كانت الساعة الرابعة مساء. . . حين نزل موزع البريد عن دراجته. . أمام ذلك المبنى الهائل القابع بميدان سليمان باشا. . . ودلف من باب العمارة الضخم. . . ثم ألفى نفسه بالطابق الثالث يضغط على جرس الشقة رقم 4. . .
وناوله الخادم رسالة رجا منه أن يؤديها لسيده. .
وفضها الدكتور وطفق يلتهم سطورها في لهفة. . .
وفجأة تقلصت عضلات وجهه. . . وشحب لونه. . . واتسعت حدقتا عينيه. . . وزاغتا بين العبارات في ذهول وشرود. . . ثم فركهما. . . وأنعم النظر ثانية في الرسالة غير مصدق ما تطالعه به حروفها. . .
وتناول معطفه. . . وغادر العيادة. . . وفي كيانه ثورة جامحة تنتفض وتهزه هزاً عنيفاً. . . وتندلع من عينيه ألسنة من لهب صارم جبار. . . وهو يردد في إصرار وتحد بين آونة وأخرى. . .
يا إلهي. . . أيمكن أن يحدث هذا؟؟
وهناك في منزله. . . ألقى على زوجه نظرة قاسية عنيفة. . . تركزت فيها مشاعره الثائرة. . . قائلاً بصوت أجش فيه صرامة واعتداد. . .
الليلة سأغادر القاهرة. . . لمسائل خاصة بعملي. . . وسأعود بعد أربعة أيام. . .
وحاول أن يغوص في أعماقها. . . ليستشف ما أحدثه وقع الخبر على سمعها. . . لكن صوتاً رقيقاً كأنه النغم العذب همست به شفتاها انساب إلى أذنيه في هدوء حالم. . .
ـ وهل أغضبك يا حبيبي أن القدر سيختلس أربعة أيام من حياتنا السعيدة، ويحرمنا سماع ذلك اللحن الخالد عندما تتهامس شفتانا. . . وتلك الأنغام العذبة عندما يبسم ثغرك. . . ويخفق صدرك. . . وأنا ملصقة بك. . . ألوذ بأحضانك. .؟
الله معك. . . وطيفك معي. . . سأتخذ منه رفيقاً يهدهد صدري. . . ويرفرف علي بجناحيه. . . حتى تعود. . .
وانبرى يريد أن يقول شيئاً. . . ولكن الكلمات ماتت على شفتيه. . . ولم يدر كيف اغتصب تلك الابتسامة المصطنعة - وهي تمتد أناملها البضة لتجفف دموعها التي انسابت غزيرة على خديها - وقال في خبث ودهاء: هو كذلك يا حبيبتي. . . ولكن ما حيلتنا؟
والآن. . . أود أن تسمعيني لحن الوداع الذي وضعناه معاً في لحظة ما. . . على ألا تنتهي منه حتى أكون قد بعدت عن البيت تماماً. . . لعلي أجد في سماعه ما يهون ضخامة الفجوة التي ستباعد بيني وبينك طيلة الأيام الأربعة. . .
وجلست إلى البيان تعزف عليه بأناملها المرهفة. . . فتصاعدت أنغام حزينة رائعة تفيض سحراً وحناناً وتتمثل في إيقاعها روعة الفرقة وألم البين.
بيد أنه عندما تركها لم يكن قد خرج ولكنه دلف إلى حجرة مكتبه في انسياب الثعبان؛ وعندئذ أحكم رتاجها في حذر وران الصمت الرهيب على أرجاء البيت فبدا في سكون مدينة الأموات كان النهار قد رقد بين أحضان الليل. . . والقمر قد صب شعاعه الهادئ الحنون على الكون. . .
والخمائل قد استسلمت إلى مداعبة الأنسام الرطبة. . .
كما كان حمدي مستسلماً إلى أفكاره الحائرة. . .
إنه الآن يستطيع أن يفعل شيئاً. . .
إنه يستطيع أن يقف على جلية الأمر. . .
ونزع يده من جيبه وهي مطبقة على الرسالة. . . وانسكب عليها ضوء القمر الحالم خلال النافذة فقربها من عينيه وقرأها للمرة العاشرة. . .
وخيل إليه أن أتونا مستعراً يصهر أعصابه حين نظر إلى ساعته وأدرك أنه لم يبق سوى ستين دقيقة يحسم بعدها موقفه من زوجه الخائنة كما تطالعه الرسالة بالموعد الذي سيلقاها فيه شريكها في الإثم. . .
وخلال ذلك الصراع العنيف الجبار الذي اكتنفه وتنازعه طويلاً وقع بصره دون قصد على إطار جميل يضم بين زواياه صورة زوجه. . .
فاقض عليها ليحطمها، لكنه خاف أن يحدث ضجة تفسد عليه خطته، وتكون حائلاً بينه وبين الحقيقة السافرة التي سوف تنبلج بعد قليل فتراجع. وأذهله الزمن عن حاضره لحظات اندفع فيها إلى أركان الماضي البعيد القريب. . . ومن ثم تراءت له أحداث ووقائع راحت تتدفق على ذهنه المكدود حتى انتهت به إلى سعير تلك الخيانة المخيفة. . .
كان طالباً بالسنة النهائية بكلية الطب حين برزت في حياته (ميرفت) و (ميرفت) مثال خلاب من الفتنة الطاغية يتمثل في وجهها سحر الشرق العنيف، وجمال الغرب الفتان، ذات عينين عميقتين زرقاوين، وشعر كأسلاك الذهب، ينسدل في تماوج على عنق من العاج، تزهيه بشرة كأنها المرمر. . .
وكان صاحبنا قد قرأ فيما قرأ مقطوعة شعرية رائعة للشاعر الفريد دي موسيه يصف فيها محبوبته. . . فكمنت في أعماقه تلك الصورة الشعرية، وتأثر بها أيما تأثر، فبات يحلم بفتاة أي فتاة، يرى فيها خياله وحلمه. . .
ولم يتردد في حب ميرفت حين وجدها على الصورة البارعة التي خلقها في ذهنه الشاعر الفرنسي، وكأنها هي الأخرى شعرت بما يحمله لها بين حنايا ضلوعه، فكانت إذا قابلته عند ذهابه وإيابه من الكلية - تتضرج وجنتاها وتغض من بصرها. . .
أما حيلته هو في هذا لحب فكان يستلقي على فراشه ليستعيد الدقائق التي مرت بهما في مقابلة عابرة. . . ويجنح إلى الخيال العريض، ويودع طيات حبه أمنيات كثيرة، ويشيد عليه كثيراً من أهداف مستقبله، وتعددت، المقابلات. . .
وارتفعت درجة حرارة هذا الطارئ الجديد. . .
من نظرة مختلسة بادئ الأمر، إلى كلمات تنقصها بعض الجرأة، إلى رسائل الغرام الملتهبة، حتى التقيا في خلوة هادئة بعيدة عن أنظار الفضوليين. . .
في الحدائق، وعلى شاطئ النيل، تبادلا أعذب ألفاظ الحب والهيام. . .
ووسط تلك العاصفة الفياضة. . . ارتبطا معاً بوعد الزواج. . .
وحصل حمدي على إجازته الجامعية. . . ولتقدمه البين كان من الطلبة الذين حازوا شرف إيفادهم إلى الخارج. . .
لم يسر لتلك المنحة الجامعية التي تعده بمستقبل زاهر، بل ظن أن الدهر يريد أن يحرمه سعادته ـ وإذا كان القدر ينقل خطانا كيفما يعن له. . . وما نحن إلا دمى ضئيلة تترنح تحت معوله - فلا ضير عليه أن يدخل بأنفه ليبدد الحلم الذي تحقق أو كاد. بيد أن الذي هدأ من روعه أن معبودته الفاتنة انتزعت من رأسه فكرة الإحجام عن السفر إلى الخارج. . . وفتحت أمامه باب الأمل على مصراعيه. إن حمدي يذكر جيداً تلك الليلة، ليلة السفر، وإن شيئاً هاماً ليظل عالقاً بذهنه حتى الموت. . . إنه اللحن الخالد، لحن الوداع، الذي وضعناه معاً وهما سابحان في رحلة حالمة بين أطباق نفسيهما العليا وأغوارهما المتباعدة. . .
وإنه ليذكر أيضاً تلك الرسالات المعطرة التي كانت تبعث بها إليهفي بلاد الغرب، تطمئنه أن قلبها لن يسع إنساناً غيره، وأنها قد أغمضت عينيها عن جميع شباب هذا الجيل. . .
عاد حمدي إلى أرض الوطن. بلد الحبيب مزهواً بما ناله من علم. ومال ينتظره من سعادة. . .
وصارح والده برغبته في الزواج من ميرفت فوافق على الفور.
وشهدت القاهرة ليلة من ليالي العمر، تزوجا فيها، وبلغا أقصى أمانيهما. . .
وانقضت سنة أنجبا فيها طفلاً. . .
وجاء اليوم المشؤوم الذي جاءته فيه الرسالة. . .
إن موزع البريد لم يخطئ حين أعطاه إياها برغم أنها مكتوبة بعنوان زوجه. كل الذي يدركه أن القدر أراد أن يمنحه الفرصة السانحة لينتقم لشرفه المثلوم الذي كان يقدسه ويقدره. . .
ترى. . . إلى أي مدى وصلت علاقتها (بصلاح) هذا الذي ذيل الرسالة باسمه القذر، والذي سوف يمحى من قائمة الأحياء بعد قليل؟
وما كنه هذه العلاقة؟ وكم من الآدميين أدركوا أنه زوج غافل مخدوع؟ وأيقظه من غفوة أفكاره قرع خفيف على الباب الخارجي. . . فيه خوف واضطراب. . .
فانفجر بين خواطره بركان هائج ثائر يقذف بالحمم. وأدرك لتوه أن الساعة قد اقتربت، وأن الموعد المضروب قد أتى به ركب الزمن. . .
وزاد من يقينه وقع خطوات مرتجفة اندست إلى مخدع الزوجية المدنس. . .
وابتدأ حبل الشيطان يلتف حول جسده. . .
واستولت عليه قوة مفاجئة جعلته يخطو إلى الردهة في تباطؤ وحذر. . .
لكن بريقاً حاداً التمع أمام ناظره، فحول بصره ليستقر على مسدس رابض فوق مكتبته. . . فجذبه في نشوة، واندفع كالسهم، ووقف عند باب الحجرة يسترق السمع. . .
وانبعثت من جوف الحجرة قبلة صاخبة صفعته في قوة، فركل الباب بحذائه. . . وقبل أن يلجه انطلقت أربه رصاصات من فوهة مسدسه أصابت المرمى. . .
فهدأت ثورته، وداخلته راحة نفسية، ولذة غريبة. . .
وتلفت حوله بعد أن رأى زوجه تنتفض في لجة من الدماء، فشاهد مخلوقاً صغيراً يبتسم في بلاهة تبين فيه طفله الصغير. . .
شيء واحد إطار صوابه وجعله يهذي كالمحموم، هو. . . أنه بعد وقوع الحادث بقليل سمع وقع أقدام تهبط على الدرج من الطابق العلوي للمنزل يقطعه صوت رقيق. . .
- آه. . . تذكرت يا صلاح! لعل السيدة التي تقطن الشقة التي تحت شقتنا قد تسلمت الرسالة. . . كما حدث في الرسالة السابقة لتشابه اسمينا!!
عبد القادر حميدة
19 - 02 - 1951
===================
• شاعر وصحفي و كاتب مصري متعدد المواهب فهو ناقد و قاص و مترجم و خطاطا و رساما وفي هذه المجالات كلها كان حاضر الإبداع .
• ولد عبدالقادر حميدة في قرية شرنوب القريبة من مدينة دمنهور عاصمة محافظة البحيرة فى عائلة اهتمت بالعلم والتعليم والثقافة كما تأثر بحياة الريف تلقى تعليمه بمدارس دمنهور حتى الثانوية .
• عمل بالصحافة منذ عام 1957، وعمل سكرتير تحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون، ورئيس تحرير مجلة الدوحة، والمستشار الثقافي لمجلة الحرس الوطني، وترأس تحرير سلسلة الدراسات التي تصدر عن المركز القومي للمسرح والموسيقي والفنون الشعبية بوزارة الثقافة.
• تفجرت طاقاته الأدبية مبكرا فأصدر مجموعته القصصية الأولى بعنوان (على مسرح الحياة) وهو طالب بمدرسة التعاون الثانوية بدمنهور و اهتم بمقالاته الأستاذ أحمد حسن الزيات في مجلة الرسالة . مقالاته وشهد له الأستاذ مصطفى أمين صاحب مدرسة أخبار اليوم الصحفية بأن أسلوب عبد القادر حميدة من أجمل الأساليب في الصحافة العربية كما احتفى بموهبته الأستاذ عباس العقاد حين قرأ مجموعته القصصية "رغم كل شيء" وكتب عنها مشيداً بكاتبها
وناوله الخادم رسالة رجا منه أن يؤديها لسيده. .
وفضها الدكتور وطفق يلتهم سطورها في لهفة. . .
وفجأة تقلصت عضلات وجهه. . . وشحب لونه. . . واتسعت حدقتا عينيه. . . وزاغتا بين العبارات في ذهول وشرود. . . ثم فركهما. . . وأنعم النظر ثانية في الرسالة غير مصدق ما تطالعه به حروفها. . .
وتناول معطفه. . . وغادر العيادة. . . وفي كيانه ثورة جامحة تنتفض وتهزه هزاً عنيفاً. . . وتندلع من عينيه ألسنة من لهب صارم جبار. . . وهو يردد في إصرار وتحد بين آونة وأخرى. . .
يا إلهي. . . أيمكن أن يحدث هذا؟؟
وهناك في منزله. . . ألقى على زوجه نظرة قاسية عنيفة. . . تركزت فيها مشاعره الثائرة. . . قائلاً بصوت أجش فيه صرامة واعتداد. . .
الليلة سأغادر القاهرة. . . لمسائل خاصة بعملي. . . وسأعود بعد أربعة أيام. . .
وحاول أن يغوص في أعماقها. . . ليستشف ما أحدثه وقع الخبر على سمعها. . . لكن صوتاً رقيقاً كأنه النغم العذب همست به شفتاها انساب إلى أذنيه في هدوء حالم. . .
ـ وهل أغضبك يا حبيبي أن القدر سيختلس أربعة أيام من حياتنا السعيدة، ويحرمنا سماع ذلك اللحن الخالد عندما تتهامس شفتانا. . . وتلك الأنغام العذبة عندما يبسم ثغرك. . . ويخفق صدرك. . . وأنا ملصقة بك. . . ألوذ بأحضانك. .؟
الله معك. . . وطيفك معي. . . سأتخذ منه رفيقاً يهدهد صدري. . . ويرفرف علي بجناحيه. . . حتى تعود. . .
وانبرى يريد أن يقول شيئاً. . . ولكن الكلمات ماتت على شفتيه. . . ولم يدر كيف اغتصب تلك الابتسامة المصطنعة - وهي تمتد أناملها البضة لتجفف دموعها التي انسابت غزيرة على خديها - وقال في خبث ودهاء: هو كذلك يا حبيبتي. . . ولكن ما حيلتنا؟
والآن. . . أود أن تسمعيني لحن الوداع الذي وضعناه معاً في لحظة ما. . . على ألا تنتهي منه حتى أكون قد بعدت عن البيت تماماً. . . لعلي أجد في سماعه ما يهون ضخامة الفجوة التي ستباعد بيني وبينك طيلة الأيام الأربعة. . .
وجلست إلى البيان تعزف عليه بأناملها المرهفة. . . فتصاعدت أنغام حزينة رائعة تفيض سحراً وحناناً وتتمثل في إيقاعها روعة الفرقة وألم البين.
بيد أنه عندما تركها لم يكن قد خرج ولكنه دلف إلى حجرة مكتبه في انسياب الثعبان؛ وعندئذ أحكم رتاجها في حذر وران الصمت الرهيب على أرجاء البيت فبدا في سكون مدينة الأموات كان النهار قد رقد بين أحضان الليل. . . والقمر قد صب شعاعه الهادئ الحنون على الكون. . .
والخمائل قد استسلمت إلى مداعبة الأنسام الرطبة. . .
كما كان حمدي مستسلماً إلى أفكاره الحائرة. . .
إنه الآن يستطيع أن يفعل شيئاً. . .
إنه يستطيع أن يقف على جلية الأمر. . .
ونزع يده من جيبه وهي مطبقة على الرسالة. . . وانسكب عليها ضوء القمر الحالم خلال النافذة فقربها من عينيه وقرأها للمرة العاشرة. . .
وخيل إليه أن أتونا مستعراً يصهر أعصابه حين نظر إلى ساعته وأدرك أنه لم يبق سوى ستين دقيقة يحسم بعدها موقفه من زوجه الخائنة كما تطالعه الرسالة بالموعد الذي سيلقاها فيه شريكها في الإثم. . .
وخلال ذلك الصراع العنيف الجبار الذي اكتنفه وتنازعه طويلاً وقع بصره دون قصد على إطار جميل يضم بين زواياه صورة زوجه. . .
فاقض عليها ليحطمها، لكنه خاف أن يحدث ضجة تفسد عليه خطته، وتكون حائلاً بينه وبين الحقيقة السافرة التي سوف تنبلج بعد قليل فتراجع. وأذهله الزمن عن حاضره لحظات اندفع فيها إلى أركان الماضي البعيد القريب. . . ومن ثم تراءت له أحداث ووقائع راحت تتدفق على ذهنه المكدود حتى انتهت به إلى سعير تلك الخيانة المخيفة. . .
كان طالباً بالسنة النهائية بكلية الطب حين برزت في حياته (ميرفت) و (ميرفت) مثال خلاب من الفتنة الطاغية يتمثل في وجهها سحر الشرق العنيف، وجمال الغرب الفتان، ذات عينين عميقتين زرقاوين، وشعر كأسلاك الذهب، ينسدل في تماوج على عنق من العاج، تزهيه بشرة كأنها المرمر. . .
وكان صاحبنا قد قرأ فيما قرأ مقطوعة شعرية رائعة للشاعر الفريد دي موسيه يصف فيها محبوبته. . . فكمنت في أعماقه تلك الصورة الشعرية، وتأثر بها أيما تأثر، فبات يحلم بفتاة أي فتاة، يرى فيها خياله وحلمه. . .
ولم يتردد في حب ميرفت حين وجدها على الصورة البارعة التي خلقها في ذهنه الشاعر الفرنسي، وكأنها هي الأخرى شعرت بما يحمله لها بين حنايا ضلوعه، فكانت إذا قابلته عند ذهابه وإيابه من الكلية - تتضرج وجنتاها وتغض من بصرها. . .
أما حيلته هو في هذا لحب فكان يستلقي على فراشه ليستعيد الدقائق التي مرت بهما في مقابلة عابرة. . . ويجنح إلى الخيال العريض، ويودع طيات حبه أمنيات كثيرة، ويشيد عليه كثيراً من أهداف مستقبله، وتعددت، المقابلات. . .
وارتفعت درجة حرارة هذا الطارئ الجديد. . .
من نظرة مختلسة بادئ الأمر، إلى كلمات تنقصها بعض الجرأة، إلى رسائل الغرام الملتهبة، حتى التقيا في خلوة هادئة بعيدة عن أنظار الفضوليين. . .
في الحدائق، وعلى شاطئ النيل، تبادلا أعذب ألفاظ الحب والهيام. . .
ووسط تلك العاصفة الفياضة. . . ارتبطا معاً بوعد الزواج. . .
وحصل حمدي على إجازته الجامعية. . . ولتقدمه البين كان من الطلبة الذين حازوا شرف إيفادهم إلى الخارج. . .
لم يسر لتلك المنحة الجامعية التي تعده بمستقبل زاهر، بل ظن أن الدهر يريد أن يحرمه سعادته ـ وإذا كان القدر ينقل خطانا كيفما يعن له. . . وما نحن إلا دمى ضئيلة تترنح تحت معوله - فلا ضير عليه أن يدخل بأنفه ليبدد الحلم الذي تحقق أو كاد. بيد أن الذي هدأ من روعه أن معبودته الفاتنة انتزعت من رأسه فكرة الإحجام عن السفر إلى الخارج. . . وفتحت أمامه باب الأمل على مصراعيه. إن حمدي يذكر جيداً تلك الليلة، ليلة السفر، وإن شيئاً هاماً ليظل عالقاً بذهنه حتى الموت. . . إنه اللحن الخالد، لحن الوداع، الذي وضعناه معاً وهما سابحان في رحلة حالمة بين أطباق نفسيهما العليا وأغوارهما المتباعدة. . .
وإنه ليذكر أيضاً تلك الرسالات المعطرة التي كانت تبعث بها إليهفي بلاد الغرب، تطمئنه أن قلبها لن يسع إنساناً غيره، وأنها قد أغمضت عينيها عن جميع شباب هذا الجيل. . .
عاد حمدي إلى أرض الوطن. بلد الحبيب مزهواً بما ناله من علم. ومال ينتظره من سعادة. . .
وصارح والده برغبته في الزواج من ميرفت فوافق على الفور.
وشهدت القاهرة ليلة من ليالي العمر، تزوجا فيها، وبلغا أقصى أمانيهما. . .
وانقضت سنة أنجبا فيها طفلاً. . .
وجاء اليوم المشؤوم الذي جاءته فيه الرسالة. . .
إن موزع البريد لم يخطئ حين أعطاه إياها برغم أنها مكتوبة بعنوان زوجه. كل الذي يدركه أن القدر أراد أن يمنحه الفرصة السانحة لينتقم لشرفه المثلوم الذي كان يقدسه ويقدره. . .
ترى. . . إلى أي مدى وصلت علاقتها (بصلاح) هذا الذي ذيل الرسالة باسمه القذر، والذي سوف يمحى من قائمة الأحياء بعد قليل؟
وما كنه هذه العلاقة؟ وكم من الآدميين أدركوا أنه زوج غافل مخدوع؟ وأيقظه من غفوة أفكاره قرع خفيف على الباب الخارجي. . . فيه خوف واضطراب. . .
فانفجر بين خواطره بركان هائج ثائر يقذف بالحمم. وأدرك لتوه أن الساعة قد اقتربت، وأن الموعد المضروب قد أتى به ركب الزمن. . .
وزاد من يقينه وقع خطوات مرتجفة اندست إلى مخدع الزوجية المدنس. . .
وابتدأ حبل الشيطان يلتف حول جسده. . .
واستولت عليه قوة مفاجئة جعلته يخطو إلى الردهة في تباطؤ وحذر. . .
لكن بريقاً حاداً التمع أمام ناظره، فحول بصره ليستقر على مسدس رابض فوق مكتبته. . . فجذبه في نشوة، واندفع كالسهم، ووقف عند باب الحجرة يسترق السمع. . .
وانبعثت من جوف الحجرة قبلة صاخبة صفعته في قوة، فركل الباب بحذائه. . . وقبل أن يلجه انطلقت أربه رصاصات من فوهة مسدسه أصابت المرمى. . .
فهدأت ثورته، وداخلته راحة نفسية، ولذة غريبة. . .
وتلفت حوله بعد أن رأى زوجه تنتفض في لجة من الدماء، فشاهد مخلوقاً صغيراً يبتسم في بلاهة تبين فيه طفله الصغير. . .
شيء واحد إطار صوابه وجعله يهذي كالمحموم، هو. . . أنه بعد وقوع الحادث بقليل سمع وقع أقدام تهبط على الدرج من الطابق العلوي للمنزل يقطعه صوت رقيق. . .
- آه. . . تذكرت يا صلاح! لعل السيدة التي تقطن الشقة التي تحت شقتنا قد تسلمت الرسالة. . . كما حدث في الرسالة السابقة لتشابه اسمينا!!
عبد القادر حميدة
19 - 02 - 1951
===================
• شاعر وصحفي و كاتب مصري متعدد المواهب فهو ناقد و قاص و مترجم و خطاطا و رساما وفي هذه المجالات كلها كان حاضر الإبداع .
• ولد عبدالقادر حميدة في قرية شرنوب القريبة من مدينة دمنهور عاصمة محافظة البحيرة فى عائلة اهتمت بالعلم والتعليم والثقافة كما تأثر بحياة الريف تلقى تعليمه بمدارس دمنهور حتى الثانوية .
• عمل بالصحافة منذ عام 1957، وعمل سكرتير تحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون، ورئيس تحرير مجلة الدوحة، والمستشار الثقافي لمجلة الحرس الوطني، وترأس تحرير سلسلة الدراسات التي تصدر عن المركز القومي للمسرح والموسيقي والفنون الشعبية بوزارة الثقافة.
• تفجرت طاقاته الأدبية مبكرا فأصدر مجموعته القصصية الأولى بعنوان (على مسرح الحياة) وهو طالب بمدرسة التعاون الثانوية بدمنهور و اهتم بمقالاته الأستاذ أحمد حسن الزيات في مجلة الرسالة . مقالاته وشهد له الأستاذ مصطفى أمين صاحب مدرسة أخبار اليوم الصحفية بأن أسلوب عبد القادر حميدة من أجمل الأساليب في الصحافة العربية كما احتفى بموهبته الأستاذ عباس العقاد حين قرأ مجموعته القصصية "رغم كل شيء" وكتب عنها مشيداً بكاتبها