الطاهر شرقاوي - ضحكة هند...

كانت هند تطلق ضحكتها عادة، بعد منتصف الليل، في الوقت الذي يعم فيه السكون على الدنيا، ونسمات لطيفة تتحرك بخفة وهى تنعش الأبدان، بينما تنزل ملائكة كثيرة تضرب بأجنحتها في الهواء، فتصنع موسيقى خافتة تُشرح القلوب، لم تكن هند تطلق ضحكة واحدة، بل العديد من الضحكات، على فترات متباعدة نسبيا. كانت الضحكة تطلع من صدرها بدون كسوف، ناعمة وقوية، لم تكن تبترها في المنتصف، أو تحاول أن تخفف من درجة ارتفاع صوتها، أو تسرع بوضع يدها على شفتيها لتئدها في المهد مثلا، بالعكس كانت تترك الضحكة على راحتها تماما، حتى تنتهي لوحدها، ثم تتبعها بضحكة قصيرة، عادة تكون أكثر خفوتا من الضحكة الأصلية، وان كانت تتسم بنفس صفاتها. في أيام الشتاء، كانت تسرى في خفوت، بالكاد تقطع مسافات قصيرة، محاولة الإعلان عن وجودها، وهى تعانى صعوبة بالغة في اختراق الستائر، والأبواب الموصدة. أما في الصيف، حيث الأبواب والشبابيك مفتوحة على مصراعيها، كانت ضحكة هند تسرى بوضوح، مخترقة البيوت المجاورة والمقابلة، متسللة حتى حجرات النوم، تربت بحنو على الأجساد النائمة، كانت توقظ الرجال فقط، أما السيدات فتتركهن يغطن في نوم عميق، بعض الرجال كان يستيقظ متأففا، وهو يتمتم بصوت خفيض، لاعنا اليوم الذي جاء فيه إلى هذا الشارع، داعيا الله أن يفرجها من عنده، ويساعده للانتقال إلى مكان طاهر، وبعضهم كانت تُحْدث لديه انتعاظا قويا، وموجعا أيضا، يدفعه لامتطاء زوجته الراقدة بجواره، عابثا بيدين خشنتين تحت هدومها، فتستجيب بعد تذمر خفيف، مباعدة ما بين ساقيها، طالبة منه قبل أن تعود إلى النوم مرة ثانية، ألا ينسى أن يغطيها بعد أن ينتهي، والبعض كان يعمل نفسه وكأنه لم يسمعها، فيدس رأسه تحت المخدة محاولا النوم، أما الشباب العزاب، فكانت تشعل بداخلهم حريقا متقدا، يظل يأكلهم ببطء، ولا يخمد حتى الصباح. ضحكة هند، مانحة المتعة ومحركة القلوب، كانت تطلقها بأريحية وحب، شاعرة بانتعاش وفرحة، وكانت هند بعد كل هذه الضحكات، تحلق في الفراغ كريشة طائر، خفيفة، مواصلة رحلة الصعود حتى القمر، المعلق في السماء، فتتربع عليه، وهى تبص إلى تحت. سائقو القطارات، والقتلة المختبئون في الزراعات، ومدمني السهر، كانوا يشوفون للحظات، بنتا ممتلئة، قاعدة على وجه القمر، فيفركون أعينهم بشدة، أو يشربون جرعة ماء، قبل أن يرفعوا رؤوسهم، نحو القمر مرة ثانية، وكانوا يقسمون لزملائهم في الشغل، ولأصدقائهم على المقاهي، بأنها كانت تبص عليهم، وتضحك أيضا. في اليوم التالي، كان الرجال، يمارسون حياتهم بشكل عادى جدا، مثل أي يوم آخر، وهم حريصون على عدم إبداء أي تعليق على ضحكة هند، وخصوصا لزوجاتهم، حتى المتأففين منهم، كانوا يذهبون إلى شغلهم في صمت، وهم يحملون أذنا من طين وأذنا من عجين.

* * *

لعب عيال

البنت "مزة" أم أربع سنين، ذات الشعر القصير مثل الأولاد، والجسد الضامر. أخذت اليوم من أمها هند، علقة ساخنة، كادت أن تموت فيها، وذلك لما شافتها، وهى راجعة من السوق، واقفة بجوار الولد الذي يكبرها في العمر بسنتين، بالتحديد عند العربة القديمة المركونة بجوار الحائط القصير، في أول الشارع الذي تسكن فيه. كانا رافعين هدومهما إلى فوق السرة، وهما يتبولان في اطمئنان.

كانت "مزة" تشعر بالاستمتاع، وهى تسمح للماء الدافئ، بأن يتدفق ببطء من بين فخذيها، غاسلا الساقين النحيلتين، في طريقه إلى تحت، وهى تبص بشغف على ماء الولد، المندفع بقوة نحو الحائط. بينما أخذ سعيد القاعد وراءهما، بجوار باب بيتهم، وهو يحرس دجاجات جارته، يبحلق صامتا، في مؤخرتيهما الصغيرتين، الورديتين.

لا يزيد عدد البيوت في الشارع، عن عشرة بيوت تقريبا، تتوزع ما بين بيوت قديمة جدا، وأخرى حديثة مبنية بالطوب الأحمر لا يتعدى أعلاها ثلاثة أدوار، تتخللها قطع أرض فضاء، مسورة بحيطان قصيرة، وعلى الرغم من صغر الشارع، إلا انه يُعد من أشهر شوارع المنطقة. تقع في آخره قهوة "والشمس وضحاها"، تحتل دكانا صغيرا، بالكاد يلم النصبة، وراديو قديم، معلق على الحائط، وشيشة وحيدة، يدخن فيها معظم الوقت روسيا السمكري، ويفرش صاحبها الكراسي والولعة بالخارج، في منتصف الشارع يقع دكان أم بسمة، وورشة السمكرة، وخلاف ذلك لا يوجد أي شيء آخر.

أسندت هند الأكياس السوداء على الأرض، وبدون إصدار أي حس، تسللت خلفها، ثم خلعت فردة الشبشب، الذي في رجلها اليمين، ونزلت به على مؤخرتها، فلمّت البنت بصراخها الرفيع، الجارات، اللاتي طلعن من بيوتهن، مهرولات، حافيات، وأثداءهن الضخمة الطرية، تطلع وتنزل، وهن يمسحن أيديهن بسرعة، في جلابيبهن عند الخصر. خلصنها بصعوبة، من بين يدي أمها العفيتين، ثم أخذتها بطة في حضنها، غطت مؤخرتها التي صارت في لون الطماطم، طبطبت على ظهرها، ومسحت المخاط النازل من أنفها، وهى تقول لهند: حرام عليك يا شيخة، إنها لا تعرف شيئا. بصت هند بغيظ على البنت المستكينة في حضن بطة، وهى ما تزال تنهنه بصوت مسموع، ثم حلفت بأيمانات المسلمين، وبتربة أمها، أنها لن تشوف الشارع بعد اليوم. أخذ سعيد، دون أن ينهض من مكانه، يراقب الزيطة الملمومة قدامه بابتسام، وهو ينش بيده ذبابا لحوحا من على وجهه.

قامت هند بحبس مزة بقية اليوم في البيت، حتى البلكونة لم تظهر فيها، ثاني يوم تسربت البنت إلى البلكونة، أخذت تتفرج على أخيها محمود وبقية العيال، وهم يلعبون في الشارع، والذين اغتنموا فرصة وجود سعيد بمفرده، فأخذوا يعاكسون الدجاجات الحمراوات، التي رفرفت بأجنحتها، وجرت وهى تصيح في فزع، مندسة تحت العربة الراكنة، بجوار الحائط الملتف، حول قطعة أرض فضاء، امتلأت بأكياس القمامة، العربة التي علاها الصدأ، وأكلت الأرض كاوتشاتها الأربعة. في ثالث يوم، وفى جرأة، تسللت " مزة " إلى الشارع، وقفت وحدها قدام سعيد، بصت حولها يمينا وشمالا، ولما كان المكان خاليا من أي أحد تعرفه، رفعت هدومها إلى أعلى، فزعقت فيها بطة، التي كانت فارشة صدرها، على حافة بلكونتها في الدور الأول، تتفرج على الذاهب والقادم: يا أم ضب.. سوف تذبحك أمك.

بصت إليها "مزة" ، طلعت لسانها الأحمر الرفيع، حركته في الهواء أكثر من مرة، وقالت في تحد: ليس لك دعوة. ثم ضمت رجليها، وعلى مهل، تركت الماء الدافئ، ينساب من بين فخذيها، ويغسل ساقيها النحيلتين، منزلقا على التراب، في خطوط رفيعة، تسعى بسرعة، في اتجاه كاوتش العربة المتآكل.

* * *

زيارة عادية

كان أولاد الحلال يأتون لـ "بسمة" في النوم، كانوا كثيرين ووسيمين، نجوم سينما ومطربين، وآخرين لا تعرفهم، تبدوا عليهم السعادة، وهم يتكلمون معها ويضحكون. لم تكن لهم مواعيد محددة، كانوا يأتون في أيام متفرقات، حاولت بسمة أن تحدد الأيام التي يأتون فيها، أو حتى تخمنها، لكنها فشلت، وظلوا هم من ناحيتهم، مصرين على إخفاء اليوم الذي يختارونه لزيارتها، باعتباره مفاجأة لا يجوز البوح بها. كانت بسمة ترى نفسها في أحيان كثيرة، تلبس فستانا ابيض، وحولها لمة، وبنات صغيرات لا يكففن عن الحركة والصياح، والجري وراء بعضهن، وموسيقى صادحة لا تعرف تحديدا من أين تنبعث، وان كانت تبعث في الموجودين إحساسا بالبهجة، فيواصلون في مرح ممارسة صخبهم وضحكهم. ثم تصحو وهى تحس بالضيق، وتظل حتى الصباح، تتقلب في فراشها دون نوم، ولما تحكى ما رأته في الحلم لصاحبتها "ضى النهار"، كانت أولا تغلق الباب عليهما، ثم تحكي الحلم بصوت هامس، متقطع، وكأنها تذيع سرا خطيرا، قبل أن ترتمي على صدرها الممتلئ، ويد "ضى النهار" تتحرك على ظهرها ببطء، وإحساس يتولد بداخلها في تلك اللحظة، أن التي تنهنه في حضنها، راقدة في استسلام، ما هى إلا ابنتها، فتشعر نحوها بحب، يدعوها إلى أن تقبل جبهتها، وتحضنها أكثر، ثم تمسد شعرها بلطف. في نفس الوقت، تكون بسمة قد أغمضت عينيها، وهى تشم رائحة الثديين الطريين، تلك الرائحة التي تعشقها، شاعرة برغبة قوية في النوم، وظلام خفيف يجرفها نحو أعماقه، وأشباح بنات صغيرات، ورجال وسيمين، تتزايد من حولها، حتى تكتظ بهم الحجرة
أعلى