حاتم السيد مصيلحي - عوالم خفية...

الإنسان مفطور بطبعه على محاولة التعرف على ما يجهله، والتطلع إلى دقائقه، والانغماس في تفاصيله، ولولا ذلك ماعمر الكون ولا سلك طريقه نحو التطور والارتقاء عبر القرون والأزمان، بدأها الإنسان بالتعرف على ذاته التي بين جنبيه، وعلى نفسه التي بين ضلعيه، وأنفق في ذلك جهدا كبيرا، وعملا دؤبا من أجل الوصول إلى مبتغاه، ولم يجد إلى ذلك سبيلا إلى هداه، إلا عون ربه الذي خلقه وسواه، وعن سؤله أجاب، باسطا له أقسامها وأطوارها، وساوسها وهواجسها، والطريق إلى هدايتها حتى تستقيم حياة الإنسان، وألا تعترضه ما يعكر صفوها، ويطفىء جذوة إيمانها، فقال سبحانه: {وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات : 21] وقوله جل وعلا: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس : 7-8] حيث بين لها طريق الشر، وطريق الخير، ومآل من يسلك هذا أو ذاك، ومنح سبحانه الإنسان الخيار في تقرير مصير نفسه، فقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۖ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية : 15].

ولم تقتصر فطرة الإنسان في البحث والتحري عن نفسه، وإنما امتدت إلى من حوله من كائنات مادية مرئية لم يعرف كنهها، وإن استشعر بالنظر غاية خلقها، بدعوة يظلها الإلهام والتوجيه الربانيين، في قوله سبحانه: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} [الغاشية : 17-20]. والغرض من هذه الدعوات الربانية تثبيت اليقين الإيماني للإنسان بوحدانية خالقه، ودعمه الأكيد في تيسير مهمته في إعمار الأرض.

وظلت الغيبيات مصدر قلق الإنسان وحيرته، محاولا كشف سرها، أو إماطة اللثام عنها، ولم تسفر هذه المحاولات اليائسة إلا عن تكهنات مغلوطة، أو تحليلات متوهمة مأفونة، بثها من يزعمون أنهم على اتصال بعوالم خفية، ولكن الله عز وجل جاء في كتابه العزيز بالقول الفصل ناهيا خلقه عن الخوض فيها، لكونها سرا من أسراره لم يجليها لخلقه كقوله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء : 85]
وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ۗ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف : 187].
ويظل الكون مليئا بالأسرار التي تؤكد على عظمة الخالق سبحانه، وعجز الإنسان مهما بلغ من علم عن كشف تلك الأسرار.
وعليه أن يسلم بضعفه كونه جرم صغير في ملكوت ربه، انطوى فيه أسرار العالم الأكبر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى