عبد العزيز خانقاه - الليل...!

ارتعد الطفل خائفاً مذعوراً، فالتصق بصدر أمه الحنون. . فكأن معجزة حدثت فأنطقته:

- أماه! إنني خائف. .

فأجابت الأم:

ليس هناك ما يدعو إلى الارتياع يا صغيري. .

وما هذا الصوت الرهيب الذي ينبعث من بعيد؟

انه نباح كلاب وعواء ذئاب!!

ولم تعوي في مثل هذا الوقت؟

شراسة وجوعاً. . . نم يا حبيبي!!

ألا تعوي في غير هذا الوقت؟

في الليل غالباً. . .

وفي النهار؟

قلما. . .

عجباً!! أتعلمين يا أمي العزيزة الأسباب؟

نحن الآن في جوف الليل. . . والظلام مخيم. . فنم. .

ولم ينطق العواء البعيد من الكلاب والذئاب ليلاً. .؟ هاأنذا أسمعه. . انه مفزع يا أماه!! أليس كذلك؟

بلى. . وان ضوء النهار الرائق يخنق الأصوات الناشزة القذرة. . وفي الليل حين يتلبد الجو بغمائم خانقة، ويهبط القتام. . وتعمى البصائر ووقر فظيع يصيب آذانها، فيحلو لمثل تلك المخلوقات البغيضة أن تنبح وتعوي وتطلق صراخها المزعج. .

وهل تأكلنا إذا خرجنا إليها؟

أجل. . بعد ما تنشر في الكون الهلع وتبذره في القلوب ويزرع في النفوس القلق والزعزعة، عند ذاك. . . من الأفضل أن ترقد يا ولدي! والطفل كان فاغر الفم، جاحظ العين، يرمق في لهفة شديدة، أمه وهي مسترسلة في حديثها وحين كفت عنه. . . عاد إلى تساؤله بقلب أكثر إصراراً فقال:

ليس يأتيني الرقاد، فالخوف قد زال بعضه من نفسي، فحدثيني يا أماه هذا الحديث الشيق! كلما جن الليل، بل أعيديه على مسامعي، فذلك خير وأولى من الاستغراق في النوم اللذيذ!

فضمت الأم وليدها إلى صدرها، تمطره قبلاً خالصات طافحات بالإعجاب، فقالت:

بورك فيك يا بطلي الصغير. فاسمعني، وإليك بقية الحديث. . .

كلي آذان، فأنا مصغ بكليتي. . .

أجل. . . عندما تتزعزع تلك النفوس يلج فيها الانهيار والشلل، فتنكفئ على وجهها عائدة، تلوذ بالهزيمة؛ وهي في منتصف الطريق فلا تلبث أن يغلبها الإعياء ويأكلها الهلع. . . فتقبل الذئاب الضارية والكلاب العابثة الجائعة فتلتهمها وتأتي عليها في هنيهات من الزمن قصار. .

ولكن. . أليس هناك من يقارعها ويناصبها العداء ويقف في وجه الزوبعة؟

بلى، يا فلذة الكبد. . بيد أن البعض منهم قد دنت آجالهم فلقوا حتفهم، فضمتهم الأكفان والبعض الآخر مازال يصارع في بطولة بقوة وبطش ولكنهم. .!

أراك يا أماه، ركنت مرة أخرى إلى السكوت. . ولكن ماذا؟. .

انهم يرتقبون انجلاء الليل. . لتزول هذه الغمة. .

وهل لا نزال في الليل. .؟

نعم. . إنه ليل طويل. .

وهل لا ينجلي هذا الليل الكريه الأسود؟

كيف يا بني؟ فكل ليل يطل عليه فجر منير ويغمر الكون من بعده، نهار مشرق، عيق الشذى!؟

ومتى ذلك يا أماه؟ أني لفي شوق إليه لجوج. . .

صبراً. . . نم يا صغيري. .

لا، لا، لن أنام، سأرتقب ذلك الفجر يا أماه!!



عراق - كركوك عبد العزيز خانقاه

03 - 04 - 1950

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى