أمل الكردفاني- أفلام السطو على البنوك

إنني أفكر دائماً في أكبر مأساة كُتبت على الإنسان، وهي مأساة العمل. العمل الذي ليس فقط تُجبر عليه بسبب احتياجاتك الجسدية من أكل وشرب وسكن، ولكن العمل كفرض قدسته الآلة الرأسمالية، وجعلت كل شيء مرتبطاً به، الطموح والزواج والتعليم والاستشفاء من الأمراض، والحصول على الانترنت، والسفر لرؤية العالم..الخ. أصبح العمل يوضع في المرتبة الأولى لتحقيق ضمانات لا يمكن تحقيقها، واحلام لا يمكن تحقيقها، وتتوجه القوى الرأسمالية لتحليم (جعلك تحلم) البشر بالتفوق عبر ريادة الأعمال. وأصبح العمل آيديولوجيا قائمة بذاتها.
أما على الواقع - حيث تختلف النظرية عن التطبيق كالعادة- فإن الإنسان يفقد معنى حياته وهو يخضع لعبودية العمل، فإذا كان العمل لثمان ساعات على الأقل في اليوم؛ أي ثلث ساعات اليوم، والساعات التي يحتاج فيها لاسترداد كيانه بعد العودة مرهقاً من العمل، والساعات ما قبل الذهاب إلى العمل، ثم ساعات النوم؛ فإن هذا يعني أن الإنسان يستنزف عمره من أجل العمل.. إنه ينسى نفسه، وينسى دور المغامرة داخل الوجود في منحه معنى أكثر إثارة من رتابة انقضاء أسابيع في خدمة الآخرين. إن الحياة مغامرة كبرى، ولأنها من المفترض أن تتمحور في الاكتشاف، فإن الإنسان الغارق في العمل يفقد -في الحقيقة- حياته، يفقد روح المغامرة، وتؤدي كل المنظومة إلى سياقته في طرق مكررة ورتيبة حتى إعلان لحظة وفاته. إن العمل في الواقع يعزز من فكرة المنطقة الآمنة، وهذا ما جعل الإنسان خائفاً من خوض كل المغامرات الممكنة، حتى مغامرة الحب. وفي ظل شبكة الرأسمالية العضود المحيطة به والتي تزن في أذنيه كالبعوض: العمل.. العمل.. العمل.. فإن الإنسان يختزن ويختزل الحياة الحقيقية في الأحلام.. مع ذلك فالآلة الرأسمالية لا تتركه في حاله، بل حتى أحلامه تستفيد منها وتؤكد له بأنها مجرد أحلام. وتمثل هوليود أكبر مصنع لشرنقة الحياة الحقيقية في الأحلام. وتمثل أفلام الثراء السريع دورين مهمين:
الدور الأول: تحقيق أرباح من أحلام العمال.
الدور الثاني: إحباط تلك الأحلام والإبقاء عليها في دائرة المستحيل.
وتمثل أفلام السطو على البنوك أقوى أدوات تحقيق الأرباح من أحلامنا. فنحن نحلم بالثراء السريع وبدون جهد كبير. لذلك سنجد أغلبنا يقف مع من يسطون على البنوك، هذه الأخيرة التي تمثل الوجه الشرير للقوى المهيمنة علينا. وفي نفس الوقت فإن تلك الأفلام تعود وتؤكد لنا بأن لكل شيء تكلفته وآلامه، فالثراء السريع ليس جريمة فقط بل يحتاج لمعاناة كبيرة مقابل اللذة التي ستعود علينا لو نجحنا في تحقيقه. مع ذلك ففي الغالب -وهذا ما تؤكده لنا أفلام السطو على البنوك- فإن تكاليف الفشل ستكون باهظة، وأن نسبة نجاحنا ستكون ضئيلة. وهكذا فإن هذه الأفلام تمارس توجيها نفسياً لنا كي نظل في منطقة الأمان (منطقة اللا حلم). وفي مسلسل اسباني، كانت تكاليف السطو على البنوك باهظة، بلغت حد الموت، وليس فقط موت شخصيات ثانوية في المسلسل، بل شخصيات أساسية، لكي تؤكد لنا بأن التكاليف ستكون باهظة. صحيح هناك نهاية شبه سعيدة، ولكنها بطعم اليأس، لذلك فشلت الأجزاء الأخرى من المسلسل، لأن المشاهدين اكتفوا من هذا الجانب.
لكن كل هؤلاء الذين عملوا داخل المنظومة التي تقدس العمل والتي -في المقابل- تبقي الأحلام في حُلميتها- حاولوا تجاهل نقطة أساسية؛ خارج فكرة العمل والثراء. وهي فكرة تحجيم احتياجاتنا لتحجيم محاولتنا لاشباع تلك الاحتياجات ومن ثمَّ التفرغ للمغامرة. على العكس، تعمل المنظومة على خلق احتياجات جديدة كل يوم، وتمثل الاختراعات الجديدة والإعلانات التجارية المستمرة أسلحة استراتيجية لإجبارنا على عدم "التخلي". فلا يمكن أن نحيا مكتفين بشقة صغيرة وأدوات بسيطة، بل كل يوم يتم خلق سلعة أو خدمة وإعلانات لها كي نفكر في اقتنائها، وإذا لم نقتنيها فسنعيش شعوراً بالنقص: مايكرويف، دلاكات للأرجل، نظارات ذكية، أقلام ترجمة الكترونية، أجهزة هولوغرام منزلي، انترنت فضائي..الخ. مع أنا نستطيع أن نحيا بدون كل هذه الأشياء وغيرها، ولكن لا.. إذ يجب أن نشتري ونشتري ونشتري.. ولكي نشتري لا بد من المال، والمال لا يأتي إلا بالعمل، والعمل يستهلك أغلب سنوات عمرنا، وهكذا نسقط في دائرة لا يمكن كسرها. توجهات الرأسمالية نحو العصرنة والترفيه والحداثة هي توجهات مناوئة للاستمتاع بالحياة رغم أنها تزيف ذلك وتقلب الحقيقة، وهذا ما يجعلنا في حالة توتر بسبب التفكير المزمن في المستقبل، والمستقبل كلمة تعبر عن شيء لا يمكن أن نلتقي به أبداً، ومع ذلك فهو ينتزعنا من اللحظة الآنية، رغم أن اللحظة الآنية هي وجودنا الحقيقي واستمتاعنا بالحياة يجب أن يكون فيها. أي أننا في هذا العصر (بشر بلا لحظة)؛ وإذا كنا بلا لحظة فنحن في الحقيقة بلا حاضر. هكذا نحيا دوماً في مستقبل افتراضي، ونؤسس كل قراراتنا عليه. فأي حياة بائسة تلك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى