إبراهيم اسحق - النُّزُول في كَريو..! قصة قصيرة

(مهداة للأبنة العزيزة إحسان أحمد خلف الله مليح مع التحية)



كرومة ود شاخوت رجل برقاوي فوق المربوع ، أخشن نزل علينا في الخروبات قبل ثلاث سنين أو أربع .. داخلته فحذّروني .. يا حمدان أوعك مِنّو .. برقاوي وحيداني رطّاني مثل عادات الأسانقور تماماً .. كأن هذه الدنيا سجن له .. يحمل عليها وعلى ناسها وطيرها وحتى جبالها مآخذ عجيبة .. فلا يلبث الأسانقوري ، يقولون ، حتى ينزع عليكم سكينه السخيف الجركول وتصبحون على المجابدة يازول يا نادم عزباي دا والله نتكّمك والله نقدّدك ..
لكنني رغم كل شئ ما وَجَدتُ في معرفة كرومة حرجاً .. فرزت بالي عنهم وعايشته ولو لم يرغب من لا يريد أن يرغب .. يعاين لي شيخ الحلة والمؤذن وحسان وعبد التواب ويعجبون ..لكنني أتعب معه .. نحارب ضد الصّد والمقاطعة ، وندأب على التقريب بين كرومة ونايل وعبد الكريم .. ثلاث سنوات كاملة ، زرعنا الخرائف وحصدنا الدَّرَت ، وفرحنا وحزنا وقاسينا ومرحنا .. أنا وكرومة يعتبروننا صديقين .. فلما قمت بنفسي إلى السفر جهّز كرومة جَمَلَه وترافقنا مع آدم ولد مسبل وعبد الكريم .. حمّلنا الزوامل ضحى وغادرنا الخروبات إلى كريو ..
مررنا على درب الهبيل وقوز الدلم وفي النهار عارضنا بوبايات المراريت ثم اتجهنا إلى عبور وادي الكوع .. الجمال تلفح على الشجيرات بأطراف الدّرب تختطف أكلات عابرة .. آدم ود مسبل قدامنا لأن جملهم طويل الباع متين البنيان لا يكاد يتأثر بأي شيل لا يتعدى الستة قناطير .. حين نُكلمُه ننادي بأعلى أصواتنا فيجذب الرسن ويتباطأ فيُمْهِل لجمله يَمْعَط من هشاب الدرب اليانع عدّة جزّات ..
عبد الكريم لا يحسن التعامل مع كرومة ونادراً ما يتبادلان الكلام .. أقول لنفسي، المرء يواجه في الدنيا العريضة ما يعجبه وما لا يعجبه ، فلأرضى بأن يقع أكثر الحديث على كتفي .. ذلك السرور الذي لا يَخفى عني في عيني كرومة لأن الحصاد كان وفيراً وسعر السمسم على ارتفاع في كريو .. وأعرفه المحتال فيم يتركز كل تفكيره طوال الوقت . نمشي يا حمدان لي أبّشي .. استعجب لنفسي ، سبحان مُصرِّف الأحوال . نجتمع غرباء ونعيش أيامنا وسنيننا، بعضنا يطالبنا بالافتراق ، لا بدَّ أن نفترق لأن مآلنا هو أن نفترق ، وقلوب بعضنا تألف ، ولا نتوقف عن التعرُّف على الآخرين من دون الأولين أينما نحلّ .. ويضايقني ذلك الإصرار عند كرومة كأن أبّشي فقط هو المكان الذي يستطيع فيه الإنسان أن يرتاح .. وأفكِّر ، يا من يقول للمرء ترتاح هل كرومة أو حمدان أبداً يستريح أو مخلوق يحاول اليوم يجد تلك الراحة التي يرغب ، مسكين كرومة . صحيح الأهل سندنا والعيش معهم يهنأ ، وأن الغربة ما أقساها ..
أرجاك والجبيلات عِيَـالْها غَابَتْ في الأفق على ظهورنا والليل يهبط .. سيترك الرجل الخشن الوحداني عكر المزاج من نقرات مزعجات في جوفي وقت أن يجمع اولئك الصغار وأمهم والولد المبروك زايد يشدّ لهم على الجمل والحمار ويخرج من الخروبات نهاراً ما فنقول له وداعاً ونتأسف لهم لأنه لم يرضى أن يبقى معنا إلا ثلاث سنوات طارت بعنفها وكأننا ما كدنا أن نعتاد عليهم ..

الصباح الباكر عادة ، وناس الحلة على شواهيهم حول أولادهم ، القاني أقف عند بابي أراه بالفأس الكبيرة على كتفه يفك الحمار يتشلّخ عليه ويرمي بعود الفأس على ردفه ، يتلوّى الحمار ينط بالجري يسرعان ، ومن بعد البيوت تخفيه الشجر فأعرف بأن الزرع أهم لكرومة من أهل الحلة ، وأن الأولاد وأمهم سرعان ما يقفلون البيت ويتبعون على دربه قبل أن يجدهم يتأخرون عليه وتحمِّر فيهم عيناه .. والمساء يؤبون يتركونه على الخلاء لا يدري أحد منهم ماذا يحبسه عند المزارع في الليل النّازل .. لكنني أعرف ماذا يفعل .. دروبه أراها ، يدور حول الزرع ويجلس على أركانها الأربعة ، عادة عرفتها في شيّاب الباجور ، يحوِّطون الزرع بالآيات والتعاويذ من الثعالب النابشة والبراعيص التي تتلف البذور . أقول لنفسي : يا حمدان هذا حرص فريد لكنه لا يمنع البراعيص أرزاقها ..
آدم ود مسبل وجمله شالا الليل أمامنا وأنا وعبد الكريم نتقارب ، تلفح الجمال على الشجيرات هدب الدّرب حتى بدا وقع العصا على جمل كرومة يظهر لي ، ويأتي أنين الجمل المباغت بالوجع ، فتنبهت إلى كونها ورائي .. أحياناً المرأة الطيبة تقول لي في دارنا أن لو يرضى كرومة يا حمدان لسكنّا معكم وكفانا من الترحال .. جده المدعو جبارة ود شاخوت سكن في مكوار ، وولد أولاده في تلك الديار ، فلما ربّاهم أبوهم ، تقول لي أم زايد ، نشأ كرومة على مثل عماته خشناَ حتى مع أفراد عائلته .. والرزق جبار يا حمدان أراعي خاطرها : صحي والله يا أم زايد ، رزقكم واحد شني تقدري ؟ بنت عمه وشالته ، وما تفعل بنت العم غير أن تكون ستاراً للبيت لخير الأهل ؟ تحمّلت ، تحكي لنا ، ولدت له الفتى البكر والبنتين .. قبل خمسة أعوام قام في بال كرومة أنه لن يخرج حتى يعود بأولاده من دار الغربة إلى أبّشي .. ولملم العدة وأركبهم الحديد ..
وقع العصا على البهيمة باغتني ، ينفر في سمعي ، وأنّة الجمل طعنتني ، قلت في نفسي ما بال كرومة والجمل ؟ ثالثة رنّت طرقعة العصا ، يتبعها الأنين .. جَرَرْتُ الرسن على جملي وتأخرت حتى جاء حذائي .. وعبد الكريم وآدم صارا أمامي بين لولحات الأشجار على الدابتين ظلّين أسودين هائلين ..
ـ كرومة يا خوي الرأفة .
ـ ما تتمي حمدان .. أني كلُّو نعرفي .. ود الشيطان ولا بمشي عجلة عجلة دي .. عيال بيت مليان دي .. ياكلو من كراع أبويا ؟
ـ دا قدُر مروّتو يا كرومة .. وكن ما أكل ما شال ليك ..
ـ لا لا .. كن كراعو طويل متل حقات ود مسبل دي .. وكن كراعو خفيف متل حقكم دي .. كان باكل كلو كان نقول معليش ، حمدان وكت أني ننوم داك خلي ياكل ..
ـ كرومة إنت تعقلو والا تقيدو ؟
ـ كن عقلناهم كمان ما حدو ؟
ـ ويجيب الجِرّة من وين وبطنو فاضي ؟
جملي يتبعه وتندرج من خلف المتقدمين فينطلي عليه ما رأيته له ويظن بي كوني أتفالح عليه أدفعه أمامي والجمل يتحاسس بالجمل فيرمي إلى القدّام .. يروق حاله وينسى العصا فيتسنى للجملين أن يلفحا من أشجار السبيل القليل الذي سيساعدهما في الاجترار به على آخر الليل عند المعاقل .. كأنني أتأسف عميقاً على تباعد الأربعة حتى لا ينفعنا رفع الصوت .. علمونا أن كثرة أصوات المسافرين يدرأ عنهم الشرور .. والأنس يجعل للسفر الطعم الظريف ويشغل البال عن طول السرى وينسيك أوجاع مقعدك على سروجك فلا تشعر الجماعة حتى تتلفت مع مغيب أنجم النعام والخيل من مدارج السماء إذا بهم قطعوا أرضاً ونجعوا .. الجماعة .. جبيلات كافا كلها غطّتها الظلمة على ظهورنا والحلالات بحواري وادي الكوع تربض وراءنا في المغاور .. أعجب للمقادير ، هاهما عبد الكريم وكرومة يسافران وإيّانا . ويمنع أنسهما حتى القياس في حوافير المطايا ..

دخل عندي كرومة يومها منفوخ الأوداج ، مُحمرّ العينين كأنه ما ترك في الطريق شيطاناً إلا واصطحبه ..
ـ حمدان ؟ قول ليهم ياخي كرومة دي يخلوا براهو .. عبد الكريم دي زول ما عندو أمان ولا ذمّة !
ـ بسم الله الرحمن الرحيم .. يا كرومة يا خوي ؟ مالو عبد الكريم ؟
وليد حقي دي .. جيت ندخل نلقا بقول كلام حقّو قال جوِّزوني لبنية عبد الكريم يا أمي .. جيتا قامو سكتو .. تلاتة سنين ما نقضِّيهم في الخروبات يا حمدان .. يقولو ناس ديل وليد حقي يجوِّزو لبنات حقّاتهم ؟!
ضحكت منه فغضب .. قلتُ له إن سكت قبل أن يعلم به عبد الكريم أنهم ثلاث سنين فقط وقد نسوا أنهم برقو غرباء في كافا حتى طمعوا في تزويج ابنهما من ابنته .. قلتُ له يعلم عبد الكريم وحده ماذا ستفعل أنت وعبد الكريم وأشباهكما في هذه الحلة .. تشتجرون وتتقاطعون حتى تصل أخباركم للقريب والبعيد ، ويسجل أهل الوعظ عبرتكم في الكتب .. ثم في بدري الفجر يدخل عندي عبد الكريم منفوخاً يزبد ، بأن البرقاوي المغفّل ثلاث سنوات ما مكثها في الخروبات حتى بلغ به الطمع أن يفكر في تزويج ابنه من بنته هو ، بأنه مساء الأمس يستمع للأم والحبوبة تتكلمان ، فلما دخل عليهما إنصمّتا .. أجلسته وسألته، فما المانع إذن يا عبد الكريم ، أليس الغرباء الذين يرضى عنهم الله والناس يزوجونهم فيهم على وسع هذه الدنيا منذ الأزل وحتى قيام الساعة ؟ يفتح عبد الكريم فمه أمامي بذلك الخيط من الغيظ والعجب ، فأزيده : يا عبد الكريم ؟ يعلم ربنا الحكيم لو طلب يد ابنتي ، لو كانت لي بنتاً لزوّجتها لذلك الفتى .. أقول له ليس ذلك الفتى مثل أبيه في شيء .. كأن عبد الكريم غير قابل للاقتناع يخرج عني يتهزهز بين ناري السخط والعَجَبْ ..
أشعر به يتباطأ وجملي يدركه ، يلتفت ناحيتي كرومة مرخياً للجمل الرسن ..
ـ حمدان ؟ باكر كن بعتا سمسم دي في كريو حدّو خلاص ..
ـ قول الله يوصّلنا ويسهِّل أمرنا أول كَدي .
ـ نبيعي سمسم دي باكر وجملي كلّو نبيعي .. نجي معاكم إلا بكراعي دي .. ها نشدّو مع عيال حقي ونلقو الحديد في دكة كافا .. من درب حاكومة لي درب حاكومة .. ونفوتو لي أبّشي ..
ـ سمح قول إن شاء الله يا كرومة ـ
ـ حمدان ؟ نعرفي قال شين ليك ترا عشان إنت أخو حقي .. لكن إلا نمشو بس مع عيال حقي لي أبّشي ..
ـ الله يساعد يا كرومة ..
أدار وجهه عنّي ونهر الجمل فعدنا للتتابع .. سيترك كرومة ذلك الحس بالفقد في الخروبات ، نعم لأننا اعتدنا على أولاده وزوجته وألفناهم .. دخلنا عليهم ودخلوا بيوتنا .. حتى هو المربوش سيفقد أهل الخروبات مرابيشه وتهوّساته .. كلما يثور كرومة من تقاربنا مع أهله نحن ننجح وهو يتعب .. كالماء الفوّار في تنّور نَفْسِه إذا ما طَفَحت دَلَقت حرارتها على حرارة ذاته وهَمَدَت .. لأنه أبداً يرى في الأفق فقط تلك الساعة التي يجمعهم فيها ويركب الحديد إلى أبّشي .. وكما في الكتب ، فالحصاد يزيد على التواريب ، والمجموع أوسع من الفرائد ، ولو يصدّقني كرومة ويفكّر قليلاً قبل أن ينهض ليرحل ..

تلك السنة والأمطار تأخَّرت وصعبت الأحوال المَطَرات الأولى لَقِيَت بذورنا في الرِّمال ، وانتعش النبات وأزهر وطابت الأنفس .. ثم سَكَتَ المطر وعَطِشَ النّبات وارتعبنا .. نصلي ونذكر في الجامع والبيوت والدروب .. أرى كرومة يهبُّ الصباح يحمل الفأس يشبُّ على الحمار التّعس ويلكز فيه إلى المزارع .. يصلّي هناك تقول لي أم زايد يدور بأكفه فوق رأسه ويغمغم ، أقول لنفسي : عله يعرف الصبر مثلنا ، فهذه ديارنا نحن ندري أحوالها .. كأنه يريد زرعه هو تحت حماية العزيز الرحيم أكثر من مزارعنا ، وكأننا بقية المخاليق لسنا لله عباد .. النهار يقعد في شجرة الزرع يقرأ المختارات التي يحفظها بينما الرجال في الحلة يدوّرون مع الأغراض بين المساقي والأسواق ورعي السعيّة .. أحياناً تصبح عليه الشمس في المزارع ينادي بتلك اللهفة الممدوحة مواصلاً ، كأنه يتنفّس مع النبات سوياً ، فإذا يَبِسَت يبست روحه .. احترت أين أستطيع أن أجد كرومة وقد أوصاني بإبلاغه شيخ الحلة عن يوم الدعاء والكرامة .. وجدته يحتضن مسبحة اللالوب داخل عريشة بَناها بعيداً عن شجرة الأولاد .. كأنه ينزعج لطلوعي عليه ولا أعبأ له ..
ـ يا كرومة ؟ تعرف البفارق جماعتو يبقى شنو ؟
ـ نعرفي كلامك يا حمدان ..
ـ باكر نسوو دعا وكرامة جماعة قالو تجينا ..
ـ أني نصلي هني في زرعي ..
ـ لا ياكرومة ..
ـ ومالو ؟
ـ كرومة ياخوي آمن بالله .. الجَّري ما بيعجِّل ولا بأخر قدر الله ورزقو .. الرحمة تجي في مواعيدا المكتوبة طق طق ..
ـ آمنتا حمدان أخوي .. إلا زرعي ـ
ـ نعرفيهم حمدان أخوي ..
ـ أنا بذكّرك بس يا كرومة بالخمسة في علم الله ـ
ـ نعرفيهم حمدان أخوي ..
ـ ها آمن يا كرومة .. وينزِّل الغيث .. وألا لا ؟

اجتمعنا ذبحنا الكرامة عند الجامع ، أطعمنا صغارنا وكبارنا ودعونا وصلينا الاستسقاء وتآلفنا حتّى العشاء .. خرجنا من الجامع لنرى خط السحاب السود مع الظلام يمتد من حد الشمال إلى حد الجنوب ترعد بروقه وتلمع ، فكأنما كرومة تلمع عيناه في رفرفة الهبوب والرهيف الآخذ بأعطافنا .. وكـأننا ما دخلنا بيوتنا حتى أدركتنا مطرة الليل الثقيلة اللطيفة بلا أهوية مزعزعة ولا خمود ، متّزنة الرزم .. الساعات الطوال من النوم الخفيف نشعر بالدفق طوراً يزداد وطوراً يخفّ ، يطفح ويرف بالأعتاب ، يحفر الرمل يملأ الحفيرات كالمعاتب الذي يسترخي خليله .. كلما يطول الهطول تستقر قلوبنا ويكبر ذلك اليقين الكامن ليدفن زعزعات الشكوك الابليسية الرعناء .. فيكون الجامع مبتلاً ، صلينا في منازلنا ، وعند بروز الشمس خرجت إلى بابي رأيت كرومة بالفأس ينط على الحمار كالمطرود ويرمي عليه بعود الفأس لفا من البيوت ، سرعان ما يصل المزرعة يفتّش خطوط الاخضرار الناهض ، يجبر المكسور ويرفع المنهار ، يؤلبها على عاجل النقاهة كأنه يتنفس وايّاها رطوبة هذا الفجر المشبّع بالنداوة ويرقص قلبه بالسرور .. لماذا لا يعرف أهل الخروبات مثلي أن كرومة ليس بدعة في الناس وأن اللهفة على إعاشة الأهل طالما تربط نفسها بالتوكل تبقى محمدة سامية .؟ كأنني قد قلتُ له أحد الأيام : البدّيك ربنا بكرة ما تعرفي ، فيرد عليَّ بالفورية تلكم أنه يعرف أيضاً وما تدري نفس ماذا تكسب غداً ، يا حمدان والله نعرفي ..
نعم .. المحصول كان وفيرا وتجار الدكة الجدد جاءوا إلى الخروبات اشتروا المحاصيل في أجرانها وأجّروا جمالنا نقلناها لهم إلى درب العربات على التبلدية ودكوتا كم عمرت يومذاك .. جاءني كرومة في البيت يحدّثني عن رغبته يسوق الأولاد ويركب بهم إلى أبّشي ..
ـ حمدان ؟ عيال دكور أني ندور دي .. عيال بحملوا .. نوديهم يلمو في أهلهم يسوو مال نجوّزيهم .. حمدان أخوي توا خلي نسيرو وأني وعيال ..
لم أثنه عامها ، لأنني لم أدرك إلى ذلك الوقت مدى تعلق أولاده وأولادنا ببعضهم .. لكنه للصدفة الحسنة ، رأى أن ما جمع لم يكن يكفيهم للطريق ومطاليب الاستقرار فجعل أمامه عاماً آخر .. نصحته كأننا على موعد ، وأول الرشاش ، جاء اولئك البدّيات بالجمل الأصفر الظالع وطلبا فيه ثمناً زهيداً لأنه يعطّل مسارهم الرّاتب بالجمال إلى مصر .. حاولت ألا ينافس كرومة في العروض أحد من الحلة .. بكلمتين أو ثلاث اشتريناه له لأنه لم يكن للبديات خيار إلا مصاريف الزاد حتى بئر المالحة .. ارتاح الجمل اسبوعان بعد الكي ثم أصبحنا فإذا به يهدر كأنه فرخ الرخروخ الذي يقولون عنه ويطارد جمالنا بحواري الحلة .. قلنا لكرومة فلتكن الدابة القوية عونك ، يريحك على درب السوق والمسقى .. أراه ، اجتهد وتلهّف داعياً فجزاه المولى نعمة توالي الوفرة أعوامه الثلاثة .. ونعلم كم يمكر بنا هذا الموسم مصمماً حتى يدفع العيال قدامه ويوادعنا .. لو يستطيع أحدنا أن يحدّد اتجاه الأمور .. لماذا يضرب الدابة وهي تضع القدم أمام القدم حاملة أياه واثقاله ؟ .
ـ كرومة الجمل ماـ
ـ خلي يمشي حمدان أخوي .. عيال ياكلو ويشربو .. ود الشيطان البدن مابخلي .. ولا يمشي دي كيفنو ؟
ـ على مقدار طاقتو يا كرومة .. ؟
ـ يمشي متل حقاتكم عصا مافي .. أم عيال دي يا حمدان أني نقول ألدي دُكور تقول كيتاً فوقي توا تلاتة بنات .. جن كبير كدي بجيبو يركب في راسي دي ..
ـ إنتا ترزقهم يا كرومة ؟
ـ أني كلو كن يوم واحد كيتن حقي كدي تعب بجيب حدي وحدو ، نقع نموت نخليهم يشيفو !
ـ الخلقهم بصير بيهم يا كرومة بلاك ..
ـ ها ها .. نعرفي كلامك .. إنتا وناس حلة دي تدوروني نموت هني شان عيال تشيلوهم ..! ها أني نابا حمدان أخوي ..!
أسايره تابعاً والآخران أسودان هائلان قدامنا .. سبحان الله ما كنت لأدري ما يحدث وكأننا نتحدّث عمّا في الغيب الدّاني يتقلّص عن انتباهنا ، يتلبّدُ في ثقيل لا مبالاتنا فلا تشتغل لنا عقول .. وأنت في غفلات راحتك على دابتك تخطط للقريب والبعيد وذلك الذي هو من العلم الخفي يدانيك .. أتذكر السنة البادئة وأم زايد حبلى تأتي في دارنا أسمعُها لأم عيالي تتمنّى أن تأتيها إبنة أخرى تساعدها .. وأذني اعتادت على رغائب كرومة : حمدان الإنتاي ولاندوري نقول ليك .. ولا تسكت أم زايد حتى في بيت حسان : كرومة يسوقينا متل المجنون من مكوار دار البحر لي كافا .. ديار الرخا .. ماشي يودينا للمحق والسحق والمحلات الناس جدّو فارقوها من ايام الكفار .. أهدئ روع كرومة لو يهدأ ..
ـ ما يخوفك شي .. كن للبنات نزوجهم لعيالنا .. والدُكور نلقو ليهم من بناتنا .. مالك بس ؟
ـ لا لا ولا نجي من مكوار شان ننقلي لعيالكم بنات يجوزوهم ..
النجمات طاردة ومطرودة قاربت للغياب ، تركنا جبيلات تيلم المبطحة الظلماء على ظهورنا وناديت على آدم وعبد الكريم أن يميلا على النزول ، تركنا الدرب وتوغلنا بين الشجر ، دخلنا وهدة مريحة تستطيع الجمال فيها تأكل وهي على العقال ، جمعنا عتادنا تعشينا ورقدنا .. في قلوبنا الحذر نسمع اجترار الجمال نسارق النوم ثم نحلم بالسوق ينتظرنا غداً ، كريو مكان يغشاه أهالي كل الإتجاهات لأجل التّجار الجلاّبة الكبار ، تجدك فيها تسابق وتطلع وتنزل كي تكمل قبض مالك وشراء حوائجكَ .. والخروج من الدّيم قبل المغيب ..

الطيور شقشقت عند الاسفرار والضياء الأول أراه يشبُّ من وراء الأفق باتجاه ديارنا كأنما ينبّهنا ، شربنا الشاهي وصنع لنا آدم مديدة لذيذة وقت بقينا نحمِّل الجمال ، اقتربتُ من كرومة ينفض مفارش ركوبه بعصبية غير عادية .. حتى العيدان استخدمها في النخس والجرجرة ، برك وقعد ورقد وقام .. سألته :
ـ مالك يا كرومة ؟
ـ نخافي عقارب حمدان .. شغل كدي في دنيا نكرهي ما زيادة من عقرب ..
ـ العوارض المكتوبة ما بنجيك منها لا خوف ولا تهبيش ..
ـ نعرفي حمدان نعرفي ..
ـ أسمع كرومة .. أحفظ التعويذة تنفعك .. أعوذ بالله من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها .
ـ نعرفي حمدان .
الجمل هاج على الجمل ، وهبّ الرجال بالعصي اندفعنا قابضناها ركبنا ورجعنا إلى الدرب مع طلوع الشمس .. أؤكد لهم بأننا بإذنه تعالى ندخل السوق قبل الناس نتسوق بدري ونتبضع النار .. الجمال عاودت اللفح على الأشجار تخطف ما يملأ أفواهها ، ونحثها .. ينذرني عبد الكريم من دودة أشجار الغبيش أم صوف الذي تحسسك بدم التاير .. تجعل نهارك يا حمدان ناراً من الورم والتحكيك .. أعدت عليه تعويذتي التي أعلمها لكرومة .. تقدم كرومة السير فخاطرت لعبد الكريم :
ـ الزول دا كن رجعنا بشد عيالو .. قولك شنو في الوليد ؟ لو باكر عصى يتبع أبوهو ؟! وإنت عارفو بقعد عشان شنو ؟
ـ أنا ما جاهل يا حمدان ياخوي .. كن كلامك دا صار ؟ بوريك البنفع شنو ..
كلما اقتربنا من الدّيم زادت الجمال من اللفح على الأشجار .. الجمل الأصفر دخل بكرومة في شجرة هبيل خضراء كثيفة حتى غطتهما الفروع .. رمى كرومة بالعصا على غاربه واستنكرت بقلبي فاكتفيت .. لكن الجمل ، كالممسوس وكالمأمور ، دخل بكرومة ثلاث شجرات في الميل الواحد ، العصا انكسرت على الغارب ولم يعد إلا أن ينزل كرومة ويقود الجمل ونحن من ورائه نسوق بهما . أصرخ له بأن ينظر إلى أثوابه لا تكون الدودة اللعينة قد نزلت من الأشجار في أثوابه .. ثم بانت بيوت كريو تحتنا في الوادي فزاغ انتباهنا هناك وسكتنا ..

الجمال ذاتها رأت الوصول يضع عنها أحمالها فأسرعَت .. قابلنا تاجران يساومان فينا لكن عزمُنا ارتبط ببلوغ سعر السوق فلم نتفق معهما . دخلنا زريبة المحاصيل واجتمع التجار حول مباركنا يروننا نتعجّل التنزيل ، اجتمعنا الأربعة فرغنا من جملي ، فجمل آدم ، وذهبنا عند كرومة ، أناخ ، توزّعنا حول الرجل . فكّ عبد الكريم الحبل الذي يليه وأرسله إلى كرومة ثم صرخ في وجه الرجل : أوع يا كرومة أوع يازول .. أخطأت الفهم ، ذهب عقلي إلى الخلافات القديمة ، ما كانت عيناي عند كرومة حتى شهدته وضع بطن كفه على الجراب فوق كوم السواد المندس بين الحبل والعفش وضغط على الملسة اللزجة .. كأن قلبي وقع عند قدمي .. عينا كرومة منخلعتين مربوكتين في وجه عبد الكريم ، لا يفهم وقت أرى في خطفة بارقة كوم السواد الأملس تمرّغ عن لزوجته في نفضةٍ طائرة انتصب ذلك الجزء منه ، انفتح طرفه الحاد محمراً لاهباً وانضم على صدر يد كرومة الضاغطة عليه .. جدع كرومة يده عالية فطار عن اليد الصل وقع بجوار التجار عاطوا وفرُّوا يالحول الله .. اندفعت إلى كرومة : يا زول يا زول نعلو ما عضّاك ... عضّاني .. نعلو ما ... الله اكبر .. يا جماعة أجرو كان عندكم معراقي قريب .. بيت الحكيم وين ؟؟ أجري يا آدم !! ما استطعت أن أرى كيف قتل الناس الصل ، وجه كرومة يتبدّل وأنفاسه تتسارع ويهبّ صدره كله يلاحق الأنفاس تغلو عليه ، لزمته إلى كتفي وحمل عبد الكريم باقيه ، اندفعنا إلى بوابة الزريبة .. عند المدخل أسمعه : قلبي قلبي يا حمدان قلبي ... ذلك الشيخ الوقور ، مؤذن مسجد كريو الكبير اعترضنا كالمُرسَل : نزّلوه .. نزّلوه .. رفع صدره إلى ركبته ولقنه الشهادة حتّى همست به شفتا كرومة ثم أرخى المؤذن الأجفان على غياب الدنيا لكرومة ..
السوق كله توقف حتى نقلونا إلى بيت المؤذن ، جهّزناه وبعد صلاة الظهر الجامعة ذهبنا به إلى مدافن كريو .. تهزُّ كياني مراجعتي اللحوحة ، وأنا الذي كنتُ أقول بأن اليقين يملأ قلبي ؟ فكم تغترُّ يا حمدان .. كأنني كنت أجاهد الهواء حولي لأغيِّر ما كان أصلاً مقدوراً ولا فوت منه .. آدم وحده عاد إلى السوق باع محاصيلنا وجمع الأجربة والمفارش وهيّأ الجمال وعاد بها إلى بيت المؤذن .. وظللت مع عبد الكريم نتقبل العزاء .. كلما سألونا عنه قلنا لهم أخونا برقاوي من مكوار لا نعرف نسبه لكنه كان أخاً لأهل الخروبات لثلاث سنين ، وترك لنا أولاده ونحن وحدنا حتى الآن كفلاؤه ، تجار كريو استكتبوا له دفاتراً لم يكن كرومة ليحصّلها في عشرة أعوام دؤوبة .. أسرح لو كان يدري ولو كنت أدري .. لأن المولى اختص بالعلم وحده في الخمسة . كلما أفرد له إحداهن يقاطعني :
حمدان ؟ أني كلو قريت آخر لوح في سورة لقمان .. أخوي ترا نعرفي .. فما أحاول أن أكون له إلا مذكراً .. يوم جاءه مثلما يجيء لكل الناس لم يكن لينتظرني نتفاكر .. آدم رجع إلى السوق فاشترى لنا ضروريات عوائلنا وعائلة المرحوم .. وعند المغرب رفعنا الفراش بالقرآن قراءة جملة كاملة رتّل حيران خلوة المؤذن كل منهم حزباً من الستين ، ثم ختموا بدعاء يتمناه المحظوظ .
عدنا بالجمل والمال .. بَكَتْه أم زايد وأولادها ثم صبروا .. قضت العدّة وسمعنا أنها رفضت عرضاً حفظه عارضه سراً .. سننسى كلنا لأننا جميعاً ندفن من نعرفهم ونحبهم أو لا نحبهم حتى يدفنوننا أقول للولد المبروك : شِدّ حيلك .. ووجدته يُعتمد .. جاءني عبد الكريم وقت الفلس فطيّب خاطري ، خطبنا البنت لزايد وزوجناهما .. شاركتنا حلالات السمرايات وقوز الطلح .. أكّدْنا لهم بأننا سنعينهم على تربية الصغار .. وليسموننا يا أهلنا كما نسميهم يا أهلنا..

إبراهيم اسحق 1973م


* المصدر : جريدة الخرطوم ـ مدارات ثقافية ـ العدد 6532 الثلاثاء 9 اكتوبر 2007م .










=====================
ابراهيم اسحق ابراهيم
- مكان الولادة : قرية ودَعة بشرق دارفور في عام 1946
- تلقى تعليمه بمدينتي الفاشر وأم درمان
- تخرج في معهد المعلمين العالي (كلية التربية حالياً التابعة لجامعة الخرطوم) عام 1969، ومعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية عام 1984.
- عمل معلمًا للغة الانجليزية في عدد من المدراس والمعاهد الثانوية بمدينة أم درمان. أقام منذ مطلع الثمانينات في مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية ومكث بها لعدة سنوات.
- تقلد منصب رئيس اتحاد الكتاب السودانيين في عام 2009.
- شارك في لجان تحكيم عدد من الجوائز الأدبية في السودان مثل جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي التي ينظمها سنويا مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي، وجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي التي تقيمها شركة زين للاتصالات. نشر العديد من المقالات والدراسات في مجال النقد الأدبي والتراث في صحف، ومجلات، ودوريات سودانية وعربية.
- مُنِح شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة الفاشر بالسودان في أبريل 2004.
- عضو في مجلس تطوير وترقية اللغات القومية في السودان.
* اصدارات
- “حدث في القرية”، الخرطوم، 1969
- “أعمال الليلِ والبلدة”، 1971
- “مهرجان المدرسَةِ القديمة”، الخرطوم، 1976
- “أخبار البنت مياكايا”، الخرطوم، 1980
- “وبال في كليمندو”، الخرطوم، 1999
- “فضيحة آل نورين”، 2004
النتاجات الأخرى:
• “الحكاية الشعبية في أفريقيا” (دراسة)، 1977
• “ناس من كافا” (مجموعة قصصية)، 2006
• “عرضحالات كباشية” (مجموعة قصصية)، 2011
• “حكايات من الحلالات” (مجموعة قصصية)، 2011
• “هجرات الهلاليين من جزيرة العرب إلى شمال إفريقيا وبلاد السودان”، 2013
* جوائز، ندوات، استضافات.. إلخ:
• جائزة الآداب والفنون التشجيعية في مهرجان الثقافة والآداب والفنون الخرطوم 1979






1711305555339.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى