- 1 -

- حنان!

- ماذا يا حازم؟

كانت حنان مستلقية على العشب تنظر إلى السماء بعينين حالمتين وقد شبكت يديها تحت رأسها لتتقي صلابة الأرض، وسقط شعرها الفاحم متدرجاً على ذراعيها الناصعتين والخضرة الناضرة فأكسب تآلف هذه الألوان وجهها جمالاً بارعاً، وكان حازم مضطجعاً على جانبه بالقرب منها يعبث بالعشب وعلى شفتيه ابتسامة الذكرى.

مالت حنان برأسها قليلاً لترد على نداء حازم بقولها: (ماذا يا حازم؟) فقال:

- هل تذكرين يوم تعارفنا، حينما قدمت إليك فظللت ممسكاً بيدك وقد بهرتني صورتك وأذهلني جمالك فلم يردني إلى صوابي غير تخضب وجهك وتهكم الأصدقاء؟ يا لها من لحظة لا أنساها! فقد تاه الطرف في صفاء تقاسيمك، لا يستقر على جمال حتى يجذبه جمال آخر. وهل تذكرين ذلك اليوم، حينما ابتعدنا عن الأصحاب فوق المقعد تحت الصفصاف؟ كم بقينا طويلاً في صمت عميق، هذا الصمت الذي يخدر الحواس وينشط المخيلة ولا يقطعه غير اختلاس النظر ليغذي الخيال. وتلك اللحظة، هل تذكرينها يا حنان؟ تلك اللحظة التي تقابلت فيها عينانا فحاول كل منا أن يحول نظره ولكنه ما استطاع. فقد شخص بصرانا وتخضب وجهانا من المفاجأة، ثم ابتسمنا فكانت الابتسامة إذناً بالكلام.

أغمضت حنان عينيها تستعيد الماضي وقد أشرق وجهها بنشوة الذكرى، وامتلأ صدرها بلذة الرؤية. وصمت حازم وعاد يعبث بالعشب ويستنشق النسيم المليء بالذكريات، وهاج قلبه بالحب فنطق يقول:

- لاشك يا حنان أن حبي لم يخف عليك. فكل ما فيّ ينبض بالعاطفة. ولكن هل تعلمين قدره؟ إن المرأة تأسر الرجل بجمال خلقها أو حسن خُلقها؛ وأنت يا حنان قد جمعت الجم كله. ويزيد في ولهي ما بك من سمو ساذج يصدر من القلب. فلست كمن شاهدت من النساء يتصنعن السمو في نظرة أو لفتة أو مشية، فلا يعدو الأمر الظاهر. إن ما بك من فضائل يا حنان يسحر لبي ويملك قلبي.

فاعتدلت حنان وعيناها تفيضان حباً، وقالت وصوتها يصوّحه الوجد:

- وأنت يا حازم. أما تعرف أنك سيد قلبي؟ لست أملك فصاحتك فأصف لك حبي؛ ولكنني أشعر. . . أشعر أنك كل شيء في حياتي؛ فطيفك يلازمني في يقظتي وأحلامي. وإني لأمرض لبعدك وأسعد بقربك. آه يا حازم إن حبي لك لعظيم!

- إن روحينا يا حنان قد امتزجتا؛ فما من قوة تفرق بيننا. أنا سعيد يا حنان. وما أستطيع أن أكتم سعادتي فأنا أرددها لكل ما حولي، للشجر والطيور، للقمر والنجوم. وأوحي بها إلى كل من يصادفني فتنبسط الأسارير وتبتهج الأنفس. ما أجمل الحياة إذا ملأها الحب والسعادة معاً. . . وسكت حازم فجأة فقد بدت في عيني حنان سحابة حزن انحدرت دمعاً. ولم يلبث أن صاح:

- حنان أنت تبكين؟ بالله أما تفصحين! فكم لمحت هذا الشجن يكسر طرفك ويؤلم قلبي. ولكن غمرة السعادة جارفة فما كان ألمي يدوم أطول من خفقه، والآن أنت تبكين فما أستطيع صبراً. بالله يا حنان ماذا بك؟ حدثيني.

لم تستطع حنان أن تغالب الدمع فقامت تجري وارتمت على مقعد قريب تذرف العبرات. وأسرع حازم وراءها وجلس بجانبها يجفف دمعها ويخفف تأثرها: أنا آسف يا عزيزتي؛ فما أردت أن أثير ذكرى أو أنكأ جرحاً. وإنما ظننت أن الإفضاء بذات الصدر يرفع عن النفس الحمل. هيا يا حنان. انسي كل شيء ولا تفكري في غير حبنا وسعادتنا.

فأجابت حنان على الفور: (لا يا حازم، يجب أن تعلم. فأنا. . . ولكن البكاء غلبها فلم تنبس بغير شهقة. فمدت يدها إلى حقيبتها وظلت تبحث فيها وهي لا تستطيع الكلام ولا تنقطع عن البكاء حتى أخرجت (دبلة) ذهبية وضعتها في بنصرها الأيسر. وكان حازم يتبعها بنظره مشدوهاً، لا يعي ما تفعل؛ ولكنه سرعان ما صرخ فزعاً: (أنت يا حنان. أنت!) فأجابت بحزن عميق: (نعم يا حازم. تلك مشيئة القدر) وساد سكون طويل أثقله صمت الطيور كأنها أشفقت من التغريد على قلبين يتعذبان. ساد السكون فبدا صوت حازم المتصاعد فاجعاً يرسل القشعريرة إلى البدن. لمَ يا حنان؟ لمَ تركتِني أتدله في حبك؟ لم هذه القسوة؟ ثم أمسك بيدها متوسلا: (قولي إنك تمزحين. قولي إنك لم تتزوجي. قولي لي أي شيء غير ذلك). ولكن أصابعه لمست الدبلة فجذب يده بشدة وابتعد عنها قليلاً وهو ينظر إليها نظرة الحزن والغضب والحب الخائب.

واندفعت حنان تقول: (أنا شقية يا حازم. فلا تقس عليّ ولا تزد في شقائي. أواه! لو علمت كم قاسيت، وصبرت حتى مل الصبر. أرهف الله حساسيتي إلى حد المرض فلم أنعم في دنياي بسعادة. وكان شغفي بالمطالعة منذ فجر شبابي طريقاً إلى الشقاء، فقد غذيت عقلي وقلبي بأعلى المثل وأجمل الأحلام. فكانت صدمة الواقع قاسية وتبدُّد أوهامي مؤلماً. وغشيني هم من الناس فأخلدت إلى العزلة وانطويت على نفسي حتى أذواني السقم وشفني الهزال. وأزعج أمري والديّ ففزعا إلى الأطباء يرجوان لي علاجاً، ولكن هيهات أن ينجع دواء الجسد في شفاء النفس، فقررا آخر الأمر أن يزوجاني. واستقبلت حياتي الجديدة تهدهدني الآمال وتغمرني الأماني؛ فقد كان قلبي يهفو إلى دار هانئة يرعاها زوج حنون ويبهجها أطفال عزاز؛ ولكن جسدي العاثر كان يلاحقني فكنت كالظمأى في صحراء، أنشد السعادة وهي سراب.

أحببت زوجي لطبية أخلاقه، ولكنه كان يقتل حبي بإعراضه؛ فقد طغى عشقه لعمله على كل عاطفة. وما كان يعني بي أكثر من عناية الثري بتحفة تجمل بهو منزله. والله أعلم كم حاولت أن أوجد نفسي في حياته أثراً؛ ولكنه سامحه الله كان يعتقد أن سعادة المرأة أن تنعم بفاخر الزينة وأن تفوز بحرية التصرف. فنسي أن الزواج ألفة يوحي بها الحب المتبادل، وأن العشرة الخالصة لا تتحقق بغير صيانة هذا الحب. نسي أن الزواج شرّع للصحبة المشتركة والتعاون الوثيق فتصفو الروح وترقى الحياة. نسى أن ملاطفة المرأة والتودد إليها ليس مقدمة للزواج فحسب، بل عاملاً حيوياً في علاقة الزوجين. آه لو حاول الرجل أن يخبر زوجه فيحقق لها أحلام الصبا وسعادة الشباب، إذن لأحبته العمر ولظل سيدها الأوحد وسلطان قلبها المطلق، ولكن الرجل وا أسفاه لا يحاول فهم المرأة وإدراك حقيقة نفسيتها، ثم ينعتها بالبرود والأعراض، ولا يلبث الزواج أن يصبح واجباً يؤدى. وهكذا عشت مع زوجي لا أحبه ولا أستطيع أن أكرهه. عشت معه بقلب يغص بالخيبة والحسرة.

ولم يقف عذابي عند هذا، ولم يغفل القدر عني. ففقدت والديّ واحداً بعد آخر. ففقدت معهما قلبين كانا يعطفان عليّ ويخففان عني قسوة الحياة، وشعرت باليتم يصهر قلبي والوحشة تفجع نفسي. ثم كانت صديقاتي؛ فقد كنّ يروين لي بعضاً من حوادث لهنّ ليخففن عني. فكان شعوري بهذا الفضاء الذي أحدثته النوائب في نفسي يشتدّ وينتشر. ولم ألبث أن ضعفت يا حازم تحت إلحاح صاحباتي، فانطلقت معهن ذلك اليوم إلى حيث قابلتك. فكنت أنا الزهرة الذاوية، وكنتَ أنت القطر الباعث. وساقني القدر في طريق الحب فلم أفكر لحظة، ولم أثب إلى نفسي إلا بعد أن أحببتك. ولم أقو على الإفضاء لك بزواجي، بتعاستي يا حازم.

وغلبها البكاء فانقطعت عن الكلام. وصاح حازم وهو يكفكف دمعه: (مسكينة يا حنان!).

- 2 -

مضى كل منهما في سبيله مكسور الفؤاد. وعادت حنان إلى عزلتها وقد حرّك اليأس رماد قلبها وأهاج لهيب شجنها. وكانت تعمد، حينما يشتدّ بها ألم الشوق إلى الذكريات تلتمس منها عزاء ضن به عليها العالم الخارجي، فتصبح كصريع المخدر تقاسي بعد لذة قصيرة وسعادة واهية أشد الآلام. وكان أكثر ما يعذبها شعورها بما يكابد حازم من اضطراب نفسي بعد هذا الحادث، ويأسها من جل لموقفها البائس. فما كانت تستطيع أن تهجر زوجها لطيبة قلبه، وقد همت بذلك خضوعاً لحبها الجارف لولا أن خشيت لوم حازم فانتظرت أن يخطو هو الخطوة الأولى واستسلمت في انتظارها لحزن داهم وعزلة شديدة.

وعاد حازم وهو لا يفكر في غير اعتراف حنان، ورأسه يدق بالحقيقة القاسية، وقلبه يخفق بحبه الشديد. وكان كل عصب فيه ينبض بقوة كأنه يصيح: إنها متزوجة! ومضت أيام قبل أن يسكن هذيانه ويروق ذهنه. ثم لم يلبث أن اختلى بنفسه في محرابه وهو يرتعد لمجابهة قلبه لعقله. كم كان يود أن يفر في هذه الساعة الحاسمة، ولكنه كان يشعر بقوة خفية تدفعه إلى مكتبه.

أخذ يراجع حديث حنان وهو يقطع الغرفة بخطوات واسعة وقد وضع يديه خلف ظهره وطأطأ رأسه لشدة التفكير. وكان عقله الرشيد وتربيته القويمة قد حصنا نفسه؛ ولكن قلبه كان قوياً بالحب ملتهباً بالشوق. فكان الصراع بين ضميره وعواطفه عنيفاً. كان ضميره يثور تارة وقلبه يطغى أخرى، ونفسه بين هاتين القوتين حائرة معذبة.

كان يحدث نفسه قائلاً: (ماذا دهاك يا حازم؟ كيف تخلد إلى هذا الوسواس فيحرضك على الشر، وتثابر على هذا الحب فتسلب بريئاً امرأته؟ كيف تقدم على هذا الأمر فتنقلب شيطاناً يحث على المعصية ويهدم بيتاً هادئاً؟ كيف تحل رباطاً مقدساً وتقطع صلة طاهرة فتحقر نفسك وتفقد عزتك؟ ثب إلى رشدك وعد إلى جهادك. فحذار حذار أن تستسلم لعواطفك. فالعاطفة المطلقة كالسيل، أوله انقضاض يجرف ويقتلع، وآخره نضوب وقحط. وقد وهبنا الله العقل لنقيمه سدا يحبس تلك القوة الطاغية وينظم تصريفها. إن حنان ليست لك يا حازم. . .).

ووقف حازم فجأة وضرب كفه بقبضته صائحاً: (يجب أن تنساها). وتابع سيره وهو يكرر تلك العبارة بتؤدة ويقطعها ليوحي إلى نفسي معناها ويملي عليها إرادته. ولكن أنى لعقله أن يثبت ولم يكن أمر حبه مشكلة دارجة؟ فهو لم يكن يعرف الحب من قبل. أما وقد نهله فقد أصبح الأمر مشكلة حياته. فكان قلبه المضطرم يصهر عزيمته ويشوش منطقه، وحبه المتدفق يخنق ضميره ويذهب بصورته فلا تلبث نفسه أن تصيح:

(تباً لك يا حازم! ما دمت عبداً لعقلك فقد تحرم الحياة ومتعها وتعرض عن الحب، فيطغى العقل وتنضب النفس ويفسد الذوق وتنقطع صلتك بالحياة. لا يا حازم. لا تفعل ذلك! إن حنان لك، فالأقدار لم تجمعكما عبثاً. إنه نداء القلب فأنت تلبيه، وماء الحياة فأنت ترشف منه. وكيف يقبل عقلك أن يعيش زوجان بلا حب ويأتلف قلبان بلا تمازج؟ إن حنان لك يا حازم. ولك وحدك).

كان حازم يجد في حديث نفسه لذة عظيمة، ولكنها لذة يدركها صوت الضمير الذي يأبى أن يخضع فيعود ويرتفع من الأعماق: (حذار حذار أن تسلك هذا الطريق). فكانت نفسه كرمال الشاطئ بين كر الأمواج وفرها لا تهدأ ولا تستقر. كان حبه قوياً، ولكن عقله كان يقضاً وضميره حياً. ولهذا كان حزيناً برماً. فهو لا يستطيع أن يعود إلى حنان، ولا أن يبتعد عنها.

وبينما هو في عذاب اليأس والتردد، إذ فاجأ نفسه بهذه الهمسة: (مسكينة يا حنان!). وكان يكرر تلك العبارة ولا يفطن بادئ الأمر إلى معناها. ولكن سرعان ما قفز من كرسيه حيث أقعده الأعياء، وهو يهتف: (نعم! مسكينة يا حنان) ألم ينطق بتلك العبارة من قبل عندما قصت حنان عليه قصتها المحزنة؟ ألم تذرف حنان وقتئذ دموع الشقاء بين يديه فأرمضت قلبه؟ إذن كيف يتركها تذبل وتعذب؟ كيف يقتلها بالهجر وهو لم يقس قط؟ كيف لا يعطف عليها ويؤنس وحدتها؟ إن في حبه لها صداقة، والصداقة عاطفة تجمع بين القلب والعقل. أليس من واجب الصديق أن يعين صديقه؟

ملأت الشفقة نفس حازم بغتة. وقد أثارها الحب ليستعين بها على العقل؛ فما كانت هنا غير قناع لبسه الحب فجأة فشلَّ العقل وأسكت الضمير. والحب قد يأتي بالمعجزات.

وخف حازم إلى حنان يتمتعان بسعادتهما السابقة فيركبان سيارته ويتنقلان بين الرياض، فتستلقي حنان على الأعشاب الغضة تنظر إلى السماء بعينين حالمتين، ويضطجع حازم على جانبه بالقرب منها، تعبث يداه بالأزهار ويشع وجهه بالغبطة.

- 3 -

وحدث ذات يوم أن قام حازم وحنان برحلة من رحلاتهما العزيزة إلى ضواحي القاهرة، ودهمهما الليل في طريق العودة. وكان الليل مقمراً، فأغراهما جمال الطبيعة بالبقاء حيث كانا على شاطئ النيل.

كان القمر يسيل رقة تلين الأبدان، وكانت أشعته تهبط على المياه كقبلة العاشق على كتف حبيبته فتسري فيها رعشة لذيذة وتهتز لها اهتزازاً لطيفاً. وكان هذا الاختلاج يسحر الناظر ويهدهد عقله فيغوص في هذا المزيج من الأشعة والماء.

وكان السكون رائعاً يقطعه بل يزيده صفير الصرصور المتتابع فتؤثر وحدة الصوت المتواصلة في المرء، فتصيبه غشيه هادئة ترفعه إلى عالم الأحلام، ويزيد نشوته عطر ثقيل من الزهور المختلفة ينتشر إلى جسمه فيثقل تفكيره وأطرافه.

كانت الطبيعة تنشد نشيدها الأبدي في معبدها الساجي، وقد أطلقت بخورها العبق، ولبست حللها الفاخرة، فيتصاعد إلى السماء تآلف من الأصوات والعطور والألوان، ينعقد سحباً رقيقة لازوردية رنانة تخلع على الأرض غموضاً مقدساً، يحير البشر فيعتريهم الخشوع ويغشاهم الوجوم.

وكانت حنان مستلقية على العشب، وقد أكسبها القمر شحوباً عاجياً ليس في الإنسان، وجمالاً مبهماً ليس على الأرض ولا في السماء، جمالاً يتصوره الشاعر في مخيلته ويعبده في خلوته كلما تردد عليه وتراءى له. وكان حازم مضطجعاً إلى جانبها يقلب الطرف في جمالها وقد سلبته الفتنة كل إرادة، وأثار الوجد كل حواسه. وتحولت حنان بنظرها إليه فتلاقت عيناهما وشخص بصراهما، وكان ينبعث منهما بريق ساطع متدفق لم يلبث أن هدأ ورق. وقد همس يقطعه الهيام امتزج اسماهما: حازم! حنان! والتقت شفتاهما في قبلة حارة طويلة. كانت عواطفهما كحمم البركان تصعد من الأعماق متراخية ملتهبة ثم تفيض فتنحدر بشدة كاسحة. وفي ذلك الوقت اختفى القمر وراء سحابة كثيفة كبيرة. وفي تلك اللحظة التي ينسى الإنسان كل شيء غير أن الطبيعة حبته بقوة عاطفية جامحة، في تلك اللحظة التي تطغى فيها حرارة القلب على قدرة العقل، وفي تلك اللحظة لبيا نداء الجسد. إنهما في جسد، والجسد ضعيف والهوى غلاب، فكيف يعدمان الشهوة؟ كان عقلهما في يقظتهما راجحاً؛ ولكن الطبيعة خدرت ذلك الحارس، فتنفست الشهوة المكبوتة، وكانت تعمل فيهما خفية والعقل يحجبها، فجلاها حتى نمت واشتدت فتحركت وغلبت.

وظهر القمر ومر أحد العسس يقرع بنعليه الطريق، فاستيقظ العاشقان من حلمهما اللذيذ وتبينا أمرهما مضطربين: وما أقسى أن ينقلب المرء من حال إلى آخر بلا انتقال. فاستولى عليهما الوجوم والحيرة، وفرق الخجل بينهما لحظة طويلة قطعها حازم بعد جهد بقوله:

- إن الليل قد تقدم، فدعيني أصحبك إلى منزلك.

ولم تجب حنان بغير نظرة مبهمة، وقامت تخطو وئيدا إلى السيارة، وأدار حازم المحرك وسأل:

- أين تسكنين؟

ولم يكن حازم يعرف حتى ذلك الوقت مسكن حنان إذ كانت بعد كل لقاء تفضل أن ترجع وحدها. وأجابت حنان:

- في الدقي، سأبين لك الطريق.

- 4 -

واندفعت السيارة إلى منزل حنان. فكان حازم يشعر كلما توغل في السير أن الطريق مألوف. ولكن هذا الشعور لم يتعد طبقات نفسه الأولى فلم يلتفت إليه تماماً، حتى أشارت حنان بالوقوف. وبينما هو يودعها وقع نظره على منزلها فثبتت عيناه في محجرهما وتملكه فزع شديد؛ فصاح بصوت قلق يكاد يسمع:

- أنت. . . تسكنين هنا؟

فأجابت حنان وقد راعها حاله:

نعم! ولكن ماذا بك؟ هل رأيت شبحاً؟

ولم يجب حازم وانطلق إلى مسكنه بأقصى سرعة. كان همه الأول أن يبتعد عن هذا المنزل ولكن صورته باتت تلازمه وتزيد في عذابه. فكان يهمس: رحماك يا إلهي. فما أقسى العقاب!

كان منزل صديقه أحمد، فكانت حنان إذاً زوج صديقه. . . وكان أحمد لا يجتمع بأصدقائه كثيراً لشغفه بالعلم وانقطاعه له، ولكنهم كانوا يكنون له الحب والاحترام لدماثة خلقه وكرم طباعه. وهذا هو حازم، يا لقسوة القدر، يكتشف أنه كان يخون صديقه فينقض عهد الصداقة. كأن يخونه في عرضه. والعرض كيف يلائم صدعه. . . آه. لو استمع إلى صوت عقله!

كان حازم يفكر في ذلك فيحز الألم في نفسه. كانت الصدمة عنيفة أودت بكل عاطفة أثارها الحب. فما وجد لفعله عذراً ولا لضميره رداً. وساد ضميره وقام يؤنبه بعنف ويلاحقه بشدة، ونفسه قد خلت من كل توازن يقيه شر الاختلال. كان صوت الضمير يتبعه وصورة صديقه لا تفارقه؛ فلم يستطع البقاء في مكانه وخرج يهيم على وجهه في الطرقات. ولكن الصوت كان يطارده فيعدوا المسكين هرباً منه، فيملأ أذنيه، فيسرع في الجري حتى يصرعه التعب، فلا يلبث طويلاً حتى يبدو له وجه صديقه يشخص إليه في حزن وأسف، فيعود إلى الجري ليسقط مرة بعد مرة حتى خر على الأرض مغشياً عليه.

وأشرقت الشمس وقامت الطيور تعلن قدوم الصباح ودبت الحياة في السكون، ووقف الشرطي يتأمل جسماً طريحاً وانحنى يهزه ليتبين أمره؛ فانتفض النائم وجلس لحظة ورأسه بين يديه، ثم نظر إلى الجندي المستفهم نظرة بلهاء ولم يلبث أن نهض مسرعاً وهو يهمهم بكلام لا يفهم.

إنه كان حازماً الرقيق. صرعته الصدمة فأختل عقله، وأصبح يكفر عن خطيئته. كان ملكاً في وحدته فسولت له النفس أن يهبط إلى الأرض؛ فتدهور من العلياء وعاد آدمياً تسوده الغرائز الشهوانية والرغبات الدنيئة، واقترف الخطيئة فاستحق العقاب، والسماء لا تغفر لملك هوى.

عدلي طاهر نور


28 - 01 - 1946

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى