د. أحمد الحطاب - قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ… إلى آخر الآية - الجزء الثاني

حتى تكتملَ الصورة ويكتملَ فهمُ الآية برمَّتها، أي ماذا يمكن أن يُستخلصَ منها، من خلال التَّدبُّر، وتفاديا لتكرار ما قلتُه، قد يكون من المفيد إعادة قراءة المقالة الأولى (الجزء الأول).

وكما وعدتُكم بذلك، هذه هي المقالة الثانية (الجزء الثاني) التي موضوعها الآية التي هي عنوان المقالتين، الأولى التي نشرتها، منذ 4 أيام على صفحتي في الفايسبوك، والثانية التي أنا، حاليا، بصدد تحريرها. والآية كاملة هي كالتالي : "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (العنكبوت، 20).

في المقالة الأولى (الجزء الأول)، تناولتُ بالتَّحليل الجزء الأول من الآية، وهو : "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ". في المقالة الحالية، سأتناول بالتَّحليل الجزء الثاني من نفس الآية، وهو : "فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ". وللتذكير، قلتُ إنني لن أُحلِّلَ الجزء الثالث من نفس الآية لأنه يدخل في علمِ الغيب.

أولا، ما المقصود من فعل "فَانظُرُوا"؟

حسب القواميس والمعاجم العربية، المعنى المتداول والمتعارف عليه، "نَظَرَ" تعني أَبْصَرَ، أي استعملَ قدرتَه البصرية capacité visuelle لإدراك الأشياء المُحيطة بالإنسان. وهنا، لا بدَّ من توضيح من الأهمية بمكان. العين ليست إلا واسطة intermédiaire تربط العالم الخارجي بالدماغ. وهذا الأخير هو الذي يدرك ماهِيةَ الأشياء، أي هو الذي يحلِّلها ويجعل الإنسان واعيا بوجودها وبصفاتها.

لكن، عندما نقول نظر في الشيء، يتغيَّر المعنى وينتقل من مجرَّدِ الإبصار إلى التَّأمُّل في هذا الشيء. وهذا يعني أن الانتقال من مجرَّد الإبصار إلى التَّأمُّل، يُراد منه التَّعمُّقُ في التَّحليل واستخلاص مزيد من المعلومات عن الشيء المُتأمَّل فيه.

ولهذا، قد يُفسَّر، في اللغة المتداولة، "النظرُ" بالبصيرة والتفكير بدقة والدراسة المعمَّقة… ونقول كذلك: فلانٌ له بعد نظر أو له دقَّةٌ في النظر أو له نظرٌ ثاقبٌ أو له نظرٌ سديد…، أي له من القدرة والذكاء ما يكفي لتقدير الأشياء فكريا ونظريا.

لكن ما لا يجب إغفالُه هنا، هو أن صاحبَ بُعدِ النظر والدقة في النظر والنظر الثاقب لا يمكن أن يدرسَ الأشياءَ بعُمقٍ إلا إذا توفَّرت لديه خلفيةٌ فكرية، ثقافية، معرفية وعلميه واسعة. وهذا يعني أن مُتدبِّرَ آيت القرآن الكريم، من الأهمِّية بمكان، أن يتوفَّر على رصيد فكري، معرفي، علمي وثقافي يجعله قادرا على تجاوز التَّفسير الحرفي لهذه الآيات.

إذن، فعل "فَانظُرُوا"، في الآية التي هي عنوان هذه المقالة، يتعدى مجرَّدَ الإبصار، وخصوصا أن هذا الفعلَ متبوعٌ بحرف "كيف"، أي أن الناظرَ عليه أن يُبصِرَ ويتمعَّن ويتأمَّل فيما يُبصِر. غير أن هذا الإبصارَ بتمعُّنٍ وتأمُّلٍ لا يمكن أن يقومَ به إلا مَن تتوفَّر لديه، كما سبق الذكرُ، خلفيةٌ فكرية، ثقافية، معرفية وعلميه واسعة، دون أن ننسى أن هذه الخلفية مرتبطةٌ بالزمان والمكان. وما دامت هذه الخلفية مرتبطةٌ بالزمان والمكان، فإن أدراكَ "كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ"، يختلف اختلافا جذريا عن ما كان عليه في عهد الرسول (ص) وعن ما يُحتمَلُ أن يكون عليه اليوم، أي في العصر الراهن. وعندما أقول إن المتدبِّرَ يجب أن تتوفَّرَ لديه خلفيةٌ فكرية، ثقافية، معرفية وعلميه واسعة، فالأمر لا يتعلَّق فقط بالإلمام بالأمور الدينية، بل بالتَّقدُّم الحاصل في مختلف مجالات العلوم الدنيوية.

انطلاقا من هذه التوضيحات، سأبدأ تحليلَ الجزء الثاني من الآية التي هي عنوان هذه المقالة، وهو : "فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ". وسيشمل هذا التَّحليلُ هذا الجزء الثاني في عهد الرسول (ص) ثم في العصرَ الراهنَ.

وهنا، لا بد من إثارة الانتباه إلى ملاحظتين مهَّمتين. الملاحظة الأولى هي أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يريد من الذين لا يُؤمنون بالبعث وبرسالة محمد (ص)، أن يروا كيف بدأ، عزَّ وجلَّ، الخلقَ. الملاحظة الثانية هي أن اللهَ لم يبيِّن نوغيةَ الخلق، أي هل المقصود هو الخلق بصفة عامة أم المقصود أقوام معينة من الناس.

في الحالة الأولى، الخلق هو مجموع ما خلق اللهُ، سبحانه وتعالى، أي الكائنات الحية وغير الحية. وهذه الكائنات، خصوصا الحية، لا يمكن، على الإطلاق، أن تجتمع في مكان واحد لأن توزيعَها في الأرض رهينٌ بظروف مناخية وجغرافية معيَّنة، علما أن جزأً مهما من هذه الكائنات الحية يعيش إما في المياه العذبة أو في مياه المحيطات والبِحار المالحة. ثم يجب أن لاننسى أنني قلتُ، في المقالة الأولى، إن وسائل النقل والتَّنقُّل، في عهد الرسول (ص)، كانت محدودة ومُختَصرة في ركوب الدواب من حمير وبِغال وخيل أو في المشي على الأقدام.

في الحالة الثانية، قد يكون المقصود من الخلق هي الأقوام الغابرة التي اندثرت ولم تَبقَ إلا آثارُها التي تشهد على وجودها عبر التاريخ. وهذه الحالة الثانية هي الاتجاه المرجَّح والمقصود، في هذا الجزء من الآية التي هي عنوان هذه المقالة. لماذا؟

لأن بعضَ آياتِ القرآن الكريم تسير في هذا الاتجاه إذ يتجلى للمتدبِّر فيها أن المعنيين بالجزء الثاني من الآية التي هي عنوان هذه المقالة، أي "فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ"، هم الأقوام الغابرة. ومن خلال هذه الآيات يخبرنا، سبحانه وتعالى، بعاقبة الأقوام الغابرة، من مكذبين ومجرمين وظالمين ومفسدين ومُنذَرين…أي مآل هذه الأقوام وما أصابها من عذابٍ وهلاكٍ في الدنيا قبل الآخرة. من بين هذه الآيات، أذكر على سبيل المثال ما يلي :

1."قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" (آل عمرأن، 137).

2.وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (الأعراف، 84).

3.ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (الأعراف، 103).

4.فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (القصص، 40).

5.فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (يونس، 73).

إذن، بالنسبة للناس الذين عاشوا في عهد الرسول (ص) ولم يُؤمنوا لا باليوم الآخر ولا برسالة محمد (ص)، كلمة "الْخَلْقَ" في الجزء الثاني من الآية التي هي عنوان هذه المقالة، المقصود منها هو الأقوام الغابرة. وكيفما كان الحال، فهؤلاء الناس لن يشاهدوا من "الْخَلْقَ" إلا ما تتيحه لهم وسائل النقل التي كانت مُتوفِّرة لديهم في عهد الرسول (ص).

وبصفة عامة، المقصود من هذا الجزء الثاني من الآية التي هي عنوان هذه المقالة، هو أن يأخذ الناسُ، الذين عاشوا في عهد الرسول ولم يؤمنوا لا بيوم البعث ولا برسالة محمد (ص)، العٍبرَةَ مما حصل من عذاب للأقوام الغابرة التي سبقتهُم.

والآن، سأتناول بالتَّحليل الجزءَ الثاني من الآية التي هي عنوان هذه المقالة والذي هو : "فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ"، بالنسبة لعصرنا الحاضر. وما سيُستخلَص من هذا التَّحليل، سيكون مختلفا جذريا عن ما تمَّ استخلاصُه من تحليل نفس الجزء الثاني من الآية في عهد الرسول. لماذا؟

1.لأن فترةً تزيد عن 14 قرنا تفصلُنا عن وفاة الرسول. وخلال هذه الفترة، عرفت البشريةُ تقدُّما هائلا في جميع مجالات العلوم الدنيوية.

2.وهذا التَّقدُّم عرف أوجَه في القرن الثامن عشر مع ظهور الثورة الصناعية la révolution industrielle، وازداد تطوُّرا في القرن التاسع عشر، وخصوصا، في القرن العشرين.

3.والعلوم الدنيوية التي كانت سائدةً في القرن الثامن عشر ليست هي العلوم التي أفرزها القرنان التاسع عشر والقرن العشرون، وذلك بحكم التغيير أو التَّطوير أو التَّحديث الذين عرفتهم النظريات العلمية من حقبة زمنية إلى أخرى.

4.وتفسير الظواهر الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، العلمية، الطبيعية، البيئية، الإنسانية… تطوَّرَ هو الآخر مع تطوُّر النظريات العلمية. وهذا يعني أن تفسيرَ هذه الظواهر ليس ثابتا. بل إن هذا التفسيرَ يتغيَّر مع تطوُّر فكر الإنسان. وتطوُّر فكر الإنسان مرتبط بالتغييرات التي يفرضها الزمان والمكان.

انطلاقا من هذه التوضيحات واعتبارا لكون كثيرٍ من آيات القرآن الكريم صالحا لكل زمان ومكان، فإن تفسيرَ الجزء الثاني("فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ") من الآية التي هي عنوان هذه المقالة، بالنسبة لعصرنا الحاضر، سيكون مختلفا عن التفسير الذي يفرضه العقل في عصر الرسول (ص). لماذا؟

أولا، لأن الخلفية الفكرية، الثقافية، المعرفية والعلمية التي يتوفَّر عليها المفسِّرُ المعاصرُ ليست هي الخلفية التي كانت سائدة في عهد الرسول (ص). كل مفسِّرٍ يتأثَّر بظروف آلزمان والمكان اللذان يعيش فيهما.

ثانيا، التَّقدُّم الذي عرفته العلوم آلدنيوية، بمختلف مشاربها، هو الذي يجعل الخلفيةَ الفكريةَ لمَن أراد أن يُحلِّلَ آيات القرآن الكريم، مختلفةً عن تلك التي كانت سائدةً في عهد الرسول(ص).

ثالثا، من بين العلوم الدنيوية التي أصبح يلجأ لها الباحثون والعلماء للتَّعرُّف على تطوُّر الحياة منذ نشأتها الأولى، في الأرض وعلى وجهها، هناك ما يُسمى بعلمُ الحفريات paléontologie الذي يعتمد في دراسته على الأحفوريات les fossiles.

استنادا إلى نتائج الأبحاث التي قام بها المتخصِّصون في علم الحفريات les paléontologistes واستنادا كذلك إلى نوعية الأحفوريات les différentes sortes de fossiles، من بقايا حيوانات ونباتات، التي عثروا عليها في الأوساط البرية، المائية والبحرية، استطاعوا أن يُحدِّدوا متى بدأت الحياة (الخلق) بشقَّيها النباتي والحيواني في الأرض. وتقريبا كل المتخصِّصين في علم الحفريات متَّفقون على أن الحياة بدأت في الأرض منذ ما يزيد عن ثلاثة مليار سنة وأن هذه الحياة ظهرت، أولا، في الماء ثم انتقلت، بالتَّدريج، إلى البر. غير أن رقمَ ثلاثة مليار سنة ليس رقما دقيقا. قد يزيد أو ينقص بمئات آلاف السنين.

وللتذكير، لقد سبق أن قلتُ في المقالة الأولى (الجزء الأول) أن الناس الذين لا يؤمنون لا بيوم البعث ولا برسالة محمد (ص)، كانوا موجودين قبل هذه الرسالة وأثناءها وبعدها. وهم كذلك موجودون في العصر الحاضر.

إذن، عندما يقول، سبحانه وتعالى، "فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ"، فكلامُه، عزَّ وجلَّ، موجَّهٌ لهؤلاء المكذبين، سواء عاشوا قبل رسالة محمد (ص)، أثناءها أو بعدها أو في العصر الراهن. غير أن المكذبين الذين عاشوا قبل وأثناء الرسالة المحمدية لم تتوفَّر لديهم ما يكفي من الخلفيات الفكرية، المعرفية، العلمية والثقافية لإدراك متى بدأ الخلقُ. في هذه الحالة، فكلام الله الموجَّه إليهم، هو بمثابة إنذار وتحدير لعلهم يرجعوا عن ما هم فيه من تكذيب ليوم البعث ولرسالة محمد (ص).

أما بالنسبة للذين لا يؤمنون لا بيوم البعث ولا برسالة محمد (ص)، والذين يعيشون في العصر الحاضر، فالعلم وفَّر لهم كل المعطيات لإدراك متى بدأ الخلق في الأرض. وبالطبع، فلهم الاختيار بين الإيمان وعدم الإيمان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى