محمد البنا - قراءة نقدية للقصة القصيرة "رابطة عنق" للكاتبة: أمل المنشاوي

1- القصة

سأحكي لك كل شيء...اليوم عيد زواجنا الخامس عشر، اختارت زوجتي رابطة العنق هذه لأنها تليق على البدلة الرمادية، أما أنا فاخترت تلك الحمراء، بلون الدم.
تتهمني زوجتي دائما بقلة الخبرة والذوق في اختيار الألوان والملابس ، بل .. في اختيار أي شيء، كانت تتهمني وحسب.
تقوم هي بالأمور التافهة وتؤديها على أكمل وجه، تركت لي المهام الصعبة وتحملت هي عبء شراء الملابس والتموين ومتابعة الأولاد في البيت وفي المدارس وفي النادي، ودفع الايجار والكهرباء والغاز، ودعوة السباك و النجار والنقّاش والحداد إذا لزم الأمر، كل تلك الأمور التافهة كانت تؤديها هي دون تدخل مني، أما أنا فكنت اقوم بالمهام الصعبة... الصعبة جدا.
وقفت مستسلما وهي تعدل رابطة عنقي وولدي الصغير يراقبنا وعلى وجهه ابتسامة متوجسة
_ لا تتكلم في أمورك التافهة التي تصدّعنا بها، مالنا نحن بحقوق العمال وحرية الرأي في الصحافة!
قالت بعصبية وهي تحكم عقد أزرار قميصي، أومأت مستسلما فقالت بنبرة محذرة:
_ابن خالتي مرشح لمنصب وزاري، لا تكن سببا في استبعاده
ابتسمت لصغيري المرتاب فقالت بإصرار
_ فاهم
_ فاهم ... قلت مطمئنا لها ثم فتحت ذراعي لصغيري لينام بين احضاني، اعترضت طريقه وسحبته إلى حجرته لتلبسه حلته الجديدة، أتأملني في المرآة، قلت بحنق
_ أحمله بداخلي،،، يقف مستسلما كعادته كل صباح وهي تعدل رابطة عنقه قبل خروجه للعمل، وأنا في ركن الغرفة أرتب ألعابي، تمطره بوابل من التأنيب اللاذع على إهماله في مظهره، وما يسببه لها من إحراج أمام أهلها ذوي الأصول الملكية التركية، يصفق الباب خلفه بعصبية فتلقي بجسدها النحيل على أقرب مقعد وتظل تنتحب تنعي حظها العسر، أقترب منها و الحزن يعتصرني فأمسح دموعها، تضمني وتقول بصوت باك مرتعش " لا تكن مثل أبيك"
لم أكن يوما مثل أبي، عشت أربعين عاما أفعل ما تأمرني به وأرفض ما يفعله هو.

كانت كلما غضبت مني تصفني بأنني صورة منه، يقف حائرا لا يدري ماذا يفعل، يصفني بالحماقة والضعف، أكرهه وأعجز عن إرضائها.
_ لا أحب رابطة العنق .... مثله
_هل لذلك قتلتها؟
انتبه كأنما كان في هوة سحيقة ورد ببلاهة :
_ من ؟... أمي؟!
#أمل
..........
القراءة
............
أولاً:
عندما نتناول نصًا مركبًا كهذا النص الذي نحن بصدده؛ نرى من الضروري تفكيك المتن للوقوف على الشخصيات أولا، ومن ثم ننطلق لنصوغ رؤانا النقدية وفق منهجية نقدية تلائمه من حيث النوعية السردية التي ينتمي إليها؛ نفسية كانت أو فلسفية أو اجتماعية أو أو أو.
ولتفكيك المتن تباغتنا جملة الاستهلال ببريقها الساطع كما البرق في كبد ليلةٍ مظلمة..
( سأحكي لك كل شيء )...ومنها يتبين لنا أننا أمام راو ( ضمير المتكلم ) ومخاطب ( محقق على الأغلب كما سنستشف من السياق السردي لاحقا )، والحدث / تهمة ما.
الوقفة الثانية نجدها في (- لا تتكلم في أمورك التافهة ..) هنا تحول الراوي إلى مخاطب، وظهرت الزوجة ماديًا بعد أن كانت معنويًا - محكي عتها- فيما سبق هذه الجملة الحوارية، أيضًا يظهر لنا الابن ماديًا (وولدي الصغير يراقبنا وعلى وجهه ابتسامة متوجسة).
الوقفة الثالثة: وهى وقفة مفصلية فارقة وناجزة ( أحمله بداخلي ..) هنا انتقل الديالوج ( الراوي وزوجته) إلى مونولوج ( الراوي لنفسه فيما يشبه التداعي الحر)، ويمكن أيضا اعتباره عودة للديالوج مع المحقق، وكلاهما صحيح ويتماشى مع السردية ولا يخالفها.
والسؤال الفطري الذي يتبادر إلى ذهننا تلقائيًا..من ذلك الشخص الذي يحمله داخله؟، لنجد الإجابة فورية في الجملة التي تليها ( يقف مستسلما كل صباح وهى تعدل رابطة عنقه...) ومنها ومما يليها يتبدى لنا ظهور معنوي لشخصيتين أخريين ( والده/ والدته...بينما كان هو " أنا في ركنٍ من الغرفة أرتب ألعابي")
هذه الوقفات الثلاث تحدد لنا بوضوح الشخصيات الواردة في المتن على النحو التالي
١- الراوي ( ضمير المتكلم)
٢- المحقق ( ضمير المخاطب )
٣- الزوجة ( زوجة الراوي)
٤- الولد ( ابن الراوي والزوجة)
شخصيات اعتبارية أو معنوية
١- الأب ( أبو الراوي)
٢- الأم ( أم الراوي).
كان هذا التجزيئ السردي أو تفكيك المتن ضروريًا للولوج إلى فحوى المتن وسبر أغواره، والوقوف على محطاته النفسية والاجتماعية ( التربوية ) من مدخل سليم.
ثانيًا:
نحن أمام شخصية مريضة نفسيًا؛ أدى تمكن المرض منها إلى جريمة قتل مادية ( الزوجة ) ومعنوية ( الأم )، فالزوجة نسخة كربونية من الأم التي هي أساسًا مسبب العقدة النفسية لدى الراوي أثناء طفولته، ويليها مباشرة - كمسبب ثان للعقدة- الأب باستسلامه وضعفه وانهزاميته وتقاعسه عن أداء مهامه وواجباته كزوج مسؤول؛ ارتضى بتوافه الواجبات وألقى على عاتق زوجته كل ما هو مفترض شرعا ومجتمعا وأخلاقًا أن يقوم به هو وليس هي.
نشأ الطفل ( الراوي ) نسخة من أبيه امتثالًا للمثل الشعبي ( من شابه أباه فما ظلم )، وبالتالي مكررًا النمط الانهزامي التقاعسي، وترتب على ذلك حيود الزوجة طوعًا أو كرهًا إلى أن تكون نسخة كربونية من حماتها ( أم الراوي)، وفي الانتظار ...ابن يتابع!!
هنا نحن أمام نمطين مكررين ( أب/ أم)، ( زوج/ زوجة )، إلا أن الابن فعل ما عجز الاب عن فعله، وما فعله ليس مبررًا بالطبع ولكنه ناتج تعاظم المرض لديه، إذ أراد التخلص من مرضه- مخافة انتقاله لولده- بالقضاء على مسبباته ( الزوجة، والأم معًا )!
الخطاب السردي : نجحت الكاتبة بيسر في تبليغ رسالتها التربوية الهادفة إلى ضرورة الإلتزام في العلاقة الزوجية خاصة كلٌٍ بواجباته ومهامه الموكلة إليه شرعًا ومجتمعًا وقانونًا وقبل كل ذلك أخلاقًا، فاختلال ميزان العلاقة مفسدة ما بعدها مفسدة، وفساد الأسرة فساد مجتمع لا محالة.
الأسلوب : في هكذا نصوص نفسية يستحب أن تكون اللغة بسيطة ومطواعة للمتلقي بما ييسر له التركيز على الحدث، وعدم الانشغال ببلاغة أو استعراض لغوي، خاصة وأن القصة في إطارها المشهدي ( محضر تحقيق شرطي).
التقنية السردية والمعالجة : اعتمدت الكاتبة هنا تقنية التدوير السردي مطعمًا بتقنية تيار الوعي السردي( استدعاء ذاكرة/ تداعي حر ).
الاستهلال : ( سأحكي لك كل شيء ..) دخول مباشر قوي جاذب مشوق لمتابعة القراءة
الخاتمة : مذهلة تلك الخاتمة تعود بالقارئ قسرًا إلى معاودة القراءة مرة ومرات.
العنوان : معادل موضوعي تام وناجز وتوظيف رائع ل ( ربطة العنق ) بإضافة ( أ ) لتصير ( رابطة عنق ) وي! كأنها حبل مشنقة وليس أداة تزين وتجمل وهندمة.
التصنيف : قصة قصيرة حداثية ( نفسية)
تحياتي لك أستاذة أمل، نصٌ رائع بكل المقاييس



* قراءة نقدية للقصة القصيرة الفائزة بالمركز الأول بمسابقة القصة القصيرة بالمنتدى العربي للنقد المعاصر ( دورة الأديب محسن الطوخي )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى