د. أيمن دراوشة - الروائي مصطفى لغتيري في حديثه عن القصة القصيرة.. رؤية متألقة في عالم كتابة القصة القصيرة - تحليل نقدي

يتفق جل المهتمين على أن القصة القصيرة جنس هجين، أخذ من الأجناس الأدبية الأخرى أكثر صفاته وخصائصه.. فمن الرواية استعار النفس السردي والاهتمام بالتفاصيل والوصف.. ومن القصيدة الشعرية اقتبس التكثيف والتوتر والإيجاز.. ومن المسرحية النفس الدرامي وتجسيد الأحداث والحوار.. ومن المقالة الدقة، والتحليل المنطقي والقصر.. ومن الموسيقى الإيقاع الداخلي الذي يتميز به النثر الفني عامة.

وبسبب هذه الهجنة من الصعب الإلمام بتعريف شامل لها يشفي الغليل، وبالرغم من ذلك سأغامر بتقديم التعريف التالي: القصة القصيرة جنس أدبي يعيد الكاتب من خلاله ترتيب جزء من العالم نثرا، ضمن شريط لغوي قصير، يستند على صوغ حكاية، عبر مجموعة من الأحداث، التي تقوم بها شخصية أو مجموعة محدودة من الشخوص في زمان ومكان معينين.

وبالطبع بعد إنتاجه لعدد محترم من النصوص، يستبطن كاتب القصة القصيرة جملة من الخصائص المميزة لهذا الجنس الأدبي، وضمنها الحيز القصير أو الضيق .. وبالتالي، ونتيجة لهذه الخبرة المكتسبة ينتفي لديه الاهتمام بضيق الحيز أو اتساعه.. إذ يعمد إلى توظيف تقنيات خاصة تمكنه من استغلال هذا الحيز مهما ضاق .. فقصر الحيز لا علاقة بقصر ما ينتجه من خيال.. فالكاتب يمكنه أن يضرب عميقا في الزمان والمكان مثلا، باستعمال تقنيات الفلاش باك والأحلام والفنطاستيك وغير ذلك من الوسائل المتاحة.

ولعمري فالفيصل في الأمر هو امتلاك رؤيا وتصور واضحين لوظيفة القصة القصيرة، والدربة على استعمال وسائلها التقنية.. فالقصة القصيرة هي كذلك لأنها لا تكتب إلا قصيرة.. لذا يعتبر ضيق الحيز جزءا من ماهيتها، وبدونه تنتفي صفة من أهم الصفات المحددة لكينونتها.

أما بخصوص التقنيات الخاصة في كتابة القصة القصيرة، فهذا الأمر يتوجب أن يقوم به النقاد.. ومع ذلك سأحاول أن أتحدث عن أهم ما يشغلني أثناء كتابتي لقصة قصيرة:

أ- الحكاية : حين أرغب في كتابة قصة قصيرة لا أتنازل على شرط توفر الحكاية، وذلك نابع من تصور خاص للقصة القصيرة يعتبر الحكاية نسغ القصة القصيرة.. ومن ثمة فانعدامها يضعف النص القصصي، ويفقده جزءا أصيلا من هويته.

ب- الرؤيا: يهمني جدا أن تستبطن قصصي معنى ما، ومن الأفضل أن يكون إنسانيا انسجاما مع تصوري الشخصي للإنسان والعالم.. فحين أكتب قصة قصيرة أشتغل على النص بحيث يتضمن في آخر المطاف معنى عميقا يكتشفه كل من تجاوز معناه الأول، وغاص للبحث عن المعاني الأخرى التي غالبا ما لا تعطي نفسها بسهولة.

ج- الدقة: يستهويني بشكل كبير الوضوح، فأنا أسعى –دائما- لتكون قصصي مفهومة من طرف الجميع خاصة على مستوى المعنى الأول للنص.. لهذا أحاول البحث عن الكلمة الدقيقة والمناسبة والجملة التي لا يحول حائل دون فهمها.. هذا بالطبع دون التضحية بعمق الكتابة، الذي أحرص أن تتوفر نصوصي عليه.

د- اللغة: أشتغل على اللغة بشكل كبير، وأسعى لأن تكون رشيقة وسلسة، دون الانزلاق نحو التكلف وافتتان اللغة بذاتها.. أحبها جميلة وهادئة، تقود القارئ بلطف نحو الهدف الذي أبتغيه من وراء القصة.

لكل ذلك أعتقد أن كل كاتب يسعى لامتلاك مشروع جمالي ونظري لكتابة القصة القصيرة.. ببساطة لأن الكتابة ليست عملية تقنية فحسب، وإنما هي – أو هكذا يفترض- مؤطرة بوعي جمالي وخلفية ثقافية، تساهمان في منح النص القصصي بريقه الجمالي وعمقه الدلالي..

شخصيا أنشغل إلى أبعد الحدود بإكساب نصوصي لهاتين الصفتين.. وفي رأيي لن يتحقق ذلك إلا من خلال تخليص النصوص من كل الزوائد، والابتعاد قدر الإمكان عن التعاطي الرومانسي والعاطفي مع اللغة والبناء والرؤيا، والاشتغال على التكثيف والإيجاز.. ولعمري فإن القصة القصيرة جدا التي انبثقت من رحم القصة القصيرة تعد واعدة في هذا المجال.. فصدرها لا يتسع للحذلقة اللغوية أو التباكي المجاني.. فمن خلالها يمكن اقتناص الهدف بشكل مركز وفعال.. هذا بالإضافة إلى الاهتمام بالبعد الإنساني في النصوص.. ولا يتأتى ذلك إلا بالاطلاع العميق على الأشكال الثقافية الأخرى كالفلسفة، وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها.. هذا فضلا عن الإنصات الجيد للحظة الزمنية التي ينتمي إليها الكاتب.

وبتأثير من الإيديولوجية اعتبر الأدب وضمنه القصة "رسالة"، بمعنى أنه يخدم قضايا اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية، هذه القضايا التي غالبا ما تدفع القاص ليضحي بالقصة من أجل "القضية"، فيرتفع صوته ويصبح نصه عبارة عن بلاغات وشعارات ومحاكمات أخلاقية.

أظن أن الرسالة الخالدة للقصة هي القصة نفسها، فيكفي القاص فخرا أن يقدم لنا نصا أدبيا متكاملا، يوفر للقارئ المتعة المرتجاة، ويطور ذائقته الأدبية، ويساهم في السير قدما بهذا الفن الأدبي الجميل نحو المكانة التي يستحقها.

بالطبع لا خلاف في أن القصة حمالة مضامين، وتتألق هذه المضامين حينما تكون قضايا إنسانية، تلامس شغاف قلب القارئ أينما كان على وجه هذه الأرض، لكن هذه المضامين ليست غاية في ذاتية، بل مجرد عنصر يتكامل مع باقي عناصر القصة.

إن عيب التوجه الذي يطالب القصة بالالتزام بالتعبير عن قضايا معينة اجتماعية أو سياسية أو دينية، أن أصحاب هذا التوجه يرفعون من قيمة النص حين ينبري للمرافعة عن قضية معينة، حتى وإن ضحى بالجانب الفني الذي بانتفائه تنتفي القصة..

يتعين أن لا يغيب عن بالنا أبدا أن القصة فن أدبي بالدرجة الأولى، وحين ترتدي جبة الوعظ والإرشاد أو الإصلاح الاجتماعية تصبح مجرد وسيلة لغاية خارجة عنها فتفقد هويتها.

كما يتفق الجميع على أن بداية القصة ونهايتها تكتسيان أهمية خاصة في عملية التلقي.. لهذا على الكاتب أن يوليهما اهتماما خاصا.. شخصيا، فيما يتعلق بالبداية، كثيرا ما أجد نفسي رهين طريقتين مختلفتين عند الشروع في كتابة قصة ما.. أولا هما انتظار اختمار الحكاية في ذهني ومن ثمة أتيح المجال للأحداث المعبرة عنها لتتشكل بالوضوح المطلوب.. وحين أبلغ ما يمكن أن أطلق عليه مرحلة انبثاق المعنى، لا أحتاج – حينذاك - سوى إفراغ القصة على الورقة.. أما الثانية، ففي لحظات معينة تتملكني حالة معينة، أحس معها أن شيئا ما يجول بذهني يسعى لينكتب، لكنه لا يتمتع بالوضوح الكافي.. حينها لا أضيع الفرصة، أتناول القلم وأشرع في الكتابة كيفما اتفق.. ومع مرور الزمن تبدأ ملامح القصة في التشكل.. في نهاية المطاف أجدني أمام قصة قصيرة بعد أن أحذف البداية، لأنها كانت مجرد محفز، وبالتالي فهي لا تنتمي عضويا إلى القصة.

أما بخصوص النهاية، فأتأنى في كتابتها كثيرا، وغالبا ما أعيد صياغتها أكثر من مرة.. هدفي أن تكون – في الغالب- نهاية مفتوحة، وتكسر أفق انتظار القارئ..

أما نجاح القصة، فيتحقق- بالنسبة إلي- حين أنتهي من قراءتها وتكون محفزة لكتابة قصة أخرى..

التحليل التأملي / بقلم - أيمن دراوشة

يقدم لنا الكاتب والروائي المغربي مصطفى لغتيري نقدًا شاملاً للقصة القصيرة، مبرزًا عدة جوانب مهمة تشكل أساس فن الكتابة في هذا النوع الأدبي.

تعد القصة القصيرة، بحسب لغتيري، تعبيراً فنياً متكاملاً ينبغي أن يتمتع بالحكاية، الرؤية، الدقة في اللغة، والنهاية المفتوحة. كما يبرز أهمية توفير توازن بين الجوانب الفنية والرسالة التي يريدها القاص من قصته مع التأكيد على أن الرسالة الأساسية للقصة هي القصة نفسها.


من الجوانب الملفتة أيضاً في المقال هو التركيز على البحث عن المعاني العميقة وتفعيل الأبعاد الإنسانية في النصوص، وهو ما يمنح القارئ تجربة أدبية غنية.

ومن النواحي التي تميز المقال هو التركيز على العناصر الأساسية التي يجب أن تتوفر في القصة القصيرة، مما يساعد على فهم عميق لطبيعة هذا النوع الأدبي حيث يشير لغتيري إلى أن الحكاية هي نسيج القصة القصيرة، وهذا يعكس أهمية وجود قصة ملهمة وجذابة تجذب القارئ وتحمله في رحلة أدبية مثيرة. كما يبرز أهمية الرؤية الشخصية للكاتب وتضمينها في القصة، حيث يسعى الكاتب إلى نقل معاني عميقة تلامس الإنسانية وتعكس رؤيته الفريدة لهذا العالم.

بالإضافة إلى ذلك، يهتم لغتيري اهتمامًا كبيرًا في دقة استخدام اللغة، حيث على القاص أن يوظف كلمات دقيقة وجمل موزونة لتحقيق فهم واضح للقارئ دون التنازل عن العمق الفني للنص. كما يعكس تركيزه على النهاية المفتوحة رغبته في ترك باب مفتوح للتفكير والتأمل، مما يشجع القارئ على التفكير في القصة وتفسيرها بطرق مغايرة.

وأخيرًا، يبرز لغتيري أهمية الإبداع والتجريب في كتابة القصة القصيرة، حيث يشجع على التخلي عن القوالب التقليدية واستكشاف أساليب جديدة في السرد وتقديم الأفكار مما يعكس رؤيته الديناميكية للكتابة واستعداده لاستكشاف مختلف الطرق لتقديم القصة القصيرة بشكل متجدد ومبتكر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى