5-
... والآن فلننظر إلى الجاحظ في ضحكه، ولقد كان الجاحظ ضحوكاً طلقاً تستخفه النادرة فيقهقه ملء شدقيه، ويقصد إلى الإضحاك فيبلغ من ذلك غايته. وإنك لتجده في ضحكه وإضحاكه - كما كان في تهكمه وسخره - مطبوعاً موهوباً خفيف الروح. لطيف الإشارة، ظريف الأداء، طريف المقصد، فهو في إضحاكه يسلك السبيل اللاحب إلى القلب، ويصل إلى قرارة النفس في ملاطفة وسهولة. وخفة وبراعة، وإنه ليهز المشاعر بالنادرة يبتدعها، ويشفي القلب بالملحة يرسلها، ولقد تصرمت السنون وخلت القرون وما زالت نوادر الرجل ومضاحيكه في بطون الكتب إذا ما وقع عليها القارئ فلا يستطيع الإمساك مهما كان في وقاره، ومهما اعتورها بالنظر ورددها في اللسان. وعلى أن النادرة لا يكون لها في الإضحاك مكتوبة كمثل ما يكون لها إذا ما جرت تحت المعاينة، فإن المكتوب لا يصور لك كل شيء. ولا يأتي لك على كنهه وعلى حدوده وحقائقه. وأما إذا ما أخذ الرجل في الضحك فإنه ينطلق في غير احتشام، ويجري في الشوط إلى أبعد غاية. حدث عن نفسه قال: صحبني محفوظ النفاش من مسجد الجامع ليلاً، فلما صرت قرب منزله وكان أقرب إلى المسجد من منزلي، سألني أن أبيت عنده، وقال أين تذهب في هذا المطر والبرد، ومنزلي منزلك، وأنت في ظلمة وليس معك نار، وعندي لبأ لم ير الناس مثله، وتمر ناهيك به جودة، فلمت معه فأبطأ ساعة ثم جاءني بجام لبأ وطبق تمر، فلما مددت قال يا أبا عثمان: إنه لبأ وبه غلظة، وهو الليل وركوده، ثم ليلة مطر ورطوبة، وأنت رجل قد طعنت في السن، ولم تزل تشكو من الفالج طرفاً، وما زال الغليل يسرع إليك، وأنت في الأصل لست بصاحب عشاء، فإن أكلت اللبأ ولم تبالغ، كنت لا آكلاً ولا تاركاً وحرشت طباعك، ثم قطعت الأكل أشهى ما كان إليك، وإن بالغت بتنا في ليلة سوء من الاهتمام بأمرك، ولفم نعد لك نبيذاً ولا عسلاً، وإنما قلت هذا الكلام لئلا تقول غداً كان وكان، والله قد وقعت بين نابي الأسد، لأني لو لم أجئك به وقد ذكرته لك، قلت: بخل به وبدا له فيه، وإن جئت به ولم أحذرك منه ولم أذكرك كل ما عليك فيه قلت لم يشفق علي ولم ينصح، فقد برئت إليك من الأمرين جميعاً، وإن شئت فأكلة وموتة! وإن شئت فبعض الاحتمال ونوم على سلامة!! فم ضحكت قط كضحكي تلك الليلة، ولقد أكلته جميعاً فما هضمه إلا الضحك والنشاط والسرور فما أظن، ولو كان معي من يفهم طيب ما تكلم به لأتى على الضحك أو لقضي علي ولكن ضحك من كان وحده لا يكون على شطر مشاركة الأصحاب
فانظر يا رعاك الله إلى أي حد كان يغرق الجاحظ في الضحك والمرح، والى أي حد كانت النادرة تستخف وقاره، وتهيج نشاطه، وتجلب له كل هذا من البشر والسرور. وماذا تقول في رجل لو وجد من يساجله الضحك ويجاذبه السرور لما أمن على نفسه الموت سروراً وضحكاً؟! على أن ما قاله صاحبه لمن يكن ليحمل على كل هذا ولا يدعو إليه، فيا ليت شعري أكان الجاحظ يعيش في الحياة بقلب فارغ من الهموم والمشاغل، بعيد من الأحداث والأوصاب؟ أم كان ذلك الرجل يضحك عن فلسفة وراي، فهو يعتقد أن هذه الحياة الفاجرة أحقر وأهون من أن يسفح الدمع في الحرص عليها، وأن يسجن القلب في سبيل الودادة إليها، وأن يتكلف لها ما يتكلفه بعض الناس من التزمت والوقار، وكزازة النفس، وضيق العطن، أولئك الذين ابتعدوا من المرح لأنهم زعموه ينافي المروءة، وحرموا أنفسهم نعمة الضحك لأنهم استقبحوه بالوقار!! قال الجاحظ ولو كان الضحك قبيحاً من الضاحك وقبيحاً من المضحك، لما قيل للزهرة والحبرة والحلي والقصر المبني كأنه يضحك ضحكاً وقد قال الله جل ذكره: وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيا، فوضع الضحك بحذاء الحياة، ووضع البكاء بحذاء الموت، والله تعالى لا يضيف إلى نفسه القبيح، ولا يمن على خلقه بالنقص، وكيف لا يكون موقعه من سرور النفس عظيماً، ومن مصلحة الطباع كبيراً، وهو شيء في أصل الطباع وفي أساس التركيب، لأن الضحك أول خير يظهر من الصبي وقد تطيب نفسه، وعليه ينبت شحمه ويكثر دمه الذي هو علة سروره ومادة قوته. ولفضل خصال الضحك عند العرب تسمي أولادها بالضحاك وببسام، وبطلق وبطليق. وقد ضحك النبي صلى الله عليه وسلم وفرح. وضحك الصالحون وفرحوا؛ وإذا مدحوا قالوا هو ضحوك السن، بسام العشيات وذو أريحية واهتزاز؛ وإذا ذموا قالوا هو عبوس وهو كالح، وهو قطوب، وهو شتيم المحيا. وهو مكفهر أبداً وهو كريه وبغيض الوجه، وكأنما وجهه بالخل منضوح
فالجاحظ إنما كان يقصد إلى الضحك والإضحاك: لأنه ذلك في رأيه (يكون موقعه من سرور النفس عظيماً، ومن مصلحة الطباع كبيراً، وهو شيء في اصل الطباع وفي أساس التركيب، وهو أول خير يظهر من الصبي)، وإذن فليأخذ الجاحظ في الضحك والإضحاك ما استطاع حتى يغتنم هذا الخير فيسر نفسه ويصلح طباعه، وما أحوجه إلى ذلك. ومن ذا الذي لا يضحك على هذا الشرط. ويسبق إلى الإضحاك إذا ما صح عنده هذا الاعتقاد الذي كان يعتقده الجاحظ؟ وكأن الله قد أراد أن يسعد الرجل في هذه الغمرة، وأن يعده لأداء هذه المهمة، فبرأه مرح النفس أو على حد تعبيره - ذو أريحية واهتزاز كما برأه في منظر جهم، وشكل هو المثل السائر في القبح والدمامة، فكان الرجل لا يتورع ولا يتحرج من أن يجعل من ذلك مصدر ضحك وإضحاك، فيتفكه بقبحه ودمامته، ويتندر بما فيه من شذوذ الوضع وجهامة الشكل، بل لقد كان يحلو له ذلك ويتعمده ويسوقه إلى الناس وهو قرير العين، طيب الخاطر، حتى لتحسبه في تلك الناحية ممثلاً هزلياً وقف على الخشبة ليضحك الجمهور، ويدلهم على مواضع الدمامة في شكله، والنقص في خلقته وماذا ترى في رجل يحدث عن نفسه بهذه الصراحة فيقول: ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده. فلما رآني استبشع منظري فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني!!
وقال فيما قال عن نفسه: ما غلبني أحد قط إلا رجل وامرأة فأما الرجل فإني كنت مجتازاً في بعض الطريق، فإذا برجل قصير بطين كبير الهامة طويل اللحية مؤتزر بمئزر وبيده مشط يمشطها، فقلت في نفسي: رجل قصير بطين ألحى! فاستزريته فقلت: أيها الشيخ: لقد قلت فيك شعراً!! فترك المشط من يده وقال: قل فقلت:
كأنك صعوة في أصل حش ... أصاب الحس طش بعد رش
فقال اسمع جواب ما قلت، فقلت هات! فقال:
كأنك جندب في ذيل كبش ... تدلدل هكذا والكبش يمشي
وأما المرأة فإني كنت مجتازاً في بعض الطريق، فإذا أنا بامرأتين رأيت إحداهما في العسكر وكانت طويلة القامة، وكنت على طعام فأردت أن أمازحها فقلت لها: انزلي كلي معنا! فقالت: اصعد أنت حتى ترى الدنيا!! فهو يعرض بطولها وهي تعرض بقصره
وأما الأخرى فإنها أتتني وأنا على باب داري فقالت: لي إليك حاجة وأريد أن تمشي معي! فقمت معها إلى أن أتت بي إلى صائغ يهودي وقالت له: مثل هذا!! ثم تركتني وانصرفت، فسألت الصائغ عن قولها فقال: إنها أتت ألي بفص وأمرتني أن أنقش لها عليه صورة شيطان! فقلت لها ما رأيت الشيطان حتى يمكن أن أصوره، فأتت بك وقالت ما سمعت!!
وقد لا يخجل من أن يتندر على نفسه بالبلاهة وبالغفلة، ومن ذلك ما ذكره عن نفسه إذ قال: جلست إلى المرآة وقد أمسكت بالمقراض أريد أن أقرض من لحيتي ما زاد على القبضة من تحت ولكني نسيت فقرضت ما فوق القبضة، وتلك من اختراعات الجاحظ وتلفيقاته. وللرجل من أمثال هذه كثير، وكلها من هذا الطراز الذي يطل منه الجاحظ صريحاً في الضحك على نفسه، جريئاً في الإضحاك بما يمسه في سمته، فلا يخجله أن يتحدث عن بشاعة منظره الذي أفزع المتوكل فصرفه عن تأديب أولاده، وجعل المرأة تقدمه إلى الصائغ على أنه شيطان، والأخرى تعرض بقصره، والثالثة تخجله بالنادرة، والشيخ يمثله بالجندب في ذيل الكبش. . . فأما إذا ما أخذ الرجل في الضحك على غيره من الإخوان والأصدقاء، والحمقى والنوكى والموسومين والمدخولين، وأهل العي والحصر والنجلاء والأطلة، والمكدين وأصحاب التطفيل، فإنه يكون أصرح وأجرأ، وأحلى، وأملح، وقد عني الرجل بأخبارهم واهتم بالحديث عنهم، وما أعرف له كتاباً يخلو من ذكرهم، وإذا كان من الإطالة أن نسرد ما للرجل في كل ذلك فلا بأس من أن نسرد بعض ما له في مقال آت
(له تابع)
محمد فهمي عبد اللطيف
مجلة الرسالة - العدد 192
بتاريخ: 08 - 03 - 1937
... والآن فلننظر إلى الجاحظ في ضحكه، ولقد كان الجاحظ ضحوكاً طلقاً تستخفه النادرة فيقهقه ملء شدقيه، ويقصد إلى الإضحاك فيبلغ من ذلك غايته. وإنك لتجده في ضحكه وإضحاكه - كما كان في تهكمه وسخره - مطبوعاً موهوباً خفيف الروح. لطيف الإشارة، ظريف الأداء، طريف المقصد، فهو في إضحاكه يسلك السبيل اللاحب إلى القلب، ويصل إلى قرارة النفس في ملاطفة وسهولة. وخفة وبراعة، وإنه ليهز المشاعر بالنادرة يبتدعها، ويشفي القلب بالملحة يرسلها، ولقد تصرمت السنون وخلت القرون وما زالت نوادر الرجل ومضاحيكه في بطون الكتب إذا ما وقع عليها القارئ فلا يستطيع الإمساك مهما كان في وقاره، ومهما اعتورها بالنظر ورددها في اللسان. وعلى أن النادرة لا يكون لها في الإضحاك مكتوبة كمثل ما يكون لها إذا ما جرت تحت المعاينة، فإن المكتوب لا يصور لك كل شيء. ولا يأتي لك على كنهه وعلى حدوده وحقائقه. وأما إذا ما أخذ الرجل في الضحك فإنه ينطلق في غير احتشام، ويجري في الشوط إلى أبعد غاية. حدث عن نفسه قال: صحبني محفوظ النفاش من مسجد الجامع ليلاً، فلما صرت قرب منزله وكان أقرب إلى المسجد من منزلي، سألني أن أبيت عنده، وقال أين تذهب في هذا المطر والبرد، ومنزلي منزلك، وأنت في ظلمة وليس معك نار، وعندي لبأ لم ير الناس مثله، وتمر ناهيك به جودة، فلمت معه فأبطأ ساعة ثم جاءني بجام لبأ وطبق تمر، فلما مددت قال يا أبا عثمان: إنه لبأ وبه غلظة، وهو الليل وركوده، ثم ليلة مطر ورطوبة، وأنت رجل قد طعنت في السن، ولم تزل تشكو من الفالج طرفاً، وما زال الغليل يسرع إليك، وأنت في الأصل لست بصاحب عشاء، فإن أكلت اللبأ ولم تبالغ، كنت لا آكلاً ولا تاركاً وحرشت طباعك، ثم قطعت الأكل أشهى ما كان إليك، وإن بالغت بتنا في ليلة سوء من الاهتمام بأمرك، ولفم نعد لك نبيذاً ولا عسلاً، وإنما قلت هذا الكلام لئلا تقول غداً كان وكان، والله قد وقعت بين نابي الأسد، لأني لو لم أجئك به وقد ذكرته لك، قلت: بخل به وبدا له فيه، وإن جئت به ولم أحذرك منه ولم أذكرك كل ما عليك فيه قلت لم يشفق علي ولم ينصح، فقد برئت إليك من الأمرين جميعاً، وإن شئت فأكلة وموتة! وإن شئت فبعض الاحتمال ونوم على سلامة!! فم ضحكت قط كضحكي تلك الليلة، ولقد أكلته جميعاً فما هضمه إلا الضحك والنشاط والسرور فما أظن، ولو كان معي من يفهم طيب ما تكلم به لأتى على الضحك أو لقضي علي ولكن ضحك من كان وحده لا يكون على شطر مشاركة الأصحاب
فانظر يا رعاك الله إلى أي حد كان يغرق الجاحظ في الضحك والمرح، والى أي حد كانت النادرة تستخف وقاره، وتهيج نشاطه، وتجلب له كل هذا من البشر والسرور. وماذا تقول في رجل لو وجد من يساجله الضحك ويجاذبه السرور لما أمن على نفسه الموت سروراً وضحكاً؟! على أن ما قاله صاحبه لمن يكن ليحمل على كل هذا ولا يدعو إليه، فيا ليت شعري أكان الجاحظ يعيش في الحياة بقلب فارغ من الهموم والمشاغل، بعيد من الأحداث والأوصاب؟ أم كان ذلك الرجل يضحك عن فلسفة وراي، فهو يعتقد أن هذه الحياة الفاجرة أحقر وأهون من أن يسفح الدمع في الحرص عليها، وأن يسجن القلب في سبيل الودادة إليها، وأن يتكلف لها ما يتكلفه بعض الناس من التزمت والوقار، وكزازة النفس، وضيق العطن، أولئك الذين ابتعدوا من المرح لأنهم زعموه ينافي المروءة، وحرموا أنفسهم نعمة الضحك لأنهم استقبحوه بالوقار!! قال الجاحظ ولو كان الضحك قبيحاً من الضاحك وقبيحاً من المضحك، لما قيل للزهرة والحبرة والحلي والقصر المبني كأنه يضحك ضحكاً وقد قال الله جل ذكره: وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيا، فوضع الضحك بحذاء الحياة، ووضع البكاء بحذاء الموت، والله تعالى لا يضيف إلى نفسه القبيح، ولا يمن على خلقه بالنقص، وكيف لا يكون موقعه من سرور النفس عظيماً، ومن مصلحة الطباع كبيراً، وهو شيء في أصل الطباع وفي أساس التركيب، لأن الضحك أول خير يظهر من الصبي وقد تطيب نفسه، وعليه ينبت شحمه ويكثر دمه الذي هو علة سروره ومادة قوته. ولفضل خصال الضحك عند العرب تسمي أولادها بالضحاك وببسام، وبطلق وبطليق. وقد ضحك النبي صلى الله عليه وسلم وفرح. وضحك الصالحون وفرحوا؛ وإذا مدحوا قالوا هو ضحوك السن، بسام العشيات وذو أريحية واهتزاز؛ وإذا ذموا قالوا هو عبوس وهو كالح، وهو قطوب، وهو شتيم المحيا. وهو مكفهر أبداً وهو كريه وبغيض الوجه، وكأنما وجهه بالخل منضوح
فالجاحظ إنما كان يقصد إلى الضحك والإضحاك: لأنه ذلك في رأيه (يكون موقعه من سرور النفس عظيماً، ومن مصلحة الطباع كبيراً، وهو شيء في اصل الطباع وفي أساس التركيب، وهو أول خير يظهر من الصبي)، وإذن فليأخذ الجاحظ في الضحك والإضحاك ما استطاع حتى يغتنم هذا الخير فيسر نفسه ويصلح طباعه، وما أحوجه إلى ذلك. ومن ذا الذي لا يضحك على هذا الشرط. ويسبق إلى الإضحاك إذا ما صح عنده هذا الاعتقاد الذي كان يعتقده الجاحظ؟ وكأن الله قد أراد أن يسعد الرجل في هذه الغمرة، وأن يعده لأداء هذه المهمة، فبرأه مرح النفس أو على حد تعبيره - ذو أريحية واهتزاز كما برأه في منظر جهم، وشكل هو المثل السائر في القبح والدمامة، فكان الرجل لا يتورع ولا يتحرج من أن يجعل من ذلك مصدر ضحك وإضحاك، فيتفكه بقبحه ودمامته، ويتندر بما فيه من شذوذ الوضع وجهامة الشكل، بل لقد كان يحلو له ذلك ويتعمده ويسوقه إلى الناس وهو قرير العين، طيب الخاطر، حتى لتحسبه في تلك الناحية ممثلاً هزلياً وقف على الخشبة ليضحك الجمهور، ويدلهم على مواضع الدمامة في شكله، والنقص في خلقته وماذا ترى في رجل يحدث عن نفسه بهذه الصراحة فيقول: ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده. فلما رآني استبشع منظري فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني!!
وقال فيما قال عن نفسه: ما غلبني أحد قط إلا رجل وامرأة فأما الرجل فإني كنت مجتازاً في بعض الطريق، فإذا برجل قصير بطين كبير الهامة طويل اللحية مؤتزر بمئزر وبيده مشط يمشطها، فقلت في نفسي: رجل قصير بطين ألحى! فاستزريته فقلت: أيها الشيخ: لقد قلت فيك شعراً!! فترك المشط من يده وقال: قل فقلت:
كأنك صعوة في أصل حش ... أصاب الحس طش بعد رش
فقال اسمع جواب ما قلت، فقلت هات! فقال:
كأنك جندب في ذيل كبش ... تدلدل هكذا والكبش يمشي
وأما المرأة فإني كنت مجتازاً في بعض الطريق، فإذا أنا بامرأتين رأيت إحداهما في العسكر وكانت طويلة القامة، وكنت على طعام فأردت أن أمازحها فقلت لها: انزلي كلي معنا! فقالت: اصعد أنت حتى ترى الدنيا!! فهو يعرض بطولها وهي تعرض بقصره
وأما الأخرى فإنها أتتني وأنا على باب داري فقالت: لي إليك حاجة وأريد أن تمشي معي! فقمت معها إلى أن أتت بي إلى صائغ يهودي وقالت له: مثل هذا!! ثم تركتني وانصرفت، فسألت الصائغ عن قولها فقال: إنها أتت ألي بفص وأمرتني أن أنقش لها عليه صورة شيطان! فقلت لها ما رأيت الشيطان حتى يمكن أن أصوره، فأتت بك وقالت ما سمعت!!
وقد لا يخجل من أن يتندر على نفسه بالبلاهة وبالغفلة، ومن ذلك ما ذكره عن نفسه إذ قال: جلست إلى المرآة وقد أمسكت بالمقراض أريد أن أقرض من لحيتي ما زاد على القبضة من تحت ولكني نسيت فقرضت ما فوق القبضة، وتلك من اختراعات الجاحظ وتلفيقاته. وللرجل من أمثال هذه كثير، وكلها من هذا الطراز الذي يطل منه الجاحظ صريحاً في الضحك على نفسه، جريئاً في الإضحاك بما يمسه في سمته، فلا يخجله أن يتحدث عن بشاعة منظره الذي أفزع المتوكل فصرفه عن تأديب أولاده، وجعل المرأة تقدمه إلى الصائغ على أنه شيطان، والأخرى تعرض بقصره، والثالثة تخجله بالنادرة، والشيخ يمثله بالجندب في ذيل الكبش. . . فأما إذا ما أخذ الرجل في الضحك على غيره من الإخوان والأصدقاء، والحمقى والنوكى والموسومين والمدخولين، وأهل العي والحصر والنجلاء والأطلة، والمكدين وأصحاب التطفيل، فإنه يكون أصرح وأجرأ، وأحلى، وأملح، وقد عني الرجل بأخبارهم واهتم بالحديث عنهم، وما أعرف له كتاباً يخلو من ذكرهم، وإذا كان من الإطالة أن نسرد ما للرجل في كل ذلك فلا بأس من أن نسرد بعض ما له في مقال آت
(له تابع)
محمد فهمي عبد اللطيف
مجلة الرسالة - العدد 192
بتاريخ: 08 - 03 - 1937