كاظم حسن سعيد - قوة الدراما في ثلاث قصائد عربية...

اعتمدت هذه القصائد الثلاث على لغة الحوار والانسنة والتوتر الدرامي , وقد تسيدت وحدة الموضوع فيها ومقدرة الشعر على تحويل الافكار بما فيها التوتر الوجودي الى فن .
وسترى في قصيدة ايليا ابو ماضي وميخائيل نعيمة كيف تمكن شعراء المهجر من تنقية اللغة وانتقاء المعجم المتفرد وقوة تاثير الايقاع الذي تخلى عن التسارع لصالح الهمس الشعري .
ولقد خسر الشعر بعدهم الكثير حينما هيمنت القصائد الثورية والانفعالية .
اما قصيدة بن خفاجة الاندلسي فقد سبقت زمنها ورغم صعوبة قاموسها فقد سجّلت قفزة في الشعر العربي الذي لم يكتشف الشعراء حداثتها بالقياس الا بعد قرون .

1- قصيدة الطين لايليا ابو ماضي
نسي الطين ســاعةً أنه طيـــــ ــنٌ حقيــرٌ فصــالَ تيــهـاً و عــــــربــد
و كسا الخزُّ جســمه فتبــاهى و حـــــوى المــالَ كـيسُـــهُ فتمــــرّد
يا أخي لا تمــل بوجهــك عنـي ما أنــــا فــحمـــةٌ و لا أنــت فـــرقــــد
أنت في البردة الموَشّاةِ مثلي في كسائي الرديمِ تشقى و تسعد.
أأمانـــيّ كلهــــــا من تـــــــــرابٍ و أمانيـــــكَ كلـــهـــا مــن عسجــــد؟
أأمانــــي كلهــــا للتـــــــلاشـــي و أمــــانيــــك للخــــلــــود المؤكــّد؟
لا فهذي و تلك تأتي و تمضي كــــذويهــــا و أي شــــيءٍ يؤَبّـــــــد؟
أيها المزدهي إذا مسك السقــمُ ألا تشــــتكـــــي ألا تتــنــهّــــــد
قمـــــرٌ واحـــــدٌ يطــــل عليـــنــا و علــــى الكــــوخِ و البنـــاءِ الموطّد
إن يكــــن مشرقاً لعينيكَ إنــــي لا أراه مــــن كـــوة الكــــوخِ أســود
لو ملكت الحقول في الأرض طُراً لـم تكن من فراشةِ الحقلِ أسعـــد
أجميلٌ ما أنت أبهى من الــــــور دةِ ذاتِ الشذا و لا أنـــت أجــــــود
أم عـــزيزٌ و للبعوضــــةِ من خـــدّ يكَ قــــوتٌ و فــــي يديــكَ المهنّـد
أم قـــويٌ إذن مُر النــــومَ إذ يغــشاك و الليــــلَ عن جفــونــك يرتــد
أنت مثلــــي من الثــــرى و إليــــه فلماذا يا صاحبي التيه و الصـــد؟

2- النهر المتجمد لميخائل نعيمة
يا نهرُ، هل نضبتْ مياهُكَ فانقطعتَ عن الخريرْ؟
أم قد هَرِمْتَ وخار عزمُكَ فانثنيتَ عن المسير؟
بالأمسِ كنتَ مرنّماً بين الحدائقِ والزهورْ
تتلو على الدنيا وما فيها أحاديثَ الدهور
بالأمس كنتَ تسير لا تخشى الموانعَ في الطريقْ
واليومَ قد هبطتْ عليك سكينةُ اللحدِ العميق
بالأمس كنتَ إذا أتيتُكَ باكياً سلَّيْتَني
واليومَ صرتَ إذا أتيتُكَ ضاحكاً أبكيتني
بالأمسِ كنتَ إذا سمعتَ تنهُّدِي وتوجُّعِي
تبكي ، وها أبكي أنا وحدي، ولا تبكي معي !
ما هذه الأكفانُ؟ أم هذي قيودٌ من جليدْ
قد كبَّلَتْكَ وذَلَّلَتْكَ بها يدُ البرْدِ الشديد؟
ها حولكَ الصفصافُ لا ورقٌ عليه ولا جمالْ
يجثو كئيباً كلما مرَّتْ بهِ ريحُ الشمال
والحَوْرُ يندُبُ فوق رأسِكَ ناثراً أغصانَهُ
لا يسرح الحسُّونُ فيهِ مردِّداً ألحانَهُ
تأتيه أسرابٌ من الغربانِ تنعَقُ في الفضا
فكأنها ترثي شباباً من حياتِكَ قد مضى
وكأنها بنعيبها عندَ الصباحِ وفي المساءْ
جوقٌ يُشَيِّعُ جسمَكَ الصافي إلى دارِ البقاء
لكن سينصرف الشتا، وتعود أيامُ الربيعْ
فتفكّ جسمكَ من عِقَالٍ مَكَّنَتْهُ يدُ الصقيع
وتكرّ موجتُكَ النقيةُ حُرَّةً نحوَ البِحَارْ
حُبلى بأسرارِ الدجى ، ثَملى بأنوارِ النهار
وتعود تبسمُ إذ يلاطف وجهَكَ الصافي النسيمْ
وتعود تسبحُ في مياهِكَ أنجمُ الليلِ البهيم
والبدرُ يبسطُ من سماه عليكَ ستراً من لُجَيْنْ
والشمسُ تسترُ بالأزاهرِ منكبَيْكَ العارِيَيْن
والحَوْرُ ينسى ما اعتراهُ من المصائبِ والمِحَنْ
ويعود يشمخ أنفُهُ ويميس مُخْضَرَّ الفَنَنْ
وتعود للصفصافِ بعد الشَّيبِ أيامُ الشباب
فيغرد الحسُّونُ فوق غصونهِ بدلَ الغراب
قد كان لي، يا نهرُ، قلبٌ ضاحكٌ مثل المروجْ
حُرٌّ كقلبِكَ فيه أهواءٌ وآمالٌ تموج
قد كان يُضحي غير ما يُمسي ولا يشكو المَلَلْ
واليوم قد جمدتْ كوجهِكَ فيه أمواجُ الأمل
فتساوتِ الأيامُ فيه صباحُها ومساؤها
وتوازنَتْ فيه الحياةُ نعيمُها وشقاؤها
سِيّانِ فيه غدا الربيعُ مع الخريفِ أو الشتاء،
سيّانِ نوحُ البائسين، وضِحكُ أبناءِ الصفاء
نَبَذَتْهُ ضوضاءُ الحياةِ فمالَ عنها وانفردْ
فغدا جماداً لا يَحِنُّ ولا يميلُ إلى أحد
وغدا غريباً بين قومٍ كانَ قبلاً منهمُ
وغدوت بين الناس لغزاً فيه لغزٌ مبهمُ
يا نهرُ ذا قلبي أراهُ كما أراكَ، مكبَّلا
والفرقُ أنَّك سوفَ تَنشطُ من عِقالِكَ، وهو... لا

3- قصيدة الجبل لابن خفاجة الاندلسي
وأرعنَ طمّاحِ الذُؤابةِ بَاذخٍ
يُطاولُ أعنانَ السماءِ بغاربِ
يَسدُّ مهبَّ الرّيحِ من كلّ وجهةٍ
ويزحمُ ليلاً شُهبهُ بالمناكب
وقُورٍ على ظَهرِ الفلاةِ كأنهُ
طوالَ الليالي مُفكِرٌ في العواقِبِ
يلُوثُ عليهِ الغيمُ سُودَ عمائمٍ
لها منْ وميضِ البرقِ حُمرُ ذوائبِ
أصختُ إليهِ وهوَ أخرسُ صَامتٌ
فحدثِني ليلَ السُرَى بالعَجائبِ
وقال ألا كم كنتُ ملجأ قاتلٍ
وموطن أوَّاهٍ تبـتَّلَ تائبِ
وكم مرَّ بي من مدلجٍ ومـؤوِّبِ
وقـام بظلِّي من مطيٍّ وراكبِ
فما كان إلا أن طوتهم يدُ الردى
وطارت بهم ريح النوى والنوائبِ
فحتى متى أبقى ويظعنُ صاحبٌ
أودِّع منه راحلا غيرَ آيبِ
وحتى متى أرعى الكواكب ساهرا
فمن طالعٍ أخرى الليالي وآيب
فرُحماكَ يا مولايَ دعوةُ ضارعٍ
يمدُّ إلى نعماك راحة راغب
فأسمعني منْ وعْظِه كل عبرةٍ
يترجمها عنه لسان التّجارب
فسلّى بما أبكى وسرّى بما شجى
وكان على عهد السّرى خير صاحب
وقلتُ وقد نكبتُ عنه لطيّةٍ
سلامٌ فإنّا منْ مقيمٍ وذاهبِ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى