عبدالفتاح الجمل - الحداد والكير...

الراوية: صل على النبي

السامع: اللهم صلى عليك يا نبي.

قديما كان لحداد دكانة صغيرة على قد الحال، تكاد تتسع لوقوفه هو وصبيه. هو يقف إلى السندان يطرق الحديد، وصبيه إلى الكير يشد حبله، لينفخ على الفحم في الكور.

وكان الحداد كلما فاض منه قرش، حفظه في كير قديم مرمي في الدكانة من أيام جدوده، وكان الكير يعترض سكة الداخل إلى الدكانة أو الخارج منها، تشبك فيه هدومه، أو يتعثر.

ومكث الحداد في دكانته سنين على هذا الحال، إلى أن أتى يوم، حمل فيه الكير إلى بيته، وحطه في السندرة، وظل أيضا يحوش فيه الفلوس التي تفيض منه.

امرأة الحداد، هل تدري شيئا من هذا؟ لا.

إلى أن مر سريح متجول مرة، ممن يشترون سقط المتاع "وكراكيب" البيت، يعني الأشياء القديمة.

فنادت الولية امرأة الحداد ذاك الرجل: تعا يا عم. عندنا كير، هل تشتريه؟

قال لها: أشوفه يا ست. أرني إياه.

دخلت وأنزلته من السندرة. وأرته الكير.

- كم تريدين فيه يا ست؟ إنه كير قديم غير صالح.

- هات يا عم ما تجود به.

أخرج الرجل لها ثلاثة قروش، وأعطاها إياها.

قالت له: ثلاثة قروش فقط؟! إنها لا تأتي بثمن الجلد الذي فيه.

قال لها: خلاص يا ست. لأنها أول بيعة على الصبح، خذي هذه التعريفة أيضا.

ولفع الكير ومضى.

الولية التفت بالملاءة، وإلى السوق.

اشترت فرختين وأقة رز وخضرا ودقيقا. وعادت إلى بيتها فطبخت وعجنت. ألم تبع الكير بثلاثة قروش ونصف؟!

وبعد ما أنجزت ما أمامها وما وراءها، كان النهار قد ولى، والدنيا داخلة على المغرب. وبعد فترة أغلق الزوج دكانته، وجاء جوعان تعبا.

أعدت له الطشت والإبريق، فتشطف وأزال عنه غبار الفحم ودخنة الدكانة.

وبينا هو ينشف وجهه ويديه، إذ شالت امرأته عن الطبلية الفوطة التي تغطى الطعام.

قال الرجل: ما هذا؟ ما هذا يا ولية؟!

قالت له: كما ترى. زفر فراخ وبطاطس وكوسة وملوخية.

قال لها: ومن أين هذا كله؟!

قالت له: كل أولا، ثم اسأل بعدها ما تشاء. خذ اشرب هذا الحساء. بل خذ هذا الورك مصمصه أولا. وصار الحداد لا يدري أيأكل من هذا أم من ذاك.

إلا أنه حين شبع، وامتلأ بطنه إلى حافته، سألها: كل هذا الطعام من أين يا ستي؟

قالت له: من الكير.

قال لها: من أي كير؟

قالت له: بعت الكير القديم المكسر الذي كان مرميا في السندرة. أصاب الرجل الذهول: بعت الكير؟!

تقول له: آه. لم؟

يقول له: بعت الكير؟!

تقول له: آه. لم، وما في ذلك؟!

يقول لها: بعت الكير؟!!

تقول له: آه. لم؟ ما فيه؟!

وصار يضرب كفا بكف، ويقول: عليك العوض يا رب، ومنك العوض. ويدخل الغرفة، ويخرج منها. ويدخل الأخرى ويخرج منها.

صار كالمجنون، والولية وراءه ماشية تقول له: ولكن ما الذي جرى يا معلم؟ هل أتيت أمرا غلطا؟! ما أصل الحكاية؟

وصارت تمشي وراءه هي الأخرى كالمجنونة.

هدأ الرجل بعضا، وقال لها: أبدا، أنا الذي أتى أمرا غلطا. وتركها لينام.

ظل الرجل على سريره، وعيناه مفنجلتان إلى أن أذن الفجر، وطلع النهار. فقام ولبس هدوم الحدادة، وأخذ بعضه وخرج سارحا.

فتح دكانته، وسخن حديده، وظل يطرقه إلى أن جاء صبيه: هل أنا تأخرت عليك يا معلمي؟

قال له: لا يا بني. أنا الذي فتحت الدكانة مبكرا.

- لم يا معلمي؟ خيرا. هل من شغل عاجل اليوم؟

قال له: لا.

- إذن ما الحكاية يا معلم؟

لم يرد الرجل على صبيه، وظل يطرق.

فقال له الولد: أنسى الهم، ينساك يا معلمي. وإن افتكرته، أضناك يا معلمي.

نظر الرجل إليه، وقال له:

إنس الهم، ينساك.

وإن افتكرته، أضناك.

يا من رخصك يا كير عند من باعك.

ويا بخته بك.. من اشتراك.

انفخ يا واد

فشد الولد الحبل، وظل ينفخ.

ومسك الرجل الحديد، وظل يطرق.

وبس.




=====================
الحكايات الشعبية هي مخزن حكمة الشعوب، ووسيلة ترفيهها الدانية، وأداة تخصيب خيال الصغار وهدهدة نفوسهم. تنطوي دائما على مغزى عميق، لكنها تسقى محلاة بروح الخيال ومعطرة بنكهة تقاليد خاصة في القص ترتبط بمواطنها وأزمنتها. كل هذا معلوم ومطروق الأبواب. أما الجديد هنا فهو الصياغة. أي سكب الحكاية المنحوتة ألفاظها من خصوصية بيئتها في قالب لا يعصف بالفصحى الجامعة. وعندما يهتف الكاتب في مقدمة كتاب له خاض فيه تجربة هذه الصياغة: "مخطئ من يخطئ العامة". يقولها وهو مستند إلى حقيقة أن من يعرف من أمور الفصحى الكثير يغفر في تلوينها أكثر. لأن كثيرا مما يظنه الناس عاميا هو في أصله وتصاريح بنائه فصيح، فثمة رخص كثيرة في لغتنا السمحة تتيح للتنوع أن يظل أصيلا، كالقلب والإبدال وتخفيف الهمزة وتطور الدلالات. وهي رخص لا بد أن الكاتب اعتمدها مع غيرها في صياغته لهذه الحكاية. لهذا ننشر النص مصحوبا بهوامش الكاتب. فهذه تجربة في القص وتجربة في اللغة.
أعلى