الاهتمام بالتراث والتفكير فى العودة إليه – كما يؤكد الواقع والكثير من الباحثين – له علاقة مباشرة بالهزيمة ، أو الشعور بالانحطاط الحضارى الذى يترتب على الهزيمة ، الأمر الذى نجد أثره واضحاً فى الواقع العربى منذ حملة نابوليون على مصر سنة 1798 وحتى هزيمة يونيو 1967 والتى كانت أعنف صدمة تعرض لها الكيان العربى ، خاصة أنها حدثت بعد فترة قصيرة من استقلال البلاد العربية عن الاحتلال الأجنبى نما فيها الإحساس بالعزة الوطنية وظهور مشروع عام للمواطن العربى تمثل فى فكرة القومية العربية ومحاولات تحقيق الوحدة العربية وفجأة حدثت الصدمة ..
لم تكن الهزيمة عسكرية فقط ولم تقتصر آثارها على احتلال جزء من أرض ثلاث دول عربية – فضلاً عن كل أرض فلسطين – لكنها كانت هزيمة حضارية فى المقام الأول ، هزيمة نسفت كل المشروعات القومية والطموحات البعيدة لدى المواطن العربى وتركته فى مفترق طرق يتسائل : من أين .. وكيف نبدأ من جديد ..؟
وهنا لم يجد إلا تراثه العريق يستند إليه ويستمد منه مبررات وجوده ، ويبحث فى ثناياه عن كيفية الانطلاق من جديد ..
وتمثلت مظاهر هذا الاهتمام فى تلك الدراسات الى أعقبت النكسة عند كثير من الباحثين والمفكرين أمثال د. زكى نجيب محمود و د. غالى شكرى و د. حسن حنفى و د. محمد عمارة وأدونيس ويوسف الخال و د. حسين مروة ومحمد عابد الجابرى ... وغيرهم ، وجاءت هذه الدراسات بعد لحظة غضب لما حدث دفعت البعض إلى وصف الحضارة العربية بأنها حضارة الغربان والرمال ..
والواقع – على ضوء الأحداث المعاصرة – أن هذا ليس السبب الوحيد الداعى إلى اللجوء للتراث ، لكن هناك دواعٍ أخرى تدفع الإنسان إلى هذا اللجوء ، فجميع الشعوب الآن تخشى ما يطلق عليه مصطلح " العولمة " الذى يعنى تهديداً للثقافات المحلية الوطنية لكل الشعوب والتى أسرعت تحت ضغط الخوف من الذوبان فى ثقافة عالمية إلى تراثها الوطنى تجمعه وتؤرشفه وتستلهمه حتى فى حياتها اليومية فضلاً عن فنونها وآدابها ..
ولأن المسرح وعلاقته بالتراث هو موضوعنا ، فلتكن البداية من بدء دخول المسرح كعنصر ثقافى فاعل فى مجمل الثقافة العربية ، أو منذ بدأ الرواد الأول فى ممارسة المسرح كفن يلتقى بالجماهير وتلتقى به فى مكان محدد يتم فيه التفاعل بين الطرفين ..
لقد فطن رواد المسرح الأوائل إلى غربة الشكل المسرحى الغربى ، وإن كانوا مدركين لقوانين فنون الفرجة الموروثة بأشكالها المتعددة كخيال الظل والسامر والحلقة ، لكن الأمر اختلف الآن فمساحة الإرتجال قد تقلصت ، وتحددت طريقة جلوس الجمهور وغير ذلك من تقاليد المسرح الأوروبى .. هذا من جهة الشكل الخارجى ، أما من جهة المضمون الفنى والأخلاقى فلابد من توجيه رسالة تتفق وتقاليد المشاهد وثقافته فاضطروا إلى التمصير ، وخاصة الرائدين مارون نقاش ويعقوب صنوع لمعرفتهما باللغة الفرنسية أما أحمد أبو خليل القبانى فلم يكن يجيدها فلجأ إلى المصدر الآخر الذى اغترف منه المسرح العربى وهو التراث بما يحتويه من حكايات وخاصة كتاب ألف ليلة وليلة .. وهذا لا يعنى أن كلاً من النقاش وصنوع لم يلجآ إلى التراث ، باعتباره المصدر الشامل الذى وجدوا فيه ضالتهم لأنه يمثل مقومات الأمة واستمرارية تميزها ولأنه " شيئ قائم فينا وهو ذاتنا التى تنادينا من وراء العصور، وأن العودة الفعلية إليه بقصد الاكتشاف أو المعرفة والتعرف ينبغى أن تكون طريقاً لتنميته والامتداد فى المستقبل بقيم متطورة عنه ، مستلهمة رؤاه ، مستمدة حوافزها من كثير من حقائقه مضافة إلى حقائق عصرنا" (1) .
ويعد هذا اللجوء إلى المصادر التاريخية والشعبية من جانب هؤلاء الرواد نوعاً من التحدى للمسرح الغربى بصيغته الأرسطية ، بل ويمكن النظر إليه كشكل من أشكال المواجهة فى إطار الصراع الثقافى الحضارى الذى يخوضه المجتمع بكل فئاته ضد المستعمر الذى يأمل فى فرض ثقافته ويحاول طمس الثقافة الوطنية حتى تقل مقاومته .. ويؤكد هذا الإستنتاج أن التوجه للتراث والتاريخ لاستيحاء بطولاته وأمجاده يعكس نوعاً من المواجهة الضمنية ، ذلك أن المبدع المسرحى يلجأ إلى إحياء هذه البطولات والأمجاد لاستنهاض الهمم وبث الحماسة كأدوات للمقاومة خاصة فى ظل رقالة مشددة من قبل السلطة والتى يؤدى ممارستها للقمع إلى الهروب واللجوء للتراث للتخفى وراءه ..
والنماذج التراثية والتاريخية التى لجأ إليها هؤلاء الرواد تدل على صحة الفرض القائل بوجود علاقة بين التراث وحالات الإنكسار والهزيمة ، فمنذ نهايات القرن التاسع عشر نجد - مثلاً لا حصراً - مارون النقاش يقدم مسرحية " أبو الحسن المغفل" سنة 1848 وأحمد أبو خليل القبانى يقدم مسرحيات " هارون الرشيد مع غانم بن أيوب وقوت القلوب" و" هارون الرشيد مع أنس الجليس" من وحى ألف ليلة وليلة ، ومسرحيات " مهلهل سيد ربيعة " و" عنترة العبسى" من وحى السير الشعبية ، و" كسرى أنو شروان" و " امرؤ القيس" من وحى التاريخ وذلك فى الفترة من 1865 إلى 1874 ، كما قدم اسكندر فرح مسرحية " كليوباترا " ثم قدم أحمد شوقى مسرحيات " على بك الكبير" و" مصرع كليوباترا " و" قمبيز" من وحى التاريخ ، كما كتب من وحى التراث الشعبى مسرحيات "مجنون ليلى " و " عنترة " و" أميرة الأندلس" ، ثم قدم فرح أنطون مسرحيتيه " صلاح الدين " و" مملكة أورشليم" سنة 1914 ..
وليس ما قدمناه آنفاً تأريخاً للحركة المسرحية بقدر ما هو مسح سريع لنماذج التاريخ والتراث التى شغلت وانشغل بها المبدعون فى مجال المسرح وبنظرة سريعة أيضاً لهذه النماذج نجد أنها تمثل نموذج المخلص / المحرر / الموحد ( عنترة – صلاح الدين – على بك الكبير..) وهى بالطبع ضد نماذج الظلم / العبودية والاحتلال / التفرق والتشرذم ..
ومن المهم – ولو عرضاً – أن نتوقف قليلاً أمامها لنرى كيف تعامل المبدع مع هذه العناصر التراثية والتاريخية ، فمن خلال القراءة ومشاهدة إعادة لبعض هذه العروض والتى قدمتها فرقة المسرح المتجول كعملية تأريخ للمسرح المصرى فى فترة الثمانينيات بإشراف المخرج الراحل عبد الغفار عوده ، ومن خلال الندوات التى كانت تصاحب هذه العروض نجد أنها تعاملت مع التراث كمادة تاريخية جامدة اتسمت معالجتها بالمباشرة والسطحية وبدا التاريخ والتراث عندهم مجرد معارف ومعلومات يرددونها بأسلوب يغلب عليه طابع التنميق اللغوى وإقحام الخطب الرنانة بهدف التأثير القوى لبث الحماسة والحمية فى القلوب والصدور وهو على أية حال هدف نبيل يغفر تقعر اللغة وسذاجة المعالجة ، لكنه لا يغفر المباشرة والسطحية - التى لم تكن مقصودة – لكنها جاءت نتيجة لعدم وجود الخبرة فى التعامل مع التراث بشكل ديناميكى بما يجعلهم يحتوون التراث بدلاً من أن يحتويهم ..
من هنا نشأت الدعوة إلى نقد العقل العربى عند التعامل مع التراث حتى لا تكون الذات جزءاً من هذا التراث ، لأن فصل الذات عن التراث كفيل بربط العلاقة بينهما بشكل عقلانى وبالتالى كفيل بتكوين تصور موضوعى عن هذا التراث نفسه كما يقول محمد عابد الجابرى ..
ونعنى بهذه الملاحظة - استعراض الأحداث التاريخية كما وقعت بالفعل ، وتناول الشخصيات البطولية فى سياقها الزمنى المحدود و الخاص بها - أنه لم يكن هناك تحوير للحدث ليصبح فاعلاً مع الحاضر وهو ما يعد الهدف الأساسى للعودة إلى التراث ، وخلق علاقة جدلية بين الحاضر والماضى والربط بينهما مع الحفاظ على المساحة الفارغة التى تحقق التصور الموضوعى للتراث ..
المسرح العربى بعد نكسة 1967 :
بد أ المسرح العربى بعد 1967 مرحلة جديدة إذ أخذ يشارك فى حوار الأمة كلها ، ذلك الحوار الذى وضح فى هذا التساؤل الكبير : من نحن ..؟ إلى أين ..؟ كيف..؟ لأن المسرح أداة ثورية بالغة الأهمية من أجل تجاوز الهزيمة والتمزق والتخلف ، ومن أجل لقاء الانسان العربى بأخيه العربى ، والمسرح بهذا التلاقى يمكن أن يتجاوز الحدود المصطنعة فى الوطن العربى (2) ..
وتمثل هذا الاتجاه الجديد - الذى نشأ وسط علامات استفهام كبيرة تطالب الجميع بالرد - فى محاولة الرد على التساؤل الأول " من نحن ..؟ " عبر شكل مغاير من حيث اختيار مناهج التداخل والمباعدة والاغراب وكسر الحائط الرابع كما فى المسرح الملحمى والتعليمى والتسجيلى بصيغه الحديثة ..
وكان الرد بسيطاً وتلقائياً .. فنحن السامر والمحبظاتية والحلقة ، نحن خيال الظل والقره قوز والمخايلين ، نحن ألف ليلة وليلة وحكايات السهارى ، ونحن أيضاً التاريخ والحضارة ..
كانت هذه هى البداية فقدم سعد الله ونوس " حفلة سمر من أجل 5 حزيران " مستخدماً شكل الحلقة لطرح قضيته وتساؤلاته على الناس داعياً إياهم للمشاركة فى الحوار :
م 1 : هل حقاً نحن المسؤولون .. ؟
م2 : (ينتفض فجأة وكأنه اتخذ قراراُ ، حركة مليئة بالحيوية ، يمثل ما يقول )
تقول هى المرآة .. حسن ، لتنصب المرآة أمامنا هنا (يرسم مستطيلاً فى الفراغ )
سنضعها فى مواجهتنا ..مرآة كبيرة ترسم قاماتنا مهما علت ، وسننظر فى جوفها
جيداً .. سننظر (يلتفت إلى المتفرجين) لكى نتحمل المسؤولية ، ألا ينبغى أن
نكون موجودين ..؟
م 1 : ليس وجودنا هو السؤال الجوهرى ..بل نوعية هذا الوجود (بعنف) لنعترف أننا
المسؤولون .. نهرب؟ نتخلص من رائحة شيئ كريه يفوح بيننا وحولنا ..
م1 : قبل أن نلقى على أنفسنا الأحكام ، من الأهم أن نعرف من نحن ؟ ما هى هذه
المرآة (يعود فيرسم مستطيلا فى الفراغ) تعالوا نسألها من نحن ..؟
م3 ،4 ،5 : (بصوت واحد) حقاً .. من نحن ..؟
وفى نفس المسار وللإجابة على تساؤلات الأمة توالت الأعمال المسرحية فقدم ألفريد فرج " النار والزيتون " وعبد الرحمن الشرقاوى " وطنى عكا " ومعين بسيسو " ثورة الزنج " وسعد الدين وهبة " المسامير " و " يا سلام سلم الحيطة بتتكلم " و " رأس العش" .. واتخذ الشرقاوى من شخصية الحسين بطلاً دراميا معبراً عن اللحظة فقدم " الحسين ثائراً " و " الحسين شهيداً " ثم قدم ثلاثية " النسر الأحمر " و " النسر والغربان " و " النسر وقلب الأسد " .. ويعرض محمد على الخفاجى لشخصية الحسين أيضاً فى " ثانية يجيئ الحسين " وكذلك محمد العفيفى فى " هكذا تكلم الحسين " .. كما قدم محمود دياب مسرحيته " باب الفتوح " وفتح بها باباً لمناقشة مفهوم البطولة وعبر فيها عن رأيه فى أن البطولة الحقيقية هى البطولة الجماعية لا بطولة الفرد ..
والملاحظ أيضاً على النماذج التى طرحت فى هذا الجو المشحون بالغضب أنها نماذج للشخصيات المتمردة الثائرة كرد فعل لحالة الإهتزاز التى أصابت الجميع فى تلك الفترة العصيبة من التاريخ العربى ..
والملاحظة الأكثر أهمية فى هذا الصدد أن الاعتماد واللجوء للتراث فى تلك الفترة فى الابداع المسرحى لم يقتصر على الموضوع فقط ، بل تعداه إلى الشكل والصيغة أيضاً ، فلجأ المبدع المسرحى إلى الأنماط التراثية كقالب جديد مستمد من القالب القديم كشكل الحلقة الذى استخدمه سعد الله ونوس فى حفلة سمره من أجل 5 حزيران عندما حرض الجمهور – الذى يؤمن بأهميته كعنصر من عناصر العرض – موحياً إليه أن يكون وقحاً يقاطع العرض إن حاول تخديره أو يتدخل ليلقن الممثلين درساً عن المجتمع إن كانوا يهربون منه ومن همومه وهو ما دعاه بالمسرح المفتوح أو مسرح التسييس .. وتذكرنا هذه الدعوة بمقاطعة العرض بما رواه الرحالة الدانمركى " كارستين نيبر" عن ذلك العرض التمثيلى الذى شاهده فى مصر عام 1780 ويصفه قائلاً " كان دور الشخصية الرئيسية وهو دور سيدة يؤديه رجل يتزىّ بزى النساء تجتذب إلى خيمتها بعض المسافرين وبعد أن تسلبهم أمتعتهم تطردهم تحت ضربات العصى وخلال التمثيل وبعد أن كانت السيدة قد جردت الكثيرين من ملابسهم قام شاب أزعجه تكرار هذه الحادثة السخيفة وصرخ معلناً استنكاره ، وتبع الشاب بقية المتفرجين وأعلنوا استنكارهم بدورهم وأجبروا الممثلين على التوقف ولم تكن المسرحية قد شارفت نصفها بعد " ، وكذلك رأى محمود دياب فى شكل السامر وسيلة لطرح قضايا خطيرة كالصراع الاجتماعى فى مسرحية " ليالى الحصاد" ، وأيضاً نجد ألفريد فرج يسعى إلى تأكيد المسرح الاحتفالى الشعبى فى مسرحيتيه " على جناح التبريزى وتابعه قفة " و " حلاق بغداد " ، وبلغ الاهتمام غايته فى تسميات الفرق الفنية نفسها مثل " فرقة الحكواتى " و " مسرح السامر" و " وفرقة الفوانيس" و " مسرح القهوة " و " جماعة المسرح الاحتفالى " ..
وبالإضافة إلى ما سبق ، يمكننا أن نحدد بعض النقاط التى تعتبر من أسباب لجوء المبدع المسرحى إلى التراث عامة والتراث الشعبى خاصة فيما يلى :
أولاً : جاء تعامل المسرح العربى مع التراث نتيجة لحملات التشكيك التى انصبت عليه إلى جانب التهميش والغربة التى لحقت بالصيغ الشعبية الاحتفالية من لدن الفكر الاستعمارى لأنها تعكس الذاكرة التراثية وتنلك بعداً جمالياً شعبياً خاصاً على مستوى التواصل مع الفئات الشعبية العريضة ..
ثانياً : يعتبر التراث الشعبى عاملاً رئيسياً فى نجاح العرض المسرحى لما له من رصيد فى نفس ومخيلة المشاهد مما يحقق التواصل بين المبدع والمتلقى ، ويبدد الغربة بين العرض والمشاهد منذ اللحظة الأولى ..
ثالثاً : التراث يوفر للكاتب الحماية والوقاية من سطوة السلطة حيث يجد فيه الرمز الذى يعلق عليه قضاياه خاصة تلك التى لا تسمح الرقابة بطرحها ..
رابعاً : التراث يوفر للكاتب أيضاً بعداً وجودياً فهو يلجأ إليه من أجل تحقيق الذات نتيجة الاحساس بالدونية أمام الآخر ..
وهذا العامل الأخير – ربما – كان من الدوافع التى دعت إلى البحث عن صيغة عربية للمسرح على نحو ما فعل يوسف إدريس وتوفيق الحكيم فى الستينيات بعوتهما إلى البحث عن قالب مسرحى نابع من صميم التراث الشعبى ، وفى هذا الإطار تم تقديم بعض الأعمال المتفرقة غلبت عليها النزعة الفردية ولم تشكل تياراً فى مسيرة الحركة المسرحية العربية ..
(1) ماجد السامرائى: التراث منطلقنا للمعاصرة ،الأقلام ،ع 9 ، 1978 .
(2) د. أحمد العشرى : المسرحية السياسية فى الوطن العربى،إقرأ ،ع 516 ،1985
(3) د. حمدى الجابرى : المونودراما والمحبظين
جريدة "مسرحنا " العدد 88 / 16 مارس 2009 .
المصدر: http://kenanaonline.com/users/samib...kenanaonline.com/users/samibatta/posts/203415
لم تكن الهزيمة عسكرية فقط ولم تقتصر آثارها على احتلال جزء من أرض ثلاث دول عربية – فضلاً عن كل أرض فلسطين – لكنها كانت هزيمة حضارية فى المقام الأول ، هزيمة نسفت كل المشروعات القومية والطموحات البعيدة لدى المواطن العربى وتركته فى مفترق طرق يتسائل : من أين .. وكيف نبدأ من جديد ..؟
وهنا لم يجد إلا تراثه العريق يستند إليه ويستمد منه مبررات وجوده ، ويبحث فى ثناياه عن كيفية الانطلاق من جديد ..
وتمثلت مظاهر هذا الاهتمام فى تلك الدراسات الى أعقبت النكسة عند كثير من الباحثين والمفكرين أمثال د. زكى نجيب محمود و د. غالى شكرى و د. حسن حنفى و د. محمد عمارة وأدونيس ويوسف الخال و د. حسين مروة ومحمد عابد الجابرى ... وغيرهم ، وجاءت هذه الدراسات بعد لحظة غضب لما حدث دفعت البعض إلى وصف الحضارة العربية بأنها حضارة الغربان والرمال ..
والواقع – على ضوء الأحداث المعاصرة – أن هذا ليس السبب الوحيد الداعى إلى اللجوء للتراث ، لكن هناك دواعٍ أخرى تدفع الإنسان إلى هذا اللجوء ، فجميع الشعوب الآن تخشى ما يطلق عليه مصطلح " العولمة " الذى يعنى تهديداً للثقافات المحلية الوطنية لكل الشعوب والتى أسرعت تحت ضغط الخوف من الذوبان فى ثقافة عالمية إلى تراثها الوطنى تجمعه وتؤرشفه وتستلهمه حتى فى حياتها اليومية فضلاً عن فنونها وآدابها ..
ولأن المسرح وعلاقته بالتراث هو موضوعنا ، فلتكن البداية من بدء دخول المسرح كعنصر ثقافى فاعل فى مجمل الثقافة العربية ، أو منذ بدأ الرواد الأول فى ممارسة المسرح كفن يلتقى بالجماهير وتلتقى به فى مكان محدد يتم فيه التفاعل بين الطرفين ..
لقد فطن رواد المسرح الأوائل إلى غربة الشكل المسرحى الغربى ، وإن كانوا مدركين لقوانين فنون الفرجة الموروثة بأشكالها المتعددة كخيال الظل والسامر والحلقة ، لكن الأمر اختلف الآن فمساحة الإرتجال قد تقلصت ، وتحددت طريقة جلوس الجمهور وغير ذلك من تقاليد المسرح الأوروبى .. هذا من جهة الشكل الخارجى ، أما من جهة المضمون الفنى والأخلاقى فلابد من توجيه رسالة تتفق وتقاليد المشاهد وثقافته فاضطروا إلى التمصير ، وخاصة الرائدين مارون نقاش ويعقوب صنوع لمعرفتهما باللغة الفرنسية أما أحمد أبو خليل القبانى فلم يكن يجيدها فلجأ إلى المصدر الآخر الذى اغترف منه المسرح العربى وهو التراث بما يحتويه من حكايات وخاصة كتاب ألف ليلة وليلة .. وهذا لا يعنى أن كلاً من النقاش وصنوع لم يلجآ إلى التراث ، باعتباره المصدر الشامل الذى وجدوا فيه ضالتهم لأنه يمثل مقومات الأمة واستمرارية تميزها ولأنه " شيئ قائم فينا وهو ذاتنا التى تنادينا من وراء العصور، وأن العودة الفعلية إليه بقصد الاكتشاف أو المعرفة والتعرف ينبغى أن تكون طريقاً لتنميته والامتداد فى المستقبل بقيم متطورة عنه ، مستلهمة رؤاه ، مستمدة حوافزها من كثير من حقائقه مضافة إلى حقائق عصرنا" (1) .
ويعد هذا اللجوء إلى المصادر التاريخية والشعبية من جانب هؤلاء الرواد نوعاً من التحدى للمسرح الغربى بصيغته الأرسطية ، بل ويمكن النظر إليه كشكل من أشكال المواجهة فى إطار الصراع الثقافى الحضارى الذى يخوضه المجتمع بكل فئاته ضد المستعمر الذى يأمل فى فرض ثقافته ويحاول طمس الثقافة الوطنية حتى تقل مقاومته .. ويؤكد هذا الإستنتاج أن التوجه للتراث والتاريخ لاستيحاء بطولاته وأمجاده يعكس نوعاً من المواجهة الضمنية ، ذلك أن المبدع المسرحى يلجأ إلى إحياء هذه البطولات والأمجاد لاستنهاض الهمم وبث الحماسة كأدوات للمقاومة خاصة فى ظل رقالة مشددة من قبل السلطة والتى يؤدى ممارستها للقمع إلى الهروب واللجوء للتراث للتخفى وراءه ..
والنماذج التراثية والتاريخية التى لجأ إليها هؤلاء الرواد تدل على صحة الفرض القائل بوجود علاقة بين التراث وحالات الإنكسار والهزيمة ، فمنذ نهايات القرن التاسع عشر نجد - مثلاً لا حصراً - مارون النقاش يقدم مسرحية " أبو الحسن المغفل" سنة 1848 وأحمد أبو خليل القبانى يقدم مسرحيات " هارون الرشيد مع غانم بن أيوب وقوت القلوب" و" هارون الرشيد مع أنس الجليس" من وحى ألف ليلة وليلة ، ومسرحيات " مهلهل سيد ربيعة " و" عنترة العبسى" من وحى السير الشعبية ، و" كسرى أنو شروان" و " امرؤ القيس" من وحى التاريخ وذلك فى الفترة من 1865 إلى 1874 ، كما قدم اسكندر فرح مسرحية " كليوباترا " ثم قدم أحمد شوقى مسرحيات " على بك الكبير" و" مصرع كليوباترا " و" قمبيز" من وحى التاريخ ، كما كتب من وحى التراث الشعبى مسرحيات "مجنون ليلى " و " عنترة " و" أميرة الأندلس" ، ثم قدم فرح أنطون مسرحيتيه " صلاح الدين " و" مملكة أورشليم" سنة 1914 ..
وليس ما قدمناه آنفاً تأريخاً للحركة المسرحية بقدر ما هو مسح سريع لنماذج التاريخ والتراث التى شغلت وانشغل بها المبدعون فى مجال المسرح وبنظرة سريعة أيضاً لهذه النماذج نجد أنها تمثل نموذج المخلص / المحرر / الموحد ( عنترة – صلاح الدين – على بك الكبير..) وهى بالطبع ضد نماذج الظلم / العبودية والاحتلال / التفرق والتشرذم ..
ومن المهم – ولو عرضاً – أن نتوقف قليلاً أمامها لنرى كيف تعامل المبدع مع هذه العناصر التراثية والتاريخية ، فمن خلال القراءة ومشاهدة إعادة لبعض هذه العروض والتى قدمتها فرقة المسرح المتجول كعملية تأريخ للمسرح المصرى فى فترة الثمانينيات بإشراف المخرج الراحل عبد الغفار عوده ، ومن خلال الندوات التى كانت تصاحب هذه العروض نجد أنها تعاملت مع التراث كمادة تاريخية جامدة اتسمت معالجتها بالمباشرة والسطحية وبدا التاريخ والتراث عندهم مجرد معارف ومعلومات يرددونها بأسلوب يغلب عليه طابع التنميق اللغوى وإقحام الخطب الرنانة بهدف التأثير القوى لبث الحماسة والحمية فى القلوب والصدور وهو على أية حال هدف نبيل يغفر تقعر اللغة وسذاجة المعالجة ، لكنه لا يغفر المباشرة والسطحية - التى لم تكن مقصودة – لكنها جاءت نتيجة لعدم وجود الخبرة فى التعامل مع التراث بشكل ديناميكى بما يجعلهم يحتوون التراث بدلاً من أن يحتويهم ..
من هنا نشأت الدعوة إلى نقد العقل العربى عند التعامل مع التراث حتى لا تكون الذات جزءاً من هذا التراث ، لأن فصل الذات عن التراث كفيل بربط العلاقة بينهما بشكل عقلانى وبالتالى كفيل بتكوين تصور موضوعى عن هذا التراث نفسه كما يقول محمد عابد الجابرى ..
ونعنى بهذه الملاحظة - استعراض الأحداث التاريخية كما وقعت بالفعل ، وتناول الشخصيات البطولية فى سياقها الزمنى المحدود و الخاص بها - أنه لم يكن هناك تحوير للحدث ليصبح فاعلاً مع الحاضر وهو ما يعد الهدف الأساسى للعودة إلى التراث ، وخلق علاقة جدلية بين الحاضر والماضى والربط بينهما مع الحفاظ على المساحة الفارغة التى تحقق التصور الموضوعى للتراث ..
المسرح العربى بعد نكسة 1967 :
بد أ المسرح العربى بعد 1967 مرحلة جديدة إذ أخذ يشارك فى حوار الأمة كلها ، ذلك الحوار الذى وضح فى هذا التساؤل الكبير : من نحن ..؟ إلى أين ..؟ كيف..؟ لأن المسرح أداة ثورية بالغة الأهمية من أجل تجاوز الهزيمة والتمزق والتخلف ، ومن أجل لقاء الانسان العربى بأخيه العربى ، والمسرح بهذا التلاقى يمكن أن يتجاوز الحدود المصطنعة فى الوطن العربى (2) ..
وتمثل هذا الاتجاه الجديد - الذى نشأ وسط علامات استفهام كبيرة تطالب الجميع بالرد - فى محاولة الرد على التساؤل الأول " من نحن ..؟ " عبر شكل مغاير من حيث اختيار مناهج التداخل والمباعدة والاغراب وكسر الحائط الرابع كما فى المسرح الملحمى والتعليمى والتسجيلى بصيغه الحديثة ..
وكان الرد بسيطاً وتلقائياً .. فنحن السامر والمحبظاتية والحلقة ، نحن خيال الظل والقره قوز والمخايلين ، نحن ألف ليلة وليلة وحكايات السهارى ، ونحن أيضاً التاريخ والحضارة ..
كانت هذه هى البداية فقدم سعد الله ونوس " حفلة سمر من أجل 5 حزيران " مستخدماً شكل الحلقة لطرح قضيته وتساؤلاته على الناس داعياً إياهم للمشاركة فى الحوار :
م 1 : هل حقاً نحن المسؤولون .. ؟
م2 : (ينتفض فجأة وكأنه اتخذ قراراُ ، حركة مليئة بالحيوية ، يمثل ما يقول )
تقول هى المرآة .. حسن ، لتنصب المرآة أمامنا هنا (يرسم مستطيلاً فى الفراغ )
سنضعها فى مواجهتنا ..مرآة كبيرة ترسم قاماتنا مهما علت ، وسننظر فى جوفها
جيداً .. سننظر (يلتفت إلى المتفرجين) لكى نتحمل المسؤولية ، ألا ينبغى أن
نكون موجودين ..؟
م 1 : ليس وجودنا هو السؤال الجوهرى ..بل نوعية هذا الوجود (بعنف) لنعترف أننا
المسؤولون .. نهرب؟ نتخلص من رائحة شيئ كريه يفوح بيننا وحولنا ..
م1 : قبل أن نلقى على أنفسنا الأحكام ، من الأهم أن نعرف من نحن ؟ ما هى هذه
المرآة (يعود فيرسم مستطيلا فى الفراغ) تعالوا نسألها من نحن ..؟
م3 ،4 ،5 : (بصوت واحد) حقاً .. من نحن ..؟
وفى نفس المسار وللإجابة على تساؤلات الأمة توالت الأعمال المسرحية فقدم ألفريد فرج " النار والزيتون " وعبد الرحمن الشرقاوى " وطنى عكا " ومعين بسيسو " ثورة الزنج " وسعد الدين وهبة " المسامير " و " يا سلام سلم الحيطة بتتكلم " و " رأس العش" .. واتخذ الشرقاوى من شخصية الحسين بطلاً دراميا معبراً عن اللحظة فقدم " الحسين ثائراً " و " الحسين شهيداً " ثم قدم ثلاثية " النسر الأحمر " و " النسر والغربان " و " النسر وقلب الأسد " .. ويعرض محمد على الخفاجى لشخصية الحسين أيضاً فى " ثانية يجيئ الحسين " وكذلك محمد العفيفى فى " هكذا تكلم الحسين " .. كما قدم محمود دياب مسرحيته " باب الفتوح " وفتح بها باباً لمناقشة مفهوم البطولة وعبر فيها عن رأيه فى أن البطولة الحقيقية هى البطولة الجماعية لا بطولة الفرد ..
والملاحظ أيضاً على النماذج التى طرحت فى هذا الجو المشحون بالغضب أنها نماذج للشخصيات المتمردة الثائرة كرد فعل لحالة الإهتزاز التى أصابت الجميع فى تلك الفترة العصيبة من التاريخ العربى ..
والملاحظة الأكثر أهمية فى هذا الصدد أن الاعتماد واللجوء للتراث فى تلك الفترة فى الابداع المسرحى لم يقتصر على الموضوع فقط ، بل تعداه إلى الشكل والصيغة أيضاً ، فلجأ المبدع المسرحى إلى الأنماط التراثية كقالب جديد مستمد من القالب القديم كشكل الحلقة الذى استخدمه سعد الله ونوس فى حفلة سمره من أجل 5 حزيران عندما حرض الجمهور – الذى يؤمن بأهميته كعنصر من عناصر العرض – موحياً إليه أن يكون وقحاً يقاطع العرض إن حاول تخديره أو يتدخل ليلقن الممثلين درساً عن المجتمع إن كانوا يهربون منه ومن همومه وهو ما دعاه بالمسرح المفتوح أو مسرح التسييس .. وتذكرنا هذه الدعوة بمقاطعة العرض بما رواه الرحالة الدانمركى " كارستين نيبر" عن ذلك العرض التمثيلى الذى شاهده فى مصر عام 1780 ويصفه قائلاً " كان دور الشخصية الرئيسية وهو دور سيدة يؤديه رجل يتزىّ بزى النساء تجتذب إلى خيمتها بعض المسافرين وبعد أن تسلبهم أمتعتهم تطردهم تحت ضربات العصى وخلال التمثيل وبعد أن كانت السيدة قد جردت الكثيرين من ملابسهم قام شاب أزعجه تكرار هذه الحادثة السخيفة وصرخ معلناً استنكاره ، وتبع الشاب بقية المتفرجين وأعلنوا استنكارهم بدورهم وأجبروا الممثلين على التوقف ولم تكن المسرحية قد شارفت نصفها بعد " ، وكذلك رأى محمود دياب فى شكل السامر وسيلة لطرح قضايا خطيرة كالصراع الاجتماعى فى مسرحية " ليالى الحصاد" ، وأيضاً نجد ألفريد فرج يسعى إلى تأكيد المسرح الاحتفالى الشعبى فى مسرحيتيه " على جناح التبريزى وتابعه قفة " و " حلاق بغداد " ، وبلغ الاهتمام غايته فى تسميات الفرق الفنية نفسها مثل " فرقة الحكواتى " و " مسرح السامر" و " وفرقة الفوانيس" و " مسرح القهوة " و " جماعة المسرح الاحتفالى " ..
وبالإضافة إلى ما سبق ، يمكننا أن نحدد بعض النقاط التى تعتبر من أسباب لجوء المبدع المسرحى إلى التراث عامة والتراث الشعبى خاصة فيما يلى :
أولاً : جاء تعامل المسرح العربى مع التراث نتيجة لحملات التشكيك التى انصبت عليه إلى جانب التهميش والغربة التى لحقت بالصيغ الشعبية الاحتفالية من لدن الفكر الاستعمارى لأنها تعكس الذاكرة التراثية وتنلك بعداً جمالياً شعبياً خاصاً على مستوى التواصل مع الفئات الشعبية العريضة ..
ثانياً : يعتبر التراث الشعبى عاملاً رئيسياً فى نجاح العرض المسرحى لما له من رصيد فى نفس ومخيلة المشاهد مما يحقق التواصل بين المبدع والمتلقى ، ويبدد الغربة بين العرض والمشاهد منذ اللحظة الأولى ..
ثالثاً : التراث يوفر للكاتب الحماية والوقاية من سطوة السلطة حيث يجد فيه الرمز الذى يعلق عليه قضاياه خاصة تلك التى لا تسمح الرقابة بطرحها ..
رابعاً : التراث يوفر للكاتب أيضاً بعداً وجودياً فهو يلجأ إليه من أجل تحقيق الذات نتيجة الاحساس بالدونية أمام الآخر ..
وهذا العامل الأخير – ربما – كان من الدوافع التى دعت إلى البحث عن صيغة عربية للمسرح على نحو ما فعل يوسف إدريس وتوفيق الحكيم فى الستينيات بعوتهما إلى البحث عن قالب مسرحى نابع من صميم التراث الشعبى ، وفى هذا الإطار تم تقديم بعض الأعمال المتفرقة غلبت عليها النزعة الفردية ولم تشكل تياراً فى مسيرة الحركة المسرحية العربية ..
(1) ماجد السامرائى: التراث منطلقنا للمعاصرة ،الأقلام ،ع 9 ، 1978 .
(2) د. أحمد العشرى : المسرحية السياسية فى الوطن العربى،إقرأ ،ع 516 ،1985
(3) د. حمدى الجابرى : المونودراما والمحبظين
جريدة "مسرحنا " العدد 88 / 16 مارس 2009 .
المصدر: http://kenanaonline.com/users/samib...kenanaonline.com/users/samibatta/posts/203415