د. أحمد الحطاب - لأولئك الذين يُلصقون ما أصابهم من شر ل"المكتاب"

كثيرٌ من الناس يعتقدون اعتقادا راسخا أن حياتَهم مُبرمجة مسبقا، خطوة بخطوة، وساعة بساعة، وأنهم مُسيَّرون وليس مُخيَّرين. بل يعتقدون أن أرزاقهم مُحدَّدة ومعروفة مسبقا، وأن هذه الأرزاق ستأتيهم أو تصل إليهم مهما كانت الظروفُ والأحوال.

بل إن هذا النوع من البشر، غالبا ما يستسلمون لما يسمُّونه "المْكْتَابْ"، أي القدر. فتراهم، مثلا، لا يقومون بأي شيءٍ ينفعهم وينفع مجتمعَهم. بل يقبلون على الصلوات، ويُكثرون من الدعوات، دون أن يقوموا بأي عملٍ مفيد. وعوض أن يراجعوا أنفسَهم ليتخلَّصوا من قبضة ما يسمونه "المكتاب"، فإنهم يتمادون في استسلامهم ل"المكتاب" وينتظرون أن تأتيَ معجزةٌ من السماء لتُخرجَهم من ما هم فيه.

إن هذا النوعَ من البشر، من شدة إفراطهم في الاستسلام ل"المكتاب"، لا يريدون أن يستعملوا عقولَهم، لأنهم يعتبرون أن الاستسلامَ ل"المكتاب" أقوى من العقل. بل إنهم يعتبرون الاستسلامَ ل"المكتاب"، شيءٌ أراده لهم الله. ولو فكروا ولو دقيقة في السؤال التالي: "لماذا أعطى الله، سبحانه وتعالى، العقلَ للبشر ولم يُعطِه لمخلوقاته الأخرى؟"، لَمَا تخلَّصوا من سطوة "المكتاب" وشغَّلوا عقولَهم أشتغالا صائبا.

الجواب على هذا السؤال، هو أن اللهَ، سبحانه وتعالى، وضَّح للبشر كل شيء و وهبهم العقلَ ليُميِّزوا بين ما هو حق وما هو باطل وماهو خبيث وما هو طيب…، أي أن يُميِّزوا بين ماهو خيرٌ وما هو شرٌّ. بل الله، سبحانه وتعالى، عندما فضَّلَ بني آدم على كثيرٍ من مخلوقاته، فإنه أراد للإنسان أن يكونَ مسئولاً عن حياته وعن تصرُّفاته.

في الحقيقة، هذا النوع من البشر، هم أولا وقبل كل شيءٍ، ضحايا جهلهم بالدين. وتديُّنهم، في غالب الأحيان، ناتجٌ عن معرفة سطحية لهذا الدين أو عن القيل والقال. وحتى إذا استمعوا للفقهاء والعلماء في حديثهم عن القضاء والقَدَر، فإنهم لا يلتقطون من هذا الحديث إلا كون"المكتاب" قدرٌ محتومٌ. ولا أحدَ من هؤلاء الفقهاء والعلماء نبَّههم إلى قول الله، سبحانه وتعالى : "مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ" (النساء، 79). أليست هذه الآية تأكيدٌ من الله لمسئولية البشر عن حياتِهم وتصرُّفاتهم؟

فإذا وهب اللهُ، سبحانه وتعالى، للإنسان العقلَ فليس لإبقائه جامدا، بل لاستعماله للتَّمييز بين الأشياء. والتمييز بين الأشياء هو الذي يمكِّن الناسَ من اجتناب السعيِ إلى المصائب والسيئات.

وهذا يعني أن العقلَ نعمةٌ من الله سبحانه وتعالى. وحسنُ استعماله يقود إلى الطمأنينة وراحة البال والنفس. وسوء استعماله يمكن أن يقود إلى المصائب والبلاوي… مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (الشورى، 30).

في هذه الآية، "كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ" تعني ما تُمليه عليكم أهواءكم ورغباتُكم وشهواتُكم وعدمُ التَّعقُّل والتَّبصُّر. وفي نفس الآية، يبيِّن اللهُ، سبحانه وتعالى، رأفةً ولُطفا ببعباده، حيث أنه يغفر كثيرا مما اقترفه الناسُ من مصائب ومعاصي وتابوا واستغفروا ورجعوا إلى الصراط المستقيم.

وبصفة عامة، الناس يسعدون بما يحُلُّ بهم من مسراتٍ وحسناتٍ وطيِّباتٍ وخيرٍ وينزعجون من ما يصيبهم من مصائب وأزمات، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ" (الروم، 36).

غير أن كثيرا من الناس، إذا أصابهم، مثلا، مرضٌ، فسرعان ما ينسبونه إلى "المكتاب" ولا يُفكِّرون، على الإطلاق، مثلا في الإسراف في الأكل أو في الوقاية أو فيما يجب اتِّخاذُه من احتياطات لتفادي هذا المرض كاللقاح والرياضة والمشي…

وإذا تمعنا في الآيات الثلاثة المشار إليها أعلاه، فسنجد أن اللهَ سبحانه وتعالى وضَّح للناس ما لهم فيه الخير وما يسعون إليه من شرٍّ بأنفسهم، وترك لهم الاختيارَ بين ما لهم فيه خيرٌ وما لهم فيه شرٌّ، علما أن الخيرَ من الله والشرَّ لمَن يسعى إليه. والدليل على أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يريد الخير لعباده، تنبيُهُه لهم بقوله : "وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (البقرة، 195). و "وَأَحْسِنُوا" في هذه الآية لا تعني فقط الإحسان بمعنى التَّصدُّق. بل تعني كذلك تحسين السلوك والتصرُّفات داخل المجتمعات وحين تعامل الناس بعضهم مع البعض الآخر.

وكثير من الناس يقترفون الجرائم ويسرقون وينهبون ويؤمنون بالشعودة أو بالخرافات أو يشهدون شهادةَ الزور أو…، وعندما يرجعون إلى الصواب، غالبا ما يقولون إن القيامَ بهذه الأمور أشياءٌ كانت مكتوبةً أو مقدَّرةً علينا.

كل ما في الأمر أن هؤلاء الناس، عوض أن يستعملوا عقولَهم استعمالا صائبا، تغلَّبت عليهم غريزتُهم وأصبحوا كالحيوانات المفترسة التي لا ترحم فرائسها نظرا لاستسلامِها لغريزة الجوع وغريزة البقاء instinct de survie.

في الحقيقة، عندما يسعى الإنسان إلى المصائب ويُلصقها ب"المكتاب"، فإنه يختبئ وراء هذا "المكتاب" لتبرير ما قام به من مُنكر. وهذا يعني أن كل مَن أراد أن يبرِّئَ نفسَه من مصيبة سعى إليها بأيديه، يُلصِقها ب"المكتاب".

حتى السياسيون الذين عاثوا في البلاد فسادا، يمكن أن نقبلَ فسادَهم لأنه كان مكتوباُ أو مقدَّراً علينا. فما علينا إلا أن نتفرَّجَ عليهم بأيدي مكتوفة!

فكل مَن يجعل من "المكتاب" سبباً في ميوله إلى المصائب، عليه أن يفكِّرَ بتمعُّنٍ كبيرٍ في المثل المغربي الذي يقول : "دْرْتْها بِدِِيا بلا مَنْخَمّْمْ". فهل هناك وضوحٌ أكثر من هذا؟ اتركوا "المكتاب" جانبا وشغِّلوا عقولَكم!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى