هذه الرواية خيال محض
لكن الواقع غالبا أكثر غرابة من أي خيال
أهديها إلى ابنتي الحبيبة أروى
لكن الواقع غالبا أكثر غرابة من أي خيال
أهديها إلى ابنتي الحبيبة أروى
أيمن مصطفى الأسمر
دمياط - مصر
يناير 2008
دمياط - مصر
يناير 2008
محمد عبد الهادي
كعادتي في الشهر المنقضي التجأت في نهاية يوم شاق آخر إلى مقعد وحيد في مقهى شبه خاو، أصبح هذا المقهى بالنسبة لي ملاذا آمنا ألجأ إليه في ساعة متأخرة وأظل به حتى بعد منتصف الليل بقليل، عندها .. أبدأ رحلة العودة إلى منزلي - أو بالأصح - منزل أبي الذي أشغل وزوجتي إحدى حجراته، كنت أتعمد العودة في هذا الوقت المتأخر هربا من نظرات أبي المشفقة وتساؤلات أمي القلقة، وإذ كنت أنجح غالبا في تجنب أبي وأمي .. فإنني أفشل دائما في تجنب زوجتي، كانت المسكينة تستقبلني بلطف زائد وشوق يتناسب مع حداثة زواجنا .. ثم تمهد لسؤالها الذى لا مفر منه:
ـ هل من جديد اليوم؟
وكالعادة تكون إجابتي:
ـ كلا.
تسألني مرة أخرى:
ـ أعد لك العشاء؟
فأجيبها كاذبا:
ـ تناولته.
ـ أنا تقريبا لم آكل شيئا .. ظللت في انتظارك.
ـ إذن نأكل سويا أى شيء، لكن أرجو ألا تفعلي ذلك بنفسك مرة أخرى.
نأكل في صمت، تهم بقول شيء ما، تتراجع عنه ثم تسبقني إلى حجرتنا وألحق بها بعد قليل، في الأيام الأخيرة توقفت عن أسئلتها المعتادة فقد كان حالي يجيبها بوضوح، أما اليوم فقد كان حالها معي مختلفا، احتضنتني من ظهري .. أسندت رأسها عليه لدقيقة أو اثنتين، كنت لا أراها في هذا الوضع لكنني كنت أشعر ببكاء مكتوم داخل صدرها تجاهد كي لا يخرج إلى العلن، ورغم رغبتي العارمة في احتوائها في تلك اللحظة بالذات .. إلا أنني لم أفعل ذلك، عجزت عن أن تكتم بكاءها وانسالت الدموع من عينيها كشلالات هادرة لا تتوقف، أصابتني حالة من الشلل المؤقت، لم أدر ماذا أفعل .. تماسكت بعدها واستدرت لأضمها إلى صدري قبل أن أخطو بها رويدا رويدا إلى حجرتنا، أجلستها على السرير ثم جلست إلى جوارها وأنا عاجز عن الكلام، استمرت تبكي بشدة وبصورة لم أرها عليها أبدا من قبل، لم تكن معرفتي لسمر قاصرة على شهور الخطبة والزواج، فهى ابنة عمي .. أعرفها منذ طفولتها المبكرة ونمت معرفتي لها شهرا بشهر وسنة بسنة، حتى عندما سافرت مع والدها لأربع سنوات لإعارته كمدرس إلى دولة غير بترولية لم تنقطع معرفتي بها، وهكذا نمت علاقتنا بسلاسة من صلة قرابة إلى تقارب، فتوافق .. ثم حب صامت كان مقدرا له أن يصل إلى نهايته السعيدة، تمت خطبتنا بمجرد إنهائي لدراستي الجامعية بكلية العلوم وتم الزواج بمجرد إنهائها هي لدراستها بكلية الآداب، كانت المشكلة الحقيقية الأولى التي واجهتنا هي عدم تمكني من تدبير شقة مستقلة لنا بإمكانياتي المحدودة، تم التغلب على ذلك بالاتفاق - بعد جدل - بين العائلتين على أن نعيش مؤقتا مع والدي في حجرة خاصة مع إعادة تجهيزها بالكامل، تمثلت المشكلة الثانية في عدم استقراري في عمل واحد، فمنذ تخرجي وأنا في رحلة من الانتقال المستمر بين عمل وآخر، كانت معظمها أعمالا لا تمت بأي صلة لدراستي، ولم يكن أيا منها يوفر لي العائد المجزي الذى يشجعني على التمسك به، كنت أبذل من وقتي وجهدي وصحتي أضعاف أضعاف ما أحصل عليه من مال، فضلا عن العديد من المتاعب والشكوك التي واجهتها مع بعض أصحاب الأعمال أو نتيجة لطبيعة العمل نفسه، كان نتيجة كل ذلك هو انتقالي خلال ثلاث سنوات بين عشرات من المهن والوظائف والحرف المختلفة، ومنذ تركت عملي الأخير وأنا في رحلة بحث مضنية عجزت خلالها عن العثور على عمل مناسب يوفر لي الاستقرار الذي أنشده بعد زواجي، وكان عثوري على هذا المقهى الذى يتميز عن غيره من المقاهي بالهدوء وقلة الرواد مناسبا لحالتي النفسية والبدنية بعد رحلة البحث اليومية الشاقة، استرجعت كل ذلك ونحن لا نزال جالسين على السرير، هي تبكي وأنا عاجز عن الكلام أو الحركة، أدركت بعد دقائق أنه يجب على أن أهدأ من روعها وأحتوي حزنها، احتضنتها قائلا:
ـ كفي يا حبيبتي .. سيجعل الله من بعد عسر يسرا.
استمرت في البكاء وهي ترتجف بشدة، أدركت أن أي كلام أقوله لها لن ينجح في إخراجها من هذه الحالة، ورأيت أن احتضانها في صدري وتخلل أصابعي لخصلات شعرها قد يكون أفضل وسيلة لبث الدفء والسكينة في نفسها، بعد عدة دقائق بدأت بالفعل في الهدوء تدريجيا، ظل رأسها على صدري وظلت أصابعي تجول في شعرها، بقينا هكذا دون كلام ثم رفعت رأسها فجأة وقالت:
ـ هل تعتقد أنه من السهل علي أن أراك هكذا؟
صمت ولم أجب، تابعت قائلة وقد ازدادت تماسكا:
ـ انظر في المرآة لتعرف كيف أصبح حالك.
نظرت إليها وأنا أحاول رسم ابتسامة على وجهي، أضافت قائلة:
ـ ليت الأمر يقتصر علي فقط، أنت لا تعلم حال أمك وأبيك.
نطقت أخيرا:
ـ وماذا عنهما؟
ـ أبوك يحاول أن يبدو متماسكا، لا يتكلم إطلاقا في الأمر .. لكن الحزن يملأه وأنا أدرك ذلك، أما أمك فلا تستطيع أن تكتم مشاعرها، لا حديث لها معي إلا عنك .. عن تدهور صحتك والبؤس الذى يسيطر عليك.
ـ أعلم ما تقولينه .. لذلك أحاول أن أتجنبهما قدر استطاعتي.
ـ وهل سيمنعهما ذلك من القلق عليك؟!
ـ كلا.
ـ إذن حاول على الأقل أن تطمئنهما.
ـ وماذا عنك أنت؟
ـ أستطيع أن أتحمل معاناة نفسي، لكن لا يمكنني تحمل معاناة الآخرين، خصوصا إذا كانا عمي وزوجته وهما في نفس الوقت حمواي.
ـ أعدك أنني سأحاول، ألا يمكن أن ننام الآن؟
ـ أعذرني يا حبيبي نسيت كم أنت متعب.
أطفأت الأنوار واستلقيت إلى جوارها وعشرات الأفكار تتصارع في رأسي .. وعلى عكس ما توقعت حظيت بنوم هادئ عميق خال من الكوابيس.
"الأسطى" عبد الهادي
تأكد اليوم ما ظل حتى الأمس مجرد شائعات وأقاويل تتناثر هنا وهناك، جاء الأستاذ محمود إلى العنبر حاملا في يده إحدى جرائد الصباح القومية، كان عنوان الخبر المنشور بالصفحة الأولى "طرح خمس شركات جديدة للبيع" .. في تفاصيل الخبر كان اسم شركتنا "الشركة الفنية للصناعات المعدنية" على رأس قائمة الشركات الخمس، قرأ الأستاذ محمود الخبر علينا بالكامل، خيم على الجميع صمت قاتل لبضع دقائق بعد انتهائه من قراءة الخبر، لم يعلق أحدنا عليه، اكتفينا بتبادل نظرات شاردة لا معنى لها، أخيرا صاح "الأسطى" حسين:
ـ هل صدقتموني الآن؟ لم أكن أخرف .. أليس كذلك؟
لم يستطع أحدنا الرد عليه، كان "الأسطى" حسين ولعدة شهور سابقة أكثر من تحدث في هذا الأمر إصرارا، أكد لنا مرارا وتكرارا أن الشركة في سبيلها إلى أن تباع، كان يقسم لنا أن ما يقوله ليس تكهنات أو قياسا على ما يحدث لشركات أخرى، أصر أن مصدرا موثوقا به بالوزارة أكد له هذا الأمر وأن المسألة هي فقط مسألة وقت، كنا نسمع له ولا نصدقه .. أو في الواقع نخشى أن نصدقه، رغم تأكـد معظمنا أن ما يقوله هو واقع لا مفر منه، وأن الأمر لا يحتاج مصدرا موثوقا به في الوزارة للتحقق من حدوثه، فالشواهد والوقائع كلها تؤكده، لكننا كنا نهرب من مواجهة أنفسنا بهذه الحقيقة، وعندما تجرأ "الأسطى" حسين وسأل العضو المنتدب ورئيس مجلس إدارة الشركة منذ عدة أسابيع سؤالا مباشرا عن عملية البيع المحتملة لم يجبه إجابة صريحة وواضحة، كانت إجابته في الواقع تحمل أكثر من معنى، يومها احتد عليه "الأسطى" حسين طالبا منه إجابة مباشرة، وللحق كان الرجل صبورا معه لكنه أيضا لم يعطه ردا شافيا، اليوم ورغم تأكد الأمر ونشره بالصحف القومية عجزنا جميعا عن الرد على سؤال "الأسطى" حسين، وظل الصمت والشرود يسيطر علينا، أخذ يصرخ في وجوهنا:
ـ قولوا شيئا .. لماذا الصمت الآن؟ قولوا شيئا .. قولوا شيئا عليكم اللعنة.
أخذ يكرر ما قاله وهو في حالة بكاء هستيري لم نره عليها من قبل، أخيرا أشفق عليه الأستاذ محمود وقام ليحتوي جسده القصير النحيل بقامته الفارعة قائلا له ولنا:
ـ كلهم كانوا يعلمون وواثقون مثلك، لكنه الأمل الذى منعهم سابقا من تصديق الأمر، والصدمة والخوف من المجهول الذي يمنعهم الآن عن إجابتك.
عندما عدت إلى منزلي كان همي الأول التأكد من عدم وجود أيا من جرائد الصباح به، أعتاد محمد ابني الوحيد شرائها من حين إلى آخر بحثا عن الوظائف الخالية، حمدت الله كثيرا عندما لم أجدها، ثم داهمني خاطر أنه قد يكون اشتراها لكنها معه حيث يختفي طوال اليوم منذ ترك آخر عمل اشتغل به، طردت الأمر من ذهني عندما لاحظت زوجتي "أم محمد" حالة القلق التي أعاني منها فسألتني:
ـ ما بك يا رجل؟
ـ لا شيء.
ـ يبدو على وجهك أمرا لا يريحني يا "أسطى" عبد الهادي، قل لي ما بك؟
اعتادت عند بداية تعارفنا ثم زواجنا منذ ثلاثين عاما تقريبا أن تناديني هكذا، ورغم مرور السنوات والعشرة الطويلة بيننا وإنجابنا لمحمد وأخته وفاء إلا أنها ظلت في أغلب الأوقات تناديني يا "أسطى" عبد الهادي، تجاهلت سؤالها وقلت:
ـ أعدي الغذاء فأنا جوعان.
ـ الغذاء .. ومنذ متى تأتي ولا تجده معدا؟! ألم اقل أن بك شيئا؟
ـ حسنا .. حسنا، هيا حتى أنام قليلا كعادتي بعد الغذاء.
على مائدة الطعام لم يكن هناك سوانا نحن الاثنين، كانت وفاء قد سبقتنا أما سمر زوجة ابني محمد وابنة عمه فقد اعتادت في الفترة الأخيرة أن تنتظر زوجها عندما يعود بعد اختفائه طوال اليوم، أنهيت غذائي ودخلت إلى غرفتي لأنام، لم أنم لكنها كانت فرصة لأختلي بنفسي وبأفكاري، كان خبر بيع الشركة قد سيطر علي بالكامل، ورغم أن الأمر لا يزال في بدايته وسيأخذ في الغالب بضعة شهور قد تتجاوز العام لإتمامه، إلا أن المعاناة التي عاشها زملاء لي في شركات أخرى تم بيعها تجسدت أمام عيني بصورة لم يمكنني الفكاك منها، تردد في ذهني ما قاله الأستاذ محمود .. الصدمة والخوف من المجهول، الصدمة نعم .. لكنه ليس مجهولا على الإطلاق، فالحكايات التي حكاها لنا زملاؤنا وما تتناقله الصحف من حين لآخر جعلت الأمر معلوما بدرجة كافية، سنسير لا محالة في نفس المسار الصعب الذى عرفه زملاؤنا وعانوا منه، منهم من احتمل الأمر ورضى به .. ومنهم من كانت الصدمة عليه قوية فأصابه الذهول وما هو أكثر منه، عندما خرجت من غرفتي وقد بدا علي آثار عدم النوم، نظرت زوجتي إلي نظرة ذات مغزى أتبعتها بسؤال:
ـ ألا تنوي أن تقول لي ما بك؟ مهما حاولت الإخفاء ستقول لي في النهاية.
كانت على حق، لم أعتد أبدا أن أخفي عنها شيئا، كم مر علينا من صعوبات ومشاكل كانت دائما تعلم بها منذ اللحظة الأولى لوقوعها، لكنني هذه المرة تملكني التردد وعجزت عن الإفصاح لها بالأمر، حاولت الهروب من نظراتها وسألتها لتغيير مسار الحديث:
ـ ما أخبار محمد وزوجته؟
تنهدت بأسى ثم قالت:
ـ ربك يلطف بهم .. الوضع صعب جدا عليهم.
ـ حسبنا الله ونعم الوكيل .. ووفاء؟
ـ لا أعرف ماذا جرى لهذه البنت .. كثرت طلباتها وخروجها وأحوالها لا تعجبني أبدا.
ـ أين هى الآن؟
ـ قالت أنها ستذهب إلى السوق مع إحدى صديقاتها.
ـ يهديها الله.
سمر
الأسابيع الماضية هي أشد ما مر بي تعاسة طوال حياتي، الحالة النفسية السيئة التي يعيشها محمد والتي تتزايد يوما بعد يوم جعلتني أعيش في كابوس دائم، ترك محمد عمله الأخير قبل زواجنا مباشرة، لم يشغلنا ذلك وقتها، عشنا بعد الزواج أياما قليلة في سعادة غامرة لا يشغل تفكيرنا أي شيء، أفقنا بعدها على مواجهة الواقع، بدأ محمد رحلته المضنية في البحث عن عمل، أنتظره كل يوم على أمل أن يأتي بخبر سار لكنه عندما يصل تفضحه عيناه بإخفاقه، ورغم ذلك أسأله .. كم أنا بلهاء! ألا يكفيه ما هو فيه حتى أضاعف من همومه، لكن ما الذي بيدي غير ذلك كي أفعله؟ أراه يزداد بؤسا أمام عيني ولا أقدر على صنع شيء ما لأخفف عنه، أرى والديه يتألمان ولا أستطيع أن أفعل لهما شيئا، يحاول عمي التماسك .. لكنني أشعر بما في داخـله، أما زوجة عمي فتكاد أن تجن، يشغلها بالتأكيد حال ابنها البكر، تحاول أن تعرف مني تفاصيلا قد تطمئنها فلا أجد ما أقوله لها سوى كلمات لا معنى لها، بالأمس انفجرت باكية رغما عني، أصبح الحمل ثقيلا ولم أعد قادرة على كتم مشاعري وهمومي، احتواني محمد بصورة فاجأتني، بدا متماسكا بشكل لم أتوقعه، وأنا في صدره نسيت كل شيء للحظات، مرت على خيالي كل ذكرياتي معه .. الطفولة والمراهقة والشباب، التقارب المبكر بيننا والذي تحول مع الأيام إلى حب صامت، اللحظة التي اعترف لي فيها بحبه، اللحظة التي فعلت أنا فيها ذلك، وغيرها من اللحظات التي لا يمكن أبدا أن أنساها، استعدتها بقوة وأنا في صدره، نسيت هموم الأيام الأخيرة .. القلق والتوتر .. الخوف من المعلوم والمجهول، ثم فجأة عاودني القلق عليه فتحرر لساني من صمته وبادرته بهواجسي وهمومي، رغم توتره الدفين إلا أنه نجح مرة أخرى في احتوائي، نمت سعيدة رغم كل شيء.
أم محمد
يبدو البيت هذه الأيام في أسوأ حالاته، "الأسطى" عبد الهادي مهموم دائما .. قليل الكلام، محمد وزوجته يقتلهما عدم استقراره في عمل ثابت بل وتعطله تماما في الفترة الأخيرة، وفاء أحوالها مضطربة كأنها ليست ابنتي التي أعرفها، تنتابني يوميا كوابيس مخيفة لا أعرف كيف السبيل إلى الخلاص منها، في أحد هذه الكوابيس رأيت محمدا يرتدي ثيابا غريبة ويقف في مكان موحش المعالم يتحدث بكلمات لم أفهمها، ثم جاءت زوجته وأخته من ورائها، الأولى تبكي بحرقة والثانية تضحك بجنون، ثم تظهر فجأة العديد من الكائنات الغريبة التي لا أعرف لها اسما أو نوعا، يحيطون بثلاثتهم فيختفون تماما وسطهم، أسمع صوت محمد ينادي على أبيه .. لكنه لا يظهر، أصحو مفزوعة من نومي، أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، أتلو الفاتحة وآية الكرسي وبعض السور القصيرة، لكن الكوابيس تلاحقني يوميا الواحد تلو الآخر.
بالأمس خرجت وفاء قبل الظهر ولم تعد إلا بعد العشاء، لم تخبرني إلى أين ستذهب، كذبت على والدها وأخبرته أنها خرجت إلى السوق مع إحدى صديقاتها، لم أعتد أبدا الكذب عليه أو إخفاء أي أمر من أمور حياتنا، لكن الحالة الغريبة التي أراه عليها أجبرتني على ذلك، عندما عادت نهرتها بعنف وطلبت منها أن تكف عن هذه الأفعال, ردت علي بغير اكتراث، هددتها أنني سأفضح أحوالها لأبيها، قالت في تحدي:
ـ تحملي إذن مسئولية ما سيحدث.
صدمني ردها والطريقة التي كانت تنظر بها إلي، لم تكن أبدا وفاء ابنتي التي كانت إلى شهور قليلة يضرب بها المثل بين أقاربنا وجيراننا، لم تعد تساعدني في إدارة شئون البيت كما كانت في السابق، تعددت طلباتها وهي تعرف أن أكثرها لا يمكن لنا تحقيقه، أصبح التذمر هو السمة الغالبة على حديثها وتصرفاتها، وللمرة الأولى منذ أن ولدتها أجدني عاجزة عن فهمها والتعامل معها، الشيء الوحيد الذي أنا على يقين منه أن هذا التحول قد وقع لها منذ التحاقها بالجامعة أو بعد ذلك بقليل، أما محمد فيا كبدي عليه، تضاعفت همومه منذ زواجه وعدم عثوره على عمل يضمن له الاستقرار في بداية حياته الزوجية، بالأمس خيل إلي أنني سمعت زوجته وهي تبكي، كان "الأسطى" عبد الهادي نائما، هممت بالخروج إليهما ثم خشيت أن يحرجهما ذلك فمنعت نفسي رغما عني، أستغيث بك يا ربي .. لا ملجأ لي إلا سواك، أزح عنا هذه الهموم .. لم نعتد أبدا على ذلك.
وفاء عبد الهادي
أغضبت أمي بالأمس، أعلم في الواقع أنني أعاندها منذ فترة، أكره نفسي عندما أتصرف معها بهذه الطريقة ولكنني لا أعرف ما الذي يحدث لي عندما تواجهني، أشعر أنني ممزقة، وفاء هنا .. ووفاء أخرى هناك، التي هنا لم تعد راضية أبدا عن نمط الحياة التي تحياها، والتي هناك تخشى من نمط الحياة التي تراها من حولها، زميلاتي بالجامعة تأتي كل واحدة منهن في سيارة تفوق كل منها الأخرى في فخامتها، يرتدين ملابس لا أجرؤ حتى على مجرد التفكير في السؤال عن أسعارها، يتحدثن عن رحلاتهن الأسبوعية إلى الغردقة أو شرم الشيخ أو الساحل الشمالي وأنا التي لم تذهب إلى الإسكندرية أو جمصة أو رأس البر إلا مرات معدودة طوال حياتي، يتعاملن مع زملائنا من الشباب بجرأة مفرطة، عندما يجلسون معا للحديث يتكلمون في مواضيع لم أعتدها، يستخدمون لغة ومفردات غريبة علي، لا يتناقشون في أمور حياتهم أو يتحدثون عن الغلاء وأحوال البلد كما نفعل في بيتنا، لا يذكرون شيئا عن أحداث فلسطين أو العراق كما يحلو لأبي وأصدقائه أو أخي وزوجته التعليق عليها، أشعر أنهم يعيشون في عالم آخر غير الذي أعيش فيه، لا يمكنني أن أزعم أبدا أننا عائلة فقيرة، بل نعيش حياة معتدلة نحسب فيها حسابا لكل شيء، وبعد زواج أخي وإقامته هو وزوجته معنا وعجزه عن الاستقرار بعمل مناسب ازدادت الضغوط على والدي، ذهبت أمس مع زميلتي سامية إلى واحد من النوادي العديدة التي تشترك فيها، جلسنا طوال اليوم مع "شلة" من الشباب والفتيات لا أعرفهم، كدت أهرب بعد ساعة واحدة مما رأيته يدور بينهم، حاول بعضهم التطفل علي ومعاملتي بنفس الطريقة التي يعاملون بها الأخريات، انكمشت على نفسي وكدت أبكي، أنقذتني سامية وقالت لهم وهي تضحك بسخرية:
ـ اتركوها لحالها فهي لا تزال خاما.
رغم عودتي من هناك وأنا رافضة لما رأيته إلا أنه عندما تحدثت معي أمي رددت عليها بقسوة وبأسلوب غير لائق، إنه التمزق الذي أعاني منه ولا أعرف كيفية الخلاص منه.