مسعد بدر - ابن رفح (7)

(7)

هكذا قامت العلاقة بين المعلّم والمتعلّم، وبين التلاميذ والتلاميذ، حتى كانت (الحفلة) طقسًا معتادًا أن يؤديه بعضهم مصرفهم من المدرسة. وما الحفلة إلا أن تتكالب مجموعة منهم على واحد بائس ضعيف يصبّون على جسده فنونًا من العذاب توازي ما ذاقوه هم في المدرسة أو في البيت.
وكذلك كان شأن الزوج وزوجها، وشأن الابن وأبيه، وشأن الفتاة وأبيها أو أخيها الأكبر، وكم من فتيات – الأصل أنهن حرائر – عانين صفع الكفوف ولسع العُصي على أجسادهن الغضّة، لأدنى سبب، كأن تُتّهم بالإبطاء في إنجاز خدمة طُلبت منها، أو أنها حادثت بعض الشبّان؛ إذا كان أولياؤها من المحافظين الذين يجرّمون مثل هذه المحادثات.
هذه العلاقات الاجتماعية الاستبدادية عاشها الرفحي فعلًا، وعاشتها أجيال أخرى. كانت واقعًا لا ينكره أحد.
على أن نظرة الناس إلى الحقيقة الواقعة تتفاوت؛ فبعضهم يذكر الماضي بألم وأسى، وآخر يغضّ الطرف عن مثالبه ومساوئه، وبعضهم يحنّ إلى مناقب ذلك الماضي الجميل مقارنةً بواقعه هذا القبيح، وآخر يعتقد أن تلك كانت هي العلاقات المُثلى التي يجب أن تسود، ويرى أنها أخرجت مجتمعًا صالحًا متماسكًا يحفظ القيم ويوقّر الكبير ويطيع القائد المسئول في البيت والمدرسة، ولك أن تقيس على هذين ما شئت من مجالات الحياة.
لكن البيئة آنذاك لم تخلُ من استثناءات، أو اختراقات لهذا الاستبداد الأبوي الصارم. من ذلك إجابة أبيه الهادئة على طلب المعلّم له بإعفاء لحيته. ومن ذلك أن الرفحي وقع، غير مرة، في أخطاء كانت تستوجب العقاب؛ فعفا عنه أبوه الصارم الحازم ونصحه بالتي هي أحسن.
ويشهد الرفحي أنه رأى رجالًا لا يضربون أزواجهم بالعصا ولا بالكف، بل كانوا يجالسوهن ويشاركوهن الطعام في إناء واحد. وكانوا يرفقون بأولادهم وبناتهم، بل يبالغون في ذلك كثيرًا فيحضنونهم ويقبّلونهم، والرفحي ذاهل يرى!
كذلك ويشهد أنه صدُم صدمة هائلة وهو يسمع الناس يحكون عن حالتين على الأقل من حالات العنف المضاد، عنف الأبناء واعتدائهم على الآباء بالضرب، وبالتنكيل أيضًا.
وفي المدرسة أيضًا استثناءات، وفيها حالات تتفاوت. فقبل انسحاب المحتل من رفح عام 1982 كان المعلّمون فئتين، فئة من رفح المصرية، منهم الحضر ومنهم البدو، وهؤلاء لم يكونوا يتوسّلون بالضرب والعنف قط. هذا ما شهده الرفحي في مدرسة البادية الابتدائية، ولن يكون إلا منصفًا حين يشهد بأن المعلمين الفلسطينيين، بدوهم والحضر، كانوا هم الذين يُسرفون في العقاب إسرافًا يبلغ حد الإهانة.
ثم جاء دور المعلمين المصريين، أبناء المحافظات الأخرى، وأبناء رفح نفسها، وما هؤلاء بأمثل من أولئك وإن كان بعضهم يضرب التلاميذ طمعًا في مكاسب الدروس الخاصة التي لم يعرفها الرفحي وجيله من قبل. ثم لا ينسى الطفل موقف معلّمه ذاك الرفيق الرقيق.
كان معلّمه ذاك ناظر المدرسة. دخل يومًا يناقش تلاميذ الصف الرابع في بعض مسائل اللغة العربية فإذا بهم واجمون لا يُحرون جوابًا صحيحًا ولا خاطئًا. صاح فيهم الناظر الصعيدي مُوبّخًا ومُعنّفًا؛ فردّ عليه الطفل الرفحي ردًّا جريئًا لا يعرف كيف نفذ من لسانه، قال: إن المعلّم فلانًا مشغول عن التدريس باللهو مع الفتيات! ذُهل الناظر وبدا عليه الاضطراب من هذه المفاجأة الصريحة؛ فأمر الطفل بأن يتبعه إلى مكتبه، وهناك استفسر منه عن التفاصيل. لم يكن في وسع الصبي إلا أن يقول الحقيقة كاملة، وأن يذكر أسماء الفتيات الكواعب من الصف السادس، وأن المعلّم فلانًا يأمر الرفحي بأن يقف (عرّيفًا) على الفصل؛ ليخلو هو للحديث واللهو معهن في الغرفة المجاورة الخالية. كان يتحدّث والمدير مُصغٍ يضع يده على ظهره في اهتمام، فلما فرغ أوصاه مشدّدًا بأن يكتم هذا الأمر تمامًا وإلا أوقع به أشد العقاب. وقد كتمه الرفحي فعلًا، فلم يبُح به إلا اليوم.
والحقيقة أن المعلّمين المصريين كانوا أقرب إلى التلاميذ، وكانوا محبوبين على الجملة، يشعر التلاميذ إزاءهم بالأنس والألفة إلى درجة جعلت أحد التلاميذ يتمرّد، وجعلت الرفحي وجيله يرون أول حالة من نوعها، ولن تكون حالة العصيان الأخيرة.
أراد معلّم أن يعاقب تلميذًا في الصف السادس؛ فرفض التلميذ أن يفتح يده للعصا. احتار المعلم ولم يجد إلا أن يقتاده إلى الناظر. كان الناظر ساعتها يجلس في الصف الرابع يناقش تلاميذه كعادته مع كل الصفوف. دخل المعلم يجرّ التلميذ المتمرّد جرًّا ويطلب من الناظر أن يعاقبه، لكن التلميذ أبى على الناظر أيضًا مُقسمًا: والله لن تضربني! كان مشهدًا عجيبًا حقًّا لا يدري الرفحي علام انتهى، لكن المؤكد أنه كشف للتلاميذ أن في الدنيا كلمة (لا)! تلك هي المرة الأولى التي علَت فيها (لا) على (نعم).
ولا تختلف المرحلة الإعدادية عن الابتدائية كثيرًا ولا قليلًا، عقاب تقابله كلمة (نعم)، فلما شذّت (لا) ذات مرّة قابلها المعلّم بردّ فعل عنيف ومُهين، هنالك سمع التلاميذ ورأوا لأول مرة تلميذًا يهدّد المعلّم بالانتقام.
فلما أن التحق الطلّاب بالثانوية، كانوا قادرين على التمرّد أو المناورة أو الاحتيال، ولم يكن مقبولًا أن يبسط الواحد منهم يده مستسلمًا للعصا، بله أن يحتمل اللكمة أو الصفعة أو الركلة. ولا بدّ أن المعلمين استشعروا ذلك؛ فانحسر مدّ العصا وكاد ينحصر في اثنين أو ثلاثة منهم. أصبح التمرّد سمة بعض الطلّاب، وارتفعت كلمة (لا)؛ فكاد أمر المدرسة يُفسد إفسادًا عظيمًا.
بيد أن الظروف هيأت للمدرسة مسئولًا أنقذها من إفساد بدا يلوح. كان هذا الرجل هو (المستبد العادل) بكل ما يحمله هذا الاصطلاح من أبعاد. كان "قويًّا في غير عنف، رفيقًا في غير ضعف"، عادلًا منصفًا. اعتاد أن يسعى فيما ينفع الطلّاب ولو كرهوا، والمراهقون قد يكرهون ما ينفع. فإذا عرضت له مشكلة؛ فإنه يتأنّى ويتحقّق؛ فإذا وضح له خطأ الطالب عاقبه عقابًا لا شفقة فيه ولا رحمة. وإذا وضحت له استقامة الطالب؛ صرفه معافى، ونصره سرًّا على المعلّم الذي اشتكى.
وكان هذا المستبد العادل نموذجًا في الالتزام بالعمل ومواعيده الدقيقة، متفانيًا في أداء الدروس، متديّنًا لا تحوم حوله أدنى شبهة في أي مجال أخلاقي أو مادي. كذلك وكان حكيمًا أريبًا يعرف أحوال طلّابه، ويتصرّف معهم وفق هذه الأحوال؛ فلئن كان شديد العقاب إذا رأى طالبًا يحادث فتاة، لقد رأى الرفحي غير مرّة فغضّ الطرف عنه وعن الطالبة.
وأخرى أحبّها الرفحي في معلّمه ذاك المستبدّ وأكبرها، وهي (الشورى)، أو (الديمقراطية) إذا شئت. والديمقراطية قد تصلح في مثل تلك البيئات إذا نهض بها عادل مستبدّ.
وبيان ذلك أنه فرض على الطلّاب بعض أمور ضاقوا بها، فانتدبوا الرفحي لسانًا ينوب عنهم؛ فسرعان ما استجاب الرجل لمقترحات الطلّاب بتواضع وثقة. ثم دعا الرفحي لحضور اجتماعاته مع أعضاء هيئة التدريس، بوصفه رئيس اتّحاد الطلّاب؛ ليكون نائبًا عن زملائه، ومشاركًا حقيقيًّا في صياغة أي قرار يتعلّق بالمدرسة كلها. وقد كان أمرًا مثيرًا حقًّا أن يجلس الفتى بين أساتذته يستمع إلى أسرار لا يعرفها الزملاء، ثم ينقلها إليهم لتصبح إدارة المدرسة عمليّة ديمقراطية شفّافة لا تتخفّى وراء الجدران وخلف الأبواب المغلقة، ولتصبح عملًا مشتركًا يقوم على الشورى لا الفوضى، ولا فوضى في مدرسة يشرف عليها رجل قوي حكيم، رجل خليق بأن يُسمّى (المستبدّ العادل).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى