هذه ليست نوستالجيا يا صاحبي!
مبدئياً رمضان هو شهر الامتناع والقناعة، ونظرياً هو شهر التضامن والعبادة، وجوهرياً هو شهر العمل والتفاني، وهذا ما سمعناه وما تعلمناه من الأجداد والآباء منذ الطفولة، وهو أيضاً شهر الزيارات العائلية والأفراح بالنسبة إلى الصغار كما الكبار، الرجال والنساء على حدّ سواء، وهذا ما عشناه بكثير من الشغف ونحن أطفال.
كان رمضان حفلاً يدوم شهراً كاملاً، ولم نكن نأكل بنهم وجشع، فقط ما يسدّ جوع الصيام، وجوع الصيام ليس كجوع الأيام الأخرى، فلم نكن نقضي يومنا في الحديث والنقاش عن أنواع المشتريات، ولم نكن نخشى ارتفاع أسعار اللحم والخضراوات والفواكه ابتداء من ليلة الشك، وبالمناسبة كانت ليلة الشك بالنسبة إلينا ليلة خاصة تشبه ليلة القدر، إذ تتعلق عيوننا بالسماء طويلاً حتى تسيل الدموع وحتى تقرر لجنة الأهلّة قرارها من خلال خبر نسمعه على أمواج الراديو.
سابقاً كان شهر رمضان ينزل بقريتنا في هدوء وتمر أيامه في طمأنينة النفوس، ويرحل في حفل حلويات وألبسة جديدة بسيطة وأفراح وهناء، واليوم كل شيء تغير، وصحيح لا مفرّ من التغيير فتلك مسألة تاريخية، ولكن للأسف هو تغيير نحو السيئ ونحو الاستهلاك اللاهث والمتلهف.
إننا نسير بسرعة جنونية نحو تشيؤ الإنسان، إذ تحول العالم إلى آلة تدور فتطحن كل من في طريقها من دون رحمة ومن دون حساب أو اعتبار، ولقد تغيرت صورة رمضان من صورة ملائكية إلى صورة غشاها عماء الاستهلاك من دون ضفاف.
ألم يكن رمضان في أصله وفي فلسفته شهراً لمقاومة الرأسمالية المتوحشة؟
أليس هو شهر الامتناع والأكل الحضاري، وشهر التوفير وعدم التبذير؟
لكن رمضان اليوم خرج عن كل منطق، إننا لا نأكل طوال النهار من الإمساك إلى الإفطار، ولكننا نصرف أكثر مما كنا نصرفه أيام الأكل على أمور الأكل.
في رمضان تنتعش الرأسمالية المتوحشة فينا ومن حولنا وكل شيء يباع ويشترى، بما فيها الحسنات والصلوات، وفي رمضان أصبحنا نلتهم كل شيء وأصبحنا نلتهم بعضنا بعضاً بلذة، ونستورد آلاف الأطنان من اللحوم الحمراء والبيضاء من بلدان شعوبها لا تصوم ولكنها تعمل، ونستورد أطنان اللوز والسميد والسكر والقمح والرز والبيض وآلاف الهيكتولترات من العصائر والمشروبات الغازية، من شركات متعددة الجنسيات تملأ حساباتها البنكية أرباحاً، ووسطاء مستوردون يملأون جيوبهم سرقات، وفرق بين مفهومي الحساب البنكي والجيب.
هذه ليست نوستالجيا، فسابقاً كان رمضان شهراً للقراءة، نعم كنا نقرأ كثيراً، من صحيح البخاري وصولاً إلى جبران خليل جبران مروراً بـ "ألف ليلة وليلة".
هذه ليست نوستالجيا، ففي شهر رمضان كنا نقرأ دوستويفسكي وتولستوي ونجيب محفوظ وقصص الأنبياء وقصص الغرام وبلزاك وقصص الرحلات وزولا والقرآن والروايات البوليسية والأشرطة المرسومة، وكنا نأكل الكتب ونصوم عن الأشياء الأخرى.
كان رمضان شهراً للترجمة أيضاً، فقد أسس المترجمون العرب تقليداً مرتبطاً بشهر رمضان، فمع حلوله يتسابق المترجمون نحو ترجمة الآداب الكلاسيكية العالمية وتقديمها للقارئ العربي في شكل حلقات مسلسلة في الجرائد وعلى شكل مسرحيات إذاعية، وكان القارئ العربي يحبّ ذلك ويقرأه بنهم، وبهذا المعنى أسهم رمضان في تجديد السرد في الأدب العربي والتجديد في ذائقة القارئ أيضاً.
ورمضان أيضاً كان شهر الحكواتي، شهر الحلقات حين يحل الحكواتيون في المدن والقرى ويتخذون لهم مكاناً في الساحات العمومية بعد صلاة العصر بقليل، حيث يتجمع خلق كبير حول الحكواتي يضحكون ويستمتعون بحكاياته، وهي فرجة رمضان البسيطة والطبيعية والجميلة.
أما ساعة الإفطار فهي متعة تذوق حبة تمر و"غرفية" حريرة بالتوابل مع قطعة خبز شعير بلدي، فخبز الأمهات له رائحة استثنائية وله طعم لا يضاهيه طعم آخر، وكنا لا نأكل خبز المخابز الصناعية المصنوعة من "الفرينة" البيضاء، وكان أهل القرية يؤدون صلواتهم من دون لون سياسي، فالصلاة لا لون لها، وهي كالماء منه تطلع الحياة، وكانت الصلاة لله وحده لا للحزب السياسي، ولم تكن من أجل الزعيم السياسي أو لغرض الانتهازية السياسية، وكنا نحن الصغار نحب صلاة الكبار ونحب سماع قراءاتهم آيات بينات من القرآن الكريم بقراءة مغربية أندلسية.
كان للصلاة طعم آخر، فسابقاً كان الجميع أو الغالبية في القرية يقومون بالصلاة من دون استعراض أو بهرجة بل في تكتم وتهجد، وكنا لا نرى المصلين يستعرضون صلاتهم ولا نرى مصلين يحملون زرابي الصلاة فوق أكتافهم ويمشون نحو المساجد في تبختر.
لقد تبدل اللباس الجزائري فغزانا اللباس الأفغاني والتركي للنساء والرجال والأطفال، وقد كان لنا هندام جميل مميز في الأبيض والأسود والألوان المزركشة، كنا نحن ولم نكن الآخر.
ساعة الإفطار يتحلق الجميع حول مائدة بسيطة، الرجال والنساء والبنات والأولاد، لا فرق، أما نحن الأطفال فكنا نُطعم قبل ساعة الإفطار كي يرتاح منا الكبار الصائمون، وكانت الغيرة تسكننا ونحن نتابع جو المفطرين من بعيد، وكنا نتمنى لو أننا كنا من الصائمين، فالمائدة مشهية ببساطتها، ويحدث أن نصرّ على الصيام فيرفض الآباء طلبنا هذا لأننا لسنا في سن يسمح لنا بذلك، وتحت إلحاحنا كانوا يقولون لنا "صوموا نصف نهار من الصباح حتى منتصف النهار ثم أفطروا"، وفي اليوم التالي صوموا من منتصف النهار حتى ساعة الإفطار، وبعد ذلك سنرتق القطعتين كي نصنع لكم يوماً كاملاً للصيام، وكنا نؤمن بذلك ونفرح به كثيراً.
كنا لا نعد أيام الصوم، فهي أيام تمر بسرعة وسلاسة ومن دون حوادث مرور، ومن دون ليال القلق في مصلحة الاستعجال، ومن دون أمراض المعدة والسكر وضغط الدم، ولم يكن الكبار يتوقفون عن العمل، فالفلاح لا يغادر حقله وغلاله، ولا شيء يتغير ولو قليلاً.
كان لجهاز الراديو سحره الكبير، وكنا نستمتع به من دون أن نكون تحت رحمته، وكانت الحياة بوهجها أكبر بكثير من سحر المذياع، فلم تكن هناك حمى الدعايات المزعجة وقبيحة الذوق، دعايات لحفاضات الأطفال والعصائر الصناعية والشاورما والأجبان والهاتف النقال والمسلسلات الهابطة وحلقات الكاميرا المخفية الغبية والعنيفة.
لم تكن هناك بطاطا مقلية ولا محمصة ولا "كاتشب" ولا "مايونيز"، فقد كان صحن الفلفل الحار بزيت الزيتون متعة الجميع، ولم تكن على الطاولة مشروبات غازية أميركية، بل كان هناك ماء بارد يسقى من العين الطبيعية، ومرات كنا نشرب اللبن أيضاً.
أما القهوة فهي سلطانة المائدة بامتياز، فقهوة رمضان ترتشف في فناجين خاصة، ومع أول يوم الصيام تخرج أمي أجمل طقم للقهوة من خزانتها اللوحية المغلقة بمفتاح وبدورتين، ومرة في الأسبوع وفي جو خاص جداً تقوم أمي بتحميص حبوب القهوة في طاجين تقليدي من فخار على نار هادئة تحت الرقابة الشديدة، ثم جالسة على جلد ماعز وبين يديها المهراس، وفي حركات متناسقة تبدأ في طحن القهوة، فأجلس إلى جوارها وأراقب حركاتها ليملأ عطر القهوة أنفي ويغمر البيت كله ويصل حتى بيوت الجيران.
ليلاً يتجمع الشباب عند عتبة باب منزلنا يستمعون إلى الموسيقى ويشربون الشاي، وكأساً فوق كأس يعزف جارنا الموهوب مقطوعات ارتجالية على العود ويؤدي أغاني الشيخ العنقا ومحمد عبد الوهاب وأحمد وهبي والشيخ الحسناوي.
سابقاً يا صاحبي لم تكن كلمة "أكل" تعني "بلع"، ولم تكن كلمة "اشترى" تعني "استهلك"، فلقد كان للكلمات معانٍ أخرى، ولكن لغة البارحة لا تشبه لغة اليوم وكل شيء تغير يا صاحبي.
كان لشهر رمضان في الجزائر نكهته الخاصة به، فقد كانت له جاذبيته وسحره العجيب، واليوم كل تلك الأشياء الجميلة تهاوت، وهذه ليست نوستالجيا يا صاحبي.
مبدئياً رمضان هو شهر الامتناع والقناعة، ونظرياً هو شهر التضامن والعبادة، وجوهرياً هو شهر العمل والتفاني، وهذا ما سمعناه وما تعلمناه من الأجداد والآباء منذ الطفولة، وهو أيضاً شهر الزيارات العائلية والأفراح بالنسبة إلى الصغار كما الكبار، الرجال والنساء على حدّ سواء، وهذا ما عشناه بكثير من الشغف ونحن أطفال.
كان رمضان حفلاً يدوم شهراً كاملاً، ولم نكن نأكل بنهم وجشع، فقط ما يسدّ جوع الصيام، وجوع الصيام ليس كجوع الأيام الأخرى، فلم نكن نقضي يومنا في الحديث والنقاش عن أنواع المشتريات، ولم نكن نخشى ارتفاع أسعار اللحم والخضراوات والفواكه ابتداء من ليلة الشك، وبالمناسبة كانت ليلة الشك بالنسبة إلينا ليلة خاصة تشبه ليلة القدر، إذ تتعلق عيوننا بالسماء طويلاً حتى تسيل الدموع وحتى تقرر لجنة الأهلّة قرارها من خلال خبر نسمعه على أمواج الراديو.
سابقاً كان شهر رمضان ينزل بقريتنا في هدوء وتمر أيامه في طمأنينة النفوس، ويرحل في حفل حلويات وألبسة جديدة بسيطة وأفراح وهناء، واليوم كل شيء تغير، وصحيح لا مفرّ من التغيير فتلك مسألة تاريخية، ولكن للأسف هو تغيير نحو السيئ ونحو الاستهلاك اللاهث والمتلهف.
إننا نسير بسرعة جنونية نحو تشيؤ الإنسان، إذ تحول العالم إلى آلة تدور فتطحن كل من في طريقها من دون رحمة ومن دون حساب أو اعتبار، ولقد تغيرت صورة رمضان من صورة ملائكية إلى صورة غشاها عماء الاستهلاك من دون ضفاف.
ألم يكن رمضان في أصله وفي فلسفته شهراً لمقاومة الرأسمالية المتوحشة؟
أليس هو شهر الامتناع والأكل الحضاري، وشهر التوفير وعدم التبذير؟
لكن رمضان اليوم خرج عن كل منطق، إننا لا نأكل طوال النهار من الإمساك إلى الإفطار، ولكننا نصرف أكثر مما كنا نصرفه أيام الأكل على أمور الأكل.
في رمضان تنتعش الرأسمالية المتوحشة فينا ومن حولنا وكل شيء يباع ويشترى، بما فيها الحسنات والصلوات، وفي رمضان أصبحنا نلتهم كل شيء وأصبحنا نلتهم بعضنا بعضاً بلذة، ونستورد آلاف الأطنان من اللحوم الحمراء والبيضاء من بلدان شعوبها لا تصوم ولكنها تعمل، ونستورد أطنان اللوز والسميد والسكر والقمح والرز والبيض وآلاف الهيكتولترات من العصائر والمشروبات الغازية، من شركات متعددة الجنسيات تملأ حساباتها البنكية أرباحاً، ووسطاء مستوردون يملأون جيوبهم سرقات، وفرق بين مفهومي الحساب البنكي والجيب.
هذه ليست نوستالجيا، فسابقاً كان رمضان شهراً للقراءة، نعم كنا نقرأ كثيراً، من صحيح البخاري وصولاً إلى جبران خليل جبران مروراً بـ "ألف ليلة وليلة".
هذه ليست نوستالجيا، ففي شهر رمضان كنا نقرأ دوستويفسكي وتولستوي ونجيب محفوظ وقصص الأنبياء وقصص الغرام وبلزاك وقصص الرحلات وزولا والقرآن والروايات البوليسية والأشرطة المرسومة، وكنا نأكل الكتب ونصوم عن الأشياء الأخرى.
كان رمضان شهراً للترجمة أيضاً، فقد أسس المترجمون العرب تقليداً مرتبطاً بشهر رمضان، فمع حلوله يتسابق المترجمون نحو ترجمة الآداب الكلاسيكية العالمية وتقديمها للقارئ العربي في شكل حلقات مسلسلة في الجرائد وعلى شكل مسرحيات إذاعية، وكان القارئ العربي يحبّ ذلك ويقرأه بنهم، وبهذا المعنى أسهم رمضان في تجديد السرد في الأدب العربي والتجديد في ذائقة القارئ أيضاً.
ورمضان أيضاً كان شهر الحكواتي، شهر الحلقات حين يحل الحكواتيون في المدن والقرى ويتخذون لهم مكاناً في الساحات العمومية بعد صلاة العصر بقليل، حيث يتجمع خلق كبير حول الحكواتي يضحكون ويستمتعون بحكاياته، وهي فرجة رمضان البسيطة والطبيعية والجميلة.
أما ساعة الإفطار فهي متعة تذوق حبة تمر و"غرفية" حريرة بالتوابل مع قطعة خبز شعير بلدي، فخبز الأمهات له رائحة استثنائية وله طعم لا يضاهيه طعم آخر، وكنا لا نأكل خبز المخابز الصناعية المصنوعة من "الفرينة" البيضاء، وكان أهل القرية يؤدون صلواتهم من دون لون سياسي، فالصلاة لا لون لها، وهي كالماء منه تطلع الحياة، وكانت الصلاة لله وحده لا للحزب السياسي، ولم تكن من أجل الزعيم السياسي أو لغرض الانتهازية السياسية، وكنا نحن الصغار نحب صلاة الكبار ونحب سماع قراءاتهم آيات بينات من القرآن الكريم بقراءة مغربية أندلسية.
كان للصلاة طعم آخر، فسابقاً كان الجميع أو الغالبية في القرية يقومون بالصلاة من دون استعراض أو بهرجة بل في تكتم وتهجد، وكنا لا نرى المصلين يستعرضون صلاتهم ولا نرى مصلين يحملون زرابي الصلاة فوق أكتافهم ويمشون نحو المساجد في تبختر.
لقد تبدل اللباس الجزائري فغزانا اللباس الأفغاني والتركي للنساء والرجال والأطفال، وقد كان لنا هندام جميل مميز في الأبيض والأسود والألوان المزركشة، كنا نحن ولم نكن الآخر.
ساعة الإفطار يتحلق الجميع حول مائدة بسيطة، الرجال والنساء والبنات والأولاد، لا فرق، أما نحن الأطفال فكنا نُطعم قبل ساعة الإفطار كي يرتاح منا الكبار الصائمون، وكانت الغيرة تسكننا ونحن نتابع جو المفطرين من بعيد، وكنا نتمنى لو أننا كنا من الصائمين، فالمائدة مشهية ببساطتها، ويحدث أن نصرّ على الصيام فيرفض الآباء طلبنا هذا لأننا لسنا في سن يسمح لنا بذلك، وتحت إلحاحنا كانوا يقولون لنا "صوموا نصف نهار من الصباح حتى منتصف النهار ثم أفطروا"، وفي اليوم التالي صوموا من منتصف النهار حتى ساعة الإفطار، وبعد ذلك سنرتق القطعتين كي نصنع لكم يوماً كاملاً للصيام، وكنا نؤمن بذلك ونفرح به كثيراً.
كنا لا نعد أيام الصوم، فهي أيام تمر بسرعة وسلاسة ومن دون حوادث مرور، ومن دون ليال القلق في مصلحة الاستعجال، ومن دون أمراض المعدة والسكر وضغط الدم، ولم يكن الكبار يتوقفون عن العمل، فالفلاح لا يغادر حقله وغلاله، ولا شيء يتغير ولو قليلاً.
كان لجهاز الراديو سحره الكبير، وكنا نستمتع به من دون أن نكون تحت رحمته، وكانت الحياة بوهجها أكبر بكثير من سحر المذياع، فلم تكن هناك حمى الدعايات المزعجة وقبيحة الذوق، دعايات لحفاضات الأطفال والعصائر الصناعية والشاورما والأجبان والهاتف النقال والمسلسلات الهابطة وحلقات الكاميرا المخفية الغبية والعنيفة.
لم تكن هناك بطاطا مقلية ولا محمصة ولا "كاتشب" ولا "مايونيز"، فقد كان صحن الفلفل الحار بزيت الزيتون متعة الجميع، ولم تكن على الطاولة مشروبات غازية أميركية، بل كان هناك ماء بارد يسقى من العين الطبيعية، ومرات كنا نشرب اللبن أيضاً.
أما القهوة فهي سلطانة المائدة بامتياز، فقهوة رمضان ترتشف في فناجين خاصة، ومع أول يوم الصيام تخرج أمي أجمل طقم للقهوة من خزانتها اللوحية المغلقة بمفتاح وبدورتين، ومرة في الأسبوع وفي جو خاص جداً تقوم أمي بتحميص حبوب القهوة في طاجين تقليدي من فخار على نار هادئة تحت الرقابة الشديدة، ثم جالسة على جلد ماعز وبين يديها المهراس، وفي حركات متناسقة تبدأ في طحن القهوة، فأجلس إلى جوارها وأراقب حركاتها ليملأ عطر القهوة أنفي ويغمر البيت كله ويصل حتى بيوت الجيران.
ليلاً يتجمع الشباب عند عتبة باب منزلنا يستمعون إلى الموسيقى ويشربون الشاي، وكأساً فوق كأس يعزف جارنا الموهوب مقطوعات ارتجالية على العود ويؤدي أغاني الشيخ العنقا ومحمد عبد الوهاب وأحمد وهبي والشيخ الحسناوي.
سابقاً يا صاحبي لم تكن كلمة "أكل" تعني "بلع"، ولم تكن كلمة "اشترى" تعني "استهلك"، فلقد كان للكلمات معانٍ أخرى، ولكن لغة البارحة لا تشبه لغة اليوم وكل شيء تغير يا صاحبي.
كان لشهر رمضان في الجزائر نكهته الخاصة به، فقد كانت له جاذبيته وسحره العجيب، واليوم كل تلك الأشياء الجميلة تهاوت، وهذه ليست نوستالجيا يا صاحبي.