لفظه الباب إلى الشارع، فسار مسرعاً وفي أذنيه تتردد صيحات زوجه وأناتها، كما يتردد قول خادمته (أسرع يا سيدي. أسرع بالقابلة، إنها تعاني آلام المخاض)! إلام المخاض، وفي مثل هذا الوقت بالذات، وقت ذهابه إلى النادي لملاقاة أصحابه؛ لا! إن هذا لشيء مزعج مؤلم! ألم تجد تلك الآلام وقتاً آخر؟ كان الأحرى بها أن تأتي في الصباح وهو في مقر عمله، أو عند الظهيرة قبل أن يعود إلى البيت، أو عند الليل حين يكون في ناديه المعتاد، لا في هذه الساعة بالذات، هذه التي يفارق فيها زوجه وبيته ليسعى إلى متعته مع أصحابه. . .!

قال وهو يقلل من سرعة خطواته (ولماذا تلد؟ هل أنا بحاجة إلى ولد آخر. يكفيني واحد؟ لست بحاجة إلى اثنين! وهل وجدت في الواحد راحة لأجدها في الاثنين؟ وهل تمكنت أن أنام أثناء الظهيرة ساعة واحدة بهدوء لم يعكره هذا الولد العاق بضوضائه وصراخه؟! أنا لست راضياً عن واحد، فكيف أرضى عن أثنين؟ لا شك إنهما سوف يذيقني أصناف العذاب. وهاهو الثاني قبل أن يأتي وقبل أن أراه يجبرني على التخلي عن أصحابي لآتي له بقابلة، كأنما الملعون يأبى أن يأتي إلا إذا وضعت له من تستقبله بالترحاب، لكي ينزل على بيتي ضيفاً ثقيلاً إلى الأبد! يزعجني وهو صغير بعلله وبكائه، ويزعجني وهو شاب بتعليمه وتثقيفه، ويزعجني وهو كبير بتعجرفه وتكبره! وربما تحول عني وتركني عاجزاً جائعاً، ومضى وراء عاهرة أو فاجرة، أو شيء من هذا القبيل، ونسى أنني أنهكت قواي وبذلت أقصى جهودي لكي أربيه وأكبره. . .!

(لا. . . أن هذا لا يطاق. من الخير أن لا أطيل وأزمر لإستقباله، مادام سيتنكر لي بعد أن يكبر. لكن العاطفة التي وضعها الله في قلبي ترغمني على أن أضحي لأجله بهذه الليشلة ولأجل زوجي بالليلة المقبلة، زوجي التي تفهمني كما لم يفهمني أحد. إن ضميري لا يدعني أسد أذني عن صرخاتها وتأوهاتها وأناتها. . . سأدعو القابلة، وسأتخلف عن النادي وأبقى في البيت حتى ولادة ذلك الملعون الذي يعربد في أحشائها وهم لم ير النور بعد.

فكيف به بعد أن يرى النور؛ أنه سيعربد في الدار عربدة لا هوادة فيها.

أنا لا أضحي بلبلتي هذه من أجله، ولا أدعو القابلة لاستقباله، بل أفعل ذلك لأجل زوجي فقط! وليذهب الملعون إلى الجحيم، على أن يترك لي زوجي بكامل صحتها.

وعندما بلغ النادي الذي يتردد عليه كل ليلة توقف قليلاً، وأرسل أنظاره من خلال زجاج إحدى النوافذ فرأى أصحابه مجتمعين حول منضدتهم الخاصة! لاشك أنهم يئسوا من مجيئه هذه الليلة فباشروا اللعب. هو ذا يرى كرسيه خالياً، كأنما ينتظره ولم ييأس، بعد من مجيئه. أنه لن يجعله ييأس، سيأتي إليه، سيجلس عليه، كما يجلس كل ليلة، لكن. . بعد ساعات! بعد أن يأخذ القابلة إلى البيت لتخلص زوجه من آلام المخاض، ومن ثم يعود! ماذا يهم زوجه لو تخلف عنها يعد زوال الخطر؟ وبعد ولادة ذلك الابن الصغير الذي يأبى الانتظار حتى الصباح. أنه سيعود، في آخر الليل، واللعب في آخر الليل يتخذ صيغة الجد! فلو حالفه الحظ وكسب هذه الليلة فإن ولده قد يكون سعيداً. وإن لم يكسب فلا. . . لكن! لماذا لا يجرب الآن؟ لماذا لا يدخل فيلعب (كاريه) واحد فقط، ويرى كيف يكون حظ ابنه القادم؟! إن هذا اجدى، ومن يدري ربما لا يتمكن بعد ولادته أن يأتي فينضم إلى جماعته ويجلس على ذلك الكرسي. فالولادة ربما أعقبها أمور أخرى، وربما أدى الحال إلى استحضار أحد الأطباء على أثر عجز القابلة، وربما رأى الطبيب ضرورة في نقلها إلى المستشفى، وربما. . . وربما. . .! فيكون الخاسر هو ولا سواه. إذ يخسر ما كان يجب أن يربح الليلة، أنه واثق أنه سيربح! وإنه واثق أنه لو (كاريه) واحد لما أدى ذلك إلى وقوع أي شيء مضر على بل النقيض سيربح، سيربح أجرة القابلة ومصاريف الولادة، وبذلك لا يكلفه وكده شيئاً، وبذلك يكون هو. . . القائم بمصاريف ولادته من حيث لا يدري أحد.! نعم. . . نعم، لو تأخر ربع ساعة لربح كثيراً، ولم يخسر شيئاً.

ووجد نفسه يرفع يده، ويدفع الباب الزجاجي ويدخل النادي. وما إن وصل إلى مكانه حتى هلل له أصحابه ورحبوا به. فجلس على كرسيه الخاص، ولم تلبث يده أن أخرجت من جيبه عدة أوراق مالية، وضعها على المنضدة، وشارك أصحابه اللعب. . .!

. . . ومضى ربع ساعة، وأعقبه ربع آخر. . . وهو جالس إلى جماعته وأثار العرق بدت واضحة على جبينه! فالحظ لم يحالفه لأول وهلة، لكنه سيحالفه، أنه سيجبره على محالفته، أنه لن يقوم إلا بعد أن يربح، وسوف يربح آخر الأمر. . .

واستمر عقرب الساعة يدور، واستمر العرق البارد يتقصد من جبينه، واستمرت الأوراق المالية تخرج من جيبه. وهو جالس لا يعي، ينظر إلى أمواله بنظرة الذئب الجائع إلى الطير الذي يملص من بين مخالبه: وما عاد يفكر في زوجه، ولا في ابنه، ولا في الساعات التي تمر، ولا في أي شيء آخر عدا إعادة ما خسر!

واستمر اللعب حتى لاحت أنوار الشمس مؤذنة بمجيء الصباح. . .! فقام الجالسون وقد أنهك اللعب أعصابهم، وأنهك السهر أجفانهم. حينئذ تذكر صاحبنا زوجه! التي تركها تعاني آلام المخاض في أول الليل. . . فتألم وكاد يبكي! فإن حظ ولده الذي لم يره بعد هو أتعس حظ لعب عليه حتى الآن! فقد خسر ما لم يخسر مثله منذ زمن طويل. . . فلعن الأبناء ولعن نفسه، فهرع مسرعاً ليرى ما حل بزوجه؛ ولكنه ما أن دخل البيت يسأل الخادمة حتى صفعته بخبر لم يتوقعه أبداً. فقد قالت له وهي تبكي:

البقية في حياتك يا سيدي. . . أين كنت طول الليل؟ لقد ماتت؟ لكنها ولدت توأمين وهما في صحة جيدة!.

العراق

كارنيك جورج


21 - 08 - 1950




1713348892075.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى