د. محمد عبدالله القواسمة - الحياة موقف بين برنارد شو وعروة بن الورد

يلتقي الكاتب المسرحي الإيرلندي الساخر برنارد شو وأمير صعاليك العصر الجاهلي عروة بن الورد، بأن كلًا منهما كان ينشد المساواة بين الناس، وينتقد الأثرياء الأنانيين الذين لا يهتمون إلا بمصالحهم، ويتركون الفقراء للجوع والمرض والجهل. وظهرت تلك الصفة المشتركة بينهما في مواقف كثيرة مع الفارق الزمني بينهما: فالأول من أبناء القرن التاسع عشر والعشرين (1846-1950) أما الثاني فمن أبناء العصر الجاهلي.

ظهر موقف برنارد شو من الأثرياء والمتنفذين عندما التقى برئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرتشل الذي كان سمينًا ضخم الجثة أما شو فكان نحيفًا رقيق العود كما يقال. قال تشرتشل لشو: من يراك يظن بأن بريطانيا في أزمة غذاء. فأجابه: ومن يراك يعرف سبب الأزمة.

وهذا يتفق مع ما هو معروف عن شو بأنه عاش فقيرًا يوجه سهام نقده في مسرحياته إلى الأثرياء الذين يعرقلون تحقيق العدالة الاجتماعية، وكان زاهدًا في المال حتى إنه رفض جائزة نوبل التي قدمت له عام 1925م، وقال: هذه الجائزة تشبه طوق النجاة الذي يلقى به إلى من وصل إلى بر الأمان ولم يعد عليه خطر، كما سخر من نوبل مؤسسها، فقد غفر له اختراع الديناميت لكنه لم يغفر له أنه أنشأ الجائزة.

أما الشاعر عروة بن الورد فقد تجلى موقفه من الأثرياء وإيثاره الفقراء والمحتاجين من جماعته الصعاليك وأبناء قبيلته بني عبس في مقطوعة من الأبيات التي وردت في ديوانه الذي حققته أسماء أبو بكر محمد عام 1998م. وقد وضعت المقطوعة تحت عنوان "أنا وأنت". تقول المقطوعة:

إني امرؤٌ عافي إنائيَ شركةٌ وأنت امرؤ عافي إنائِـك واحدُ
أتهزأ مني أن سمنتَ وأن تَرى بوجهي شحوبَ الحقِّ، والحقُّ جاهد
أقسّم جسمي في جسوم كثيرة وأحسو قَراحَ الماء والماء بارد

ففي هذه الأبيات يخاطب عروة إنسانًا آخر حقيقيًا أو غير حقيقي على عادة الشعراء الجاهليين ويقول إنه يملأ إناءه من اللبن يعدّه لاستقبال الضيفان فإذا ما أقبل عليه ضيف فإنه يكون شريكه في الشرب من اللبن. أما الإنسان الآخر فلا يستضيف إلا نفسه لهذا فإن ضيفه يجوع ويهزل أما ضيف عروة فهو لا يجوع بل ويسمن أيضًا. فلا داعي أن يهزأ به إذا هزل جسمه وشحب وجهه. إنه يقسم طعامه بين الفقراء والجوعى ويشرب الماء على برودته في فصل الشتاء دون أن يخالطه لبن أو غيره.

وللنقاد وعلماء اللغة عدة تفسيرات للبيت الأخير ويرون أنه يعبر عن قضايا كثيرة وصفات إنسانية يتصف بها عروة مثل القناعة والصبر والشجاعة والعدل واندماج الخاص بالعام في وحدة إنسانية فضلًا عن صفة الإيثار. لهذا فلا عجب أن نرى عبد اللك بن مروان يقول في البيت: " من زعم أن حاتمًا أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد."

ولكن ما يهمنا أن الشاعر عروة بن الورد يفكر في الآخرين، ويقف إلى جانب الفقراء والجوعى على ما عرف به من أنه كان يهاجم الأغنياء، ويأخذ من أموالهم ويوزعها على رفاقه الصعاليك، وعلى فقراء قبيلته بني عبس.

وما يهمنا أن نقف عنده من خلال رؤيتنا لهذين الموقفين: موقف برنارد شو وعروة بن الورد أنهما قرنا القول الشعري بالفعل من أجل الآخرين، وهو ما لا نشهده إلا عند قليل من المثقفين والشعراء، كما نجده، على سبيل المثال، عند الشاعر عبد الرحيم محمود الذي لا تناقض بين شعره وفعله في الحياة، فنراه يلقي بنفسه في معركة الشجرة عام 1948م ويسقط شهيدًا متجاوبًا مع رؤيته للصراع مع العدو الصهيوني الذي برز في قصيدته

سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى