أمل الكردفاني- الواقع والخيال

الواقع والخيال

في ممشى الولد والكلب يقول الفتى لمحبوبته: "دعيني أغسل قدميك الجميلتين قبل ذلك كما فعل المسيح مع تلاميذه فالفرق بين الواقع والخيال هو الجهل".

فالإنسان أسس عالمه الفنتازي على ما يجهل حقيقته. جمع الإنسان الأصوات وصنع منها أغنياته وهمهماته الموسيقية كي يُرضي الآلهة، وتخيل سيطرته عبر محاكاة هذه الآلهة بالفن. وبالخيال صنع الأفلام والأساطير والحكايات والملاحم، والخيال نفسه هو ما ألقى به في سعير الحب؛ إذ يتخيل العاشقان عالماً ما وراء الواقع. عالمٌ فرودسي، وكلما انحسر جهل الإنسان انحسر خياله، حتى نشأت فلسفات تنكر الخيال وتنكر كل ما لا يمكن إخضاعه للتجربة والاختبار العلمي، وانتفض التنويريون يمجدون العقل، ويجعلونه مركزاً للتطور البشري، غير أن الحروب الغربية الطاحنة كبحت جماح تلك الطموحات، وأحدثت احباطاً عندما انهار مشروع الحداثة، وتطرف المحبطون في انفعالاتهم فكالوا الاتهامات للعقل، ونشأت مدارس مناوئة، وخرجت عبثية الحضور الإنساني في الكون كإعلان للهزيمة من جهة، ورفض للاعتراف بالخيال، ولكن عبر الخيال نفسه، في ذات الوقت كانت هناك فلسفة تتأسس على محض الخيال، ولأنها كذلك فهي لم تُجري تأصيلاً عقلياً لفلسفتها، منحسرة في روح الفن، كأغنية "تخيل" لجون لينون والتي منعت في العديد من الدول المسيحية، ثم ذاع صيتها بعد ذلك. كانت تخيل تنفي التخيل من جهة وتغرق فيه من جهة، تنفي الميتافيزيقا وتحلم بها، محاولة التأسيس لعالم مثالي، ولكنه يبدو عالماً بلا هدف. ويبدو كذلك أنه مؤسس على الخلود في تطرف شاسع المساحة المخيالية. وعند انبثاق عصر التقنيات الرقمية انتقل الخيال إلى مرحلة أخرى، أصبح الإنسان يحيا في عالم افتراضي، لم يعد بحاجة إلى الخروج ليرى الطبيعة فهو داخل فقاعته التكنولوجية يستطيع أن يرى كل العالم من خلال نظارة يرتديها في عينيه، أصبح هناك حب افتراضي وزواج افتراضي وصداقات افتراضية وواقع -ويا للسخرية- واقع افتراضي، وعمل افتراضي، فالتكنولوجيا أصبحت تغذي الخيال وتحفزه، ومع ظهور الذكاء الاصطناعي أصبح بإمكان الإنسان الفرد أن يصنع موسيقاه بنفسه وأن يحول خياله إلى صورة وفيديو وصوت بضغطة زر. فتلاقت المعرفة بالجهل ليتكاملان. أصبح الإنسان غارقاً في الخيال، محاولاً نقل ذلك الخيال إلى الواقع عبر التقنيات الرقمية، ما يجهله يتخيله، وما يتخيله يستطيع بثه وتقريبه لأذهان الآخرين بسهولة. وكان ذلك سبباً لتدخل الرأسمالية في هذه الثورة، لتتمكن من استثمار التكامل بين الواقع والخيال، وتحقيق الأرباح الطائلة، فطورت من أدواتها التسويقية، لتلامس خيال الإنسان فيدخل يده في جيبه الرقمي ويخرج نقوده الرقمية، ويدفع عبر وسائل الاستلام الرقمية ليتلقى تسهيلاً رقمياً كي يمتلك القدرة على تحويل خياله إلى واقع رقمي.
هكذا يغسل المسيح أقدام تلاميذه لينقلهم من عالم مادي إلى عالم روحاني، ويقنعهم عبر بوابة الخيال بضرورة المقاومة. لأن الحقيقة ليس لها وجه واحد.. بل أوجه عديدة.. فالحب والكره، والحياة والموت، والسلام والحرب، ليست سوى مفاهيم شرطية.

أمل الكردفاني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى