المنشور 7
سعت معظم المشاريع الفكرية العربية المعاصرة إلى دراسة التراث العربي الإسلامي، وتصنيف منجزه وتحليله، وإبراز دوافعه وخصائصه الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، وإظهار أسيقته التاريخية، وضبط ما تناول من أفكار، وما قدم من مقترحات لحل المشاكل التي واجهته عبر المراحل التاريخية المتعاقبة، وما اتخذت من مواقف إزاء الأزمات والمعضلات والقضايا التي طرحت عليه، وما اعتمد من مبادرات لمواجهة التحديات التي فرضت عليه...
وقد حاول المفكر طيب تيزيني وسواه من المفكرين العرب تقديم مشاريع فكرية موسوعية ودراسات شاملة للواقع العربي ومساره التاريخي والثقافي والاجتماعي، وقدمت هذه المشاريع اجتهادات وبدائل على أكثر من صعيد، وضمن هذا التوجه يندرج المشروعه الفكري للمفكر طيب تيزيني الذي سجل من خلاله النتائج التي وصلت إليها المشاريع الفكرية العربية المنجزة قبل مشروعه، بعد خوضها دراسات معمقة في التراث، وأظهر موقفها من التراث والراهن، وتساءل عما مكن لبعض الاتجاهات وبخاصة الاتجاه التراثي السلفي التقليدي من الاستمرار في يوميات المجتمعات العربية ليحل مشكلاتها؟ ويعالج معضلاتها؟ أم أن استمراره في حياة الناس يشكل عبئا إضافيا لما تعاني من مشاكل؟ أم تراه يشكل عائقا لشروط النهضة والتطور؟ وإذا كان التراث عائقا فما هي البدائل اليقينية التي يمكنها أن توفر شروط التحرر والنهضة والتنمية والتقدم في المجتمعات العربية؟ إن التراث قدم إجابات عن أسئلة تخص زمانه، وعصر النهضة قدم إجابات عن أسئلة تخص عصر النهضة، ولا يمكن التراث السابق عن عصر النهضة أن يجيب عن أسئلة عصر النهضة التي بقيت مفتوحة، كما لا يمكن لعصر النهضة أن يجيب عن أسئلة الراهن العربي، فالبون شاسع بين المرحلتين التاريخيتين، وظروفهما مختلفة وشروطهما مغايرة، لذلك يفترض أن تكون الإجابة عن أسئلة عصرنا ملائمة ومعاصرة ومناسبة، وهذا مرهون بامتلاك وعي له القدرة على مواكبة واقعنا وتحدياته...
إن المتأمل في معظم المشاريع الفكرية العربية التي حاولت تقديم مقترحات وبدائل وحلول لمسألة التخلف في الوطن العربي، يجد أنها ركزت على دراسة التراث العربي الإسلامي، وانطلقت من تقييمه، وفق رؤى ومرجعيات فكرية وسياسية ومناهج كان لها بالغ التأثير في المواقف التي اتخذتها من التراث، ومن الراهن العربي..
وأهم الاتجاهات التي تناولت التراث العربي الإسلامي بالدراسة والتحليل حسب المفكر الطيب تيزيني، وحاولت تقديم بدائل وحلول لمعضلات الراهن العربي، تتمثل في اتجاهات أصبحت معروفة لدى الخاص والعام، وهي عبارة عن مناهج تم من خلالها مقاربة التراث العربي الإسلامي، كما تم من خلالها أيضا اقتراح بدائل لأزمات الراهن العربي، لاخراجه من دائرة التخلف، وقد تعددت وتنوعت بين مناهج تاريخية سياقية، ومناهج لا تاريخية نسقية، وهو ما يعبر عن مستوى وعي معتمديها، ويلاحظ أن معظم المناهج النقسية تعد حسب خصومها؛ اتجاهات مثالية في تناول التراث العربي الإسلامي، كونها تشتغل على التراث بعيدا عن المنهج المادي التاريخي الجدلي، وأغلبها ما يزال فاعلا في الساحة الثقافية والفكرية العربية، ويقسم الطيب تيزيني هذه الاتجاهات المنهجية إلى:
-الاتجاه السفلي التقليدي:
وهو اتجاه في دراسة التراث بآليات التراث ورؤاه وأفكاره وآلياته، وهذا الاتجاه يعتبر الماضي مصدرا للحقيقة ومعيارا لها، وقد فشلت مقاربته في تحليل التراث وتفكيكه وإنتاج معانيه، بل كان من الأسباب في تشويه التراث، وتقديمه في صورة لا تؤهله ليكون بديلا للمنجز الحداثي في المعطى العربي، ومن هنا يمكن اعتبار هذا الاتجاه في مقاربة التراث وتأويله، وما قدم من مقترحات وشروط وبدائل للنهوض، سببا من أسباب نشأة الحركات العنفية المتطرفة، والحركات الإرهابية المكفرة، والتي حرضت على الحروب الأهلية وخاضتها في معظم الأقطار العربية، وليس بعيدا أن يكون معظمها صنيع دوائر أجنبية، متواطئة تهدف إلى إبقاء أوضاع الأمة على ما هي عليه، وتكريس تخلفها، وتزييف وعي الجماهير العربية بإغراقها في الماضي، وجعلها تعيش على وقع انتصارات الماضي ونشوته، في الوقت الذي يعمل الغرب على تحقيق المزيد من الانتصارات في العلوم والمعارف والتطور والتنمية والرفاه، والتفوق المدني والعسكري والاقتصادي...
-الاتجاه الحداثي المعاصر:
ويتعلق الاتجاه الحداثي المعاصرة، بمناقضة السلفية والسعي إلى التحديث والتجديد، واتباع المنجز العلمي والثقافي والتكنولوجي الغربي الممثل في ما حققت أوروبا وأمريكا من تفوق، فالغرب حسب هذا التوجه هو معيار التقدم والحقيقة، بغض النظر عن جوهره وحقيقته، وهذا الاتجاه يحمل ضمن توجهاته رؤية راديكالية عدمية غير متماسكة للتراث والتاريخ، يستخدمها لتمجيد الغرب، وتبني كل ما يصدر عنه من جديد، وهو اتجاه خصيم، بل معارض للقدامة والسلفية بكل أشكالها ومنجزاتها...
ولا تجد هذه الحداثة والمعاصرة العدمية الرضا والقبول من الجماهير، كما يقول طيب تيزيني، بسبب رفضها العدمي للتراث العربي الإسلامي، واعتباره جزءا من الماضي الذي تجاوزه العصر، وهذا استفزاز لمشاعر الجماهير المؤمنة والتقليدية التي تتمسك بتراثها رمزا لدينها وانتمائها وهويتها وأصالتها..
- الاتجاه الوسطي التوفيقي:
ويتمثل الاتجاه الوسطي التوفيقي، الذي يسميه طيب تيزيني بالنزعة التلفيقية، وهي النزعة التي توهمت أنها قادرة على تجاوز سلبيات الاتجاهين السابقين، وتجميع الإيجابيات في بوتقة واحدة، إلا أن هذه المحاولة سرعان ما انقلبت، أو تحولت إلى تلفيق فشل في حل المشكلة، وأبقى على التناقضات كما هي، وقد أُخضع هذا الاتجاه للكثير من النقض والتحليل في الفكر العربي المعاصر، واتجاهات النقد الثقافي والحضاري فيه.
- الاتجاه التحييدي الأكاديمي:
يعتمد النزعة التحييدية، وتعني عند المفكر طيب تيزيني النزعة التي ترفض ربط قراءة التراث بأي هدف سياسي أو أيديولوجي، وتتخذ هذه النزعة أشكالا متعددة، مثل النزعة الأكاديمية، الوثائقية، واللاأدلجة، وهي في مجملها تنويعات للنزعة الحيادية التي فشلت من حيث المبدأ في تحقيق مقاربة علمية للتراث، لأن الحياد والموضوعية المطلقة لا يمكن تصورهما أو تحققهما في العلوم الإنسانية والاجتماعية حسب طيب تيزيني.
-الاتجاه الاستشراقي، المركزية الأوروبية:
وهذا الاتجاه يستمد معطياته من معطيات الاستشراق والمركزية الأوروبية وتوجهاتها، وهو اتجاه له حضوره في الفكر العربي المعاصر وله مروجوه، فهو يعيد إنتاج خطاب الاستشراق الغربي والمركزية الأوروبية، كمرجعية وحيدة ونهائية ويقول أصحاب هذا التوجه بإمكانية اعتمادها في الفكر العربي المعاصر، وجعل كل ما هو خارج سياق الغرب والفكر الغربي خارج العالمية التي تتوحد بالغرب، وعليه فالفلسفة العربية والتراث الفكري لا يمكن اعتمادهما إلا باعتبارهما تنويع شكلي في سياق الفكر الغربي العالمي.
-الاتجاه الاجتماعي المادي التاريخي:
وهو الاتجاه الذي اعتمده المفكر طيب تيزيني في دراساته، وأسس من خلاله مشروعه الفكري والفلسفي، ويعد هذا الاتجاه من ضمن الاتجاهات التي تعتمد المنهج الاجتماعي المادي التاريخي الجدلي، التي تم من خلاله دراسة الفكر العربي قديمه وحديثه..
ويراى المفكر طيب تيزيني أن هذا المنهج ينظر إلى التاريخ والتراث الفكري باعتباره ظاهرة اجتماعية عامة، وهي مظهر من مظاهر الممارسة الاجتماعية لحركات طبقية وقومية، ومن هنا يكون تقصي لحظات صناعة التراث تاريخيا، وربطه بالأداء الوظيفي للبنية الاجتماعية في سياقها الزماني والمكاني، وضمن حركية المجتمعات العربية قديما وحديثا، ودرس المفكر طيب تيزيني التراث وغاص في مكوناته، وهو يؤكد تبنيه المنهج الاجتماعي بخلفياته المادية التاريخية الجدلية، ويثبت طبيعة العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع، وما يربط الفكر بجذوره الواقعية، وبالشروط الموضوعية والاجتماعية للمعرفة، والفكر البشري بحركية التاريخ، وكأنه يقول بأن الإنسان كائن تاريخي، وكل منجزه لا يتعدى حدود التاريخ، وهو ما تعتمده المادية التاريخية التي تربط الفكر بالواقع كإفراز له انعكاساته في الواقع، ومن هنا تكون العلاقة الجدلية بين الحدث التاريخي والمادة التاريخية، بارتكازها على علاقة جدلية تضايفية بين الفكر والواقع، فكل منجز إنساني ثقافي أو سياسي أو ديني؛ إنما هو تمظهر لبنية فوقية عاكسة لبنية تحتية، ونتاج للممارسة اجتماعية، وكل منتج أو منجز هو تجل لجهد فكري أو عضلي، وعليه فالعلاقة بين الفكر والعمل، كما يحددها ماركس علاقة جدلية، باعتبار الإنسان كائنا يفكر عاملا ويعمل مفكرا، وبالتالي فإن طيب تيزيني يقرأ كل منجز إنساني في إطار هذا المنهج وآلياته، وشروط النهضة العربية كما يراها تندرج في سياق هذه النظرية، ووفق هذا المنهج..
ومن هنا يرى طيب تيزيني أن مجمل المقاربات والقراءات والاتجاهات المغايرة للماركسية كمنظومات فكرية ومناهج وآليات إجرائية غير قادرة على مقاربة التراث مقاربة علمية، ويرى أن المقاربة المنهجية الكفيلة بدراسة التراث العربي الإسلامي وتحليله تحليلا موضوعيا هي مقاربة المنهج المادي التاريخي الجدلي، فهو البديل الكفيل بتقديم الشروط الموضوعية الجديرة بسن نهج التقدم والرخاء حسبه، فالمخرج من المعضلات التي تواجهها المجتمعات العربية، هو تبني المادية التاريخية، أو النظرية الجدلية، وهو البديل لتقديم حلول مشكلات الراهن العربي، باعتبار التاريخ والتراث الفكري ظواهر اجتماعية عامة، ومظهرا من مظاهر حركات طبقية وقومية إنسانية، مع مراعاة تقصي لحظات الانقطاع والصعود في التاريخ والتراث، والعمل على خلق المزيد من الوضوح المعمق حول البنية الاجتماعية للمجتمع العربي القديم والحديث، وإن كان في بعض المواطن يتجاوز هذا التعسف في الرأي، ويقبل بالحواروالاختلاف، مع تركيزه على العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع، وارتباط الفكر بجذوره الواقعية، لتجاوز النزعات التجريدية والتأملية والمثالية التي لا تهتم بالشروط الموضوعية والاجتماعية والتاريخية للمعرفة والفكر البشري، ويحاول طيب تيزيني تطويع الفكر الماركسي لاجتهاداته فيقول: بعدم ارتباط الفكر بالواقع ارتباطا آليا وبشكل ميكانيكي دوغمائي، ذلك أن العلاقة الجدلية بين الحدث التاريخي والمادة التاريخية تتجلى في المعادلة القائمة على التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية.
وللمفكر طيب تيزيني اجتهادات في منظومة الفكر المادي التاريخي الجدلي، تتجلى من خلال مقاربته للمنجز الحضاري والثقافي العربي، وإضافاته النوعية في تأويل الخطاب العربي بمختلف أصنافه وتوجهاته ومضامينه، ويلاحظ في معظم مؤلفاته خروجه عن صرامة المنهج المادي التاريخي، وتطويعه مسألة الديالكتيك الجدلية، بعدم التزام استعمالها بشكل آلي جاف وحاف.
وقد أقام طيب تيزيني مشروعه على نواظم العلاقة الجدلية بين المنجز الفكري ومعطاه التراثي من عهد التأسيس إلى الراهن العربي، وبين السياق التاريخي والممارسة الاجتماعية في مختلف تجلياتها، مبرزا البعد البنيوي والوظيفي لحركية التطور الذي تقوم على الفعالية البشرية عبر آداءاتها المتنوعة، وفق الشروط الموضوعية لتحقيق تطلعات الإنسان إلى التنمية والتقدم والرفاه.
وقد خلص في مشروعه إلى تصنيف المقاربات والقراءات والمشاريع العربية، وتحليل أبعادها وخلفياتها، ومرجعياتها ومواطن إصابتها، ومفاصل خروجها عن جادة الصواب، ويرى بأن مشروعه كفيل بمعالجة الوضع العربي الراهن، وهو بديل بما يحمل من شروط النهضة والتحرر من هيمنة الخارج ورجعية الداخل...
/نورالدين السد
( لهذا المنشور مراجع تم الاستئناس بها)
سعت معظم المشاريع الفكرية العربية المعاصرة إلى دراسة التراث العربي الإسلامي، وتصنيف منجزه وتحليله، وإبراز دوافعه وخصائصه الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، وإظهار أسيقته التاريخية، وضبط ما تناول من أفكار، وما قدم من مقترحات لحل المشاكل التي واجهته عبر المراحل التاريخية المتعاقبة، وما اتخذت من مواقف إزاء الأزمات والمعضلات والقضايا التي طرحت عليه، وما اعتمد من مبادرات لمواجهة التحديات التي فرضت عليه...
وقد حاول المفكر طيب تيزيني وسواه من المفكرين العرب تقديم مشاريع فكرية موسوعية ودراسات شاملة للواقع العربي ومساره التاريخي والثقافي والاجتماعي، وقدمت هذه المشاريع اجتهادات وبدائل على أكثر من صعيد، وضمن هذا التوجه يندرج المشروعه الفكري للمفكر طيب تيزيني الذي سجل من خلاله النتائج التي وصلت إليها المشاريع الفكرية العربية المنجزة قبل مشروعه، بعد خوضها دراسات معمقة في التراث، وأظهر موقفها من التراث والراهن، وتساءل عما مكن لبعض الاتجاهات وبخاصة الاتجاه التراثي السلفي التقليدي من الاستمرار في يوميات المجتمعات العربية ليحل مشكلاتها؟ ويعالج معضلاتها؟ أم أن استمراره في حياة الناس يشكل عبئا إضافيا لما تعاني من مشاكل؟ أم تراه يشكل عائقا لشروط النهضة والتطور؟ وإذا كان التراث عائقا فما هي البدائل اليقينية التي يمكنها أن توفر شروط التحرر والنهضة والتنمية والتقدم في المجتمعات العربية؟ إن التراث قدم إجابات عن أسئلة تخص زمانه، وعصر النهضة قدم إجابات عن أسئلة تخص عصر النهضة، ولا يمكن التراث السابق عن عصر النهضة أن يجيب عن أسئلة عصر النهضة التي بقيت مفتوحة، كما لا يمكن لعصر النهضة أن يجيب عن أسئلة الراهن العربي، فالبون شاسع بين المرحلتين التاريخيتين، وظروفهما مختلفة وشروطهما مغايرة، لذلك يفترض أن تكون الإجابة عن أسئلة عصرنا ملائمة ومعاصرة ومناسبة، وهذا مرهون بامتلاك وعي له القدرة على مواكبة واقعنا وتحدياته...
إن المتأمل في معظم المشاريع الفكرية العربية التي حاولت تقديم مقترحات وبدائل وحلول لمسألة التخلف في الوطن العربي، يجد أنها ركزت على دراسة التراث العربي الإسلامي، وانطلقت من تقييمه، وفق رؤى ومرجعيات فكرية وسياسية ومناهج كان لها بالغ التأثير في المواقف التي اتخذتها من التراث، ومن الراهن العربي..
وأهم الاتجاهات التي تناولت التراث العربي الإسلامي بالدراسة والتحليل حسب المفكر الطيب تيزيني، وحاولت تقديم بدائل وحلول لمعضلات الراهن العربي، تتمثل في اتجاهات أصبحت معروفة لدى الخاص والعام، وهي عبارة عن مناهج تم من خلالها مقاربة التراث العربي الإسلامي، كما تم من خلالها أيضا اقتراح بدائل لأزمات الراهن العربي، لاخراجه من دائرة التخلف، وقد تعددت وتنوعت بين مناهج تاريخية سياقية، ومناهج لا تاريخية نسقية، وهو ما يعبر عن مستوى وعي معتمديها، ويلاحظ أن معظم المناهج النقسية تعد حسب خصومها؛ اتجاهات مثالية في تناول التراث العربي الإسلامي، كونها تشتغل على التراث بعيدا عن المنهج المادي التاريخي الجدلي، وأغلبها ما يزال فاعلا في الساحة الثقافية والفكرية العربية، ويقسم الطيب تيزيني هذه الاتجاهات المنهجية إلى:
-الاتجاه السفلي التقليدي:
وهو اتجاه في دراسة التراث بآليات التراث ورؤاه وأفكاره وآلياته، وهذا الاتجاه يعتبر الماضي مصدرا للحقيقة ومعيارا لها، وقد فشلت مقاربته في تحليل التراث وتفكيكه وإنتاج معانيه، بل كان من الأسباب في تشويه التراث، وتقديمه في صورة لا تؤهله ليكون بديلا للمنجز الحداثي في المعطى العربي، ومن هنا يمكن اعتبار هذا الاتجاه في مقاربة التراث وتأويله، وما قدم من مقترحات وشروط وبدائل للنهوض، سببا من أسباب نشأة الحركات العنفية المتطرفة، والحركات الإرهابية المكفرة، والتي حرضت على الحروب الأهلية وخاضتها في معظم الأقطار العربية، وليس بعيدا أن يكون معظمها صنيع دوائر أجنبية، متواطئة تهدف إلى إبقاء أوضاع الأمة على ما هي عليه، وتكريس تخلفها، وتزييف وعي الجماهير العربية بإغراقها في الماضي، وجعلها تعيش على وقع انتصارات الماضي ونشوته، في الوقت الذي يعمل الغرب على تحقيق المزيد من الانتصارات في العلوم والمعارف والتطور والتنمية والرفاه، والتفوق المدني والعسكري والاقتصادي...
-الاتجاه الحداثي المعاصر:
ويتعلق الاتجاه الحداثي المعاصرة، بمناقضة السلفية والسعي إلى التحديث والتجديد، واتباع المنجز العلمي والثقافي والتكنولوجي الغربي الممثل في ما حققت أوروبا وأمريكا من تفوق، فالغرب حسب هذا التوجه هو معيار التقدم والحقيقة، بغض النظر عن جوهره وحقيقته، وهذا الاتجاه يحمل ضمن توجهاته رؤية راديكالية عدمية غير متماسكة للتراث والتاريخ، يستخدمها لتمجيد الغرب، وتبني كل ما يصدر عنه من جديد، وهو اتجاه خصيم، بل معارض للقدامة والسلفية بكل أشكالها ومنجزاتها...
ولا تجد هذه الحداثة والمعاصرة العدمية الرضا والقبول من الجماهير، كما يقول طيب تيزيني، بسبب رفضها العدمي للتراث العربي الإسلامي، واعتباره جزءا من الماضي الذي تجاوزه العصر، وهذا استفزاز لمشاعر الجماهير المؤمنة والتقليدية التي تتمسك بتراثها رمزا لدينها وانتمائها وهويتها وأصالتها..
- الاتجاه الوسطي التوفيقي:
ويتمثل الاتجاه الوسطي التوفيقي، الذي يسميه طيب تيزيني بالنزعة التلفيقية، وهي النزعة التي توهمت أنها قادرة على تجاوز سلبيات الاتجاهين السابقين، وتجميع الإيجابيات في بوتقة واحدة، إلا أن هذه المحاولة سرعان ما انقلبت، أو تحولت إلى تلفيق فشل في حل المشكلة، وأبقى على التناقضات كما هي، وقد أُخضع هذا الاتجاه للكثير من النقض والتحليل في الفكر العربي المعاصر، واتجاهات النقد الثقافي والحضاري فيه.
- الاتجاه التحييدي الأكاديمي:
يعتمد النزعة التحييدية، وتعني عند المفكر طيب تيزيني النزعة التي ترفض ربط قراءة التراث بأي هدف سياسي أو أيديولوجي، وتتخذ هذه النزعة أشكالا متعددة، مثل النزعة الأكاديمية، الوثائقية، واللاأدلجة، وهي في مجملها تنويعات للنزعة الحيادية التي فشلت من حيث المبدأ في تحقيق مقاربة علمية للتراث، لأن الحياد والموضوعية المطلقة لا يمكن تصورهما أو تحققهما في العلوم الإنسانية والاجتماعية حسب طيب تيزيني.
-الاتجاه الاستشراقي، المركزية الأوروبية:
وهذا الاتجاه يستمد معطياته من معطيات الاستشراق والمركزية الأوروبية وتوجهاتها، وهو اتجاه له حضوره في الفكر العربي المعاصر وله مروجوه، فهو يعيد إنتاج خطاب الاستشراق الغربي والمركزية الأوروبية، كمرجعية وحيدة ونهائية ويقول أصحاب هذا التوجه بإمكانية اعتمادها في الفكر العربي المعاصر، وجعل كل ما هو خارج سياق الغرب والفكر الغربي خارج العالمية التي تتوحد بالغرب، وعليه فالفلسفة العربية والتراث الفكري لا يمكن اعتمادهما إلا باعتبارهما تنويع شكلي في سياق الفكر الغربي العالمي.
-الاتجاه الاجتماعي المادي التاريخي:
وهو الاتجاه الذي اعتمده المفكر طيب تيزيني في دراساته، وأسس من خلاله مشروعه الفكري والفلسفي، ويعد هذا الاتجاه من ضمن الاتجاهات التي تعتمد المنهج الاجتماعي المادي التاريخي الجدلي، التي تم من خلاله دراسة الفكر العربي قديمه وحديثه..
ويراى المفكر طيب تيزيني أن هذا المنهج ينظر إلى التاريخ والتراث الفكري باعتباره ظاهرة اجتماعية عامة، وهي مظهر من مظاهر الممارسة الاجتماعية لحركات طبقية وقومية، ومن هنا يكون تقصي لحظات صناعة التراث تاريخيا، وربطه بالأداء الوظيفي للبنية الاجتماعية في سياقها الزماني والمكاني، وضمن حركية المجتمعات العربية قديما وحديثا، ودرس المفكر طيب تيزيني التراث وغاص في مكوناته، وهو يؤكد تبنيه المنهج الاجتماعي بخلفياته المادية التاريخية الجدلية، ويثبت طبيعة العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع، وما يربط الفكر بجذوره الواقعية، وبالشروط الموضوعية والاجتماعية للمعرفة، والفكر البشري بحركية التاريخ، وكأنه يقول بأن الإنسان كائن تاريخي، وكل منجزه لا يتعدى حدود التاريخ، وهو ما تعتمده المادية التاريخية التي تربط الفكر بالواقع كإفراز له انعكاساته في الواقع، ومن هنا تكون العلاقة الجدلية بين الحدث التاريخي والمادة التاريخية، بارتكازها على علاقة جدلية تضايفية بين الفكر والواقع، فكل منجز إنساني ثقافي أو سياسي أو ديني؛ إنما هو تمظهر لبنية فوقية عاكسة لبنية تحتية، ونتاج للممارسة اجتماعية، وكل منتج أو منجز هو تجل لجهد فكري أو عضلي، وعليه فالعلاقة بين الفكر والعمل، كما يحددها ماركس علاقة جدلية، باعتبار الإنسان كائنا يفكر عاملا ويعمل مفكرا، وبالتالي فإن طيب تيزيني يقرأ كل منجز إنساني في إطار هذا المنهج وآلياته، وشروط النهضة العربية كما يراها تندرج في سياق هذه النظرية، ووفق هذا المنهج..
ومن هنا يرى طيب تيزيني أن مجمل المقاربات والقراءات والاتجاهات المغايرة للماركسية كمنظومات فكرية ومناهج وآليات إجرائية غير قادرة على مقاربة التراث مقاربة علمية، ويرى أن المقاربة المنهجية الكفيلة بدراسة التراث العربي الإسلامي وتحليله تحليلا موضوعيا هي مقاربة المنهج المادي التاريخي الجدلي، فهو البديل الكفيل بتقديم الشروط الموضوعية الجديرة بسن نهج التقدم والرخاء حسبه، فالمخرج من المعضلات التي تواجهها المجتمعات العربية، هو تبني المادية التاريخية، أو النظرية الجدلية، وهو البديل لتقديم حلول مشكلات الراهن العربي، باعتبار التاريخ والتراث الفكري ظواهر اجتماعية عامة، ومظهرا من مظاهر حركات طبقية وقومية إنسانية، مع مراعاة تقصي لحظات الانقطاع والصعود في التاريخ والتراث، والعمل على خلق المزيد من الوضوح المعمق حول البنية الاجتماعية للمجتمع العربي القديم والحديث، وإن كان في بعض المواطن يتجاوز هذا التعسف في الرأي، ويقبل بالحواروالاختلاف، مع تركيزه على العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع، وارتباط الفكر بجذوره الواقعية، لتجاوز النزعات التجريدية والتأملية والمثالية التي لا تهتم بالشروط الموضوعية والاجتماعية والتاريخية للمعرفة والفكر البشري، ويحاول طيب تيزيني تطويع الفكر الماركسي لاجتهاداته فيقول: بعدم ارتباط الفكر بالواقع ارتباطا آليا وبشكل ميكانيكي دوغمائي، ذلك أن العلاقة الجدلية بين الحدث التاريخي والمادة التاريخية تتجلى في المعادلة القائمة على التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية.
وللمفكر طيب تيزيني اجتهادات في منظومة الفكر المادي التاريخي الجدلي، تتجلى من خلال مقاربته للمنجز الحضاري والثقافي العربي، وإضافاته النوعية في تأويل الخطاب العربي بمختلف أصنافه وتوجهاته ومضامينه، ويلاحظ في معظم مؤلفاته خروجه عن صرامة المنهج المادي التاريخي، وتطويعه مسألة الديالكتيك الجدلية، بعدم التزام استعمالها بشكل آلي جاف وحاف.
وقد أقام طيب تيزيني مشروعه على نواظم العلاقة الجدلية بين المنجز الفكري ومعطاه التراثي من عهد التأسيس إلى الراهن العربي، وبين السياق التاريخي والممارسة الاجتماعية في مختلف تجلياتها، مبرزا البعد البنيوي والوظيفي لحركية التطور الذي تقوم على الفعالية البشرية عبر آداءاتها المتنوعة، وفق الشروط الموضوعية لتحقيق تطلعات الإنسان إلى التنمية والتقدم والرفاه.
وقد خلص في مشروعه إلى تصنيف المقاربات والقراءات والمشاريع العربية، وتحليل أبعادها وخلفياتها، ومرجعياتها ومواطن إصابتها، ومفاصل خروجها عن جادة الصواب، ويرى بأن مشروعه كفيل بمعالجة الوضع العربي الراهن، وهو بديل بما يحمل من شروط النهضة والتحرر من هيمنة الخارج ورجعية الداخل...
/نورالدين السد
( لهذا المنشور مراجع تم الاستئناس بها)