” لم تكن آلات التكنولوجيا وأجهزتها القادرة على القتل هي أخطر ما يهدد الإنسان. إن التهديد الفعلي كان دائماً هو ما يصيب الإنسان في صميمه. قانون التأطير يهدد الإنسان عندما ينكر عليه أن يطرق وحياً أكثر إبداعاً ليخبر نداء حقيقةٍ أكثر عمقاً “ (مارتن هايدجر – القضية المتعلقة بالتكنولوجيا).
” نهاية الإنسان هي المعرفة، لكن شيئاً واحداً لا يمكنه أن يعرفه. إنه لا يستطيع أن يعرف ما إذا كانت المعرفة ستنقذه أم أنها ستقتله. سُيقتل، نعم، لكنه لا يستطيع أن يعرف ما إذا كان قُتل بسبب المعرفة التي اكتسبها أم بسبب المعرفة التي لم يكتسبها، والتي كانت لتنقذه لو أنه عرفها “ (مقتطف من رواية كل رجال الملك لروبروت وارين).
” وقد أصبح العلماء يقولون إنه إذا كان القرن العشرون هو قرن الهاتف والسيارة والكهرباء، فإن القرن الواحد والعشرين هو قرن الثورات البيولوجية بامتياز “. في حقيقة الأمر نهاية الإنسان هي المعرفة، هذا بالضبط ما يخشاه فرانسيس فوكوياما مؤلف كتاب نهاية الإنسان عواقب الثورة البيوتكنولوجية المعاصرة. وقد أثار الكتاب العديد من القضايا المهمة التي تتعلق بحياة الإنسان ووجوده من الناحية البيولوجية والأخلاقية، التي تستحق أن يقرأها كل مثقف، فهو بلا شك وجبة علمية وفكرية غنية للقارئ من الطراز الرفيع.
يرى فرنسيس فوكوياما أن الجدل الوحيد الذي لا يمكن دحضه هو أن التاريخ لا يمكن أن تكون له نهاية إلا إذا كانت للعلم نهاية؛ بل إن من بين أهم ما يقوم به العلم أنه يهمش دور الصدفة وأنه يختصر الزمن. كما يصف فوكوياما في كتابه " نهاية التاريخ والإنسان الأخير " 1989: كان تكشْفُ العلم الطبيعي الحديث والتكنولوجيا التي فرخها واحداً من أهم محركات التاريخ، فالكثير من تكنولوجيا نهايات القرن العشرين مثل ما يسمى بثورة المعلومات. كان عاملاً جيداً في نشر الديموقراطية الليبرالية. لكنا أبداً لم نقترب من نهاية العلم، بل الحق أننا على ما بدو نحيا في جوف مرحلة هائلة من التقدم في علوم الحياة. حيث أدى ظهور النموذج الجديد للكمبيوتر الشخصي لشركة آي بي إم المرتبط بالإنترنت، الذي ساعد في القضاء على المركزية والاستبداد، كما أدى إلى دمقرطة الوصول إلى المعلومات وإبطال المركزية السياسية، فبدلاً من الأخ الأكبر يراقب كل شخص، أصبح بإمكان الناس أن يستخدموا الكمبيوتر الشخصي والإنترنت في مراقبة الأخ الأكبر بعد أن أجبرت الحكومات في كل مكان على أن تنشر بيانات أكثر عن أنشطتها. كما هو معلوم لدينا أن حكم الاستبداد يرتكز على قدرته من خلال الاستمرار باحتكار المعلومات، فلما أن جعلت تكنولوجيا المعلومات من هذا أمراً مستحيلاً، تقوضت سلطة حكم الاستبداد.
أما على صعيد الثورة البيوتكنولوجية (وهي تكنولوجيات الحياة والخلية والجينات أي الهوية البيولوجية والجينية للإنسان) نجد تطورات بالغة الأهمية مثل: الإخصاب خارج الرحم، الأمهات البديلة، العقاقير التي تعمل على العقل، الهندسة الوراثية لتصنيع الأطفال، لكن هذه الثورة لا تزال في بدايتها، وفيض البلاغات عن الفتوحات الجديدة في التكنولوجيا البيوطبية وإنجازاتها (مثل الانتهاء من مشروع الجينوم البشري عام 2000) إنما ينذر بتغيرات أكثر خطورة.
إن أخطر ما تهددنا به البيوتكنولوجيا المعاصرة هو احتمال أن تغير الطبيعة البشرية. ومن ثم تدفع بنا إلى مرحلة ما بعد البشرية من التاريخ. يذهب فوكوياما إلى أن الطبيعة البشرية موجودة، فهي مفهوم ذو مغزى، وَفَرَ استمرارية وطيدة لخبرتنا كجنس، الطبيعة البشرية مع الدين هما ما يحدد أهم قيمنا الأساسية. الطبيعة البشرية تشكل وتفيد الصور المحتملة للنظم السياسية، لذا فإن أي تكنولوجيا لها القدرة على إعادة تشكيل ما سنصبح عليه، ستقود إلى عواقب وخيمة بالنسبة للديموقراطية الليبرالية وبالنسبة لطبيعة السياسة ذاتها.
بمعنى آخر. إن الثورة البيولوجية المتسلحة بالمعرفة والتكنولوجيا الإحيائية، تهدف في الواقع إلى أن تصنع مجتمعاً جديداً، لا مجتمعاً معدلاً، مجتمعاً ليس مجرد صورة مكبرة من مجتمعنا الراهن، وإنما مجتمع جديد. هذه الفرضية المنطقية البسيطة لم يهيأ لها بعد أن تبدأ في صبغ وعينا، ومع ذلك، فإننا ما لم نفهمها، فإننا حريون بأن ندمر أنفسنا في محاولتنا التكيف مع الغد. إن الإنسان المعاصر يحتاج إلى الخيال عندما يواجه ثورة، لأن الثورة لا تسير في خطوط مستقيمة فقط، ولكنها أيضاً تلتف وتنثني، وتتراجع. إنها تقبل في شكل قفزات كمية، وبدون تقبلنا للمنطق الثوري فإننا لن نستطيع أن نحرر خيالنا لينطلق إلى آفاق مستقبل هذه الثورة البيولوجية الخطيرة ومنجزاتها وأحلامها.
عرف العالم المعاصر منذ البداية أن الأسلحة النووية والطاقة النووية أمور خطرة، وعلى هذا فقد خضعت لقوانين صارمة من اللحظة التي تمكن فيها مشروع مانهاتن من إنتاج القنبلة الذرية عام 1945، أحسن مراقبون بالانزعاج من النانو تكنولوجيا. وهذه آلات، تُبنى بمقاييس جزيئية، يمكنها أن تسخ نفسها وأن تكاثر نفسها دون رابط، لتدمر مبدعيها، لكن الواقع أن مثل هذه التهديدات هي الأسهل في المعالجة، لأنها واضحة للغاية. فإذا كان من المحتمل أن تقتلك الآلة التي تبدعها، فتتخذ الإجراءات لحماية نفسك. ولدينا حتى الآن سجل معقول يقول إننا نستطيع أن نتحكم في آلاتنا.
وقد تكون من بين منتجات البيوتكنولوجيا منتجات كهذه لها مخاطر واضحة على الجنس البشري: بكتريا مؤذية للغاية، مثلاً، أو فيروسات جديدة، أو أغذية معدلة وراثياً تسبب تفاعلات سامة. سيكون من السهل التصدي لهذه، تماماً مثلما هو الأمر مع الأسلحة النووية والنانو تكنولوجيا، ذلك أننا إذا ما رسمناها بالخطورة، ففي مقدورنا أن نعاملها على أنها خطر صريح، من ناحية أخرى، فإن التهديدات الأكثر نمطية التي تثيرها البيو تكنولوجيا هي تلك التي تمكن منها ألدوس هكسلي باقتدار، والتي يلخصها عنوان مقال كتبه نوم وولف: أسف، لكن روحك قد ماتت. تُقدم لنا التكنولوجيا الطبية، في حالات كثيرة، صفقة الشيطان: حياة أطول، ولكن بقدرات ذهنية منقوصة، تحرره من الاكتئاب ومعه تحرر من الإبداع والروح؛ علاجات في الخط الفاصل بين ما ننجزه بأنفسنا دون مساعدة، وبين ما ننجزه بسبب مستويات مواد كيماوية مختلفة في أمخاخنا.
إن تأمل السيناريوهات الثلاثة التالية التي تواجه البشرية في هذا السياق، وكلها احتمالات واضحة قد تتكثف خلال جبل أو اثنين، فالسيناريو الأول يختص بالعقاقير الجديدة: اكتشف السيكولوجيون. كنتيجة لما حدث من تقدم في علم عقاقير الأعصاب به أن شخصية الإنسان مرنة أكثر مما كان يظن. من المعروف الآن أن العقاقير التي تؤثر في العقل، مثل البروزاك والريتالين، يمكنها أن تؤثر في صفات مثل احترام الذات والقدرة على التركيز. لكنها قد تسبب في العديد من الآثار الجانبية غير المرغوبة. ومن ثم يلزم تجنبها إلا في حالات الضرورة العلاجية الواضحة. لكن المعارف عن الجينوم ستسمح لشركات الأدوية في المستقبل بأن تقوم بتحضير عقاقير توافق تحديداً التركيب الوراثي لكل مري فرد، وتقلل كثيراً من الآثار الجانبية غير المقصودة: متبلد الحس يصبح مفعمة بالحيوية، الانطوائي يصبح انبساطياً، يمكنك أن تتخذ شخصية يوم الأربعاء، وأخرى مختلفة يوم الجمعة. لو يعد ثمة من سبب لأن تكون مكتئباً أو حزيناً. بل وسيمكن حتى للسعداء بطبيعتهم من الناس أن يجعلوا أنفسهم أكثر سعادة دون خوف من إدمان أو إسراف في الشرب أو فساد في المخ طويل الأمد.
أما السيناريو الثاني فيختص بالتقدم في بحوث الخلايا الجذعية التقدم الذي يسمح للعلماء عملياً بتجديد كل أنسجة الجسم، مما سيدفع بالأجل المتوقع للفرد إلى سن يفوق المائة عام بكثير. فإذا كنت في حاجة إلى قلب جديد أو كبد جديد، فما عليك إلا أن تنمّي هذا العضو داخل التجويف الصدري لخنزير أو بقرة. ثم إن هذا التقدم سيجعل من الممكن إصلاح ما فسد في المخ بسبب مرض الزهايمر أو السكتة الدماغية. والمشكلة الوحيدة هي أن الثورة البيوتكنولوجيا لم نتمكن بعد من اكتشاف طرق تقويم الكثير من الأمور الدقيقة في شيخوخة الإنسان، والبعض من الأمور الأقل دقة: فمع تقدم العمر يصبح الناس - ذهنياً. غاية في الصلابة، وتثبت آراءهم، ثم أنهم لا يستطيعون مهما حاولوا أن يجعلوا أنفسهم جذابين جنسياً لأقرانهم، بل يشتهون الرفيق أو الرفيقة من العمر الخصب. والأسوأ أنهم يرفضون أن يفسحوا الطريق، ليس فقط لأبنائهم بل أيضاً لأحفادهم. غير أن قلة فقط من هؤلاء الناس هم من ينجبون، أو لا تكون لهم علاقة بالتكاثر التقليدي بحيث يبدو هذا الأمر أتفه من أن يهم.
وأما السيناريو الثالث فيقوم فيه الأثرياء بفرز الأجنة قبل أن تزرع في الرحم، کي تولد أطفالهم وهم أقرب ما يكون إلى الكمال. أنت تستطيع أن تدرك - أكثر وأكثر - الخلفية الاجتماعية للشاب من طلعة وجهه وذكائه؛ إذا لم يبلغ الشخص آماله الاجتماعية، فلن يلقي باللوم على نفسه وإنما على الخيارات الوراثية السيئة الأبوية. نُقلت جينات بشرية إلى حيوانات، بل وإلى نباتات، وذلك لأغراض بحثية والإنتاج منتجات طبية جديدة، أضيفت جينات حيوانية إلى بعض الأجنة بهدف زيادة قدراتها الجسدية أو مقاومتها للأمراض. لم يجرؤ العلماء على إنتاج کيميرا كاملة، نصف بشر ونصف قرد، رغم أن ذلك في استطاعتهم، ثم إن الشباب قد بدأوا يتوهمون أن زملاءهم الأسوأ أثناء الدراسة ليسوا في الواقع بشرا كاملين من الناحية الوراثية. لأنهم في الواقع ليسوا كذلك.
من خلال مقولة " آسف، لكن روحك قد ماتت ". کتب توماس جيفرسون عند اقتراب نهاية حياته يقول: إن الانتشار الواسع لضوء العلم قد وضع الآن الحقيقة واضحة أمام كل عين: إن الجماهير الغفيرة من الناس لم تولد وعلى ظهر كل منهم سَرْجٌ، لا ولم تولد القلة المميزة وفي قدم كل منهم حذاء طويل الرقبة ومهماز، متأهبين شرعاً- بفضل الله - لركوب الآخرين. المساواة السياسية التي تضمنها إعلان الاستقلال ترتكز على الواقع التجريبي للمساواة الطبيعية بين البشر. إننا نتباين كثيراً كأفراد كما نتباين بالثقافة، لكنا نشترك جميعاً في صفات بشرية شائعة بيننا، صفات تمكن كل فرد عملياً من أن يتصل بكل إنسان آخر على وجه البسيطة وأن يدخل معه في علاقة معنوية، والسؤال الجوهري الذي تثيره البيوتكنولوجيا هو الآتي: ماذا سيحدث للحقوق السياسية إذا تمكنا بالفعل من أن نربي أناساً على ظهورهم السرج، وآخرين بحذاء ومهماز؟
في هذا السياق، يتساءل فوكوياما ما الذي يجب أن نقوم به إزاء البيوتكنولوجيا التي ستمزج، في المستقبل، المزايا المحتملة الهائلة بتهديدات قد تكون بدنية وواضحة أو روحية وخفية؟ الإجابة واضحة: علينا أن نلجأ إلى سلطة الدولة لتنظيمها، فإذا ما اتضح أن هذا يفوق قدرة أية دولة بمفردها، فلا بد من أن يكون التنظيم على المستوى الدولي. علينا من الآن أن نبدأ التفكير بشكل واقعي حول الطريقة التي تقيم بها مؤسسات قادرة على أن تميز بين الاستخدام المشروع والاستخدام الخبيث للبيوتكنولوجيا، وأن تفرض وبشكل فعلي قوانين وطنية وقوانين دولية.
في حقيقة الأمر، يرى فوكوياما أن هذه الإجابة ليست واضحة للكثير من المشتركين في الجدل الحالي حول البيوتكنولوجيا. فقد ساد الجدل لا يزال في مستوى تجريدي حول أخلاقيات بعض الإجراءات: الاستنساخ مثلاً أو بحوث الخلايا الجذعية، وانقسم المشتركون إلى معسكرين، الأول يود أن يسمح بكل شيء وآخر يود أن يحظر مجالات واسعة من البحث والتطبيق. والجدل القائم لا شك هام، غير أن الوقائع تتسارع، حتى أننا سنحتاج عاجلاً إلى توجيه عملي أكثر بشأن الطريقة التي يمكن بها أن نوجه التطويرات في المستقبل، بحيث تظل التكنولوجيا خادماً للإنسان لا سيداً عليه. ولما كان من المستبعد على ما يبدو أن تسمح بكل شيء أو أن نحظر بحوثاً واعدة للغاية، فإن علينا أن نبحث عن حل وسط.
ثمة نظرةٌ شاعت تقول إنه من المستحيل أن نوقف التقدم التكنولوجي حتى لو رغبنا في ذلك. ستكون هذه النظرة من بين أكبر مشاكل عرض قضية تنظيم البيوتكنولوجيا البشرية. فإذا حاولت الولايات المتحدة أو أية دولة مفردة أخرى، أن تحظر استنساخ الإنسان أو هندسة الخط الجرثومي وراثياً، أو غير هذه من إجراءات، ففي مقدور كل من يريد أن يقوم بها أن يتحرك إلى دولة أخرى تسمح بإجرائها. فالتسابق والمنافسة الدولية في البحوث البيوطبية تضمن أن تعاقب الدول التي تُقيد نفسها بوضع العقبات الأخلاقية أمام مجتمعاتها العلمية أو صناعاتها البيوتكنولوجية.
أما فكرة استحالة وقف تقدم التكنولوجيا أو التحكم فيها، فهي ببساطة فكرة خاطئة. فالحق أننا نتحكم في كل أشكال التكنولوجيات والكثير من أنماط البحث العلمي: لم يعد العلماء أحراراً في إجراء تجارب لتطوير أسلحة بيولوجية جديدة، بأكثر من حريتهم في التجريب على البشر دون موافقتهم العارفة. صحيح أن بعض الأفراد أو المنظمات يعتدون على القوانين، وأن هناك دولاً لا توجد بها القوانين أو هي لا تنفذها بالصرامة اللازمة، لكن هذا ليس سبباً في ألا تُسَنَّ القوانين من أصله. يرى فوكوياما أن الناس يسرقون ويقتلون على أية حال، وهذا ليس سبباً لإباحة السرقة والقتل.
كما يحاول فوكوياما أن نتجنب، بأي ثمن، موقفاً انهزامياً فيما يتعلق بالتكنولوجيا ويقول إنه لما كنا لا نستطيع أن نفعل شيئاً لإيقاف أو صياغة التطويرات التي لا نحبها، فليس من سبب يدعونا لأن نقوم بالمحاولة من أصله. لن يكون من السهل أن نُشغّل نسقاً تنظيمياً يسمح للمجتمعات بالتحكم في البيوتكنولوجيا البشرية: الأمر يتطلب أن يقوم المشرعون في دول العالم باتخاذ قرارات صعبة في قضايا علمية معقدة. ويرى فوكوياما أن شکل وصورة المؤسسات التي ستنشأ لتنفيذ القوانين الجديدة فلا يزال قضية مفتوحة على مصراعيها. إن التحدي الكبير هو أن تُصمّم بحيث لا تكون معوقاً للتطويرات الإيجابية، وبحيث يكون لها في الوقت نفسه قدرات تنفيذية فعالة. أما التحدي الأكبر فسيكون هو وضع قوانين عامة على مستوى دولي، والوصول إلى اتفاق جماعي في الرأي بشأنها بين دول ذات ثقافات مختلفة ورؤى متباينة بالنسبة للقضايا الأخلاقية الأساسية. لكنا نعرف أن مهمات سياسية كهذه معقدة قد أنجزت في الماضي بنجاح.
وهكذا يستعرض فوكوياما في كتابه نهاية الإنسان عواقب الثورة البيوتكنولوجية على الطبيعة البشرية وعلى السياسة وعلم الاجتماع والطبيعة الإنسانية. ويطرح العديد من الأسئلة: هل لها نتائج سلبية على الطبيعة البشرية أم إيجابية؟ وما هي الأعراض الجانبية لكل تغير تكنولوجي على الإنسان، كإنسان خلقه الله تعالى منذ ملايين السنين؟
إن الأساس المنهجي لفوكوياما هو اهتمامه بالتداعيات السياسية لثورة التكنولوجيا الحيوية. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يكون لظهور فئة ذات موهبة وراثية متفوقة، والتي في مواجهة فكرة الكرامة الإنسانية العالمية، يمكن أن تتذرع بأسباب بيولوجية لهيمنتها. تتكرر الإشارة إلى نيتشه في كتابه (نهاية الإنسان)، لدرجة أن المفكر الألماني فهم أنه إذا كان بإمكان العلم تحسين الجنس البشري، فستظهر أيضاً أرستقراطية طبيعية جديدة.
وفي النهاية يعتقد فوكوياما أن التحفظات التي أثارتها استخدامات التكنولوجيا الحيوية تهمنا جميعاً. سواء كانت لدينا قناعات دينية أم لا. وهكذا، على سبيل المثال، على الرغم من أنه لا يعتبر أن للجنين البشري نفس الحقوق التي يتمتع بها الإنسان، فإنه يعتقد أنه ليس مجرد مجموعة من الخلايا أو الأنسجة مثل أي نسيج آخر، لأن لديه القدرة على أن يصبح كائناً بشرياً. لذلك، من المعقول أن نسأل – على أساس غير ديني – عما إذا كان ينبغي أن يكون للباحثين الحرية في تكوين الأجنة البشرية واستنساخها وتدميرها حسب الرغبة.
ففي عالم يغمره التطور العلمي والتكنولوجي ومع تفتح آفاق العقل البشري واستمراره في الإبداع والابتكار، اتجه العالم نحو استحداث أساليب حربية جديدة ومنها إدخال المجال الطبي في الحروب وتسخير التكنولوجيا الحيوية من أجل إعداد جيش من البكتيريا والفيروسات المسببة للأمراض المعدية سريعة الانتشار وإنشاء أسلحة مدمرة بصورة جماعية كالأسلحة البيولوجية والتي تعتبر أساس ما يعرف بالحروب البيولوجية، فقد عانى الإنسان بكل ما يحدث في البيئة من تلوث، وانتشار للأمراض والأوبئة الفتاكة، والعمليات الإرهابية وأصبح هو المتضرر الأساسي بين الكائنات الحية وذلك في ضوء تحقيق الأطراف مصالحها العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية. لذلك فقد حظيت الحرب البيولوجية باهتمام كبير لدي جٌل دول العالم نظراً لأهميتها ومدى خطورتها.
وفي هذا السياق يجب علينا ألا ننسى عند استعراض كتاب نهاية الإنسان عواقب الثورة البيوتكنولوجية جائحة كورونا (كوفيد-19) التي فتكت منذ أربع سنين بأرواح كثيرة من البشر. فإذا كان هذا الوباء ناتجاً عن تطوير في مختبرات بيولوجية. وحاول العالم الغربي بتفوقه العلمي البحث عن لقاح فعال ينهي هذا الكابوس المرعب، وعلى فرض الاعتراف بلقاح فعال، فهل عدم أخذ هذا اللقاح مستقبلاً يجعل الوباء قاتلاً لمن لم يصبه. وهل هذا الفيروس قد يستطيع أن يضع حد لأعمار من هم مصابون بأمراض مثل: السكري وأمراض القلب والشيخوخة. ومدى الخسائر البشرية والاقتصادية التي سببها هذا الوباء لدول العالم. وهل سيغير هذا الفيروس المتحور شكل العلاقات الإنسانية. كثير من المسائل والتصورات المتعلقة بعواقب الثورة البيوتكنولوجية يطرحها فوكوياما من غير جواب حتمي ليترك الجواب للمستقبل.
وفي قناعتي الشخصية اعتقد أن جائحة كورونا (كوفيد-19) في عام 2020 هي شكل من أشكال الحروب البيولوجية بين الدول التي تمتلك مفاتيح التطور العلمي والتكنولوجي وبالأخص المختبرات البيولوجية. ففي عام 2003 تحدث عالم الفيزياء الفلكية البريطاني الشهير مارتن ريس عن التطور السريع في الأسلحة البيولوجية، وراهن بأنه مع حلول عام 2020 سيحدث خطأ بيولوجي يؤدي إلى وفاة مليون إنسان، وإذا كان حصول كورونا قد جعل الناس تدهش من هذا التوقع الدقيق، إلا أنه ليس هناك حتى الآن ما يؤكد أنه بالفعل نتيجة خطأ بشري له علاقة بتطور الأسلحة البيولوجية. لكن الفكرة الأعمق هنا والمرعبة فعلا أن إطلاع ريس وغيره على تصاعد السباق بين الدول في تطوير الأسلحة البيولوجية، يعني أن " جائحة كورونا " بكل ما أحدثته للعالم من إرباك وهلع هي مجرد مذاق لما يمكن أن يحدث للعالم في حال استخدام التقنية البيولوجية في شن حرب أو عملية إرهابية.
وفي الختام نطرح التساؤل التالي: هل هي نهاية الإنسان أم نهاية الإنسانية؟ اعتقد من وجهة نظر علم الاجتماع النقدي أن المشكلة التي يواجهها البشر ليست نهاية الإنسان، وإنما هي نهاية الإنسانية وغياب العدالة الاجتماعية، التي يمكن للتكنولوجيا وبحوث الانثروبولوجيا أن توقفها أو تحد منها. إن ثلاثة ملايين من البشر يعيشون دون صرف صحي. إن بليوناً ونصف المليون لا تصلهم المياه النظيفة، إن بليوناً وربع البليون لا يجدون السكن الذي يليق بالآدمي؟ إن نصف مليون لا يتوفر له الحد الأدنى من الغذاء اليومي، إن ثلاثين أو أربعين ألف طفل يموتون يومياً بسبب سوء التغذية والأمراض هكذا تقول تقارير الأمم المتحدة. كما أظهرت بيانات جديدة أصدرتها اليونسكو أن عدد الأطفال والشباب غير الملتحقين بالمدارس ارتفع بمقدار 6 ملايين منذ عام 2021، ليبلغ إجمالي عددهم الآن 250 مليوناً. فعن أي إنسان يجادل فوكوياما کي يحفظ كرامته البشرية؟ هل هو إنسان دول الشمال أم الجنوب؟ وهل يتمتع هؤلاء جميعاً بالكرامة الإنسانية - حسب مبادئ حقوق الإنسان- في واقع دولي غير عادل لا مكان للضعفاء فيه؟ إنه عالم الرأسمالية المتوحشة صانعة الحروب التي يقودها العقل الأداتي المجرد من الإنسانية صاحب مقولة " البقاء للأصلح ".
------------------------------------------------------
- المراجع المعتمدة:
- فرانسيس فوكوياما: نهاية الإنسان عواقب الثورة البيوتكنولوجية، ترجمة: أحمد مستجير، سطور، القاهرة، ط1، 2002.
- حسام الدين فياض: ثورة الجينوم ومستقبل البشرية رؤية تحليلية – نقدية، مجلة منظمة المجتمع العلمي العربي، الدوحة (قطر)، 26 أكتوبر 2022. ثورة الجينوم ومستقبل البشرية
- ريهام الغرابلي، نورهان علي: الحرب البيولوجية وتأثيرها علي الأمن الدولي (دراسة تطبيقية: COVID-19، الحرب الروسية الأوكرانية)، المركز الديمقراطي العربي، برلين، 21 يونيو 2023. الحرب البيولوجية وتأثيرها علي الأمن الدولي (دراسة تطبيقية:COVID-19,الحرب الروسية الأوكرانية) - المركز الديمقراطي العربي
- عبد الكريم الجندي: قراءة في كتاب " نهاية الإنسان " لفرانسيس فوكوياما، موقع منثور، 15/12/2022. https://2u.pw/l499ZwsB
- هشام طالب: بناء الكون ومصير الإنسان، دار المعرفة، بيروت، ط1، 2006.
د. حسام الدين فياض
الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة
قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً
” نهاية الإنسان هي المعرفة، لكن شيئاً واحداً لا يمكنه أن يعرفه. إنه لا يستطيع أن يعرف ما إذا كانت المعرفة ستنقذه أم أنها ستقتله. سُيقتل، نعم، لكنه لا يستطيع أن يعرف ما إذا كان قُتل بسبب المعرفة التي اكتسبها أم بسبب المعرفة التي لم يكتسبها، والتي كانت لتنقذه لو أنه عرفها “ (مقتطف من رواية كل رجال الملك لروبروت وارين).
” وقد أصبح العلماء يقولون إنه إذا كان القرن العشرون هو قرن الهاتف والسيارة والكهرباء، فإن القرن الواحد والعشرين هو قرن الثورات البيولوجية بامتياز “. في حقيقة الأمر نهاية الإنسان هي المعرفة، هذا بالضبط ما يخشاه فرانسيس فوكوياما مؤلف كتاب نهاية الإنسان عواقب الثورة البيوتكنولوجية المعاصرة. وقد أثار الكتاب العديد من القضايا المهمة التي تتعلق بحياة الإنسان ووجوده من الناحية البيولوجية والأخلاقية، التي تستحق أن يقرأها كل مثقف، فهو بلا شك وجبة علمية وفكرية غنية للقارئ من الطراز الرفيع.
يرى فرنسيس فوكوياما أن الجدل الوحيد الذي لا يمكن دحضه هو أن التاريخ لا يمكن أن تكون له نهاية إلا إذا كانت للعلم نهاية؛ بل إن من بين أهم ما يقوم به العلم أنه يهمش دور الصدفة وأنه يختصر الزمن. كما يصف فوكوياما في كتابه " نهاية التاريخ والإنسان الأخير " 1989: كان تكشْفُ العلم الطبيعي الحديث والتكنولوجيا التي فرخها واحداً من أهم محركات التاريخ، فالكثير من تكنولوجيا نهايات القرن العشرين مثل ما يسمى بثورة المعلومات. كان عاملاً جيداً في نشر الديموقراطية الليبرالية. لكنا أبداً لم نقترب من نهاية العلم، بل الحق أننا على ما بدو نحيا في جوف مرحلة هائلة من التقدم في علوم الحياة. حيث أدى ظهور النموذج الجديد للكمبيوتر الشخصي لشركة آي بي إم المرتبط بالإنترنت، الذي ساعد في القضاء على المركزية والاستبداد، كما أدى إلى دمقرطة الوصول إلى المعلومات وإبطال المركزية السياسية، فبدلاً من الأخ الأكبر يراقب كل شخص، أصبح بإمكان الناس أن يستخدموا الكمبيوتر الشخصي والإنترنت في مراقبة الأخ الأكبر بعد أن أجبرت الحكومات في كل مكان على أن تنشر بيانات أكثر عن أنشطتها. كما هو معلوم لدينا أن حكم الاستبداد يرتكز على قدرته من خلال الاستمرار باحتكار المعلومات، فلما أن جعلت تكنولوجيا المعلومات من هذا أمراً مستحيلاً، تقوضت سلطة حكم الاستبداد.
أما على صعيد الثورة البيوتكنولوجية (وهي تكنولوجيات الحياة والخلية والجينات أي الهوية البيولوجية والجينية للإنسان) نجد تطورات بالغة الأهمية مثل: الإخصاب خارج الرحم، الأمهات البديلة، العقاقير التي تعمل على العقل، الهندسة الوراثية لتصنيع الأطفال، لكن هذه الثورة لا تزال في بدايتها، وفيض البلاغات عن الفتوحات الجديدة في التكنولوجيا البيوطبية وإنجازاتها (مثل الانتهاء من مشروع الجينوم البشري عام 2000) إنما ينذر بتغيرات أكثر خطورة.
إن أخطر ما تهددنا به البيوتكنولوجيا المعاصرة هو احتمال أن تغير الطبيعة البشرية. ومن ثم تدفع بنا إلى مرحلة ما بعد البشرية من التاريخ. يذهب فوكوياما إلى أن الطبيعة البشرية موجودة، فهي مفهوم ذو مغزى، وَفَرَ استمرارية وطيدة لخبرتنا كجنس، الطبيعة البشرية مع الدين هما ما يحدد أهم قيمنا الأساسية. الطبيعة البشرية تشكل وتفيد الصور المحتملة للنظم السياسية، لذا فإن أي تكنولوجيا لها القدرة على إعادة تشكيل ما سنصبح عليه، ستقود إلى عواقب وخيمة بالنسبة للديموقراطية الليبرالية وبالنسبة لطبيعة السياسة ذاتها.
بمعنى آخر. إن الثورة البيولوجية المتسلحة بالمعرفة والتكنولوجيا الإحيائية، تهدف في الواقع إلى أن تصنع مجتمعاً جديداً، لا مجتمعاً معدلاً، مجتمعاً ليس مجرد صورة مكبرة من مجتمعنا الراهن، وإنما مجتمع جديد. هذه الفرضية المنطقية البسيطة لم يهيأ لها بعد أن تبدأ في صبغ وعينا، ومع ذلك، فإننا ما لم نفهمها، فإننا حريون بأن ندمر أنفسنا في محاولتنا التكيف مع الغد. إن الإنسان المعاصر يحتاج إلى الخيال عندما يواجه ثورة، لأن الثورة لا تسير في خطوط مستقيمة فقط، ولكنها أيضاً تلتف وتنثني، وتتراجع. إنها تقبل في شكل قفزات كمية، وبدون تقبلنا للمنطق الثوري فإننا لن نستطيع أن نحرر خيالنا لينطلق إلى آفاق مستقبل هذه الثورة البيولوجية الخطيرة ومنجزاتها وأحلامها.
عرف العالم المعاصر منذ البداية أن الأسلحة النووية والطاقة النووية أمور خطرة، وعلى هذا فقد خضعت لقوانين صارمة من اللحظة التي تمكن فيها مشروع مانهاتن من إنتاج القنبلة الذرية عام 1945، أحسن مراقبون بالانزعاج من النانو تكنولوجيا. وهذه آلات، تُبنى بمقاييس جزيئية، يمكنها أن تسخ نفسها وأن تكاثر نفسها دون رابط، لتدمر مبدعيها، لكن الواقع أن مثل هذه التهديدات هي الأسهل في المعالجة، لأنها واضحة للغاية. فإذا كان من المحتمل أن تقتلك الآلة التي تبدعها، فتتخذ الإجراءات لحماية نفسك. ولدينا حتى الآن سجل معقول يقول إننا نستطيع أن نتحكم في آلاتنا.
وقد تكون من بين منتجات البيوتكنولوجيا منتجات كهذه لها مخاطر واضحة على الجنس البشري: بكتريا مؤذية للغاية، مثلاً، أو فيروسات جديدة، أو أغذية معدلة وراثياً تسبب تفاعلات سامة. سيكون من السهل التصدي لهذه، تماماً مثلما هو الأمر مع الأسلحة النووية والنانو تكنولوجيا، ذلك أننا إذا ما رسمناها بالخطورة، ففي مقدورنا أن نعاملها على أنها خطر صريح، من ناحية أخرى، فإن التهديدات الأكثر نمطية التي تثيرها البيو تكنولوجيا هي تلك التي تمكن منها ألدوس هكسلي باقتدار، والتي يلخصها عنوان مقال كتبه نوم وولف: أسف، لكن روحك قد ماتت. تُقدم لنا التكنولوجيا الطبية، في حالات كثيرة، صفقة الشيطان: حياة أطول، ولكن بقدرات ذهنية منقوصة، تحرره من الاكتئاب ومعه تحرر من الإبداع والروح؛ علاجات في الخط الفاصل بين ما ننجزه بأنفسنا دون مساعدة، وبين ما ننجزه بسبب مستويات مواد كيماوية مختلفة في أمخاخنا.
إن تأمل السيناريوهات الثلاثة التالية التي تواجه البشرية في هذا السياق، وكلها احتمالات واضحة قد تتكثف خلال جبل أو اثنين، فالسيناريو الأول يختص بالعقاقير الجديدة: اكتشف السيكولوجيون. كنتيجة لما حدث من تقدم في علم عقاقير الأعصاب به أن شخصية الإنسان مرنة أكثر مما كان يظن. من المعروف الآن أن العقاقير التي تؤثر في العقل، مثل البروزاك والريتالين، يمكنها أن تؤثر في صفات مثل احترام الذات والقدرة على التركيز. لكنها قد تسبب في العديد من الآثار الجانبية غير المرغوبة. ومن ثم يلزم تجنبها إلا في حالات الضرورة العلاجية الواضحة. لكن المعارف عن الجينوم ستسمح لشركات الأدوية في المستقبل بأن تقوم بتحضير عقاقير توافق تحديداً التركيب الوراثي لكل مري فرد، وتقلل كثيراً من الآثار الجانبية غير المقصودة: متبلد الحس يصبح مفعمة بالحيوية، الانطوائي يصبح انبساطياً، يمكنك أن تتخذ شخصية يوم الأربعاء، وأخرى مختلفة يوم الجمعة. لو يعد ثمة من سبب لأن تكون مكتئباً أو حزيناً. بل وسيمكن حتى للسعداء بطبيعتهم من الناس أن يجعلوا أنفسهم أكثر سعادة دون خوف من إدمان أو إسراف في الشرب أو فساد في المخ طويل الأمد.
أما السيناريو الثاني فيختص بالتقدم في بحوث الخلايا الجذعية التقدم الذي يسمح للعلماء عملياً بتجديد كل أنسجة الجسم، مما سيدفع بالأجل المتوقع للفرد إلى سن يفوق المائة عام بكثير. فإذا كنت في حاجة إلى قلب جديد أو كبد جديد، فما عليك إلا أن تنمّي هذا العضو داخل التجويف الصدري لخنزير أو بقرة. ثم إن هذا التقدم سيجعل من الممكن إصلاح ما فسد في المخ بسبب مرض الزهايمر أو السكتة الدماغية. والمشكلة الوحيدة هي أن الثورة البيوتكنولوجيا لم نتمكن بعد من اكتشاف طرق تقويم الكثير من الأمور الدقيقة في شيخوخة الإنسان، والبعض من الأمور الأقل دقة: فمع تقدم العمر يصبح الناس - ذهنياً. غاية في الصلابة، وتثبت آراءهم، ثم أنهم لا يستطيعون مهما حاولوا أن يجعلوا أنفسهم جذابين جنسياً لأقرانهم، بل يشتهون الرفيق أو الرفيقة من العمر الخصب. والأسوأ أنهم يرفضون أن يفسحوا الطريق، ليس فقط لأبنائهم بل أيضاً لأحفادهم. غير أن قلة فقط من هؤلاء الناس هم من ينجبون، أو لا تكون لهم علاقة بالتكاثر التقليدي بحيث يبدو هذا الأمر أتفه من أن يهم.
وأما السيناريو الثالث فيقوم فيه الأثرياء بفرز الأجنة قبل أن تزرع في الرحم، کي تولد أطفالهم وهم أقرب ما يكون إلى الكمال. أنت تستطيع أن تدرك - أكثر وأكثر - الخلفية الاجتماعية للشاب من طلعة وجهه وذكائه؛ إذا لم يبلغ الشخص آماله الاجتماعية، فلن يلقي باللوم على نفسه وإنما على الخيارات الوراثية السيئة الأبوية. نُقلت جينات بشرية إلى حيوانات، بل وإلى نباتات، وذلك لأغراض بحثية والإنتاج منتجات طبية جديدة، أضيفت جينات حيوانية إلى بعض الأجنة بهدف زيادة قدراتها الجسدية أو مقاومتها للأمراض. لم يجرؤ العلماء على إنتاج کيميرا كاملة، نصف بشر ونصف قرد، رغم أن ذلك في استطاعتهم، ثم إن الشباب قد بدأوا يتوهمون أن زملاءهم الأسوأ أثناء الدراسة ليسوا في الواقع بشرا كاملين من الناحية الوراثية. لأنهم في الواقع ليسوا كذلك.
من خلال مقولة " آسف، لكن روحك قد ماتت ". کتب توماس جيفرسون عند اقتراب نهاية حياته يقول: إن الانتشار الواسع لضوء العلم قد وضع الآن الحقيقة واضحة أمام كل عين: إن الجماهير الغفيرة من الناس لم تولد وعلى ظهر كل منهم سَرْجٌ، لا ولم تولد القلة المميزة وفي قدم كل منهم حذاء طويل الرقبة ومهماز، متأهبين شرعاً- بفضل الله - لركوب الآخرين. المساواة السياسية التي تضمنها إعلان الاستقلال ترتكز على الواقع التجريبي للمساواة الطبيعية بين البشر. إننا نتباين كثيراً كأفراد كما نتباين بالثقافة، لكنا نشترك جميعاً في صفات بشرية شائعة بيننا، صفات تمكن كل فرد عملياً من أن يتصل بكل إنسان آخر على وجه البسيطة وأن يدخل معه في علاقة معنوية، والسؤال الجوهري الذي تثيره البيوتكنولوجيا هو الآتي: ماذا سيحدث للحقوق السياسية إذا تمكنا بالفعل من أن نربي أناساً على ظهورهم السرج، وآخرين بحذاء ومهماز؟
في هذا السياق، يتساءل فوكوياما ما الذي يجب أن نقوم به إزاء البيوتكنولوجيا التي ستمزج، في المستقبل، المزايا المحتملة الهائلة بتهديدات قد تكون بدنية وواضحة أو روحية وخفية؟ الإجابة واضحة: علينا أن نلجأ إلى سلطة الدولة لتنظيمها، فإذا ما اتضح أن هذا يفوق قدرة أية دولة بمفردها، فلا بد من أن يكون التنظيم على المستوى الدولي. علينا من الآن أن نبدأ التفكير بشكل واقعي حول الطريقة التي تقيم بها مؤسسات قادرة على أن تميز بين الاستخدام المشروع والاستخدام الخبيث للبيوتكنولوجيا، وأن تفرض وبشكل فعلي قوانين وطنية وقوانين دولية.
في حقيقة الأمر، يرى فوكوياما أن هذه الإجابة ليست واضحة للكثير من المشتركين في الجدل الحالي حول البيوتكنولوجيا. فقد ساد الجدل لا يزال في مستوى تجريدي حول أخلاقيات بعض الإجراءات: الاستنساخ مثلاً أو بحوث الخلايا الجذعية، وانقسم المشتركون إلى معسكرين، الأول يود أن يسمح بكل شيء وآخر يود أن يحظر مجالات واسعة من البحث والتطبيق. والجدل القائم لا شك هام، غير أن الوقائع تتسارع، حتى أننا سنحتاج عاجلاً إلى توجيه عملي أكثر بشأن الطريقة التي يمكن بها أن نوجه التطويرات في المستقبل، بحيث تظل التكنولوجيا خادماً للإنسان لا سيداً عليه. ولما كان من المستبعد على ما يبدو أن تسمح بكل شيء أو أن نحظر بحوثاً واعدة للغاية، فإن علينا أن نبحث عن حل وسط.
ثمة نظرةٌ شاعت تقول إنه من المستحيل أن نوقف التقدم التكنولوجي حتى لو رغبنا في ذلك. ستكون هذه النظرة من بين أكبر مشاكل عرض قضية تنظيم البيوتكنولوجيا البشرية. فإذا حاولت الولايات المتحدة أو أية دولة مفردة أخرى، أن تحظر استنساخ الإنسان أو هندسة الخط الجرثومي وراثياً، أو غير هذه من إجراءات، ففي مقدور كل من يريد أن يقوم بها أن يتحرك إلى دولة أخرى تسمح بإجرائها. فالتسابق والمنافسة الدولية في البحوث البيوطبية تضمن أن تعاقب الدول التي تُقيد نفسها بوضع العقبات الأخلاقية أمام مجتمعاتها العلمية أو صناعاتها البيوتكنولوجية.
أما فكرة استحالة وقف تقدم التكنولوجيا أو التحكم فيها، فهي ببساطة فكرة خاطئة. فالحق أننا نتحكم في كل أشكال التكنولوجيات والكثير من أنماط البحث العلمي: لم يعد العلماء أحراراً في إجراء تجارب لتطوير أسلحة بيولوجية جديدة، بأكثر من حريتهم في التجريب على البشر دون موافقتهم العارفة. صحيح أن بعض الأفراد أو المنظمات يعتدون على القوانين، وأن هناك دولاً لا توجد بها القوانين أو هي لا تنفذها بالصرامة اللازمة، لكن هذا ليس سبباً في ألا تُسَنَّ القوانين من أصله. يرى فوكوياما أن الناس يسرقون ويقتلون على أية حال، وهذا ليس سبباً لإباحة السرقة والقتل.
كما يحاول فوكوياما أن نتجنب، بأي ثمن، موقفاً انهزامياً فيما يتعلق بالتكنولوجيا ويقول إنه لما كنا لا نستطيع أن نفعل شيئاً لإيقاف أو صياغة التطويرات التي لا نحبها، فليس من سبب يدعونا لأن نقوم بالمحاولة من أصله. لن يكون من السهل أن نُشغّل نسقاً تنظيمياً يسمح للمجتمعات بالتحكم في البيوتكنولوجيا البشرية: الأمر يتطلب أن يقوم المشرعون في دول العالم باتخاذ قرارات صعبة في قضايا علمية معقدة. ويرى فوكوياما أن شکل وصورة المؤسسات التي ستنشأ لتنفيذ القوانين الجديدة فلا يزال قضية مفتوحة على مصراعيها. إن التحدي الكبير هو أن تُصمّم بحيث لا تكون معوقاً للتطويرات الإيجابية، وبحيث يكون لها في الوقت نفسه قدرات تنفيذية فعالة. أما التحدي الأكبر فسيكون هو وضع قوانين عامة على مستوى دولي، والوصول إلى اتفاق جماعي في الرأي بشأنها بين دول ذات ثقافات مختلفة ورؤى متباينة بالنسبة للقضايا الأخلاقية الأساسية. لكنا نعرف أن مهمات سياسية كهذه معقدة قد أنجزت في الماضي بنجاح.
وهكذا يستعرض فوكوياما في كتابه نهاية الإنسان عواقب الثورة البيوتكنولوجية على الطبيعة البشرية وعلى السياسة وعلم الاجتماع والطبيعة الإنسانية. ويطرح العديد من الأسئلة: هل لها نتائج سلبية على الطبيعة البشرية أم إيجابية؟ وما هي الأعراض الجانبية لكل تغير تكنولوجي على الإنسان، كإنسان خلقه الله تعالى منذ ملايين السنين؟
إن الأساس المنهجي لفوكوياما هو اهتمامه بالتداعيات السياسية لثورة التكنولوجيا الحيوية. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يكون لظهور فئة ذات موهبة وراثية متفوقة، والتي في مواجهة فكرة الكرامة الإنسانية العالمية، يمكن أن تتذرع بأسباب بيولوجية لهيمنتها. تتكرر الإشارة إلى نيتشه في كتابه (نهاية الإنسان)، لدرجة أن المفكر الألماني فهم أنه إذا كان بإمكان العلم تحسين الجنس البشري، فستظهر أيضاً أرستقراطية طبيعية جديدة.
وفي النهاية يعتقد فوكوياما أن التحفظات التي أثارتها استخدامات التكنولوجيا الحيوية تهمنا جميعاً. سواء كانت لدينا قناعات دينية أم لا. وهكذا، على سبيل المثال، على الرغم من أنه لا يعتبر أن للجنين البشري نفس الحقوق التي يتمتع بها الإنسان، فإنه يعتقد أنه ليس مجرد مجموعة من الخلايا أو الأنسجة مثل أي نسيج آخر، لأن لديه القدرة على أن يصبح كائناً بشرياً. لذلك، من المعقول أن نسأل – على أساس غير ديني – عما إذا كان ينبغي أن يكون للباحثين الحرية في تكوين الأجنة البشرية واستنساخها وتدميرها حسب الرغبة.
ففي عالم يغمره التطور العلمي والتكنولوجي ومع تفتح آفاق العقل البشري واستمراره في الإبداع والابتكار، اتجه العالم نحو استحداث أساليب حربية جديدة ومنها إدخال المجال الطبي في الحروب وتسخير التكنولوجيا الحيوية من أجل إعداد جيش من البكتيريا والفيروسات المسببة للأمراض المعدية سريعة الانتشار وإنشاء أسلحة مدمرة بصورة جماعية كالأسلحة البيولوجية والتي تعتبر أساس ما يعرف بالحروب البيولوجية، فقد عانى الإنسان بكل ما يحدث في البيئة من تلوث، وانتشار للأمراض والأوبئة الفتاكة، والعمليات الإرهابية وأصبح هو المتضرر الأساسي بين الكائنات الحية وذلك في ضوء تحقيق الأطراف مصالحها العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية. لذلك فقد حظيت الحرب البيولوجية باهتمام كبير لدي جٌل دول العالم نظراً لأهميتها ومدى خطورتها.
وفي هذا السياق يجب علينا ألا ننسى عند استعراض كتاب نهاية الإنسان عواقب الثورة البيوتكنولوجية جائحة كورونا (كوفيد-19) التي فتكت منذ أربع سنين بأرواح كثيرة من البشر. فإذا كان هذا الوباء ناتجاً عن تطوير في مختبرات بيولوجية. وحاول العالم الغربي بتفوقه العلمي البحث عن لقاح فعال ينهي هذا الكابوس المرعب، وعلى فرض الاعتراف بلقاح فعال، فهل عدم أخذ هذا اللقاح مستقبلاً يجعل الوباء قاتلاً لمن لم يصبه. وهل هذا الفيروس قد يستطيع أن يضع حد لأعمار من هم مصابون بأمراض مثل: السكري وأمراض القلب والشيخوخة. ومدى الخسائر البشرية والاقتصادية التي سببها هذا الوباء لدول العالم. وهل سيغير هذا الفيروس المتحور شكل العلاقات الإنسانية. كثير من المسائل والتصورات المتعلقة بعواقب الثورة البيوتكنولوجية يطرحها فوكوياما من غير جواب حتمي ليترك الجواب للمستقبل.
وفي قناعتي الشخصية اعتقد أن جائحة كورونا (كوفيد-19) في عام 2020 هي شكل من أشكال الحروب البيولوجية بين الدول التي تمتلك مفاتيح التطور العلمي والتكنولوجي وبالأخص المختبرات البيولوجية. ففي عام 2003 تحدث عالم الفيزياء الفلكية البريطاني الشهير مارتن ريس عن التطور السريع في الأسلحة البيولوجية، وراهن بأنه مع حلول عام 2020 سيحدث خطأ بيولوجي يؤدي إلى وفاة مليون إنسان، وإذا كان حصول كورونا قد جعل الناس تدهش من هذا التوقع الدقيق، إلا أنه ليس هناك حتى الآن ما يؤكد أنه بالفعل نتيجة خطأ بشري له علاقة بتطور الأسلحة البيولوجية. لكن الفكرة الأعمق هنا والمرعبة فعلا أن إطلاع ريس وغيره على تصاعد السباق بين الدول في تطوير الأسلحة البيولوجية، يعني أن " جائحة كورونا " بكل ما أحدثته للعالم من إرباك وهلع هي مجرد مذاق لما يمكن أن يحدث للعالم في حال استخدام التقنية البيولوجية في شن حرب أو عملية إرهابية.
وفي الختام نطرح التساؤل التالي: هل هي نهاية الإنسان أم نهاية الإنسانية؟ اعتقد من وجهة نظر علم الاجتماع النقدي أن المشكلة التي يواجهها البشر ليست نهاية الإنسان، وإنما هي نهاية الإنسانية وغياب العدالة الاجتماعية، التي يمكن للتكنولوجيا وبحوث الانثروبولوجيا أن توقفها أو تحد منها. إن ثلاثة ملايين من البشر يعيشون دون صرف صحي. إن بليوناً ونصف المليون لا تصلهم المياه النظيفة، إن بليوناً وربع البليون لا يجدون السكن الذي يليق بالآدمي؟ إن نصف مليون لا يتوفر له الحد الأدنى من الغذاء اليومي، إن ثلاثين أو أربعين ألف طفل يموتون يومياً بسبب سوء التغذية والأمراض هكذا تقول تقارير الأمم المتحدة. كما أظهرت بيانات جديدة أصدرتها اليونسكو أن عدد الأطفال والشباب غير الملتحقين بالمدارس ارتفع بمقدار 6 ملايين منذ عام 2021، ليبلغ إجمالي عددهم الآن 250 مليوناً. فعن أي إنسان يجادل فوكوياما کي يحفظ كرامته البشرية؟ هل هو إنسان دول الشمال أم الجنوب؟ وهل يتمتع هؤلاء جميعاً بالكرامة الإنسانية - حسب مبادئ حقوق الإنسان- في واقع دولي غير عادل لا مكان للضعفاء فيه؟ إنه عالم الرأسمالية المتوحشة صانعة الحروب التي يقودها العقل الأداتي المجرد من الإنسانية صاحب مقولة " البقاء للأصلح ".
------------------------------------------------------
- المراجع المعتمدة:
- فرانسيس فوكوياما: نهاية الإنسان عواقب الثورة البيوتكنولوجية، ترجمة: أحمد مستجير، سطور، القاهرة، ط1، 2002.
- حسام الدين فياض: ثورة الجينوم ومستقبل البشرية رؤية تحليلية – نقدية، مجلة منظمة المجتمع العلمي العربي، الدوحة (قطر)، 26 أكتوبر 2022. ثورة الجينوم ومستقبل البشرية
- ريهام الغرابلي، نورهان علي: الحرب البيولوجية وتأثيرها علي الأمن الدولي (دراسة تطبيقية: COVID-19، الحرب الروسية الأوكرانية)، المركز الديمقراطي العربي، برلين، 21 يونيو 2023. الحرب البيولوجية وتأثيرها علي الأمن الدولي (دراسة تطبيقية:COVID-19,الحرب الروسية الأوكرانية) - المركز الديمقراطي العربي
- عبد الكريم الجندي: قراءة في كتاب " نهاية الإنسان " لفرانسيس فوكوياما، موقع منثور، 15/12/2022. https://2u.pw/l499ZwsB
- هشام طالب: بناء الكون ومصير الإنسان، دار المعرفة، بيروت، ط1، 2006.
د. حسام الدين فياض
الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة
قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً