د. أحمد الحطاب - تفسير القرآن الكريم، من الأفضل، أن يكونَ جماعيا

القرآن الكريم كتابَ هدايةٍٍ، موجَّه للبشرية جمعاء، أي للناس جميعا بغض النظر عن عقائدهم وعن انتماءاتهم الاجتماعية والعِرقية، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (سبإ، 28).

هذه الآية تبيِّن، بوضوح، أن الرسولَ محمد (ص) بعثَه الله للناس جميعا. والقرآن الكريم الذي هو كتابُ هداية أُنزِلَ عليه (ص) ليهديَ به مَن أراد من الناس أن يتَّخذَ الإسلامَ كدين. وهنا، يتبادر إلى ذهني سؤال يفرض نفسَه علينا، ألا وهو : "لماذا لم يُفسِّر الرسولُ محمد (ص) القرآن وهو أدرى الناس بمضمونه عن طريق الوحي"؟

من الناحية المنطقية، هناك، على الأقل، سببان جعلا الرسولَ (ص) لم يفسِّر القرآن الكريم.

السبب الأول : إن فسَّر الرسولُ القرآن (وهنا، أتحدَّث عن القرآن بعد نزوله على الرسول وليس أثناء نزوله عن طريق الوحي)، كان سيُفسِّره استنادا إلى ما كان سائدا من ظروفٍ، في عصره، زمانا ومكانا. في هذه الحالة، القرآن الكريم سيُصبح كتابَ هداية، فقط وحصريا، للقوم الذين كانوا يعيشون في عهد الرسول (ص)، بينما هذا القرآن، ككتابِ هداية، موجَّه للناس جميعا، ماضيا، حاضرا ومستقبلا. وهذا يعني أن كثيرا من آيات القرآن الكريم، التي هي صالحة لكل زمان ومكان، ستصبح صالحة فقط في عهد الرسول (ص). ثم إن اللهَ، سبحانه وتعالى، لم يطلب من الرسول (ص) أن يُفسِّرَ القرآن، بل طلب منه أن يُبلِّغَه للناس، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ" (التغابن، 12).

السبب الثاني : "كثيرٌ من آياتُ القرآن الكريم، بحكم وضوحها، ليست في حاجةٍ إلى تفسير. فعلا، عندما نقرأ الكثيرَ من آيات القرآن الكريم، نلاحظ أنها سهلةَ الإدراك لمَن يحسن القراءة وله شيء من الدراية بقواعد اللغة العربية. وهذا هو ما وضَّحه، سبحانه وتعالى، في الآية رقم 195 من سورة الشعراء : "بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ". و"مُّبِينٍ" تعني، في هذه الآية، "بلغةٍ عربية واضحة".

السؤال الذي يفرض نفسَه هنا، هو : "إذا لم يُفسِّر الرسول محمد (ص) القرآنَ الكريمَ، فكيف لأشخاصٍ معيَّنين أن ينفردوا بتفسير هذا القرآن وهو موجَّه لأكثر من 8 مليار نسمة، الذي هو عددُ السكان الحاليين للأرض؟

وعندما أقول "موجَّه"، فهذا لا يعني أن 8 مليار نسمة مجبرون باتخاذ الإسلام كدينٍ. لا، أبدا! القرآن يُبشِّر ويُنذِر. وانطلاقا من ما بشَّرَ به الرسول (ص) أو من ما أنذرَ به الناسَ، فعلى هؤلاء الناس أن يختاروا ما يناسبهم من طريق. هل الطريق المستقيم أم طريق الضلال، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ…" (البقرة، 256) أو مصداقا لقوله، عزَّ وجلَّ : "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس، 99).

وهنا، المنطق يفرض علينا طرحَ، على الأقل، سؤالين أخرين لا يقلَّان أهمِّيةً عن السؤال المبيَّن أعلاه، أي : "إذا لم يُفسِّر الرسول محمد (ص) القرآنَ الكريمَ، فكيف لأشخاصٍ معيَّنين أن ينفردوا بتفسير هذا القرآن وهو موجَّه لأكثر من 8 مليار نسمة، الذي هو عددُ السكان الحاليين للأرض؟

ومع كل الاحترام والتَّقدير لكل المفسِّرين للقرآن الكريم ولِما بدلوه من جُهدٍ لتسهيل إدراك آياته من طرف الناس، من بين هذه الأسئلة، أُلِحُّ على ما يلي :

1.هل مَن فسَّر القرآنَ بعد وفاة الرسول (ص) كانوا على درايةٍ بعقليات بمَن سيُولدون من الناس،قرونا، بعد هذه الوفاة؟

2.هل تفاسيرُهم المرتبطة، حتما، بخلفياتهم الفكرية، الثقافية، المعرفية، العلمية، الاجتماعية…، التي كانت سائدةً في زمانهم، صالحة لكل زمان ومكان؟

صحيح أن مَن يُقبل على تفسير القرآن الكريم، يجب أن يكون متضلِّعا في اللغة العربية، في نحوها وصرفها وإعرابها وبلاغتها وفصاحتها وبيانها وشِعرها ونثرها وأساليبها وفن إتقانها… هذا شيءٌ لا يُنكره أحدٌ لمَن قاموا بتفسير القرآن الكريم في ماضي الزمان.

لكن الخلفيات الفكرية، الثقافية، المعرفية، العلمية والاجتماعية، بحُكم تغيُّرها من زمان إلى آخر ومن مكان إلى آخر، فمن الضروري أن تُساير تفاسيرُ القرآن الكريم ما طرأ من تغييرات في المجتمعات. دون أن ننسى أن كثيرا من آيات هذا القرآن صالحٌ لكل زمان ومكان. مثلا، حينما يقول، سبحانه وتعالى، "يخلق ما يشاء" أو "يفعل ما يريد" أو "هو غفور رحيمٌ" أو "هو على كل شيءٍ قدير"...، فهذه إشاراتٌ في كثيرٍ من آيات القرآن، صالِحة لكل زمان ومكان. أما حينما يتحدَّث، سبحانه وتعالى، عن المعاملات بين الناس، كالطلاق والميراث والتجارة والربا والبيع… وعن بعض الإشارات للعلوم الدنيوية وعن النباتات والحيوانات…، فهذه أشياء تتغيَّر ارتباطا بما حقَّقه الفكر البشري من تقدٌّمٍ وتطوُّرٍ وما أنتجه من علوم دنيوية وما أفرزته هذه العلومُ من تكنولوجيات.

ولهذا، قد يكون من المفيد جدا ومن الأنفع للناس، أن يكونَ تفسيرُ القرآن الكريم جماعيا، أي أن يشاركَ فيه كل المتخصِّصين في العلوم الدينية والدنيوية، شريطةَ أن يكونوا متضلِّعين في اللغة العربية ولهم معرفةٌ باللغات الأجنبية.

وما جعلني أُحبِّد التَّفسيرَ الجماعي للقرآن الكريم، ما تضمَّنه هذا القرآن من آياتٍ مفادها أن اللهَ، سبحانه وتعالى، "فصَّل كل شيء" في قرآنه الكريم. وتفصيل كل شيءٍ، في القرآن، يعني أن اللهَ، عزَّ وجلَّ، لم يترك صغيرةً أو كبيرةً، الناسُ في حاجةٍ إليها في معاملاتهم اليومية، إلا وذكرها في كتابه العزيز. وفقهاءُ وعلماءُ الدين، كمفسِّرين للقرآن الكريم، لا يمكن أن يكونوا على علمٍ أو مُلمِّين بكل ما فصَّله الله، سبحانه وتعالى، في القرآن الكريم. من بين هذه الآيات، أذكر، على سبيل المثال ما يلي :

1.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (هود، 1).

2.وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (الأنعام، 97).

3.وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (الأنعام، 98).

4.وَهَـٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (الأنعام، 126).

5.وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (الأنعام، 38).

في هذه الآيات الخمسة، المُبيَّنة أعلاه، يُخبرنا، سبحانه وتعالى، أنه فصَّلَ للناس، في قرآنه الكريم، كلَّ الأشياء التي يحتاجونها، سواءً في حياتهم الدينية أو في حياتهم الدنيوية. وهذا يعني أن القرآنَ الكريم هو مرجعٌ للناس لتسيير حياتهم اليومية دينيا ودنيويا. عندما أقول "دينياً ودُنيوياً"، ما أقصده هو أن الدينَ مدخلٌ للدنيا، لكن الدنيا الإنسانية، العادلة، الفاضلة، المتسامحة، المنصفة…

في الآية رقم 1، إضافةً إلى تفصيل هذه الآيات، يقول، سبحانه وتعالى : " كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ"، أي تمت صياغتُها بإتقانٍ لتكونَ هدايةً للناس ونبراسا يُنير طريقَهم نحو كل ما لهم فيه خيرٌ ونفعٌ. وحينما يقول، سبحانه وتعالى : "مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير"، فهذا يعني أن مَن أتقن هذه الآيات، هو الله الحكيم، أي المتبصِّر، والخبير، أي المطَّلع على جميع الأمور ظاهرة وباطنة.

في الآية رقم 2، تفصيل الآيات موجَّهٌ "لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ"، أي لناسٍ لهم درايةٌ بأمور الدنيا وأعطى كمثالٍ الاهتداء بمواقع النجوم أثناء الليل. ولا داعيَ للقول أن الناسَ، في ماضي الزمان، لم تكن لديهم بوصلةٌ boussole تُرشدهم أثناء سيرهم في الطرقات ليلا.

في الآية رقم 3، تفصيل الآيات موجَّهٌ "لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ"، أي لناسٍ لهم عقولٌ يفهمون بها ولهم وعيٌ بما يجري حولهم. ومن ضمن ما عليهم أن يفهموه بعقولهم، خَلقُ الإنسان من نفس واحدة، وهي آدم.

في الآية رقم 4، تفصيل الآيات موجَّهٌ "لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ"، أي لقوم يستحضرون آياتِ القرآن الكريم كلما دعت الضرورةُ إلى ذلك.

في الآية رقم 5، يقول، سبحانه وتعالى : "مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ"، أي ذكرنا في القرآن الكريم كلَّ شيء أو لم نترك شيئا إلا وذكرناه في هذا القرآن. وقال لنا إن الحيوانات الموجودة على سطح أو الطيور التي تسبح فوق هذا السطح بأجنحتها، هي أممٌ مثلنا. وما دامت أمما communautés مثلنا، فلها الحق في العيش، وكذلك، لها الحق في أن تنالَ نصيبًها من خيرات الأرض، كما هو الشأن للإنسان، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (هود، 6).

الهدف من هذه المقالة، ليس، على الإطلاق، تبخيسُ ما قامت به مدارس تفسير القرآن الكريم من جٌهد لتقريب هذا القرآن من الناس. لا، أبدا! الهدف من هذه المقالة، هو تجديد هذا التَّفسير ليتلاءمَ مع التَّغييرات التي عرفها الفكرُ البشري، وبالأخص، منذ ما يزيد عن قرنين من الزمان. لكن تجديدَ هذا التفسير، من الأفضل، أن يكونَ جماعيا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى