بدا المكان كأنما نبت فجأة وتم إخفاؤه بعناية شديدة، فقد تكفلت الجبال القصيرة والصخور العالية بحفظه بعيدا عن الأعين وجلافة البشر، رقعة بسيطة من الرمال الناعمة تحرس بركة ماء وقد نبتت على حوافها الحشائش ودغل من البوص القصير، لا أدرى على أى نحو وصل هنا،
أشرف على هذه الجنة الصغيرة –هكذا تخيلتها فى هذه اللحظة- من قمة التل العالية الوعرة التى وصلت إليها بصعوبة وتعب شديد، والآن عليّ أن أهبط على الصخور المنزلقة وشديدة الانحدار إن أنا طاوعت رغبة جسدى فى الماء.
تطلعت حولى محاولا استجلاء مهبط آخر، لكن لا شيء سوى هذه الصخور التى صقلت سطحها الرياح والمياه، وجسدى الراغب فى الماء يقرصنى ويحثنى على الهبوط، أتلفت محاولا تلهيته دون جدوي، وكان على أن أحسم الأمر بالهبوط، رحت أنزلق بحذر شديد متعلقا بالحواف المدببة للصخر، ملمسها الناعم يدفعنى أن أكون يقظا، فخطأ بسيط كفيل بدق عنقى قبل أن أصل للماء. خمنت أن ماء المطر عبر سنوات طويلة من الانزلاق فوق هذه الصخور ليكون بركة الماء المخفية بعناية كان يساهم هو الآخر فى جعلها بعيدة المنال، وذلك بجعلها بهذه النعومة التى تجعل أى مغامر يعيد تفكيره كثيرا قبل إقدامه على الهبوط، ولولا عطشى ورغبتى فى السباحة فى الماء ما كنت تجاسرت على ما أنا فيه الآن، ربما كنت اكتفى بالنظر لهذه البركة من العلياء، أتمتع بمنظرها المبهج للعين والروح، وربما أبيت ليلتى متطلعا إليها تحت ضياء القمر الخريفى شديد الإغواء، وما خاطرت بالنزول الوعر هذا.
كما فى البلاد البعيدة، حينما كنت أصعد نخلة أو أهبط من عليها، لا يمكن أن انقل قدمى أو أفلت قبضة يدى قبل أن استوثق من قوة ومتانة ما أضع عليه قدمى الأخري، أو أمد يدى الخالية للقبض عليه، هكذا تعلمت، وأحاول هنا والآن تطبيق هذا بكل الحذر المطلوب؛ قال شيخي: بماذا أشار الذئب على ابنه؟، ولم يكن ينتظر إجابتي، إنما راح يفك طبقة من عمامته الكبيرة ويعيد ترتيبها على مهل ويسويها بأطراف أصابعه كأنما هو يصنع شيئا جليلا تتوقف حركة الكون عليه، قلت بنفاد صبر لما طالت مدة اعتنائه بالعمامة وهندمتها: أوصاه بالظل. سكنت أصابعه للحظة كأنما بوغت بما تفوهت به، واعترت أصابعه رعشة خفيفة قبل أن يقبض على ارتجافها وهو يغمض عينيه و ينزل يده، وتعبير كسا وجهه بأنه فقد الأمل فيّ تماما، قام واقفا وهو ينفض جلبابه من أثر ما علق به فى وجهى ويغادرني.
تابعت هبوطى بوجل وقلق كبيرين وأنا اشعر بتبدل الحرارة على جسدي، وكأنما الظلال الكثيفة والنسمات الطرية الصاعدة من أسفل حيث بركة الماء قد تكفلت بصد هجمات الحرارة التى تفرض سطوتها فى الخلاء، تصورت معركة هائلة تجرى فى هذه البقعة المنعزلة ما بين الحرارة القاتلة التى تمرح فى كل الأنحاء إلا هذه البقعة وتحاول بكل السبل بسط سلطانها عليها، غير أن صمود الظلال والنسمات اللينة الجدير بالاحترام كان يحول دون ذلك، تبسمت، فهل هذا ما يجرى أم أن هذا محض خيال منى أطلقه الفراغ والزمن؟ ربما تخيلت هذا بسبب التباين الذى وقع على جسدى من الحرارة، نفضت تهويماتى وقلت عليّ أن أركز فيما أنا فيه، هنا وفقط، وأترك كل أوهامى وتخيلاتى والبحث عن رمزية الذئب حتى أدرك بركة الماء، وبعدها ,أنا جالس مسترخ فى جوارها أفكر فيما يعن لي، وأطلق خيالى يرمح كيف يشاء.
المخلاة على كتفي، وقد خلعت الصندل ووضعته داخلها لئلا يعيقني، تاركا لقدمى وأصابع يدى أن تستعيد ذاكرة طلوع النخل بكل الحذر المطلوب، عقدت القميص حول وسطى وتركت ساقى النحيلة عارية مستمتعة بالبرودة المنعشة القادمة من أسفل حيث بركة الماء، أشعر كأننى أهبط لقاع بئر غير مقدر للعواقب ولا مفكر فى طريقة للصعود والخروج منه، فالنزول سهل، يكفى التعلق بحواف الصخور لكن الصعود يحتاج لمهارات أخرى لا أظننى امتلكها، على صخرة بارزة كأنما مصطبة معدة للجلوس جلست مدلدلا قدميّ وساندا ظهرى على الحائط الصخرى خلفي، من المخلاة أخرجت أوراقى وقلت أدون بعض ما جرى وكيفية عثورى على هذه الجنة المحمية بين الجبال، فربما هبوطى إليها يكون أخر ما أفعله فى حياتي، لكن رغم ذلك شعور بالغبطة يغمرنى إذ إنه وبعد قليل سأغمر جسدى فى الماء، هل هذه تباينات الوادى والصحراء حيث الزهد هناك فى الماء كونها موجودة وفى المتناول، وهنا بسبب ندرتها يرغب الجسد فيها بشدة حارقة، أم هذا لكونى غير صحراوى خالص، ربما لا يشعر نظيرى الصحراوى الخالص بما أحسه الآن، ولا بهذه الرغبة التى تكوى جسدى وتقرصه، ربما كان اهتمامه لحظتها سيتوقف على درجة العطش فقط، لأنه هكذا عود جسده، أما الابن المخلّط مثلى فيغلبه الحنين للارتماء بجسده فى الماء رغم رغبته فى الارتواء أيضا، فحضن الماء هو ارتواء آخر، بطريقة أخرى كما فى أيام رمضان الصائفة شديدة الحرارة تكون رغبة النزول للنهر والبقاء فيه بغرض الارتواء، رغم كونه سيزيد من شراهة العطش عند الخروج من الماء.
واصلت هبوطى وقد أصبحت الحركة أيسر حيث زادت النتوءات الصخرية مما سهل عليّ التقافز بينها حتى وصلت إلى قمم البوص العالية، توقفت ورحت أمس أطرافها بقدمى وأصابع يدي، قطفت ورقة وفركتها بين أصابعى ورحت أشم رائحتها، ثم وضعتها فى فمي، شديدة المرارة كانت غير أنى واصلت المضغ مستشعرا ذلك النسغ الخفى للحياة التى تبتكر سبلا مختلفة وغامضة كى تتواجد، حشائش قصيرة وكثيفة غمرت قدمى لما أنزلتها من على الصخرة، تموجت خفيفة بين أعواد البوص البرى وكأنما نسمات خفية ولطيفة تداعبه فيتراقص معها وتدغدغ الحشائش قدمى وباطن ساقيّ، أثر البلل المبهج لقدمى ذكرنى باشتهائى للماء، تلفت فرحا حولى وأنا أسحب كمية هائلة من الهواء البارد داخل صدري.
سكون مريب جعل حواسى متيقظة، فمكان كهذا يبدو مثاليا للزواحف السامة، درت حول الدغل مستطلعا جوانبه الضيقة بحثا عن شقوق وجحور قد تكون، لكن الانزلاق الحاد للصخور وانغرازها فى الأرض أسقطا هواجسي، بدا المكان مغلقا ودائريا بإحكام، الحشائش تغطى منابت الصخور وبلل خفيف يسرى تحتها، قطر المكان لا يتجاوز العشرة أمتار، لكنه فى هذه اللحظة بدا لى رغم ضيقه كأنما يسع الدنيا كلها، رحت أخلع ملابسى حتى وقفت بالقميص الخفيف والسروال، عاقدا يدى حول وسطى ومنتشيا بالجنة الصغيرة التى أوجدتها الطبيعة من أجلي، كانت رغبتى عارمة فى الرقص، ولما بدأت فى تحريك قدمى التقطت أذنى كأنما أقدام تحركت وسط أعواد البوص أو احتكت بها، سكنت حركتى فى التو ومعها بدأت فى الخفوت بهجتى وتحركت غريزة الخوف والبقاء داخلي، صعدت بسرعة وخفة فوق صخرة واطئة كى يكون الدغل فى محيط عينى وسمعي، وقفت مرهفا كل حواسى لكن لا شيء، هل واحد من الزواحف الكبيرة أو حيوان آخر، لمدة طويلة وأنا أقف على الصخرة كأنى جزء منها، تحت قدمى المخلاة وأوراقى وملابسي، تلهيت قليلا بجعل الصخرة مكانا للجلوس والمبيت، هى واحدة من الحيل القديمة، فربما كان من بالدغل يراقبنى فى نفس اللحظة، لذا فهو ساكن مثلي، وانصرافى الآن لهذا العمل سيطمئنه، بينما فى نفس الوقت عينى وسمعى على الدغل يرقبان كل جزء فيه، كما ذئب شيخى الذى ينام بعين واحدة وتظل عينه الثانية ساهرة ترقب ما حوله، وحينما فرغت من إعداد المكان لم يتحرك أى شيء بالدغل حتى النسمات الخفيفة كأنما تواطأت هى الأخرى وسكنت، لا حركة ولا صوت، قلت: تهيؤات... ربما كانت واحدة من تهيؤاتى الكثيرة التى صارت تغشانى هذه الأيام، تبسمت وأنا أرى شيخى يخط خطوطا فوق الأرض بطرف عصاه، بدت لى الخطوط متداخلة وشديدة التعقيد، بلا معنى أو هدف غير جر طرف عصاه فوق التراب، لكنه صنع حفرة عميقة وسط تلك الغابة من الخطوط، وقال لى : انظر ماذا تري؟ رحت أمعن فى تلك الحفرة الصغيرة مستطلعا الخطوط القريبة منها، لكنى لم أصل لشيء واضح، وحينما تعجلنى قلت: صدفة تحمى جوهرة. رفع عصاه من على الأرض وأركزها على صدري، قال: ربما تبصر غدا. حتى الآن وأنا أنظر لأعواد البوص الساكنة لا أستطيع فهم ما كان يرمى إليه، هل يقصد المتاهة التى أنا فيها الآن وعليّ تبصر ذاتي، ربما. قلت بصوت عال تسمعه أذنى وتردد صدى خفيف زاد من يقين وحدتى المفرطة بقلب هذه الجنة، خلعت ما تبقى من ملابسى ووضعته بجوار المخلاة، وانزلقت خائضا هذه المرة وسط أعواد البوص، قاصدا عمق الماء.
كلما تقدمت ارتفع الماء على ساقيّ حتى غمر وسطي، خمنت أنى فى مركز البركة، رفعت رأسى لأعلي، كانت السماء بعيدة و بهية، وبدا كأن بسمة تبارك عريى تهل منها، وقفت أبلل يدى وأمسح بها صدرى ساحبا منه حرارة غزته و تراكمت به طوال الأيام الماضية جراء خوضى فى بحر الشمس الهائل الذى يغمر الصحراء، أشعر الآن بأنى بعيد عن الصحراء، ربما أنا على حافة النهر وسط دغل كثيف يحمى عريى من التلصص كما كنت أفعل هناك، أذهب بعيدا عن مطارح دوس الأقدام وتجسس العيون، وحيدا و محتميا بأعواد البوص الطويلة، أركن ملابسى على مقربة منى وأنزل الماء، أسبح عاريا تماما، لا تتم البهجة ولا يمكننى أن اعتبر أنى سبحت لو لم أكن عاريا دون أى حواجز بين جسدى والماء، أسبح وأغطس و أبقى قدر ما أستطيع تحت الماء، وها أنا أفعل الآن، أغطس عاريا مغمضا عيني، تاركا لجسدى أن ينزلق متمددا على حشائش البركة، أفتح عينى ببطء، لا أرى شيئا، دكنة الماء قاتمة ولا تسمح بالرؤية، استندت على يدى ورفعت جسدى طلبا للهواء، رحت أدعك رأسى وجسدى بيدي، وغطست ثانية و ثالثة، وشيخى الذى ضحك من تطرف وحدتى قال بغموض: فى متاهة الذئب لا يمكن أن تخطو أو تتقدم إلا وحيدا. استعدت نبرة صوته العميق وأنا تحت الماء قابضا على الحشائش اللينة، ما الذى دفعه لقول تلك المقولة؟ فى أى وضع كنت، وكيف كانت حالتي؟ أنا أعرف أنه لا يعلق هكذا متطوعا، ملازمتى له لفترة عرفتنى على بعض طباعه وطرقه الغامضة والملتوية التى يسلكها فى كثير من الأحيان، عبثا حاولت التذكر، وصدرى بدأ يضيق من كتم النفس، مسدت الحشائش ويدى تفارقها، بينما أصعد لح على خاطر، أنه ربما وقتها كنت فى النهر عاريا مع وحدتي، وخرجت رأسى من الماء لأجد أربعة عيون تنظر إليّ.
تصلبت فى وضعي، ركبتى على الحشائش وجسدى مغمور فى الماء حتى فمى ويداى مفرودتان توازنان وقفتى المرتبكة وغير المصدقة، فما أراه الآن لا يمكن أن يكون حقيقيا: نعجة بالغة بجوارها ذئب، جرو ذئب فى الحقيقة، يقفان بسكون ويتخذان نفس الهيئة فى طريقة النظر إليّ، فقط يثبتان عيونهما نحوى دون أن تطرف أى منها، أو هكذا يخيل إليّ، غطست فى الماء، لا يمكن أن تكون تهيؤاتى وصلت لهذا الحد، وأراها متجسدة أمامي، ما قولك يا شيخى فيما رأيت؟ ستراوغ كعادتك فى هذه المواقف المباشرة، ستذكر لى مثلا عن الراعى الذى كان الذئب يحرس قطيع أغنامه بينما هو نائم فى الظل، أو ستقول لى واحدة من جملك الأكثر غموضا من عينة: أكل ما نراه نبصره؟ موقفى يا شيخى لا يحتمل أى مراوغة أو مقولات باهرة فى حكمتها، نعجة وذئب، جرو ذئب، ألا تري؟ التهيؤات يا شيخى إن جرت فهى فى عقلى فقط، أنا من يستدعيها وأقيمها فى خيالى ، أما ألآن فهى متجسدة دون تفكير مني، نعجة وذئب على بعد خطوة من عريى فى بركة ماء مخفية وسط الجبال؛ درت فى الماء جاعلا الذئب والنعجة فى ظهري، وأخرجت رأسى بهدوء، وأيضا كانا أمام عينى و ينظران لى بنفس الطريقة.
شككت فى الأمر وتساءلت، أهذان غير هذين؟ أم تراها أربعة: نعجتان وذئبان. استدرت بسرعة، برأسى فقط، لم يكونا موجودين خلفي، هما اثنان فقط، فهل خمنا حركتى تحت الماء وسبقانى ليكونا فى مواجهة عينى حين اطلع من تحت الماء.
عقلى يعمل على عكس ما أريد منه، فبدلا من أن يتساءل عن كيفية وجود نعجة وذئب ووصولهما لهذا المكان، وكيفية دخولهما إليه، راح يفكر فى متاهة الشيخ التى نصبها من تساؤله حلو الرؤية و التبصر، وراح يتذكر مجادلتى العقيمة وقتها حول أن الإدراك وحده هو الكفيل بتحديد ما نراه أو حتى نريد تبصره، ورغم بسمته الخفيفة التى ارتسمت على تغضنات وجهه إلا أنى تماديت فى طرحى ورحت أضرب مثلا بالسائر فى الشارع المكتظ بالبشر وفى الجهة المقابلة يراه صديق له، فيقبل نحوه متهللا ومادا يده للمصافحة، فما كان من صاحبنا إلا أن تفاداه بلطف وواصل سيره، فى الحقيقة كنت أعنى ذاتى بهذا المثل، وكيف أن حضورى فى الشارع ما هو إلا شبح جسم يمر، ويحاول تفادى الأشباح المارة بجواره حتى لا يصطدم بأحدها، فعقلى وإدراكى هما فى مكان آخر أبعد ما يكونا عن هذا الشارع، والشيخ بصبره على المحاججة قال أكمل. فقلت مسرعا: هو لم ينكر صاحبه أو لا يرغب فى الوقوف معه وتبادل الحديث، لكن ببساطة هو لم يره، بل تفاداه كشبح آخر عليه ألا يصطدم به، وهو ما فعله مع صاحبه، تفادى اليد الشبحية التى مدت نحوه عوضا عن أن يرتطم بها. ثم أخذت نفسا عميقا قبل أن أضيف بحسم: إدراكه لم يكن بالشارع بل فى مكان آخر.
النعجة والجرو يقفان بثبات يربكني، فكرت أنه ربما إذا أغمضت عينى قليلا ثم فتحتهما لن أجدهما؛ كأنما فى حلم أو كابوس، ليس ثمة فارق الآن، حتى وإن بدا هذا من أفعال الصبية، لكن لا بأس،لا شيء تبدل، النعجة والذئب على حالهما وجسدى فى الماء بادئ فى الارتجاف، وهو ما سوف يجبرنى على الخروج، لكن هل على الخروج عاريا أمام عيونهما الوقحة والمتلصصة، أو عليّ أن اجبرهما على الانصراف حتى أخرج وأصل لملابسي، ملابسى التى تنتابنى الآن الوساوس بشأنها، فوجود نعجة وذئب قد يعنى وجود آخرين، أم عليّ البقاء هكذا فى الماء متحملا ارتجاف جسدى المتزايد الذى سيدفعنى فى النهاية وبقوة لوضع حد حاسم لهذا الموقف الشائك،والخروج من الماء. لكن قبل أن أهم بالوقوف على قدمى فى الماء رنت فى المكان ضحكة صاخبة، تبين من صداها المتكرر أنها تخص شيخي، لتثبت ركبتى على الحشائش مرة أخرى وأنا أتلفت بحثا عن المكان الذى انطلقت منه الضحكة، ولسان حالى يقول: كملت.
نزعت نفسى من الماء، كأنما عنادا وردا على الضحكة الهازئة لشيخي، وغير عابئ بتراجع النعجة والذئب للخلف دون أن يخفضا بصرهما من على جسمى العاري، داريت عورتى بيدى ورحت لملابسى على الصخرة، كما هى كانت، وخلفى وبإصرار تخطو النعجة وبجوارها جرو ذئب، ولح على خاطر وأنا أرى حركتهما: أم ووليدها، فالتفت لأتأكد أنه سخلة صغيرة وليس كما صورت لى هواجسى جرو ذئب، لكن الذئب ظل على حاله والنعجة تحوطه كأنها أمه، أخذت أرتدى ملابسى بسرعة وحنق وأنا أعيد تفحص المكان بعين جديدة، فما أراه الآن ليس خيالا و لا ضربا من وهم تجسد لي؛ ومن ثم راحت الأسئلة تتوالى وتتقافز عليّ: كيف وصلا إلى هذا المكان الخفي؟ نظرت لأعلي، من حيث جئت وهبطت، قلت السقوط كفيل بدق عنق أى منهما، ومن المؤكد أنهما لما يتعلقا فى نتوءات الصخور و يتقافزا من صخرة لأخرى كى يهبطا بسلام، ومن المستحيل أن يكونا قد ولدا هنا، فهما على الأقل نعجة وذئب، لا نعجة ووليدها، ولا ذئب وأمه، ثم كيف هى العلاقة مستوية بينهما لهذا الحد، فلا النعجة تخشى الذئب ولا هو يطمع فيها، هل هو حفيد ذئب الراعى الكسول النائم فى الظل، بينا الذئب يحرس أغنامه، أى متاهة هذه التى أسقطت نفسى فيها، وهل بات الأمر أن شيخى جعلنى أتمثل الحكاية الآن لأنى سخرت منه حينما رواها كدعابة تأكيدا على الجوانب الخفية التى يمكن التواصل بها بعيدا عن مدركات الحس، أيا ما كان الأمر، فما عادت جنتى الخبيئة بجنة.
كنت أظن بهبوطى أنى قد وجدت بغيتي، بعيدا عن البشر والصخب والخبث، مكان يصلح لعزلة وراحة مثالية، كما كنت قد قدرت أن أبقى هنا لعدة أيام، خاليا متمتعا بالخلوة والعزلة حتى أمل وأغادر، لا يشاركنى أحد، أما وقد تبدل الحال فعليّ أن أعيد تفكيرى فى الأمر.
جلست على الصخرة وأسفلها على الحشائش أقعت النعجة والذئب وعيونهما عليّ وليل قد أقبل و نجمات قليلة بدأت تلمع فى الفوهة البعيدة لمهبط البركة، ما عادت جنة الآن، أضحك واسخر كما تشاء يا شيخي، لكن عليك أن تترفق بورطتى الآن مع ذئب ونعجة و بركة ماء فى منحدر قاتل من صخور شاهقة وظلام بدأ يحل سريعا.
أخرجت تمرات قليلة من المخلاة وهبطت من صخرتى لأغسلها وأبللها فى الماء، وقفت النعجة و تبعها الذئب و تنحيا قليلا بعيدا عن محط قدمي، أشعر بأنه يتملكهما فضول إنسانى لمعرفة ما يدور فى بالى وعما أفعله وعما جاء بى إلى هنا، فعلى الأقل هى جنتهما قبل مهبطي، فضولهما يشبه الفضول الذى يأكلنى حيالهما، عن سبب وجودهما الغامض هنا، والأهم هو إصرارهما على متابعة حركتي، غسلت التمرات وعدت لصخرتي، جلست ساندا ظهرى وقد سويت المخلاة بجوارى تمهيدا لجعلها وسادة أسند رأسى عليها إن جاءنى نوم فى ليلتى هذه، أكلت وشربت قليلا من الماء وتمددت، وأسفل الصخرة تمددت النعجة والذئب و بدا الظلام يغبش كل شيء.
رغم الظلام الكثيف الذى طغى على المكان إلا أنى كنت ألمح لمعان العيون الصفراء الناظرة إليّ، أصفر حاد وثابت يتخلله إغماض قليل، الأحمر يخالط صفار عين الذئب التى يبدو عليها التيقظ والانتباه أكثر من النعجة التى كانت تطيل إغماض عينها، ربما طلبا للنوم، لكن احتكاك الذئب بها يوقظها فتدير رأسها نحوه ثم تعود لوضعها، بدا لى الذئب من حركة رأسه وعينيه كأنما يتشبث بها أو يبحث عن مكامن الدفء فى فروها، وهى ثابتة لا تريم، وخمنت أن الجو سوف يزداد برودة كلما تقدم الليل، هل عليّ أن أخرج جلبابى الاخر من المخلاة؟ أم عليّ الانتظار حتى الشعور بالبرد، فأنا لا أزال على اعتقادى بأن البرد سهلة مواجهته شريطة ألا يأخذنا على غرة، عكس الحر الذى لا يفلح معه شيء فى الصحراء وخارجها، بالطبع أدرك قسوة برد الصحراء خاصة فى الصيف وقد جرى التخفف من الملابس، هكذا هى الصحراء، متطرفة فى طقسها، لكنى الآن أنا بعيد عنها، أليس الأمر هكذا يا شيخي، أم تراني- رغم جنتى المزعومة هذه- رابض فى قلبها، وفى أشد أماكنها تطرفا وغرابة.
رغم كل شيء بدأت عيناى تثقلان والخدر يسرى فى جسدى سريعا، والنعجة شبه نائمة، والذئب أظنه متناوما، وعينى تضيق وظلام لطيف تلمع فيه النجوم البعيدة التى بدت شديدة التوهج والقرب، حتى أنى ظننت لو قدرت على الوصول للفوهة الآن لاستطعت بسهولة الإمساك ببعض من النجوم، تسليت بضوئها اللطيف المنعكس على الماء بالبركة، ورأيت كأنما أسبح بين النجوم فى ذلك الفضاء البعيد وقد صرت خفيفا أفرد ذراعى على اتساعهما، لتلامس وجهى برودة السماء، وسمعت همهمة غريبة وقريبة، أصدرت من نجم قريب، أم تراها صوت النسمات بين أعواد البوص التى تدفعه للاحتكاك، أم فتحت عينى ورأيت ما أظن لو أن شيخى قصه على ما صدقته، ولم آخذه إلا على أنه واحد من أمثولاته التى يضربها، فقد كان الذئب دافسا رأسه بين خلفيتى النعجة، وملتقما ثديها، ويرضع.
رفعت رأسى مأخوذا، ومحافظا على باقى جسدى ساكنا، متابعا المشهد أسفل صخرتي، وهمهمة متناغمة تصدر، لا أعرف من أين؟ أمن الذئب، أم من النعجة ، أم من كليهما؟ هى ساكنة ، عيونها مغمضة، والذئب تلمع عيونه بنهم الراغب فى الارتواء والشبع، يقبض على الحشائش بمخالبه ويفلتها، يبدو هذا لعينى من قلقلة جسده، خطفت نظرة للنجوم فبدا لى كأنها تعرف و تبتسم، حتى حركة البوص بدت متناغمة مع صوت الهمهمة المتصاعد؛ حركة أعواد البوص جعلتنى أفكر فى مصدر النسمات، فسقوط الهواء من أعلى لا يمكنه أن يصل إلى هنا ويسبب ذلك التموج البسيط الذى يعترى الأعواد، لابد من وجود شقوق بين الصخور ينفذ منها الهواء داخلا من الخارج إلى هنا، وهو ما يجعل هواء المكان متجددا وغير راكد، عليّ فى الصباح البحث عن هذه الشقوق، فربما كانت هى طريقى للخروج من جنة الأعاجيب هذه، وربما كانت تلك الشقوق هى ما قادت خطوات النعجة والذئب لهذا المكان، وانتبهت لعودة السكون والصمت مرة أخري.
الذئب عاد لوضعه بجوار النعجة بعد أن أنهى وجبته، والنعجة كما هى فى رقادها، والبوص سكنت تموجات أعواده وعاد النجم ليتلألأ فى سماء البركة وجسدى بدأ يستشعر البرد وعيونى يأخذها النوم، فأسند رأسى على المخلاة وأشبك يدى على صدرى وأطير، أعاود الطيران بعيدا عن هنا، كأنما فوق بحر أو نهر، وحورية على سطح الماء تغنى وترقص، صوتها شديد العذوبة والسحر، ورذاذ ناعم يتساقط حولها، ولم يكن بمقدورى الاقتراب منها، فمددت يدى ألمس الرذاذ المتناثر، فأصابتنى رعدة وهاجم البرد بدني، حاولت ضم ركبتى لصدرى اتقاءً للبرد المتزايد، غير أن خشونة دافئة منعتني، ففضلت احتضان الخشونة التى تحوطنى عن يمينى ويساري، ليسرى الدفء اللذيذ ويبعد غناء الحورية؛ حينما صوت وجدتنى راقدا بين النعجة والذئب، النعجة عن يمينى والذئب عن يساري.
أشرف على هذه الجنة الصغيرة –هكذا تخيلتها فى هذه اللحظة- من قمة التل العالية الوعرة التى وصلت إليها بصعوبة وتعب شديد، والآن عليّ أن أهبط على الصخور المنزلقة وشديدة الانحدار إن أنا طاوعت رغبة جسدى فى الماء.
تطلعت حولى محاولا استجلاء مهبط آخر، لكن لا شيء سوى هذه الصخور التى صقلت سطحها الرياح والمياه، وجسدى الراغب فى الماء يقرصنى ويحثنى على الهبوط، أتلفت محاولا تلهيته دون جدوي، وكان على أن أحسم الأمر بالهبوط، رحت أنزلق بحذر شديد متعلقا بالحواف المدببة للصخر، ملمسها الناعم يدفعنى أن أكون يقظا، فخطأ بسيط كفيل بدق عنقى قبل أن أصل للماء. خمنت أن ماء المطر عبر سنوات طويلة من الانزلاق فوق هذه الصخور ليكون بركة الماء المخفية بعناية كان يساهم هو الآخر فى جعلها بعيدة المنال، وذلك بجعلها بهذه النعومة التى تجعل أى مغامر يعيد تفكيره كثيرا قبل إقدامه على الهبوط، ولولا عطشى ورغبتى فى السباحة فى الماء ما كنت تجاسرت على ما أنا فيه الآن، ربما كنت اكتفى بالنظر لهذه البركة من العلياء، أتمتع بمنظرها المبهج للعين والروح، وربما أبيت ليلتى متطلعا إليها تحت ضياء القمر الخريفى شديد الإغواء، وما خاطرت بالنزول الوعر هذا.
كما فى البلاد البعيدة، حينما كنت أصعد نخلة أو أهبط من عليها، لا يمكن أن انقل قدمى أو أفلت قبضة يدى قبل أن استوثق من قوة ومتانة ما أضع عليه قدمى الأخري، أو أمد يدى الخالية للقبض عليه، هكذا تعلمت، وأحاول هنا والآن تطبيق هذا بكل الحذر المطلوب؛ قال شيخي: بماذا أشار الذئب على ابنه؟، ولم يكن ينتظر إجابتي، إنما راح يفك طبقة من عمامته الكبيرة ويعيد ترتيبها على مهل ويسويها بأطراف أصابعه كأنما هو يصنع شيئا جليلا تتوقف حركة الكون عليه، قلت بنفاد صبر لما طالت مدة اعتنائه بالعمامة وهندمتها: أوصاه بالظل. سكنت أصابعه للحظة كأنما بوغت بما تفوهت به، واعترت أصابعه رعشة خفيفة قبل أن يقبض على ارتجافها وهو يغمض عينيه و ينزل يده، وتعبير كسا وجهه بأنه فقد الأمل فيّ تماما، قام واقفا وهو ينفض جلبابه من أثر ما علق به فى وجهى ويغادرني.
تابعت هبوطى بوجل وقلق كبيرين وأنا اشعر بتبدل الحرارة على جسدي، وكأنما الظلال الكثيفة والنسمات الطرية الصاعدة من أسفل حيث بركة الماء قد تكفلت بصد هجمات الحرارة التى تفرض سطوتها فى الخلاء، تصورت معركة هائلة تجرى فى هذه البقعة المنعزلة ما بين الحرارة القاتلة التى تمرح فى كل الأنحاء إلا هذه البقعة وتحاول بكل السبل بسط سلطانها عليها، غير أن صمود الظلال والنسمات اللينة الجدير بالاحترام كان يحول دون ذلك، تبسمت، فهل هذا ما يجرى أم أن هذا محض خيال منى أطلقه الفراغ والزمن؟ ربما تخيلت هذا بسبب التباين الذى وقع على جسدى من الحرارة، نفضت تهويماتى وقلت عليّ أن أركز فيما أنا فيه، هنا وفقط، وأترك كل أوهامى وتخيلاتى والبحث عن رمزية الذئب حتى أدرك بركة الماء، وبعدها ,أنا جالس مسترخ فى جوارها أفكر فيما يعن لي، وأطلق خيالى يرمح كيف يشاء.
المخلاة على كتفي، وقد خلعت الصندل ووضعته داخلها لئلا يعيقني، تاركا لقدمى وأصابع يدى أن تستعيد ذاكرة طلوع النخل بكل الحذر المطلوب، عقدت القميص حول وسطى وتركت ساقى النحيلة عارية مستمتعة بالبرودة المنعشة القادمة من أسفل حيث بركة الماء، أشعر كأننى أهبط لقاع بئر غير مقدر للعواقب ولا مفكر فى طريقة للصعود والخروج منه، فالنزول سهل، يكفى التعلق بحواف الصخور لكن الصعود يحتاج لمهارات أخرى لا أظننى امتلكها، على صخرة بارزة كأنما مصطبة معدة للجلوس جلست مدلدلا قدميّ وساندا ظهرى على الحائط الصخرى خلفي، من المخلاة أخرجت أوراقى وقلت أدون بعض ما جرى وكيفية عثورى على هذه الجنة المحمية بين الجبال، فربما هبوطى إليها يكون أخر ما أفعله فى حياتي، لكن رغم ذلك شعور بالغبطة يغمرنى إذ إنه وبعد قليل سأغمر جسدى فى الماء، هل هذه تباينات الوادى والصحراء حيث الزهد هناك فى الماء كونها موجودة وفى المتناول، وهنا بسبب ندرتها يرغب الجسد فيها بشدة حارقة، أم هذا لكونى غير صحراوى خالص، ربما لا يشعر نظيرى الصحراوى الخالص بما أحسه الآن، ولا بهذه الرغبة التى تكوى جسدى وتقرصه، ربما كان اهتمامه لحظتها سيتوقف على درجة العطش فقط، لأنه هكذا عود جسده، أما الابن المخلّط مثلى فيغلبه الحنين للارتماء بجسده فى الماء رغم رغبته فى الارتواء أيضا، فحضن الماء هو ارتواء آخر، بطريقة أخرى كما فى أيام رمضان الصائفة شديدة الحرارة تكون رغبة النزول للنهر والبقاء فيه بغرض الارتواء، رغم كونه سيزيد من شراهة العطش عند الخروج من الماء.
واصلت هبوطى وقد أصبحت الحركة أيسر حيث زادت النتوءات الصخرية مما سهل عليّ التقافز بينها حتى وصلت إلى قمم البوص العالية، توقفت ورحت أمس أطرافها بقدمى وأصابع يدي، قطفت ورقة وفركتها بين أصابعى ورحت أشم رائحتها، ثم وضعتها فى فمي، شديدة المرارة كانت غير أنى واصلت المضغ مستشعرا ذلك النسغ الخفى للحياة التى تبتكر سبلا مختلفة وغامضة كى تتواجد، حشائش قصيرة وكثيفة غمرت قدمى لما أنزلتها من على الصخرة، تموجت خفيفة بين أعواد البوص البرى وكأنما نسمات خفية ولطيفة تداعبه فيتراقص معها وتدغدغ الحشائش قدمى وباطن ساقيّ، أثر البلل المبهج لقدمى ذكرنى باشتهائى للماء، تلفت فرحا حولى وأنا أسحب كمية هائلة من الهواء البارد داخل صدري.
سكون مريب جعل حواسى متيقظة، فمكان كهذا يبدو مثاليا للزواحف السامة، درت حول الدغل مستطلعا جوانبه الضيقة بحثا عن شقوق وجحور قد تكون، لكن الانزلاق الحاد للصخور وانغرازها فى الأرض أسقطا هواجسي، بدا المكان مغلقا ودائريا بإحكام، الحشائش تغطى منابت الصخور وبلل خفيف يسرى تحتها، قطر المكان لا يتجاوز العشرة أمتار، لكنه فى هذه اللحظة بدا لى رغم ضيقه كأنما يسع الدنيا كلها، رحت أخلع ملابسى حتى وقفت بالقميص الخفيف والسروال، عاقدا يدى حول وسطى ومنتشيا بالجنة الصغيرة التى أوجدتها الطبيعة من أجلي، كانت رغبتى عارمة فى الرقص، ولما بدأت فى تحريك قدمى التقطت أذنى كأنما أقدام تحركت وسط أعواد البوص أو احتكت بها، سكنت حركتى فى التو ومعها بدأت فى الخفوت بهجتى وتحركت غريزة الخوف والبقاء داخلي، صعدت بسرعة وخفة فوق صخرة واطئة كى يكون الدغل فى محيط عينى وسمعي، وقفت مرهفا كل حواسى لكن لا شيء، هل واحد من الزواحف الكبيرة أو حيوان آخر، لمدة طويلة وأنا أقف على الصخرة كأنى جزء منها، تحت قدمى المخلاة وأوراقى وملابسي، تلهيت قليلا بجعل الصخرة مكانا للجلوس والمبيت، هى واحدة من الحيل القديمة، فربما كان من بالدغل يراقبنى فى نفس اللحظة، لذا فهو ساكن مثلي، وانصرافى الآن لهذا العمل سيطمئنه، بينما فى نفس الوقت عينى وسمعى على الدغل يرقبان كل جزء فيه، كما ذئب شيخى الذى ينام بعين واحدة وتظل عينه الثانية ساهرة ترقب ما حوله، وحينما فرغت من إعداد المكان لم يتحرك أى شيء بالدغل حتى النسمات الخفيفة كأنما تواطأت هى الأخرى وسكنت، لا حركة ولا صوت، قلت: تهيؤات... ربما كانت واحدة من تهيؤاتى الكثيرة التى صارت تغشانى هذه الأيام، تبسمت وأنا أرى شيخى يخط خطوطا فوق الأرض بطرف عصاه، بدت لى الخطوط متداخلة وشديدة التعقيد، بلا معنى أو هدف غير جر طرف عصاه فوق التراب، لكنه صنع حفرة عميقة وسط تلك الغابة من الخطوط، وقال لى : انظر ماذا تري؟ رحت أمعن فى تلك الحفرة الصغيرة مستطلعا الخطوط القريبة منها، لكنى لم أصل لشيء واضح، وحينما تعجلنى قلت: صدفة تحمى جوهرة. رفع عصاه من على الأرض وأركزها على صدري، قال: ربما تبصر غدا. حتى الآن وأنا أنظر لأعواد البوص الساكنة لا أستطيع فهم ما كان يرمى إليه، هل يقصد المتاهة التى أنا فيها الآن وعليّ تبصر ذاتي، ربما. قلت بصوت عال تسمعه أذنى وتردد صدى خفيف زاد من يقين وحدتى المفرطة بقلب هذه الجنة، خلعت ما تبقى من ملابسى ووضعته بجوار المخلاة، وانزلقت خائضا هذه المرة وسط أعواد البوص، قاصدا عمق الماء.
كلما تقدمت ارتفع الماء على ساقيّ حتى غمر وسطي، خمنت أنى فى مركز البركة، رفعت رأسى لأعلي، كانت السماء بعيدة و بهية، وبدا كأن بسمة تبارك عريى تهل منها، وقفت أبلل يدى وأمسح بها صدرى ساحبا منه حرارة غزته و تراكمت به طوال الأيام الماضية جراء خوضى فى بحر الشمس الهائل الذى يغمر الصحراء، أشعر الآن بأنى بعيد عن الصحراء، ربما أنا على حافة النهر وسط دغل كثيف يحمى عريى من التلصص كما كنت أفعل هناك، أذهب بعيدا عن مطارح دوس الأقدام وتجسس العيون، وحيدا و محتميا بأعواد البوص الطويلة، أركن ملابسى على مقربة منى وأنزل الماء، أسبح عاريا تماما، لا تتم البهجة ولا يمكننى أن اعتبر أنى سبحت لو لم أكن عاريا دون أى حواجز بين جسدى والماء، أسبح وأغطس و أبقى قدر ما أستطيع تحت الماء، وها أنا أفعل الآن، أغطس عاريا مغمضا عيني، تاركا لجسدى أن ينزلق متمددا على حشائش البركة، أفتح عينى ببطء، لا أرى شيئا، دكنة الماء قاتمة ولا تسمح بالرؤية، استندت على يدى ورفعت جسدى طلبا للهواء، رحت أدعك رأسى وجسدى بيدي، وغطست ثانية و ثالثة، وشيخى الذى ضحك من تطرف وحدتى قال بغموض: فى متاهة الذئب لا يمكن أن تخطو أو تتقدم إلا وحيدا. استعدت نبرة صوته العميق وأنا تحت الماء قابضا على الحشائش اللينة، ما الذى دفعه لقول تلك المقولة؟ فى أى وضع كنت، وكيف كانت حالتي؟ أنا أعرف أنه لا يعلق هكذا متطوعا، ملازمتى له لفترة عرفتنى على بعض طباعه وطرقه الغامضة والملتوية التى يسلكها فى كثير من الأحيان، عبثا حاولت التذكر، وصدرى بدأ يضيق من كتم النفس، مسدت الحشائش ويدى تفارقها، بينما أصعد لح على خاطر، أنه ربما وقتها كنت فى النهر عاريا مع وحدتي، وخرجت رأسى من الماء لأجد أربعة عيون تنظر إليّ.
تصلبت فى وضعي، ركبتى على الحشائش وجسدى مغمور فى الماء حتى فمى ويداى مفرودتان توازنان وقفتى المرتبكة وغير المصدقة، فما أراه الآن لا يمكن أن يكون حقيقيا: نعجة بالغة بجوارها ذئب، جرو ذئب فى الحقيقة، يقفان بسكون ويتخذان نفس الهيئة فى طريقة النظر إليّ، فقط يثبتان عيونهما نحوى دون أن تطرف أى منها، أو هكذا يخيل إليّ، غطست فى الماء، لا يمكن أن تكون تهيؤاتى وصلت لهذا الحد، وأراها متجسدة أمامي، ما قولك يا شيخى فيما رأيت؟ ستراوغ كعادتك فى هذه المواقف المباشرة، ستذكر لى مثلا عن الراعى الذى كان الذئب يحرس قطيع أغنامه بينما هو نائم فى الظل، أو ستقول لى واحدة من جملك الأكثر غموضا من عينة: أكل ما نراه نبصره؟ موقفى يا شيخى لا يحتمل أى مراوغة أو مقولات باهرة فى حكمتها، نعجة وذئب، جرو ذئب، ألا تري؟ التهيؤات يا شيخى إن جرت فهى فى عقلى فقط، أنا من يستدعيها وأقيمها فى خيالى ، أما ألآن فهى متجسدة دون تفكير مني، نعجة وذئب على بعد خطوة من عريى فى بركة ماء مخفية وسط الجبال؛ درت فى الماء جاعلا الذئب والنعجة فى ظهري، وأخرجت رأسى بهدوء، وأيضا كانا أمام عينى و ينظران لى بنفس الطريقة.
شككت فى الأمر وتساءلت، أهذان غير هذين؟ أم تراها أربعة: نعجتان وذئبان. استدرت بسرعة، برأسى فقط، لم يكونا موجودين خلفي، هما اثنان فقط، فهل خمنا حركتى تحت الماء وسبقانى ليكونا فى مواجهة عينى حين اطلع من تحت الماء.
عقلى يعمل على عكس ما أريد منه، فبدلا من أن يتساءل عن كيفية وجود نعجة وذئب ووصولهما لهذا المكان، وكيفية دخولهما إليه، راح يفكر فى متاهة الشيخ التى نصبها من تساؤله حلو الرؤية و التبصر، وراح يتذكر مجادلتى العقيمة وقتها حول أن الإدراك وحده هو الكفيل بتحديد ما نراه أو حتى نريد تبصره، ورغم بسمته الخفيفة التى ارتسمت على تغضنات وجهه إلا أنى تماديت فى طرحى ورحت أضرب مثلا بالسائر فى الشارع المكتظ بالبشر وفى الجهة المقابلة يراه صديق له، فيقبل نحوه متهللا ومادا يده للمصافحة، فما كان من صاحبنا إلا أن تفاداه بلطف وواصل سيره، فى الحقيقة كنت أعنى ذاتى بهذا المثل، وكيف أن حضورى فى الشارع ما هو إلا شبح جسم يمر، ويحاول تفادى الأشباح المارة بجواره حتى لا يصطدم بأحدها، فعقلى وإدراكى هما فى مكان آخر أبعد ما يكونا عن هذا الشارع، والشيخ بصبره على المحاججة قال أكمل. فقلت مسرعا: هو لم ينكر صاحبه أو لا يرغب فى الوقوف معه وتبادل الحديث، لكن ببساطة هو لم يره، بل تفاداه كشبح آخر عليه ألا يصطدم به، وهو ما فعله مع صاحبه، تفادى اليد الشبحية التى مدت نحوه عوضا عن أن يرتطم بها. ثم أخذت نفسا عميقا قبل أن أضيف بحسم: إدراكه لم يكن بالشارع بل فى مكان آخر.
النعجة والجرو يقفان بثبات يربكني، فكرت أنه ربما إذا أغمضت عينى قليلا ثم فتحتهما لن أجدهما؛ كأنما فى حلم أو كابوس، ليس ثمة فارق الآن، حتى وإن بدا هذا من أفعال الصبية، لكن لا بأس،لا شيء تبدل، النعجة والذئب على حالهما وجسدى فى الماء بادئ فى الارتجاف، وهو ما سوف يجبرنى على الخروج، لكن هل على الخروج عاريا أمام عيونهما الوقحة والمتلصصة، أو عليّ أن اجبرهما على الانصراف حتى أخرج وأصل لملابسي، ملابسى التى تنتابنى الآن الوساوس بشأنها، فوجود نعجة وذئب قد يعنى وجود آخرين، أم عليّ البقاء هكذا فى الماء متحملا ارتجاف جسدى المتزايد الذى سيدفعنى فى النهاية وبقوة لوضع حد حاسم لهذا الموقف الشائك،والخروج من الماء. لكن قبل أن أهم بالوقوف على قدمى فى الماء رنت فى المكان ضحكة صاخبة، تبين من صداها المتكرر أنها تخص شيخي، لتثبت ركبتى على الحشائش مرة أخرى وأنا أتلفت بحثا عن المكان الذى انطلقت منه الضحكة، ولسان حالى يقول: كملت.
نزعت نفسى من الماء، كأنما عنادا وردا على الضحكة الهازئة لشيخي، وغير عابئ بتراجع النعجة والذئب للخلف دون أن يخفضا بصرهما من على جسمى العاري، داريت عورتى بيدى ورحت لملابسى على الصخرة، كما هى كانت، وخلفى وبإصرار تخطو النعجة وبجوارها جرو ذئب، ولح على خاطر وأنا أرى حركتهما: أم ووليدها، فالتفت لأتأكد أنه سخلة صغيرة وليس كما صورت لى هواجسى جرو ذئب، لكن الذئب ظل على حاله والنعجة تحوطه كأنها أمه، أخذت أرتدى ملابسى بسرعة وحنق وأنا أعيد تفحص المكان بعين جديدة، فما أراه الآن ليس خيالا و لا ضربا من وهم تجسد لي؛ ومن ثم راحت الأسئلة تتوالى وتتقافز عليّ: كيف وصلا إلى هذا المكان الخفي؟ نظرت لأعلي، من حيث جئت وهبطت، قلت السقوط كفيل بدق عنق أى منهما، ومن المؤكد أنهما لما يتعلقا فى نتوءات الصخور و يتقافزا من صخرة لأخرى كى يهبطا بسلام، ومن المستحيل أن يكونا قد ولدا هنا، فهما على الأقل نعجة وذئب، لا نعجة ووليدها، ولا ذئب وأمه، ثم كيف هى العلاقة مستوية بينهما لهذا الحد، فلا النعجة تخشى الذئب ولا هو يطمع فيها، هل هو حفيد ذئب الراعى الكسول النائم فى الظل، بينا الذئب يحرس أغنامه، أى متاهة هذه التى أسقطت نفسى فيها، وهل بات الأمر أن شيخى جعلنى أتمثل الحكاية الآن لأنى سخرت منه حينما رواها كدعابة تأكيدا على الجوانب الخفية التى يمكن التواصل بها بعيدا عن مدركات الحس، أيا ما كان الأمر، فما عادت جنتى الخبيئة بجنة.
كنت أظن بهبوطى أنى قد وجدت بغيتي، بعيدا عن البشر والصخب والخبث، مكان يصلح لعزلة وراحة مثالية، كما كنت قد قدرت أن أبقى هنا لعدة أيام، خاليا متمتعا بالخلوة والعزلة حتى أمل وأغادر، لا يشاركنى أحد، أما وقد تبدل الحال فعليّ أن أعيد تفكيرى فى الأمر.
جلست على الصخرة وأسفلها على الحشائش أقعت النعجة والذئب وعيونهما عليّ وليل قد أقبل و نجمات قليلة بدأت تلمع فى الفوهة البعيدة لمهبط البركة، ما عادت جنة الآن، أضحك واسخر كما تشاء يا شيخي، لكن عليك أن تترفق بورطتى الآن مع ذئب ونعجة و بركة ماء فى منحدر قاتل من صخور شاهقة وظلام بدأ يحل سريعا.
أخرجت تمرات قليلة من المخلاة وهبطت من صخرتى لأغسلها وأبللها فى الماء، وقفت النعجة و تبعها الذئب و تنحيا قليلا بعيدا عن محط قدمي، أشعر بأنه يتملكهما فضول إنسانى لمعرفة ما يدور فى بالى وعما أفعله وعما جاء بى إلى هنا، فعلى الأقل هى جنتهما قبل مهبطي، فضولهما يشبه الفضول الذى يأكلنى حيالهما، عن سبب وجودهما الغامض هنا، والأهم هو إصرارهما على متابعة حركتي، غسلت التمرات وعدت لصخرتي، جلست ساندا ظهرى وقد سويت المخلاة بجوارى تمهيدا لجعلها وسادة أسند رأسى عليها إن جاءنى نوم فى ليلتى هذه، أكلت وشربت قليلا من الماء وتمددت، وأسفل الصخرة تمددت النعجة والذئب و بدا الظلام يغبش كل شيء.
رغم الظلام الكثيف الذى طغى على المكان إلا أنى كنت ألمح لمعان العيون الصفراء الناظرة إليّ، أصفر حاد وثابت يتخلله إغماض قليل، الأحمر يخالط صفار عين الذئب التى يبدو عليها التيقظ والانتباه أكثر من النعجة التى كانت تطيل إغماض عينها، ربما طلبا للنوم، لكن احتكاك الذئب بها يوقظها فتدير رأسها نحوه ثم تعود لوضعها، بدا لى الذئب من حركة رأسه وعينيه كأنما يتشبث بها أو يبحث عن مكامن الدفء فى فروها، وهى ثابتة لا تريم، وخمنت أن الجو سوف يزداد برودة كلما تقدم الليل، هل عليّ أن أخرج جلبابى الاخر من المخلاة؟ أم عليّ الانتظار حتى الشعور بالبرد، فأنا لا أزال على اعتقادى بأن البرد سهلة مواجهته شريطة ألا يأخذنا على غرة، عكس الحر الذى لا يفلح معه شيء فى الصحراء وخارجها، بالطبع أدرك قسوة برد الصحراء خاصة فى الصيف وقد جرى التخفف من الملابس، هكذا هى الصحراء، متطرفة فى طقسها، لكنى الآن أنا بعيد عنها، أليس الأمر هكذا يا شيخي، أم تراني- رغم جنتى المزعومة هذه- رابض فى قلبها، وفى أشد أماكنها تطرفا وغرابة.
رغم كل شيء بدأت عيناى تثقلان والخدر يسرى فى جسدى سريعا، والنعجة شبه نائمة، والذئب أظنه متناوما، وعينى تضيق وظلام لطيف تلمع فيه النجوم البعيدة التى بدت شديدة التوهج والقرب، حتى أنى ظننت لو قدرت على الوصول للفوهة الآن لاستطعت بسهولة الإمساك ببعض من النجوم، تسليت بضوئها اللطيف المنعكس على الماء بالبركة، ورأيت كأنما أسبح بين النجوم فى ذلك الفضاء البعيد وقد صرت خفيفا أفرد ذراعى على اتساعهما، لتلامس وجهى برودة السماء، وسمعت همهمة غريبة وقريبة، أصدرت من نجم قريب، أم تراها صوت النسمات بين أعواد البوص التى تدفعه للاحتكاك، أم فتحت عينى ورأيت ما أظن لو أن شيخى قصه على ما صدقته، ولم آخذه إلا على أنه واحد من أمثولاته التى يضربها، فقد كان الذئب دافسا رأسه بين خلفيتى النعجة، وملتقما ثديها، ويرضع.
رفعت رأسى مأخوذا، ومحافظا على باقى جسدى ساكنا، متابعا المشهد أسفل صخرتي، وهمهمة متناغمة تصدر، لا أعرف من أين؟ أمن الذئب، أم من النعجة ، أم من كليهما؟ هى ساكنة ، عيونها مغمضة، والذئب تلمع عيونه بنهم الراغب فى الارتواء والشبع، يقبض على الحشائش بمخالبه ويفلتها، يبدو هذا لعينى من قلقلة جسده، خطفت نظرة للنجوم فبدا لى كأنها تعرف و تبتسم، حتى حركة البوص بدت متناغمة مع صوت الهمهمة المتصاعد؛ حركة أعواد البوص جعلتنى أفكر فى مصدر النسمات، فسقوط الهواء من أعلى لا يمكنه أن يصل إلى هنا ويسبب ذلك التموج البسيط الذى يعترى الأعواد، لابد من وجود شقوق بين الصخور ينفذ منها الهواء داخلا من الخارج إلى هنا، وهو ما يجعل هواء المكان متجددا وغير راكد، عليّ فى الصباح البحث عن هذه الشقوق، فربما كانت هى طريقى للخروج من جنة الأعاجيب هذه، وربما كانت تلك الشقوق هى ما قادت خطوات النعجة والذئب لهذا المكان، وانتبهت لعودة السكون والصمت مرة أخري.
الذئب عاد لوضعه بجوار النعجة بعد أن أنهى وجبته، والنعجة كما هى فى رقادها، والبوص سكنت تموجات أعواده وعاد النجم ليتلألأ فى سماء البركة وجسدى بدأ يستشعر البرد وعيونى يأخذها النوم، فأسند رأسى على المخلاة وأشبك يدى على صدرى وأطير، أعاود الطيران بعيدا عن هنا، كأنما فوق بحر أو نهر، وحورية على سطح الماء تغنى وترقص، صوتها شديد العذوبة والسحر، ورذاذ ناعم يتساقط حولها، ولم يكن بمقدورى الاقتراب منها، فمددت يدى ألمس الرذاذ المتناثر، فأصابتنى رعدة وهاجم البرد بدني، حاولت ضم ركبتى لصدرى اتقاءً للبرد المتزايد، غير أن خشونة دافئة منعتني، ففضلت احتضان الخشونة التى تحوطنى عن يمينى ويساري، ليسرى الدفء اللذيذ ويبعد غناء الحورية؛ حينما صوت وجدتنى راقدا بين النعجة والذئب، النعجة عن يمينى والذئب عن يساري.