عبدالمغنى علي حسين - الضالة...

كانت دار الحاج إبراهيم، بطرف القرية الصغيرة الهادئة، تشهد مرحا فوق العادة من صغار ساكنيها وأحاديث اهتمام من كبارهم. فهذا أحد أبناء الحاج إبراهيم، في العاشرة من عمره، لبس جلباباً جديداً، وراح ينظر مبتهجاً إلى خطوطه الزاهية الألوان، ويجد في هشاشة جدته أعظم نشوة وطرب، وعلى رأسه طاقية من القماش نفسه، وفي رجله الحذاء الذي يلبسه في الأعياد. وهذا أخوه محمود، يصغره بسنتين، وهو صورة مصغرة منه في الجسم والثياب. وهذه أختهما الصغيرة سعدية، تضحك فرحة بجلبابها الأحمر، وعلى رأسها المنديل الجديد الفاقع الاصفرار.

وجلس الحاج إبراهيم على المصطبة بمدخل الدار، يبرم مغزله بإصبعيه، ويلاحق استطالة الفتلة بالصوف المنقوش، ويخاطب امرأة فيلقي إليها بأوامره ويبادلها الرأي والجدل في اهتمام واغتباط.

إنهم معتزمون السفر إلى مصر، يعني القاهرة لزيارة آل البيت بمناسبة مولد السيدة زينب، وليوفوا نذراً عليهم لها طال تأجيلهم إياه عاماً بعد عام، وليقضوا بضعة أيام عند قريبة لهم نزحت إلى القاهرة واستوطنتها منذ بعيد.

فلما دخلوا على قريبتهم ومعهم مقادير من الزاد ذي الروائح الشهية والطعوم اللذيذة من فطائر ريفية وقشدة وما إليها رحبت بهم أعظم ترحيب. ثم جلسوا يتذاكرون الماضي، ويستعرضون أحوال الأقارب والأنسباء واحداً واحدا وواحدةً واحدة، ثم أخذ الضيوف يبدون إعجابهم بما رأوا في المدينة الكبيرة من عجاب وجمال، يراه الحاج إبراهيم للمرة الثانية في حياته وتراه امرأته وأبناؤهما للمرة الأولى، تلك الأضواء المتلألئة والعمائر الباذخة والمتاجر الزاخرة وزحمة مواكب المركبات والخلائق التي لا تني ولا تنتهي، وكل ما فيها مسرع عجل كأنما يسابق الذي أمامه ويفر مما وراءه، وكأن حياته على الأرض ليست سوى ثوان فهو يستغلها على هذا النحو طيراناً ونهباً.

وفي الصباح بكر الضيوف إلى الخروج، ليؤدوا الزيارة ويفوا النذر، ويملأوا عيونهم من مناظر المدينة. ثم عادوا آخر النهار ومعهم بعض حلوى المولد من عرائس ولعب.

فلما كان آخر يوم لهم بالقاهرة، وقد اعتزموا الرجوع إلى قريتهم في الغد، خرجوا لقضاء حوائج لهم وليستمتعوا بفرجة أخيرة على زحمة المدينة وقت الأصيل وبهجة أضوائها بالليل. فلما قضوا أربهم وقفوا بمحطة للترام ليستقلوه عائدين.

وكان الزحام شديداً، والمركبات تأتي غاصة، كأنها أكداس بشرية تتحرك. وجاءت المركبة التي يريدونها بعد طول انتظار لكن ليس فيها موضع لقدم أو مسكة ليد، فلما أراد الحاج إبراهيم أن يركب هو وأهله صاح فيهم (الكمساري) ليبتعدوا ونفخ في زمارته بشدة وانطلق.

وجاءت مركبة ثانية وثالثة ولا يمكنهم الركوب، حتى عيوا من طول الانتظار. وجاءت مركبة آخر الأمر تريثت في وقفتها بعض الشيء فاستجمع الحاج إبراهيم نفسه وأهله ليحشروا بين الراكبين بأية طريقة، ورفع ابنته الصغيرة بين يديه فاندست وغاصت في داخل المركبة بين الواقفين وهم بأركاب امرأته وابنه. ونظر الكمساري فرأى أربعتهم يريدون الركوب وليس لهم موضع، والوقفة طالت، ولم يكن رأى الطفلة التي أركبت، فصاح فيهم صيحته ونفخ نفخته وانطلق، وجرى الحاج إبراهيم وراء المركبة وهو يصيح بالكمساري مستوقفاً لينزل ابنته أو يركبوا معها، وصاح بعض الراكبين بالكمساري ليفعل ذلك ولكن الكمساري لم يفطن إلى ما حدث بالضبط إلا بعد أن كانت المركبة قد استكملت سرعتها والرجل يجري ليلاحقها بين السيارات المندفعة بسرعة مخيفة من كل ناحية.

وزمر الكمساري مستوقفاً السائق لكن السائق أصم أذنيه عن زمره وقال في نفسه إن الذي فاته النزول في المحطة السابقة يضيره كثيراً أن ينزل في المحطة القادمة.

وعجز الحاج إبراهيم عن ملاحقة المركبة، وأشفق على امرأته وابنيه أن يجروا وراءه فيصيبهم شيء فتوقف وعاد إليهم، وأمرهم بأن يبقوا في موضعهم ولا يبرحوه أبداً حتى يلحق بالبنت ويعود بها إليهم.

وكانت المركبة قد بلغت المحطة الثانية فأنزل الكمساري الطفلة الباكية وقال لها: اجري عودي لأبيك.

وجرت الطفلة عائدة متتبعة شريط الترام، لكنها لم تمش إلا قليلاً حتى رأت شريط الترام يتفرع إلى فرعين في شارعين مختلفين، فوقفت متحيرة في أي الطريقين تمشي لتجد أهلها. ثم تخيرت أحدهما. . . وكان الطريق الخاطئ!

وجاء الحاج إبراهيم مسرعاً صوب الترام مؤملاً أن يجد ابنته واقفة عندها. فلما لم يجدها غاص قلبه إلى رجليه، ووقف ينظر حوله طائر اللب. ثم أخذ يسائل عنها من يلقي من الناس فلم يجد أحداً يعرف من أمرها شيئاً.

ومشى واسع الخطى إلى المحطة التالية لعل ابنته تكون أنزلت عندها، ثم وقف هناك يحوقل ضارباً كفاً بكف.

ومشى محطة ثالثة ورابعة. . . حتى يئس من هذا الهيام على غير طائل. وذكر الذين تركهم واقفين في غربة مخيفة وقلق ممض فصاد أدراجه إليهم.

والطفلة أين ذهبت؟!. . لقد أخذت تسير وتبكي، وتقف تنظر حولها باحثة عن أهلها؛ ثم تسير وتبكي. . . حتى يئست من لقائهم فقعدت تعول وتنتحب.

وكان الناس يمرون بها رائحين غادين، لكن لدى كل من شئونه ما يشغله عن طفلة تبكي وما قد يكون أبكاها من تافه الأسباب. لم يكن يقف عندها إلا بعض الصبية بدافع الفضول وليضحكوا من طريقتها الريفية في العويل والبكاء. ومر بها رجل استلفته بكاؤها فوقف يسائلها عن خطبها ثم نفد صبره وشيكا لما أبطأت في الجواب ومضى لشأنه.

ثم أقبل رجل في مقتبل العمر يمشي الهوينى، فليس لديه كغيره من الناس عمل معين يقصد إليه. واستلفته بكاؤها فوقف برهة ينظر إليها. وفهم بسرعة ما حدث لها فلمعت عيناه بذكاء شرير وافتر فمه عن ابتسامة كريهة وأسنان ذهبية.

وناداها (سعدية!!). وكان قد سمعها تسمي نفسها لبعض الصبية الواقفين.

- سعدية!!. . أبوك أرسلني إليك. . . تعالي!. اجري! وانتبهت الطفلة كغريق لمست يده شيئاً، ونظرت إلى الرجل وكفت عن البكاء.

واستطاع الرجل بقليل من اللباقة والحنان المصطنع أن يستهوي الطفلة الملهوفة فأسلمته ذراعيها وانطلقا.

وركب وإياها الترام - كما قال له أبوها! - ثم نزل وإياها في مكان ما. ومشى إلى باب فطرقه وفتحت الباب فتاة طويلة نحيلة، في عينيها المرهاوين كحل كثير، وعلى وجهها الضامر أصباغ دامية. ونظرت الفتاة فلما رأت أنه هو أدخلته، وهي تبادله تحيات غير طيبات، وتتحفه متلطفة ببعض السباب. ونظرت إلى الطفلة، وضحكت ضحكة صارخة، فغمز لها الرجل بعينه أن تسكت. قالت الطفلة (أين نحن؟!) قال لها الرجل (في بيت خالة لك) ثم مشوا إلى حجرة تجلس فيها امرأة بدينة. قال الرجل للطفلة (هذه خالتك) اقعدي هنا، وسأذهب لآتي بأبيك) ونظرت المرأة البدينة من الطفلة إلى الرجل ونه إليها ولم تقل شيئاً. ووقفت الطفلة تنظر حولها في دهشة وريبة، لكن الأمل كان أغلب عليها وهي تنظر إلى الرجل الذاهب ليأتي بأبيها.

وقعدت كما قيل لها. وجاء لها بعشاء حسن فأكلت منه، فلم تلبث أن أحست بخدر، وراحت في نوم عميق.

وعاد الرجل في آخر الليل. . . قالت له المرأة البدينة (ما الذي أتى بك؟!)

- لآخذ أتعابي. . . كلام جميل!. . . ما الذي أتى بي!!

- أي أتعاب؟!. طفلة لا تصلح لشيء!

- طفلة!. . . إنها شجيرة بازغة سوف تثمر جوهرا. . . إنها دجاجة صغيرة ستبيض ذهباً. . . انظري إلى جسمها السوي وقسماتها الحلوة. . . سلام عليها حين تطول وتكتمل، ويعلو نهداها، ويشكو خصرها من ردفها!. . ستكون النظرة إليها عندئذ بكذا. وسيهوي إلى بيتك ألوف الرجال مسلوبي القلوب مملوئي الجيوب. هيا انقديني مائة جنيه، ولا أقول ألفاً مما ستأتيك به من ألوف.

- مائة!! مائة من الجن يركبونك!! مائة!!

وجرى على هذا النحو الحوار، والسلعة المسكينة راقدة في خدرها العميق.

من لأبيها وأمها في ذلك الوقت بجرعة من مخدر!. . . عندما عاد الرجل المسكين إلى المرأة المسكينة بغير البنت دقت صدرها، ووقفا ينعتان الليلة السوداء. وأرشدهما الناس إلى إبلاغ البوليس ففعلا، ثم عاد إلى قريتهما بقلبين ينفطران.

وعبثاً سألوا، وعبثا نادوا. إن ابنتهم زالت من الوجود المعروف. لقفها الشيطان وغاص بها في عالم الظلمات.

كان أسوأ الفروض عندهم أنها لقيت حتفها على صورة ما. وكان يهدهدهم أمل في أنها عند بعض كرام الناس. لم تكن تخطر ببالهم، من لطف الله بهم، تلك المباءات العفنة بجسم المجتمع المريض.

قالت المرأة الثكلى لزوجها: حاج إبراهيم! السيدة زينب غضبت علينا لتأخيرنا وفاء نذرها.

ونذروا للسيدة نذراً آخر، لكن يظهر أن السيدةزينب لم تكن راغبة في نذرهم الثاني. . . لو كانت السيدة زينب تملك من أمور دنيانا شيئاً لكانت غيرت منها الشيء الكثير، ولو كانت تغضب من الناس حقاً لما أغضبها إلا هذا الاعتقاد العجيب، والقول بأنها من أجل ذلك السبب التافه تلجأ لمثل هذا الانتقام الفظيع.

واستيقظت الطفلة في اليوم التالي، وجلست تفرك عينيها وتنظر حولها مشدوهة. قالت (أين أبي؟!) قالوا لها صح النوم!. جاء وأنت نائمة، ولما لم تستيقظي قال أبقوها هنا تتعلم وتتمدن، وسأحضر من البلد لأراها من حين لحين، وكانت لا تزال تحس ثقلاً برأسها، فعادت إلى نومها العميق المريب تتخلله مباهج ولذائذ عجيبة.

وأخيراً زال عنها الخدر والنعاس، وأفاقت إلى الوحشة الموجعة، والريبة في المكان والسكان كما يفيق الذي أجريت له جراحة على آلام الجرح الكبير. فعولجت في الحال بمزيج مناسب من الإبهام والإغراء والإرهاب. قيلت لها مختلف الأكاذيب، وجيء لها بلذيذ المأكولات وبهيج الملموسات، أما انتفاضاتها ومحاولاتها الإفلات فقمعت في الحال بعقوبات رهيبة حتى استسلمت للذي ليس منه بد.

كانت تبكي أهلها سراً عندما تخلو لنفسها ثم أخذت تسلو شيئاً فشيئاً، وتنسى قليلاً قليلا، ثم اعتادت ما يحيط بها، ثم أخلدت إليه، ثم ألفته، ثم لم تعد ترى الحياة إلا سهر الليل ونوم النهار وأحاديث الدنس ومشاهده وكل ما يتعلق بصناعته.

تخرجت سعدية في معهد الشيطان، فلما اكتملت أنوثتها واستوت لم تكن بحاجة إلى إغواء وكانت هي المغوية.

لم تعد تبكي أهلها. بل لم تعد تذكر منهم إلا ظلالا حائلة طافت بناظريها أيام الصغر، ومشاهد القرية والدار والحقل صارت أطياف أحلام لا تخطر لها إلا في منام. إنها اليوم امرأة حضرية تجيد التزين والمشي في الطرقات بخطوة ونظرة وبسمة يتهاوى لها كثير من الرجال. حياتها سهر وخمر ولهو وعبث ونقود كثيرة تأتي وتذهب، ورجال كثيرون يجيئون ويمضون. متعة متصلة فيما يبدو، لكن آه كم هي مملة ومضنية. أين هي من خفقة حب حقيقية، وخلجة حنان طبيعية. إنها متعة الجسد وحده والروح في حرمان، وما أتعسها متعة.

ثم آه من صناعة كل عدتها رواء الشباب، وكل يوم يمر يحدث في السدة ثلمة ليس لها التئام. كل الصناعات يزداد صاحبها على مر الأيام قدراً إلا هذه الصناعة فلا تزيد الأيام صاحبها إلا رخصاً.

إن سعدية كانت ولدت لتكون امرأة قروية تتزوج رجلاً قروياً وتلد له بنين وبنات وتمشي إلى الحقل حافية في أثواب بسيطة سوداء وتأكل الخبز المقدد وتافه الأدام. حياة شظف وخشونة، لكن آه! إن فيها قلبين يتجاوبان، ونعمى الأمومة لا تعدلها نعماء.

أي الحياتين أفضل؟!. . لكن ما جدوى المفاضلة بينهما؟. وهل كان لسعدية في أمرها أي اختيار؟. . إن الذي هي فيه قد أريد لها وكان.

نعم لا أحد يمنعها الآن أن تخلع زينتها، وتغسل أصباغها، وترمي عنها أثوابها الفاضحة، وتخرج تائبة منيبة وتتزوج رجلا إن وجد، أو تقضي بقية العمر متبتلة طهوراً عاملة لكسب عيشها بعرق الجبين. لكن الذي يستطيع أن يخلق نفسه هكذا خلقاً جديداً لا يكون إلا ملاكاً أو قديساً، وسعدية لم تكن ملاكا ولا قديسة بل كانت امرأة عادية كغيرها من ملايين النساء.

هذه الخواطر كانت تطوف بنفس سعدية في بعض الأحيان فلا تلبث أن تنفضها كلها عنها بهزة كتف وتنصرف إلى شيء آخر وهي أن تلوك بشدقيها مضغة اللاذن.

وذات يوم وهي تتخطر في الطريق رأت رجلين قرويين أحدهما يكبرها بسنتين ويصغرها الآخر بمثلهما، ومعهما قروي عجوز مهدم وقروية عجوز لا تكاد تبصر. لم تكفها منهم كغيرهم من الناس نظرة عابرة بل علقت بهم عيناها لا تستطيعان عنهم حولا. ودارت بهما الدنيا وهي تهوي بذاكرتها عبر السنين إلى أعماق الماضي البعيد وتبعتهم عن كثب وقلبها يكاد يتوقف عن الخفقان.

ورأتهم يدخلون ضريح السيدة زينب. لقد عادوا يتوسلون إليها كي تعود إليهم ابنتهم المفقودة. وماذا تصنع السيدة زينب فيما أقيم فيه العباد؟ إن الله ربها وربهم لا يغير شيئاً بهم ما لم يأت التغيير من جانبهم. ما حيلة السيدة زينب فيما لا يريده الله.

وطفرت من عيني سعدية دموع حرى. دموع لم تعرفها منذ فقدت أهلها أول مرة. وهؤلاء هم أهلها على بعد خطوات منها. هل تذهب إليهم وترتمي عليهم؟ إن ثيابها وزينتها وسحنة وجهها ونغمة صوتها كلها مطبوعة بطابع داعر. وهي إن ذهبت إليهم فسينكرونها حتماً ولن يعرفونها أبداً، وإن استطاعت أن تعرفهم بها فلن يمحو عنهم عارها إلا قتلها. خير ألف مرة لهم ولها أن يبقوا على ظنهم من أنها لقيت حتفها صغيرة على براءة وطهر، أو أنها، إن كانت تعيش، فعلى أي حال غير هذه الحال.

وأشاحت بوجهها عنهم وولت مدبرة.

لقد كانت طفلة ضالة، وهي اليوم امرأة ضالة.

عبد المغني علي حسين

13 - 12 - 1948

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى