منقول - هكذا ظهرت وجبة الحريرة: زرياب يؤسس للمطبخ الأندلسي المغربي

المطبخ في حضارة الإنسان مرآة للوضع الاقتصادي؛ فكلما مالت الحياة إلى البدائية والبساطة أثّر ذلك في مطاعم الناس، وكلما مالت الحياة إلى التعقيد تلوّنت موائدهم. ولقد كان طعام العرب في البادية مشابهًا لحياتهم البريّة جافًّا وقاسيًا، قليل التزويق والمعالجة خاليا من التعقيد، فقائمة طعام العربي في باديته ليست إلا إحصاء لما يحيط به من النباتات والحيوانات.

مائدة فقيرة
عاشت أغلبية العرب في بيئة صحراوية مجدبة؛ ولذلك فإن غاية ما عرفوه من صنعة الطعام: “الثريدُ” وهو خبز يُفتّ ويبلّ بالمرق ويوضع فوقه اللحم؛ والشواء الذي منه ما يُشوى على الحطب والفحم، ومنه ما يُشوى على الحَجَر المُحْمَى بالنار، وهذا الأخير يسمونه “المَرْضوف”.

ومن ذلك طائفة من الوجبات التي تتشابه في بساطتها كما تتشابه في الصيغ الصرفية لأسمائها، حتى قال فيها أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ/1039م) في كتابه ‘فقه اللغة وسرّ العربية‘: “وأطعمة العرب على [وزن] ‘فعيلة‘ كالسخينة والعصيدة.. والحريرة”؛ وكذلك الهريسة و”المَضيرة” وهي طبخ اللحم باللبن الماضِر أي الحامض.

وأما “الحَريرة” فيُعرِّفها مجد الدين ابن الأثير (ت 606هـ/1209م) -في ‘النهاية في غريب الحديث والأثر‘- قائلا: “الحريرة: الحَسا المطبوخ من الدقيق والدسم والماء؛ وقد تكرر ذكر الحريرة في أحاديث الأطعمة والأدوية”. وقد تطورت الحريرة مع التحضّر حتى أصبحت بصورتها الحالية التي يتفنن فيها المغاربة ويقدمونها على موائد إفطارهم الرمضانية، إلى درجة اصبحت هذه الوجبة المتفردة مرتبطة بالموائد المغربية على الخصوص، وهي تعكس غنى الأراضي الفلاحية المغربية وتنوعها، وأيضا غنى فنون الطبخ في المغرب.

ومن تلك الأطعمة البسيطة أيضا “الخَزِيرة”؛ وعن طريقة تحضيرها والفرق بينها وبين العصيدة يقول ابن منظور (ت 711هـ/1311م) في ‘لسان العرب‘: “الخزيرة والخزير: اللحم.. يُؤخذ فيُقطّع صغارا في القِدْر، ثم يُطبخ بالماء الكثير والملح، فإذا أُمِيَت طبْخاً ذُرَّ عليه الدقيق فعُصِد به، ثم أُدِم بأيّ إدام شِيءَ. ولا تكون الخزيرة إلا وفيها لحم، فإذا لم يكن فيها لحم فهي عصيدة”.



مطبخ زريابي
وفي المطبخ الأندلسي خلال القرن السادس الهجري/الـ12 الميلادي؛ نجد وصفة “الدجاج المُسحّب” (Boneless chicken) التي جاءت إشارة لها في مخطوط أندلسي مجهول المؤلف يعود إلى القرن السادس الهجري/الـ12 الميلادي، وقد نشره المستشرق الإسباني أمبروزيو ميراندا تحت عنوان ‘كتاب الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين‘.

ففي هذا الكتاب ورد ذكر للآلات التي ينبغي أن تتوفر لدى الطباخ، مثل: المِهراس الذي يُستحسن أن يكون من الرخام أو الخشب، أما النحاس فإنه يُفسد بعض المدقوقات من الطعام كالملح والثوم والكزبرة الرطبة والبصل والخردل.. لأن النحاس عرضة للصدأ والتغيّر. كما يُتخذ من الخشب الصلب المغارف والملاعق، واللوح الذي يقطّع عليه اللحم، ولوح الحلوى والكعك، وينبغي أن يكون أملس في غاية الصقالة.

كما نجد في هذا المخطوط الأندلسي تفضيل الأندلسيين لطريقة تقديم الطعام منجَّمًا أي طبقًا بعد الطبق، دون أن تجمع كل الأطباق والأصناف على المائدة مرة واحدة. ويذكر أن الألوان المقدمة على المائدة الأندلسية كانت تصل إلى سبعة ألوان وخاصة في ولائم الأعراس؛ وكانت يبتدأ فيها بالبقوليات، ويتوسط بالمخلل والمعسل، ثم يفصل بينها لون آخر، ويُختَم بالمعسّل.

ثم يقول: “وقد كان كثير من أكابر الناس وأتباعهم رسموا أن يوضع على كل مائدة بين يديْ الرجال ألوان مفردة لون بعد لون آخر مرتبة، وهو لعمري أحسن من أن يجعل أغضِرة (= أواني خزفية) كثيرة كلها على المائدة، وأجمل وأكثر تأدبًا وأطرف، وهي طريقة أهل الأندلس والغرب ورؤسائهم وخواصهم وذوي الفضل من أهلها، من أيام عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م) وبني أمية إلى هلم”. ونحن نرى أن هذا التقليد لم يزل معمولًا به في بلاد المغرب، مع اختلاف في عدد الأصناف.

ولا ينبغي أن نغادر المطبخ الأندلسي والغربي -الذي سنختم به هذه الجولة التاريخية داخل عالم الطبيخ في الحضارة الإسلامية- قبل أن نأتي على ذكر الدور التأسيسي في تطوير هذا المطبخ وتأثيثه بأفانين الطهي، وهو الدور الذي اضطلع به الموسيقار العراقي زِرْياب الموصلي (ت 243هـ/857م) منذ وصوله إلى الأندلس سنة 206هـ/821م، وربما يكون هو أصل ترتيب المائدة الذي ذكره المؤلف الأندلسي المجهول.

فقد قال المقري (ت 1041هـ/1631م) -في ‘نفح الطيب‘- إن زرياب أجاد من “مهارة الخدمة الملوكية ما لم يُجده أحد من أهل صناعته [الغنائية]، حتى اتخذه ملوك أهل الأندلس وخواصهم قدوة فيما سنّه لهم من آدابه واستحسنه من أطعمته، فصار إلى آخر أيام أهل الأندلس منسوبا إليه معلوما به: فمن ذلك… مما اخترعوه من الطبيخ: اللونُ المسمى عندهم بالتفايا، وهو مصطنع بماء الكزبرة الرطبة محلى بالسنبوسق والكباب، ويليه عندهم لون التَّقْلية المنسوبة إلى زرياب”.

ويضيف المقري أن “مما أخذه عنه الناس بالأندلس تفضيله آنية الزجاج الرفيع على آنية الذهب والفضة، وإيثاره فَرْشَ أنْطاع (= جمع نَِطْع: البساط) الأَدِيم (= الجلد) اللينة الناعمة على ملاحف الكتان، واختياره سُفَر (= جمع سُفْرة) الأديم لتقديم الطعام فيها على الموائد الخشبية، إذ الوَضَر (= الوسخ) يزول عن الأديم بأقل مسحة”.

وعدّد لنا المستشرق ليفي بروفنسال (ت 1376هـ/1956م) -في كتابه ‘تاريخ إسبانية المسلمة‘- طائفة من “آيين الطعام” وآداب المائدة التي جاء بها زرياب معه من بغداد؛ فقال: “علَّم زرياب أهالي قرطبة إعداد المآكل البغدادية الأكثر تعقيدًا، وترتيب أطباق الوجبة على الموائد الأنيقة، فأفتى بألا يقدم الطعام دفعة واحدة، أو كيفما اتفق، بل يجب البدء بالحساء، وتتبعه أطباق اللحوم والطيور المطيبة بالتوابل الحارة، ثم الأطباق المحلّاة، فالحلوى المصنوعة من الجوز واللوز والعسل، أو الفاكهة المجففة المعطرة المحشوة بالفستق والبُنْدق، ونصح بتغطية موائد الطعام بأغطية من الجلد الناعم الرقيق بدلًا من شراشف الكتان الخشنة، وبيّن أن الكؤوس الزجاجة الفاخرة آنق من آنية الذهب والفضة”.


المساء اليوم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى