كانا صامتين أمامَ مهابة الطبيعةِ، لا يخدش هدوء الفجرِ سوى وقع حوافر ِالحمارِ الذي يمتطيانه، والذي يتلكأُ بانحداره بدربٍ وعر يؤدي إلى وادٍ قليل العمقِ، وما إن ينبسطَ الطريقُ حتى يتهادى الحمارُ في مشيته، مما يجعلها تستقرُ في جلستها، وتحرر خصرَ زوجها بفكِّ ذراعيها عنهُ، ليمضيا القسمَ الأطولَ من الطريق برتابةٍ وسهولةٍ، وكان عليها أن تترجلَ في بدايةِ السفحِ الشديدِ الانحدارِ ، لتكمل مشيًا على الأقدامِ حتَّى المفرقِ الإسفلتي، حيثُ تنتهي إليهِ شبكةٌ من عدةِ طرق ترابية، ويمتدُّ منه الطريقُ المعبّد الذي يصلُ القرى المتناثرةَ حولهُ بالمدينةِ.
نزلَ عن ظهر الحمارِ، سوّى بدلته الأنيقة وربطة العنقِ، مسَّد شعره إلى الوراءِ وأنهى صمتهُ ليعطي أوامرهُ التي لا تنتظرهُا:
-عودي الآن، وعند الظهيرة لا تجعلي نظرك يغيبُ عن الطريقِ، ولا تجعلي انتظاري يطول، فأكياسُ الطحينِ قد تفسدْ إن لامست الأرض ...
ما أن ابتعدت منحدرةً إلى الوادي ...حتى عادَ يصرخُ:
- لا تنشغلي بالأولادِ عن مراقبةِ الطريقِ ..وهي تومئ برأسِها وتتمتمُ :
-والله فهمت .. والله فهمت.
تأملتْ برضى بيتها القابعَ على التلة المقابلةِ الغارق ِفي الغابةِ، كانت العودة بالنسبة لها رحلةً ماتعةً، النسماتُ الخريفيةُ تلفحُ وجهها، حالةٌ روحانيةٌ لشدِّ ما كانت تحتاجُها في خضمِ أيَّامها الصاخبةِ، تتأملُ الأشجارَ وكأنَّها لم ترَها بالذهاب، يحتفي قلبها بزقزقة العصافيرِ، وبحفيفِ أوراق الشجر المصفقة بسذاجةٍ للريح الخريفيةِ، كل شيءٍ يوحي بالراحةِ، والنقاء، ومتعة الاكتشافِ، وأهم ما كان يسعدها أنَّه لا منافسَ لها بالركوبِ على ظهر الحمارِ، الذي يبطئ المسيرَ مانحاً لعينيها وأذنيها فرصة التشبع من جمال الطبيعة التي كانت مشغولة عنها، حتى خشخشة الأوراقٌ اليابسةٌ تحت َحوافرهِ غدت موسيقى تطربها.
ومع ذلك بدا لها الدربُ أقصر ُمما تتمنَّاه، شعرت أنَّ كلَّ ما حولها ينتمي إِليها، حتَّى الطريقَ الصاعد إلى مملكتها، غدا أقلَّ وعورةً مما كان عليه بالذهابِ.
ما أن لاح رأسُها للمنتظرين حتى نبحَ الكلبُ معلنًا قدومها وتصاعدت موسيقى متناغمةٌ احتفالًا بها ثغاءُ الخرافِ التي تزاحمت حَولها، صياح الديكةِ التي اجتمعت والدجاجاتِ عند قدميها، حتى البقرةُ الوحيدةُ تركت معلفها الثَّري وأطلقت خوارَها مشاركةً بجوقةِ الجوعِ هذه.
طالعتها عيونُ أطفالِها، الفرحةُ المملوءةُ بالرجاءِ، وقفوا بثيابِ نومهم الموحَّدة، كأنَّهم شجيراتٌ فتيةٌ صفَّت بتناسقٍ منتظمٍ أمَامها، وكان لصيحاتِ أصغرهِم بهجةٌ عارمةٌ في قلبها لقد بدأ يكوِّنُ جمله الفصيحةَ دون تلقينٍ:
-جاءت ماما ..جاءت ماما
قالت معتذرةً بحنانها المعهودِ:
-أعرفُ لقد تأخرتُ عليكم.
لم يدم غيابها أكثر من ساعةٍ، لكنَّها ساعة الاحتياجِ، قد مرَّت بطولِ نهارٍ على البطونِ الخاوية.
أحاطوا بطبقٍ يتصاعد منه بخارُ الحليبِ، كانت قد فتَّت فيه آخر َما لديها من الخبز ِاليابس، تركتهم يستمتعونَ بفطورِهم، وراحت تلبِّي حاجة بقيةِ الأفواهِ.
دأبت على تدبُّرِ طعامهم مما تزرعهُ، ومما تربيهِ من دواجنَ وخرافٍ، وكان ما تجودُ به الغابة كفيلاً بمنحنهم الدفءَ بالمجانِ.
ويبقى همُّها الأكبرُ هو التزوُّد بالطحينِ لإنَّها لا تزرعُ القمحَ.
زوجُها مدرسٌ لكلِّ الصفوفِ الابتدائيةِ في القريةِ، لكنَّه يتقاضى راتباً واحداً، يقسمه بين الطحينِ والكتبِ، وملابس سنوية ٍ للأولادِ.
وكان يضنيها بتلكؤه ِ في إحضار الدقيقِ بالتوقيتِ المناسبِ، فعليها أن تكرر َّ طلبها لمدة أسبوع أو أكثر:
- الطحين نفذَ من عندنا يارجل ..
وكان يستجيبُ على مضضٍ، ويتأفف ُمن إلحاحها المتواصلِ، وهي لا تسكتُ أو تطمئن إلا بعودته ورؤية الأكياس بأمِّ عينِها.
كان باب مركز توزيع الطحين موصدًا، مما دفعه لأن يؤوبَ بخطواتٍ مترددة باتجاهِ الكراجِ، يقصد الحافلةَ الوحيدةَ التي ستعودُ الى القرية فورًا، وإلا عليه الانتظار لعدةِ ساعاتٍ أُخرى، لكنه تراجعَ عن قراره، تلمسَ الخمسين ليرةً في جيبهِ، لا تكفي إلا لشراء كيسي دقيقٍ، مما أخرسَ رغبتهُ بالجلوس في مطعمٍ وتناولِ إفطارٍ شهيٍ، وعاد ينتظر مع من ينتظرْ ...
أخبرهَ أحدهمْ أنَّ الطحينَ لن يتوفرَ قبل الظهيرةِ ...
لم لا يجوبُ شوارع المدينةِ؟ فهولن يشتري شيئًا، فقط يقضم الوقتَ والمللَ، حاولَ كثيرًا الابتعاد عن ذاك الشارعِ الذي طالما شهدَ ضعفهُ، لكن لا يعرف كيف ساقته قدماه إليه، وها هو يتوسطه.
يتأملها بعينينِ حالمتينِ وهل للعينين أن يقاوما سحرَها!
زجاجٌ مغبشٌ يفصلُ بينها وبينه، لطالَما حلم بأن تتربع على عرش مملكتهِ، وأن تداعبها أناملهُ، وأن يحتضِنها ولو لوقتٍ قصيرٍ، اعتاد أن يتركَها مديرًا ظهرهُ لها، عالقًا قلبهُ بها، مقاومًا لإغوائِها، لكنَّ شيئًا ما يشدهُ هذه المرة بقوة إليها، غمغمَ لنفسهِ:
-لأقتربَ قليلًا فقط
يبتسمُ لها يشعر ُبأنَّها تبادله الابتسامةَ قال العاقلُ بداخلهِ:
- انفد بمالكَ يا رجل، أولادكَ أحقُّ به منها، هذه سلسلةُ من الإغواءاتِ قد تطلبُ كَل ما بجيبكَ.
كانت الزوجة طوال الصباح تراقب الأفقَ، وما أن لمحت الحافلةَ تلوحُ من بعيد ٍحتى تركت كلَّ مهامِها، وسارعت إلى الحمار ِتحثُّه بسرعة كي تصلَ إلى المفرقِ بالتوقيت المناسبِ.
وقفت تتأملُ الركابَ وهم ينزلون أخبرَها أحدهم بأن الأستاذَ لم يعد معهَم، تمتمت:
- خير ٌإن شاء الله لابدَّ أنَّ أمرًا ما قد أخَّره
وعادت بخيبتِها لإكمالِ مهامِها، هذه المرة لا أحدَ بانتظارها فالكلُّ منهمكٌ باللعب أو بالتقاطِ الطعام. كان انشغالهم عَنها فرصةً جيدة ًلتكمل خياطةَ ثيابِ الأطفالِ، ومناسبة أيضا لنقل الماء من النبع، وتوكيلِ مهمةِ مراقبةِ الطريقِ لابنِها، زادت بهجتها بأنَّ نظره قد التقطَها في التوقيتِ المناسبِ.
- اجر بسرعة ..
وكان الحمارُ ينفذُ أوامرَ كعبيها النكَّازين لكرشهِ فيتحولُ لخيلٍ سريعٍ. وصلت مع توقيتِ وصولِ الحافلة. بعض الركاب ألقى عليها التحيةَ بكل احترامٍ، آخرُ من ترجلَ كانَ زوجها منكَّس الرأسِ، يرمقها بخجلٍ من طرفِ عينيهِ، كانت منهمكةً بسوق الحمار ِلتوقفهُ ملاصقًا للحافلةِ، وهي تنظرُ إلى أعلى بانتظارِ سائقِ الحافلةِ أن يصعدَ إلى سطحِها، ويسقطَ أكياسَ الطحينِ، لكنَّ هذا لم يحدثْ، فالحافلةُ تابعت طريقَها، وتركتْها في ذهولٍ تراقبُ ما يتأبطهُ زوجُها، كيسٌ ورقيٌ أنيقٌ لا يتسِع لبضعةِ حفناتِ طحينٍ.
قطعَ عليها السؤالَ بنظرةٍ صارمةٍ منْه، اعتادت أن تقرأَ في ملامحهِ إحساسه بالذنبِ المقنَّع بصرامةٍ، صرامته لم تعد تخيفها كثيرًا، لكن الخيبةَ الآن قتلتْ كلَّ كلامٍ، تخلفتْ عنْه، رافضةً بعنادٍ أنْ تركبَ معهُ، كانت الدرب طويلةً جدا هذه المرةَ، تضجُّ بالغضبِ الذي ينهَشها من الداخلِ ..
-لقد أعددتُ حطبَ التنور، قالت بصوتٍ هامسٍ.
تجاهلَ ما سمعهُ منهَا، فعادت تندبُ في خلدها حظَّها العاثر؛ زوج لا يكترثُ بها ولا بشقائِها ،يلبس بدلتهُ الأنيقة كل صباحٍ، يسرحُ متأبطًا كتابهُ، وكان قد أدمنَ على اللجوءِ لدغلِ ريحانةٍ، حتى يأتيَ على كل أشعارِ المتنبي وأبي العلاء المعري،هي تتصارعُ مع مهامها اليوميةِ التي لا تنتهي، ومع سماعِ ما حفظه من أشعارٍ ، وللسخريةِ المرَّة ،كانت جميع نساءِ القريةِ يغبطنَها فهي زوجةُ الأستاذ ...الأستاذُ الوحيدُ الذي يهابه الأولادُ،وتهدد الأمهاتُ أبنائهن بالشكايةِ له إن لم يقوموا بواجباتِهم المدرسيةِ وغيرهَا، وكان ذكرُ اسمه كفيلاً بدبِّ الرعبِ في قلوبهمْ .
كانَ قد سبقها إلى البيتِ يوزعُ قطعَ السكاكرِ الملونةِ على أطفالهِ المبتهجينَ حولهُ، يسرعُ بالدخولِ إلى غرفتهِ يغلقُ البابَ وراءهُ، ينكبُّ على منضدةٍ قليلةِ الارتفاعِ، يفرد الكتبَ بسعادة غامرةٍ، يتلمسُ سلسلةً من الدواوين غير مصدقٍ أنَّها صارت ملكهُ يتلمسُها بلطفٍ، يربتُ على أغلفتِها الصقيلةِ بأناملِ عاشقٍ، يهمسُ بحبورٍ المنتصرِ:
-(لقطةٌ .. والله لقطةٌ لا تتكررُ ..أربعةُ دواوين بأربعين ليرة !...)
تتلبسُ الغبطةُ كيانهُ كلَّه، تكسرُها زفراتٌ حانقةٌ من زوجتهِ، وحفيفِ ثوبِها المزعجِ بغدوِّها ورواحِها، وتمتمَتها:
- بجد.. ! الّذين استحَوا ماتوا.
لن تكلّمه، مهما حاولَ إرضاءَها، سامحَته عن قراره بالسكنِ في القريةِ، وعن عدم شراءِ حذاءٍ مريحٍ لها، ولا حتى حبكاتِ شعر ٍملونة، و عن عدمِ تفريغِه لها الوقتَ لزيارةِ أهلهِا، أمَّا عند الخبزْ، فقد طفحَ الكيلَ . .
تملّص منها بالهروبِ إلى الدكانِ، فقد أعتادَ عند غروبِ الشمس ِأن يجمعَ الرجالَ أمامَ الدّكان الوحيدِ في القريةِ متخذاً مصطبتهِ منبراً له، يقصُّ عليهم ما قرأهُ ويذيعُ عليهمْ ما جادَ به المذياعِ.
عند المساءِ، تابعَت نقلَ كلِّ ما حضرتُه، عزمت على ألا تتحايلَ عليهم بطبخِ البرغلِ أو الأرزِ تعويضًا عن غيابِ الخبزِ، بل بالغتَ بتقديمِ ما صنعتُه من الحليبِ الوفيرِ، اللبنةُ والجبنةُ والقريشُ مع الزيتونِ والزعترِ والزيتِ، لكنَّ الأيادي لم تمتدْ إلى شيءٍ، تسمّرَت عيونُهم على الطبقِ الشهيِ سال بعابهم وهم يتربَّعون على الأرضِ حولهُ، وقفتْ تراقبِهم زامّةً شفتيها بقوةٍ. دامَ صمتُهم لعدةِ دقائقٍ ثم تجرأَ أكبرهمْ:
-خبز ..نريدُ خبزًا ...
تشجعَ الذي يليهِ:
-وكيف سنأكلُ الجبنَ دونَ خبزٍ؟
وقال الثالث:
- ألم نساعدك ِبجمعِ الحطب ِللتنُّورِ؟
صمّ أذنيه عن صراخهمْ، وحاد َبنظرهِ عن تحديقِها المطوَّل بوجههِ، زادَ قلقهُ بصمتها الغاضبِ.
غابت قليلاً في غرفةٍ جوانيّةٍ تعلًقت عيونهُم على بابهِا، ثم عادت تحتضنُ صرَّةً قماشيةً كانت مخصصةً للخبزِ، بدت الصرِّة منتفخةً أكثرَ من المعتادِ، وامضةً بضوء ِمصباحِ الكازِ فأفرجَت أساريرُهم، وعيونُ الزوجِ معلّقةٌ عليها، وفي خلدهِ يتساءلُ: كيفَ تدبّرت أمر َالخبزِ؟ لاسيَّما أنَّها منذ البارحةِ قد أقسَمت أنها لن تستعيرَ مجدداً الخبزَ والطحينَ من جاراتِها، حتَّى لو مات أطفَالها جوعًا.
كانَ ظلّها يمتدُّ على الحائطِ وكأنَّها قاربٌ يسيرُ إليهم ..... .
بشفتينِ مرتعشتينِ، وحاجبينِ معقودينِ، استجمعت شجاعَتها، وفتحتْ الصرةَ وراحت بيدينِ مرتجفتينِ توزِّع لكلِّ طفلٍ حصَّته، أصغرُهُم صدَّق ما بينَ يديهِ وراحَ يغمرهُ بالزيتِ.
_ هل جنَّت أمي؟ همسَ أكبرهُم لأخيهِ ...
-اصمت. كان قد استشعرَ بمعركة ستدورُ رحاها بعد قليلٍ، وبخوفٍ شديدٍ يرمق ُوجْهَ والدهِ المحتقنِ غضباً.
راحتْ تلوِّح بيدِها أمامَ وجه زوجِها، وتصرخُ بصوتٍ حاد لم يعهدهُ منْها من قبلٍ:
_ خُذ..كُلْ .. كُلْ .. ..تركتُ لك الحصةَ الأكبرَ .. ألستَ كبيرنا؟ بحركةٍ سريعةٍ ومباغتهٍ، وبيدين متعبتين راحت تنبشُ من الصرةِ أوراقاً ممزقةً بعشوائية ٍتفوحُ منها رائحةُ المطبعةِ والدقيقِ، تكدّسها أمامه وتنثُرها في حضنهِ وحولهُ، تستأنفُ صراخَها الهستيريَ المتزايدَ أمامَ صدْمته وصمته:
- ما بكَ...؟ اغمس (على قدر أهل العزم) بالزيتِ ..تذوّق (وا حرَّ قلباه ) ...أترك قليلاً منْها لأردَّها الى جيراننا بدلاً من نصفِ كيسٍ من طحينٍ .. استعرتُه من قبلٍ، علّهم يقبلونَ بـ(االخيل والليلُ والبيداءُ...)
______صديقة علي - سوريا ٢٠٢٠______
تطالعنا هنا شخصيتان: امرأة (وهي الشخصية المحورية) وزوجها وهما على ظهر الحمار، سائران، فجرا، إلى المفرق من حيث تمر الحافلة التي سيركبها الزوج في اتجاه عمله كمدرس((كانا صامتين أمام مهابة الطبيعة...لايخدش هدوء الفجر سوى وقع حوافر الحمار الذي يمتطيانه...وما إن ينبسطَ الطريقُ حتى يتهادى الحمارُ في مشيته )).
يوجد -هنا- عنصران مهمان : الزمان((هدوء الفجر)) والتنقل في المكان(( الدرب الوعر..الطريق ..السفح الشديد الانحدار..المفرق الإسفلتي..)).
وما تلبث الكاتبة أن تضعنا في مستهل المشكلة أو الصعوبة التي ستواجهها هذه المرأة، وهي تباشر بداية رحلتها مع المعاناة اليومية((وكان عليها أن تترجلَ في بدايةِ السفحِ الشديدِ الانحدارِ ، لتكمل مشيًا على الأقدامِ حتَّى المفرقِ الإسفلتي...)).
يصل زوجها إلى المكان الذي سينطلق منه إلى عمله وقضاء شأنه ثم العودة إلى المنزل(( نزلَ عن ظهر الحمارِ، سوّى بدلته الأنيقة وربطة العنقِ، مسَّد شعره إلى الوراءِ وأنهى صمتهُ ليعطي أوامرهُ التي لا تنتظرهُا..عليها أن تعود إلى البيت وأن لا تجعل انتظاره يطول عند نزوله من الحافلة إبان عودته من مشواره)).
على الرغم مما كانت تعيشه من عيشة تقتير وشظف، فقد بدت هذه السيدة صبورة، راضية بما قسم لها ((تأملت برضى بيتها القابع على التلة النقابلة، الغارق في الغابة...)). وفي خضم الصراع الذي كانت تخوضه، لم تكن تتردد في القبض على الفرصة التي توفرت لها لتمنحها سعادة ظرفية عابرة وهي تركب الحمار عائدة بعد إيصال زوجها ((كانت العودة بالنسبة لها رحلةً ماتعةً، النسماتُ الخريفيةُ تلفحُ وجهها، حالةٌ روحانيةٌ لشدِّ ما كانت تحتاجُها في خضمِ أيَّامها الصاخبةِ... يحتفي قلبها بزقزقة العصافيرِ... كل شيءٍ يوحي بالراحةِ، والنقاء، ومتعة الاكتشافِ، وأهم ما كان يسعدها أنَّه لا منافسَ لها بالركوبِ على ظهر الحمارِ...
ومع ذلك بدا لها الدربُ أقصر ُمما تتمنَّاه، شعرت أنَّ كلَّ ما حولها ينتمي إِليها، حتَّى الطريقَ الصاعد إلى مملكتها، غدا أقلَّ وعورةً مما كان عليه بالذهابِ...))
لحظات من السعادة والارتياح منحتها فسحة صغيرة، أنستها جزءا من متاعبها المتلاحقة.
الكل كان في انتظارها في البيت رغم أنها لم تغب طويلا(( ما أن لاح رأسُها للمنتظرين حتى نبحَ الكلبُ معلنًا قدومها... ثغاءُ الخرافِ التي تزاحمت حَولها، صياح الديكةِ التي اجتمعت والدجاجاتِ عند قدميها، حتى البقرةُ الوحيدةُ تركت معلفها الثَّري، وأطلقت خوارَها مشاركةً بجوقةِ الجوعِ هذه. ))
بينما اصطف الأطفال أمامها(( لم يدم غيابها أكثر من ساعة، لكنها ساعة الاحتياج، قد مرت بطول نهار على البطون الخاوية.))
لم يلبث الأطفال أن ساراعوا بكل لهفة إلى الطبق الذي أمدتهم به أمهم ((أحاطوا بطبق يتصاعد منه بخار الحليب، كانت قد فتت فيه آخر ما لديها من الخبز اليابس)). وبعد أن أطعمت الأفواه البشرية، كان عليها أن تطعم بقية الأفواه. لقد أثبتت هذه المرأة المكافحة قدرتها على الوقوف بكل قواها لصد ذلك الضغط المتزايد الذي تسلطه حاجة تلك الأفواه إلى الطعام ، وهي تحاول الصمود بكل ما أتيح لها من إمكانات(( دأبت على تدبر طعامهم مما تزرعه، ومما تربيه من دواجن وخراف)). من جهة أخرى، لم تكن تكتفي بتوفير ما تيسر من مأكل لأبنائها، بل كانت حريصة على أن تمنع عنهم برد الشتاء وزمهريره((وكل ما تجود به الغابة كفيلا بمنحهم الدفء بالمجان)). ثمة -هنا- إشارة إلى مزايا الحياة في الريف واختلافها عن المدينة التي ليس باستطاعتها أن تمنح ساكنيها أي شيء يستحقونه دون تكلفة مادية. ومع ذلك فإن حاجتها للحصول على السميد تظل مسألة لا غنى عنها وتظل شغلها الشاغل على الدوام (( ويبقى همها الأكبر هو التزود بالطحين لأنها لا تزرع القمح)). ويبدو من الواضح أن التوجه لزراعة الحبوب بات -تقريبا- في تراجع كبير في كل أنحاء المعمورة بسبب عوامل مناخية أمست هاجسا يؤرق معظم شعوب العالم المعاصر، في صراعها الدائم، وهي تواجه غول المجاعة الشرس الذي لا يرحم.
زوجها المدرس يتقاضى راتبا لايفي إلا باقتناء لباس الأبناء وأكلهم وكتبهم المدرسية((زوجها مدرس...يتقاضى راتبا يقسمه بين الطحين والكتب وملابس سنوية للأولاد)). وكان يتلكأ في الاستجابة كلما دعته لإحضار الدقيق المعد لإعداد الخبز وإطعام الأبناء((كان يضنيها بتلكئه في إحضار الدقيق بالتوقيت المناسب، فعليها أن تكرر طلبها لمدة أسبوع أو اكثر...وكان يستجيب عن مضض ويتأفف من إلحاحها المتواصل..)).
يا لسوء طالعه ! هاهو يقصد مركز توزيع الطحين، فيجد بابه موصدا، ليبقى مترددا بين أن يستبق الحافلة ويعود إلى المنزل أو ينتظر لعدة ساعات أخرى عله يحصل على الطحين. وأخيرا استقر الرأي لديه، وقرر الانتظار. في الأثناء، أعلمه أحدهم أن بقاءه سيمتد إلى وقت الظهيرة((كان باب مركز توزيع الطحين موصدا...تلمس الخمسين ليرة في جيبه، لا تكفي إلا لشراء كيسي دقيق، مما أخرس رغبته بالجلوس في مطعم، وتناول إفطار شهي، وعاد ينتظر مع من ينتظر...)). لم يكن هو أيضا أوفر حظا من زوجته ؛كلاهما يذوب كالشمعة لينير طريق الأخرين، وكلاهما يعاني ويصاب بالإرهاق والتعب للحصول على القوت. إنها المعركة الضروس التي يخوضها، بلا هوادة، جمهور الفقراء، والكادحين من أجل تأمين لقمة العيش لهم ولأطفالهم. لطالما كنا نسمع عبارة « الخبزة مُرَّه » التي لايني يرددها الكثيرون باستمرار، للتعبير عن معاناتهم اليومية، وهم يطاردون رغيف الخبز ليظلوا على قيد الحياة.
.
فكر في أن يجوب شوارع المدينة لقتل الوقت، ومقاومة الملل((لم لا يجوب شوارع المدينة؟ فهو لن يشتري شيئا، فقط يقضم الوقت والملل)). سيسعى لتحاشي الدخول في ذلك الشارع الذي كان شاهدا، يوما ما، على ضعفه، لكنه لا يدري كيف وجد نفسه هناك، وعيناه منجذبتان إلى سحر من كان يحلم أن يفوز بها لإثراء مكتبته. ولئن اعتاد مقاومة جاذبيتها إلا أنه ألفى نفسه، هذه المرة، منقادا إليها، ومبتسما يروم احتضانها في تلك اللحظة التي سمع فيها صوتا ينهاه عن الانسياق، وراء إغواءات الكتب التي تهدد جيبه بالاستنزاف، وأنه من باب أولى أن ينفق أمواله في سبيل أولاده الذين هم أحق بذلك، أولا وأخيرا.
يحتدم -هنا- الصراع الداخلي بين توق الرجل إلى تحقيق رغبته في اقتناء الكتب من جهة، والاستجابة لتأمين حاجة أولاده من الخبز، من جهة أخرى، في سياق السعي الدؤوب لمقاومة الجوع الذي يترصد الفئات الهشة، وفي ظل أزمة غياب السميد التي باتت تتفاقم، وتدفع الناس، رجالا ونساء، للوقوف لساعات في طوابير ممتدة أمام الأفران التي كانت، هي الأخرى، تخوض صراعا، حتى لا تصاب بالعجز عن توفير الحاجيات الضرورية من تلك المادة الأساسية، والمُؤَمِّنة لاستمرارية العيش.
ما إن لاحت لها الحافلة عن بعد، حتى انطلقت الزوجة تستحث حمارها للوصول إلى المفرق أين سيكون زوجها بالانتظار، لكنها عادت بخفي حنين لأن الأستاذ لم يأت كما كان متوقعا(( وما إن لمحت الحافلة تلوح من بعيد، حتى تركت كل مهامها، وسارعت إلى الحمار تحثه ... وقفت تتأمل الركاب وهم ينزلون . أخبرها أحدهم بأن الأستاذ لم يعد معهم. عادت بخيبتها لإتمام مهامها)). هذه المرأة لا تني تكد وتجد، وتكافح في تأدية دورها كربة بيت ؛كانت تقضي طوال أوقاتها، يوميا، في القيام بعمليات الطبخ، والخياطة، وجلب الماء من النبع، والخروج إلى محطة توقف الحافلة لإيصال زوجها، عند الذهاب، واستطحابه إلى البيت، عند الإياب، من العمل. كانت شديدة الالتزام بواجباتها المنزلية، متسلحة بالصبر على تحمل المتاعب، ومواجهة ما يعترضها من مصاعب، بعزيمة لا تلين.
عند ذهابها لجلب الماء، أوصت ابنها بمراقبة الطريق لرصد قدوم الحافلة، ولم تخف ابتهاجها بما حققه ابنها من نجاح في ما كلفته به ،آنئذ، لتنطلق بسرعة إلى المحطة(( كان انشغالهم عنها فرصة جيدة لتكمل خياطة ثياب الأطفال، ومناسبة أيضا لنقل الماء من النبع، وتوكيل مهمة مراقبة الطريق لابنها، زادت بهجتها بأن نظره قد التقطها في الوقت المناسب :
_"اجر بسرعة ! "))
وصل الزوج هذه المرة، ولم يكن معه أكياس الطحين التي انتظرتها الزوجة منذ الصباح ؛لاشيء غير كيس ورقي أنيق...(( وهي تنظر إلى أعلى بانتظار سائق الحافلة أن يصعد إلى سطحها، ويسقط أكياس الطحين، لكن هذا لم يحدث، فالحافلة تابعت طريقها ، وتركتها في ذهول، تراقب ما يتأبطه زوجها، كيس ورقي أنيق لا يتسع لبضعة حفنات طحين)).
إنها خيبة الانتظار مجددا. في المرة السابقة، عادت الحافلة، ولم يعد معها الزوج، وفي هذه المرة، عاد الزوج، ولم يأت معه بأكياس الطحين، التي يحتاجها الأبناء لسد رمق الجوع...يا لخيبة المسعى!
اشتعلت في صدرها نيران الغضب، أمسكت عن الكلام ولاذت بالصمت (( لكن الخيبة الآن قتلت كل كلام، تخلفت عنه، رافضة بعناد أن تركب معه...تضج بالغضب الذي ينهشها من الداخل: " لقد أعددت حطب التنور !" )).
باتت تندب حظها، فقد رمى بها القدر في طريق زوج أضحى لايبالي بمعاناتها، وبعذاباتها اليومية((زوج لا يكترث بها ولا بشقائها، يلبس بدلته الأنيقة ، كل صباح، يسرح متأبطا كتابه، وكان قد أدمن على اللجوء
إلى دغل ريحانة، حتى يأتيَ على كل أشعارِ المتنبي وأبي العلاء المعري،هي تتصارعُ مع مهامها اليوميةِ التي لا تنتهي...)).
أسرع إلى البيت يوزع الحلوى على أطفاله، ثم دلف إلى الداخل لينزوي في غرفته، يقلب الكتب التي جلبها وقد غمرته السعادة(( لقطة...والله لقطة لا تتكرر ..أربعة دواوين بأربعين ليرة ! )).
قاطعته زوجته ولم تعد تكلمه، هي التي سامحته عن الإقامة بالقرية، وعدم شرائه حذاء لها، وعدم منحها فرصة زيارة أهلها، لكنها لن تسامحه عن عدم توفيره الخبز((أما عند الخبز، فقد طفح الكيل)).
يهرب إلى الدكان أين يلتقي برجال، هناك، ليقص عليهم ما قرأه((يجمع الرجال أمام الدكان الوحيد في القريةِ، متخذاً مصطبتهِ منبراً له، يقصُّ عليهم ما قرأهُ ويذيعُ عليهمْ ما جادَ به المذياعِ.)).
في المساء، أحضرت لأبنائها ما استطاعت إحضاره من الطبخ، دون الخبز، إلا أنهم أجمعوا على طلب الخبز((خبز...نريد خبزا...وكيف سنأكل الجبن دون خبز ؟ ...ألم نساعدك بجمع الحطب للتنور؟)).
كانت لوحدها تواجه موجة الطلب الملح للأبناء، للحصول على الخبز، لكن الخبز مفقود.
يصر الاطفال على طلبهم، بينما يصم الزوج أذنيه عن صراخهم، متحاشيا، في آن، نظرات صارمة كانت زوجته تحدجه بها، وقد زاد صمتها الغاضب في تعميق احساسه بالقلق الشديد.
تعلقت أعين الأطفال بباب الغرفة التي دخلتها أمهم، فإذا بها قد أقبلت عليهم، وقد احتضنت صرة من القماش، مما جعلهم يسرون كثيرا، في حين كان زوجها يتساءل في دهشة عن مصدر الخبز الذي أتت به زوجته((ثم عادت تحتضن صرة قماشية كانت مخصصة للخبز...فافرجت أساريرهم، وعيون الزوج معلقة عليها، وفي خلده يتساءل : كيف تدبرت أمر الخبز ؟)).
لم يكن ما تحمله خبزا، بل كانت صرة من حصص أوراق ممزقة، طفقت توزعها على الأطفال حتى أن أصغرهم صدق ما أخذه، وشرع في غمسه كما الخبز في الزيت((بشفتينِ مرتعشتينِ، وحاجبينِ معقودينِ، استجمعت شجاعَتها، وفتحتْ الصرةَ وراحت بيدينِ مرتجفتينِ توزِّع لكلِّ طفلٍ حصَّته، أصغرُهُم صدَّق ما بينَ يديهِ وراحَ يغمرهُ بالزيتِ.))
وما لبثت أن التفتت إلى زوجها وهي تصرخ بأعلى صوتها داعية إياه لتناول حصته، الحصة الأكبر من الأوراق المنثورة، أمام حالة الذهول المشوبة بالصمت، التي انتابته، والتي لا عهد له بها من قبل. كانت زوجته تأمره إلى غمس أوراق الكتب المملوءة أدبا وشعرا، والتي تعلق بها، وراح ينفق فيها عشرات الليرات على حساب قوت صغاره((خُذ..كُلْ .. كُلْ .. ..تركتُ لك الحصةَ الأكبرَ .. ألستَ كبيرنا؟ بحركةٍ سريعةٍ ومباغتهٍ، وبيدين متعبتين راحت تنبشُ من الصرةِ أوراقاً ممزقةً بعشوائية ٍتفوحُ منها رائحةُ المطبعةِ والدقيقِ، تكدّسها أمامه وتنثُرها في حضنهِ وحولهُ، تستأنفُ صراخَها الهستيريَ المتزايدَ أمامَ صدْمته وصمته:
- ما بكَ...؟ اغمس (على قدر أهل العزم) بالزيتِ ..تذوّق (وا حرَّ قلباه ) ...أترك قليلاً منْها لأردَّها الى جيراننا بدلاً من نصفِ كيسٍ من طحينٍ .. استعرتُه من قبلٍ، علّهم يقبلونَ بـ(الخيل والليلُ والبيداءُ...) ))
وغني عن البيان أن الكاتبة كانت على دراية ووعي تامين بالوظيفة الجمالية، التي يؤديها الوصف باعتباره وسيلة أساسية لكسر رتابة السرد، ومنح القارئ فرصة للاستراحة من تدفقاته المتلاحقة.
ولخلق تفاعل بين الشخصيات تلجأ القاصة إلى الحوار مستخدمة معجما لغويا يساعد على التغلغل في أعماق الشخصيات، وكشف بواطنها، وابراز تناقضاتها. وهنا، لابد من التأكيد على أن اللغة لا تنهض بعبء التعبير والتصوير فحسب، بل إنها تلعب دورا بالغا ودقيقا في إضفاء الحرارة والحيوية على النص الأدبي، وتلقي بظلالها وتأثيرها على بقية العناصر. وهي التي يتوصل بواسطتها القاص إلى إبلاغ فكرته وترجمة مقاصده.
وقد شدتني في هذه القصة، لغتها الشيقة والجذابة، التي أتقنت الكاتبة استخدامها، مؤثرة العبارة الواضحة، الخالية من التعقيد والغموض.
أما العنوان، فإنه لم ينكشف إلا في الخاتمة، إذ تم اختياره من نهاية القصة ؛وهي إحدى التقنيات المعتمدة في هذا السياق، والتي تعكس-بوضوح- مدى إدراك الكاتبة لأهمية العنوان، الذي هو بمثابة المثير الأسلوبي في النص الأدبي، فضلا عن أنه يعد بنية إشارية، وإطارا جزئيا لخلق الإيحائية، ومدخلا أساسيا للغوص في النص، الذي يبقى من دون عنوانه، عائما وعاجزا عن صوغ دلالته.
كل هذه المقومات الفنية ساهمت في بناء نسيج قصصي يتسم بالإثارة والتشويق، وجذب القارئ لمتابعة تسلسل الأحداث، والتفاعل مع الشخصيات حتى بلوغ نهاية مفاجئة ومفتوحة، أبدعت الكاتبة في رسمها، تاركة لدى المتلقي أثرا يصعب محوه من الذاكرة، تأكيدا للفكرة التي تفيد بأن النهاية المفتوحة من شأنها أن تعطي القارئ فرصة اقتراح الحلول وإصدار الأحكام. كما أن
« القارئ- على حد تعبير "ميشال بوتور" - لايقف-هنا- موقفا سلبيا محضا، بل يعيد من جديد بناء رؤيا أو مغامرة، ابتداء من العلاقات المجمعة على الصفحة، مستعينا هو أيضا بالمواد التي هي في متناول يده، أي ذاكرته».
ختاما، أحيي الأديبة المبدعة صديقة علي، شاكرا لها جهودها السخية، وإهدائنا هذا النص الرائق ذي الفكرة المميزة، والأسلوب السردي، المتصف بالواقعية، والصدق، والموضوعية.
مع أرقى عبارات التقدير، و أخلص التمنيات بدوام النجاح والتألق.
_____الهادي نصيرة 01 أفريل 2024 _____