عبدالمجيد لطفي - تحت دواليب الحياة

[HEADING=3]ــ 1 ــ
ــ عمي فلس واحد أشتري خبز .
ومد الرجل الهزيل يده إلى جيبه وفكر ملياً.. وقال : فلس واحد للخبز ومن أنت يا ولدي ؟ .. وتألق نور الطفولة في عيني الصبي وقال: آه ياسيدي ان امي ماتت قبل شهر وأبي غرق قبل سنة ...
وفكر الرجل مرة أخرى. فتش جيوبه وأجاب بحزن قاتل : فلس واحد للخبز . صدقني يا ولدي انني لا أملك الفلس .
فضحك الطفل ... أما الرجل فقد أرسل دمعة.

ــ2 ــ
كان يحمل طفلة ترتجف وهو يهرول ويسأل :
ــ عمي وين الخستخانة ؟!
وقبل أن أوصله إلى المستشفى وقف وقال :
ــ عبثاً تعبت معي ... لقد ... ماتت.. ومنذ سبعة أيام وأنا أتجول في الأزقة .وسار ببطء يحمل جثة صغيرة وتبعته بهدوء حزين وخرجنا إلى وراء السدة وهناك حفر حفرة صغيرة وواراها بصمت ولما اعتدل تذكرت شطراً لأعمى المعرة فقلت ( لعب كلها الحياة ) ورفع رأسه الأشعث والدمعة في عينيه وقال :
ــ اي نعم .. تعب كلها الحياة .. فمضى منكس الرأس ومضيت ..

ــ3 ــ
رفعت رأسي على نداء رقيق فرأيت في الشرفة فتاة ناهدة عارية الساقين تغمز وتهز وسطها باغراء ... وكان الزقاق شبه مظلم والأضواء بعيدة فاترة فعرفت أني بين الفتيات الرخيصات فتابعت دربي عاجلاً ولم أكد أتخطى بضع خطوات حتى فوجئت بانفتاح باب :
ــ هنا عندنا شيء جديد !
ودخل شاب أمرد وانغلق الباب ... وسمعت الهمسات تنحدر بسرعة من الأفواه ومر شيخ وقور يلعن الزمان ... وعربد سكير ولعن المارة وجميع الناس ... وظهر الزقاق المؤدي إلى قلب المدينة الكبيرة ضاجاً بالمنكر والفحشاء، وتذكرت قول الشيخ الوقور وخرجت من فمي وجيزة يروتس ( أيتها الفضيلة ما أنت الا كلمة ).

ــ 4 ــ
أسدلت الستار وأوقدت الضوء وتأففت ان الحياة باردة . ولكن المصطلى كان مليئاً بالنار والغرفة مفروشة بفاخر السجاد والراديو ينقل اجمل الانغام . ولكنها كانت جائعة الى شيء يدفىء عروقها الفوارة ونظرت الى الشارع مرة اخرى وكانت السيارة تسير راكضة بدون انقطاع.. وقفزت من الفرح وقالت : ايه هو ذا قادم .. واجتاز الشاب عساليج الكروم الذابلة واشجار التين القزماء والبركة المهجورة من اول الشتاء وسمعت خطواته على السلم. والآن لقد شاع في جسمها الدفء وقالت .ما اجمل هذه الحياة .. وسكت الراديو ليتكلم القلب بانغامه الجديدة .

ــ 5 ــ
ــ خذ الى اليمين
وانعطفت السيارة الى اليمين ووقفت حذاء الرصيف فاطل منها رجل بدين احمر الوجه اصلع الرأس فتقدم منه شيخ عجوز وصبي حافي القدمين فمد الأول يده وراح الآخر ينظر الى نقوش السيارة والوانها .
وارتسمت على وجه راكب السيارة امارات الرحمة والتألم وامتدت يده بهدوء واخرجت نقدا ً فضياً رفعه الشيخ الى السماء ومضى ...
وللمرة الاولى في الحياة رأيت غنياً رقيق القلب يتألم ويحن ويترحم على الآخرين .

ــ 6 ــ

شربت الشمبين الأخير وطلبت من الشاب الأمرد قبضة اخرى من الدنانير فناولها راجفا وراح ينظرها بشراهة وراحت هي بدورها لاعبة مع ثلاثة شيوخ ارادوا اعادة الشباب لساعات .. ومضى الهزيع الأول من الليل ودقت الساعة الواحدة فتثاءبت الفتاة الفنانة وقالت : اوه لقد تعبت . وانتشر اللاعبون وقالت وهي تربت على كتف الغلام :
ــ انا متعبة وغدا اسنطيع ان ازورك فكن بالانتظار . وخرج الوارث نشوان من هذا الوعد.
ولما دفع اجرة العربة احصى نقوده ... لقد بقي من ثمن اليستان الذي باعه قبل اسبوع ثلاثة دنانير فقط .. هي ثلاثة دنانير من الف وخمسمائة دينارا.

ــ 7 ــ
ــ اركض ...
ــ ماذا جرى .
ــ لقد ضبطوها .
وكانت الفتاة تبكي بدموع غزيرة وقد انحدرت دموعها على الاصباغ فبدت بصورة مضحكة وقال صديقي :
ــ ألم أقل لك انها كانت .. وها هم قد ضبطوها .
اما انا فقد هززت له رأسي... وصدقته لكن صوتاً صرخ من اعماقي ..
ــ لقد كانت جائعة .[/HEADING]









==================
عبدالمجيد لطفي.
ولد في قضاء خانقين (العراق)، وتوفي في بغداد.
عاش حياته في العراق.
انتظم في مراحل التعليم، حتى تخرج في ثانوية الصناعة عام 1932 .
أتقن اللغتين التركية والكردية، إلى جانب العربية.
عمل كاتبًا في وزارة المالية.
يعد أحد رواد القصة العراقية في القرن العشرين.
الإنتاج الشعري:
- له ديوان من الشعر المنثور تحت عنوان «تصابي الكلمات» - بغداد - 1971، وآخر ديوان تحت عنوان «خليج المرجان» - مطبعة الحوادث - 1984 (الديوان مكون من 349 رباعية)، ونشرت له مجلة «الكتاب» - لسان اتحاد المؤلفين والكتاب العراقيين - وجريدة العراق، وجريدة الهاتف البغدادية عددًا من القصائد منها: «خاطرة شعرية» - جريدة «الهاتف» البغدادية - العدد 1096 - مارس 1952، و«إلى فلان» - مجلة الكتاب - العدد الرابع - السنة التاسعة - أبريل 1975، و«من نجوى الصمت» - جريدة العراق - ديسمبر 1987.
الأعمال الأخرى:
- له مؤلفات في الرواية والقصة منها: «في الطريق» - مجموعة قصصية - بغداد 1958 ، «عيد في البيت» - قصة - بغداد 1961، «بعض الذكريات» - قصة - بغداد 1968 ، «الجذوة والريح» - قصص - بغداد 1969 ، « الرجال تبكي بصمت» - رواية - بغداد 1969، وفي المسرح له: «خاتمة موسيقار» - تمثيلية - بغداد 1941 ، «حجة النهار» - تمثيلية - بغداد 1970، وفي الترجمة له: « قلب الأم» - قصص مترجمة عن التركية - بغداد 1936، إلى جانب عدد من الدراسات، وأدب الخواطر أهمها:« نظرات في الأدب الكردي» - دراسة (بالاشتراك مع عبدالسلام حلمي) - 1948، و«الإمام علي رجل الإسلام المخلد» - النجف 1967 .
يتميز شعره بالجدة، والمغايرة. فقد نظم على طريقة الرباعيات التي تتعدد فيها الأشطر، وتتنوع القوافي، وتتسم بالتركيز والتأملات الروحية والفلسفية، خاصة ما جاء في رباعيات «خمريات المتصوفة» التي عبر فيها عن فلسفته العرفانية، وتأملاته في صروف الدهر، وعذابات الإنسان على هذه الأرض. وله شعر إخواني، كما كتب
في الرثاء. لغته محكمة، وخياله منبسط، وفكره عميق. التزم الأوزان الخليلية فيما كتبه من شعره.



1711062345857.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى