وفي الصف الثالث الإعدادي، عام 1987 انتقل (الرفحي) من مدارس البادية إلى أكبر مدرسة في المدينة، مدينة رفح. كان التلاميذ في مدرستيه السابقتين كلهم (من عربه)، أما هنا فالتلاميذ من بيئات مختلفة. منهم أبناء البادية مثله، ومنهم أبناء الحضر، ومنهم أبناء المحافظات الأخرى الوافدين مع أسرهم للعمل والإقامة، وهؤلاء أيضًا من مشارب شتّى، من المدن والأرياف والصعيد.
كوّن هذا المزيج مجتمعا مدرسيًّا ثريًّا ذا ميول متباينة وثقافات متغايرة. فكنتَ تلحظ بوضوح اختلافًا في سمات البنية، وفي لون البشرة وملامح الوجه، وفي لهجة التخاطب، مع تفاوت كبير في الوعي بأهمية الدراسية، وفي القدرة على تحديد الأهداف والسعي إليها من خلال الحرص والمثابرة على الدرس والتحصيل.
وكان من فضائل هذه العناصر المتباعدة المتقاربة أن أعفت الرفحي من الشعور بالغربة الاجتماعية في بيئته الجديدة، فاللهجات هي نفس لهجات معلميه السابقين من أبناء الحضر والوافدين. ووجود الفتيات في فصله وبجواره لم يكن مُحرجًا له؛ فطالما طارد الهوى مع تلميذات من البادية بارعات الجمال، لكنه في الحقيقة شعر أن لبنات المدينة والوافدات سحرًا غامضًا وجاذبية خاصة، وآنس فيهن رقة أنسته جمال "الظباء الرعابيب".
وإنما كانت الصدمة الثقيلة صدمة علمية حين اكتشف أن كثيرًا من أترابه الجدد يفوقونه في العلم بمراحل كثيرة.
كان يُنظر إليه في عهده السابق على أنه (الأول) بين أطفال البادية وصبيانهم. وما كان ذلك إلا لأنه أفضل المقصرّين، وكان ذلك برغم أنه لا يفقه شيئًا لا في الرياضيات ولا في اللغة العربية، وإنما قصاراه أن يجتهد في الإنجليزية والعلوم.
وأين هو من معظم التلاميذ الوافدين! أولئك أبناء الموظفين والموظفات الذين يسكنون في أحياء تتلاصق مساكنها، وفي هذه الأحياء كهرباء وماء وخدمات واستقرار، وفيها منافسة بين الجيران المتلاحمين، وفيها أسر تعيش بالعلم ومن العلم؛ فهي تؤمن بالتعليم وتغرس في أبنائها الحرص والإصرار على التفوق والنبوغ. هذا فضلا عن تفرّغ الأبوين لرعاية أبنائهما ومتابعتهم وإرشادهم إلى تنظيم الوقت وتوزيع الجهد بين شئون الجد واللهو.
وكذلك كان معظم تلاميذ الحضر من أبناء البلد. تهيأت لهم الظروف المواتية والرغبة في الدرس والتحصيل؛ فهم يرون – وأسرهم ترى – أهلهم وجيرانهم وقد طار بهم العلم إلى دول الخليج أو إلى الغرب فحازوا المال وبلغوا من الثراء ما بلغوا؛ فكانت المنافسة وكان الحرص وكان النبوغ، وكان الضياع من نصيب أبناء البادية!
في موسم الحصاد كان الرفحي يحصد، والويل له إذا نسي عودًا! ثم يجد الفأس اللعينة بانتظاره ينظف بها الأعشاب من بين شتلات البطيخ، وألف ويل له أن أخطأ فضربت الفأس جذر النبات! ثم لا تنسى أسرته نصيبه من رعي الغنم، ولا من العمل معهم في جمع ثمار اللوز. فإذا فرغ من ذلك فلا كهرباء ولا كرسي ولا مكتب! فإذا احتاج إلى مساعدة فلا الأم تفك الخط ولا الأب ولا زميل يساعد. وإنه ليسترجع الآن زملاءه في الابتدائية، واحد منهم فقط سمحت له درجاته بدخول الثانوية العامة ثم معهد فقير بعدها! وكيف زملاء إعدادية البادية؟ أربعة منهم فقط درسوا في الثانية، واثنان التحقا معه بالجامعة!
وقد صادف في تلك الأعوام أن فتح الله على بادية رفح بابًا واسعًا من أبواب الرزق تمثّل في زراعة (الخوخ). ولقد كان جديرًا بالعربان أن يثمّروا أموالهم في تعليم أبنائهم، ولكن لم يفعل ذلك إلا الأقلون عددًا، بل شاعت بينهم مقولة بغيضة دفعوا ثمنها باهظًا، ذلك حين قالوا: "شجرة الخوخ خير من الشهادة ألف مرّة"! وليت هذه العبارة السخيفة اقتصرت على العوام منهم؛ بل لقد قالها معلّم من البادية لأبناء جلدته في المدرسة الثانوية!
وإذ كانت الحال كذلك، فقد سيطر على الرفحي إحباط عظيم، وبئس من أن يكون ندًّا لزملائه هؤلاء المتفوقين، وشعر بالضياع والهوان وهو صامت والتلاميذ يُسألون فيجيبون. نعم، كان يباريهم في الإنجليزية، وكان المعلم ابن بيئته يشيد به إشادات تحفّزه. وفي العلوم كان يسير وراءهم بخطوات لكنه ليس خارج السباق. أما في الرياضيات واللغة العربية فكان من طائفة القابعين في المقاعد الخلفية من أبناء البادية وقليل من أبناء الحضر، رغم أن الوساطة أجلسته في الكرسي الأول بجوار التلميذ الوافد، وهو النابغة الأول في المدرسة ابن الرجل الأول في المدينة.
وكان من حسن حظه ومن لطائف الأقدار أن اعتنى به مدرس الرياضيات عناية خاصة؛ فصار يخصص له وقتًا بعد الدراسة مع التلاميذ الضعاف يساعدهم فيه على الفهم والاستيعاب، وكانت دروسًا مثمرة رفعت عنه الحرج وأنقذته من الخجل وبثّت في نفسه بعض الأمل، وبقيت اللغة العربية – وستبقى عامًا آخر – حاجزًا بينه وبين مجاراة النابغينٍ.
مسعد بدر – شمال سيناء
كوّن هذا المزيج مجتمعا مدرسيًّا ثريًّا ذا ميول متباينة وثقافات متغايرة. فكنتَ تلحظ بوضوح اختلافًا في سمات البنية، وفي لون البشرة وملامح الوجه، وفي لهجة التخاطب، مع تفاوت كبير في الوعي بأهمية الدراسية، وفي القدرة على تحديد الأهداف والسعي إليها من خلال الحرص والمثابرة على الدرس والتحصيل.
وكان من فضائل هذه العناصر المتباعدة المتقاربة أن أعفت الرفحي من الشعور بالغربة الاجتماعية في بيئته الجديدة، فاللهجات هي نفس لهجات معلميه السابقين من أبناء الحضر والوافدين. ووجود الفتيات في فصله وبجواره لم يكن مُحرجًا له؛ فطالما طارد الهوى مع تلميذات من البادية بارعات الجمال، لكنه في الحقيقة شعر أن لبنات المدينة والوافدات سحرًا غامضًا وجاذبية خاصة، وآنس فيهن رقة أنسته جمال "الظباء الرعابيب".
وإنما كانت الصدمة الثقيلة صدمة علمية حين اكتشف أن كثيرًا من أترابه الجدد يفوقونه في العلم بمراحل كثيرة.
كان يُنظر إليه في عهده السابق على أنه (الأول) بين أطفال البادية وصبيانهم. وما كان ذلك إلا لأنه أفضل المقصرّين، وكان ذلك برغم أنه لا يفقه شيئًا لا في الرياضيات ولا في اللغة العربية، وإنما قصاراه أن يجتهد في الإنجليزية والعلوم.
وأين هو من معظم التلاميذ الوافدين! أولئك أبناء الموظفين والموظفات الذين يسكنون في أحياء تتلاصق مساكنها، وفي هذه الأحياء كهرباء وماء وخدمات واستقرار، وفيها منافسة بين الجيران المتلاحمين، وفيها أسر تعيش بالعلم ومن العلم؛ فهي تؤمن بالتعليم وتغرس في أبنائها الحرص والإصرار على التفوق والنبوغ. هذا فضلا عن تفرّغ الأبوين لرعاية أبنائهما ومتابعتهم وإرشادهم إلى تنظيم الوقت وتوزيع الجهد بين شئون الجد واللهو.
وكذلك كان معظم تلاميذ الحضر من أبناء البلد. تهيأت لهم الظروف المواتية والرغبة في الدرس والتحصيل؛ فهم يرون – وأسرهم ترى – أهلهم وجيرانهم وقد طار بهم العلم إلى دول الخليج أو إلى الغرب فحازوا المال وبلغوا من الثراء ما بلغوا؛ فكانت المنافسة وكان الحرص وكان النبوغ، وكان الضياع من نصيب أبناء البادية!
في موسم الحصاد كان الرفحي يحصد، والويل له إذا نسي عودًا! ثم يجد الفأس اللعينة بانتظاره ينظف بها الأعشاب من بين شتلات البطيخ، وألف ويل له أن أخطأ فضربت الفأس جذر النبات! ثم لا تنسى أسرته نصيبه من رعي الغنم، ولا من العمل معهم في جمع ثمار اللوز. فإذا فرغ من ذلك فلا كهرباء ولا كرسي ولا مكتب! فإذا احتاج إلى مساعدة فلا الأم تفك الخط ولا الأب ولا زميل يساعد. وإنه ليسترجع الآن زملاءه في الابتدائية، واحد منهم فقط سمحت له درجاته بدخول الثانوية العامة ثم معهد فقير بعدها! وكيف زملاء إعدادية البادية؟ أربعة منهم فقط درسوا في الثانية، واثنان التحقا معه بالجامعة!
وقد صادف في تلك الأعوام أن فتح الله على بادية رفح بابًا واسعًا من أبواب الرزق تمثّل في زراعة (الخوخ). ولقد كان جديرًا بالعربان أن يثمّروا أموالهم في تعليم أبنائهم، ولكن لم يفعل ذلك إلا الأقلون عددًا، بل شاعت بينهم مقولة بغيضة دفعوا ثمنها باهظًا، ذلك حين قالوا: "شجرة الخوخ خير من الشهادة ألف مرّة"! وليت هذه العبارة السخيفة اقتصرت على العوام منهم؛ بل لقد قالها معلّم من البادية لأبناء جلدته في المدرسة الثانوية!
وإذ كانت الحال كذلك، فقد سيطر على الرفحي إحباط عظيم، وبئس من أن يكون ندًّا لزملائه هؤلاء المتفوقين، وشعر بالضياع والهوان وهو صامت والتلاميذ يُسألون فيجيبون. نعم، كان يباريهم في الإنجليزية، وكان المعلم ابن بيئته يشيد به إشادات تحفّزه. وفي العلوم كان يسير وراءهم بخطوات لكنه ليس خارج السباق. أما في الرياضيات واللغة العربية فكان من طائفة القابعين في المقاعد الخلفية من أبناء البادية وقليل من أبناء الحضر، رغم أن الوساطة أجلسته في الكرسي الأول بجوار التلميذ الوافد، وهو النابغة الأول في المدرسة ابن الرجل الأول في المدينة.
وكان من حسن حظه ومن لطائف الأقدار أن اعتنى به مدرس الرياضيات عناية خاصة؛ فصار يخصص له وقتًا بعد الدراسة مع التلاميذ الضعاف يساعدهم فيه على الفهم والاستيعاب، وكانت دروسًا مثمرة رفعت عنه الحرج وأنقذته من الخجل وبثّت في نفسه بعض الأمل، وبقيت اللغة العربية – وستبقى عامًا آخر – حاجزًا بينه وبين مجاراة النابغينٍ.
مسعد بدر – شمال سيناء