامري المشددة بإقصاء القائد بيلنوس عن مركز رياسة جيشه
- ما لي أرى وجه الحبيبة كالحاً كالظلام؟
- قد تركني حبك يا بيلنوس نهباً بين نداء القلب ونداء الدير، ولي الآن شهور انقطعت فيها عن جمع الإحسان لأنعم بقربك وتراني أذوب كمداً كلما ذكرت أهلي الذين جندلوا في الحرب، ولم يبق منهم غير شقيقي الذي لاذ ببطن الصحراء وركب النيل إلى بلاد النوبة
- جعلت فداك، فما تشائين؟
- أريد اللحاق به فما يهتأ لي عيش بدونه
- وأنا يا دورا. . . أفتتركين هذا الحب يعبث بقلبي لا ينفعني طب ولا رقي؟
- فلم لا ترافقني في رحلتي نبحث عنه ونعود به فأعيش بينكما؟؟
- ومصر يا دورا؟
- ليقم عليها لبيد بن عبد الله حتى تعود
ونجحت دورا في إقصاء القائد عن جيشه، وتوغلت به في ذرا الهضاب وبين النجود والوهود تسأل الغادين والرائحين عن شقيقها المزعوم، وشغله هواها عن ملكته وجيشها الذي ائتمنته عليه.
أبحر مارسيوس وألقت سفنه مراسيها، ووثب جنوده إلى شاطئ (تدمر) كأنهم موج يتلوه موج، وساح جيشه في أرض تدمر كأنه الطوفان، وأفل نجم زينوبيا فلم تصمد لهجومهم العنيف
وصعدت الملكة إلى مخدعها حيث كانت خادمتها تمسح عن سيفها ودرعها دماء الأعداء
وتهالكت على مقعد وقد بدا على وجهه الجميل الغضب فزادها جمالاً وتمتمت: كيف يكون هذا يا رب؟
أين أنت يا بيلنوس. . . يا خائن؟
تا لله لو رأيته لأجعلن جسده طعاماً للنسور
واقترب مارسيوس من القصر الملكي وملكه العجب لهذا الفردوس وهذا الدوح المحيط بقصرها الممرد المنيف. وما كاد يطأ وصيد البهو حتى رأى زينوبيا جالسة على عرشها وقوراً
وسمرت قدماه وقد شدهته هذه الفتنة، وسبته عيناها الفيروزيتان، وراعه جمالها فزلزل كيانه وانعقد لسانه فما كاد يبين
ووقر في قلبه أن هذا الجسد الفتان سيكون هدفاً للسهام إن أرسلها أسيرة حرب إلى روما
وهتفت نفسه: ماذا أفيد من دك هذا العرش وموت هذه الفتاة؟
ودنا منها متوسلاً إليها أن تفر من وجهه إلى حيث يحلو لها المقام
واستضحكت زينوبيا وقالت:
- أما وقد ثل عرشي واجتاحت جيوش الرومان بلادي فليس لي رغبة في الحياة
وحملق فيها مارسيوس وأخذ يعبث بيده في قوسه وسهامه ورأسه يفور كبركان أوشك أن ينفجر
قال وهو يرسف في إسار سحرها:
- لاشك أنني أخطأت بلقائك يا زينوبيا بعد ما انتهى إلي من فعل سحرك بمن يراك، ولقد غلبني هواك فما أستطيع إرسالك إلى روما ليعجل الإمبراطور أورليان بك إلى الموت
- أتخاف الموت أيها الشاب؟
- كنت لا أخافه قبل أن أراك، أما الآن فقد تبدل الحال وأحببت الحياة لأنك معنى كبير من معانيها
- إنك تجيد الغزل إلى حد ما. . . ولكن قلبي منيع لم يتطرق إليه يوماً عبث الحب وسفاسف العشق التي أودت بقائدي الخائن بيلنوس الذي شغفته الرومانية حباً، وتوغلت به في الجبال، فلم يعثر عليه رسولي ولا سمع استغاثتي
أفعل ما توحي به إليك وطنيتك وما أمرك به إمبراطورك أيها الشاب فتكسب احترامي وتقدير مواطنيك
فما سمع منها ذلك حتى هب لونه وتفصد جبينه عرقاً، حتى لقد ظنت الملكة أن فالجاً قد عالجه، واقتلع قدميه اقتلاعاً حتى دنا منها وسلك يديها البضتين في سلسلة من ذهب
وحالف النصر مارسيوس فاجتاح مصر وثأر لمواطنيه، وغدرت (دورا) ببيلنوس فأسلمته إلى مارسيوس
وهبت روما تستقبل من عجلت بفناء فلذات أكبادها أعواماً تلي أعواماً، وكان الناس يؤذونها بما يرمونها به من فاحش القول وبذئ الفعال؛ على أنها كانت وسط هذا الضجيج رافعة الرأس هادئة البال، فكانت في محفتها ملكة لم يغير من أبهتها ما لاقته من هوان، فإذا ما بلغوا بها السجن ألقوها في قبو منه يعاف النوم فيه الكلاب. . .
قال الإمبراطور في مجلس الأعيان:
- سأرمي بها للأسود في ملعب الأولمبياد لتخف لوعة المحزون على ولده من شعبي
فضج المجلس بالاستحسان، واسترسل الإمبراطور:
- سيكون يوم موتها عيداً تقام فيها الصلوات للآلهة شكراً، وسأضع بيدي هاتين الغار على رأس مارسيوس العظيم!
وعجل مارسيوس العودة إلى روما إذ دعاه إمبراطوره. ولما علم بالعزم على طرح زينوبيا فريسة للأسود اشتد وجيب قلبه، حتى خيل إليه أن صوت هذا الوجيب قد طغى على أصوات الجماهير التي تزخر بها جوانب الطرق. وكان يبسم للشعب وقلبه، يقطر كمداً. وقبله الإمبراطور فأحس كأن عقرباً قد لدغته، ووضع على رأسه الغار فشعر كأن ناراً توضع على جبينه. . .
وأحنى مارسيوس هامته حتى كادت تلامس الأرض، وطلب إذن الإمبراطور له بالكلام فأذن:
- خدمت مولاي ثلاثين عاماً أو تزيد لم ألتمس فيها شيئاً ولي الآن حاجة. . .
فقاطعه الإمبراطور:
- كل خزائن الدولة وهن رغبتك
- ليس لي بها حاجة - فما حاجتك؟
- حياة زينوبيا
فتجهم وجه الإمبراطور وتمتم:
- هي ملك الشعب وقد خرجت من يدي
ووقعت الكلمات على قلب مارسيوس فدكته بين ضلوعه، ومشى مستأنيا والناس من ورائه ذاهلون، وسقط في فراشه يقبض بأصابعه على بطنه فيكاد يفريها، ويشد شعره فيكاد يقتلعه، وينتابه اليأس فيومئ إلى بعض أنصاره لإنقاذها فيصرع حرس السجن منهم كثيراً ومن يبق يبتلعه السجن
وجلس الإمبراطور في الحفل الهائل يضحك حيناً ويشير حيناً إلى الأسود التي تزأر في ساحة الملعب، فيتردد صدى أصواتها في جنبات القصور، وغص الأولمبياد بمن جاء من القرى والحضر ليرى المشهد المروع
ويؤتى بالملكة إلى ساحة الموت فتقترب منها الأسود في بطء كأنها ترهب ترهب هذا الجمال وتدوي أصواتها كالرعد فيغشى على النساء ويخفى بعضهن عيونهن بأيديهن، وكلما ضاقت المسافة جفت الحلوق وذهبت الألوان حتى الإمبراطور لم يملك نفسه فتهف: (يا لهذا الجمال!)
ووقفت الملكة يتدلى شعرها الأسود اللامع على كتفيها العاجيتين تنظر إلى الأسود لا تجفل ولا تفزع كأنها مقبلة منها على صديق، فإذا لم يبق بينها وبين أول أسد إلا عشرون متراً رأته يقفز وبين عينيه سهم رائش نفذ في رأسه وراح يتخبط في الأرض، وذعر الأسود فتفرقوا شذراً. وبسرعة خاطفة سقط مارسيوس إلى جانب الملكة، وأخذ يذود عنها الأسود بالسيف، ويدفع زينوبيا إلى الوراء حتى إذا اقتربت من الحاجز رفعها أنصاره. . . وتراجع المنقذ ليلحق بها فأنشب فيه أسد جريح أظفاره وراح يعمل فيه
صرخ الإمبراطور: أليس لك رغبة ننفذها يا مارسيوس؟
فهتف بما وسعته قوته: زينوبيا
محمد محمد مصطفى
: 29 - 07 - 1940