دارت علي حساب مدرسة المتسولين مجموعة من الحكايات المدهشة جدا.
وأصل هذه الحكايات يعود لنقاش دار منذ فترة- في مقهي الباشا- بين مُعلم التسول أبوشاوالي والمثقف توفيق جاد. لأنه وعلي إثر هذا النقاش الذي تجول بين تفاصيل لا حصر لها، بصدد التجديد المزعوم، في جماليات النظام، سوف يصبح- علي ما يبدو- فن طلب الإحسان ثوريا، في كل مكان. وذلك كان يستدعي افتراض الأشياء الأصعب تصديقا. فالتحييز المثير للاشمئزاز من البعض والانتقادات الضارية من البعض الآخر كانا يجدان هنا مادة للممارسة. وسكان أرض الثعابين، الذين هم جميعا مسعورون بشكل رهيب، قد استفادوا من وضع غريب كهذا ليحدثوا فضيحة ضخمة، حيث تفرُّد الكارثة كان يغويهم. ثمة خطأ نفسي كان قد جعلهم يأخذون هذه القضية المؤسفة مأخذ نكتة عظيمة. فهم أناس لا يسعون للبحث في جوهر الأشياء، ويقنعون بأن يستخلصوا منها نتائج مبتسرة ودائما ذات طبيعة فضائحية. كما أنهم شغوفون بالشجارات التي لا نهاية لها، وبسوء الفهم غير القابل للعلاج وبكل ما يقلب الحياة بلا نهاية. كيف سيخطر ببالهم أن اختلافات الرأي التي قامت بين أبو شاوالي والمثقف توفيق جاد كانت تخفي مشكلة اجتماعية واسعة النطاق ؟ علي الأرجح، واحد منهم فقط كان قد أدرك كل ذلك، لكنه فودة الساحر رجل شديد الغموض وبخصوص تدخله لا نستطيع أن نعول عليه علي الإطلاق. باختصار، كنا نتوقع الأسوأ، عندما فسدت الأمور بطريقة مفاجئة وأوشكت أن تتحول لدراما.
إنه يوم كالأيام الأخري: بطيء، شرس وجائع للضحايا البشرية.لا أحد يستطيع أن يقول أي نوع من الأهوال تستعد للولادة، ولا يستطيع تحديد نوع المصائب الجديدة التي تهدد حياة البشر. لقد بدأ البرد منذ فترة طويلة مهمته المؤذية. لكن- الآن- القلق الوحيد يأتي من كتلة السحب هذه، التي تتسكع متثاقلة، ومن خلفها كانت الشمس شاردة تماما.
مدفون اليدين في جيوب قفطانه، يعبر أبو شاوالي درب الطفل الذي يبول، بهيئة متجهمة ومُهَدِدة بجثة متجولة. يطرف بشكل دائم بعينيه المريضتين ويتوقف من حين لآخر للتفكير. إنه عجوز عمره ستون عاما، أشعث اللحية ذو وجه شاحب وهزيل. يطفو شال كبير رث علي كتفيه النحيلتين كجناحين مخيفين لطائر جارح. وساخته لم تقدم أي شيء مميز ؛ إنها تتوافق مع المحتوي القاسي الذي يحوطه. في كل خطوة، كان يخاطر بالانزلاق في برك البول اللانهائية، الممتدة هناك كفخاخ فاحشة. درب الطفل الذي يبول يؤدي إلي مدرسة المتسولين. إنه الدرب الأكثر فقرا والأكثر ضيقا في المنطقة. وأكواخه أكثر بؤسًا وأكثر قذارة من أي مكان آخر؛ فبراميل النفط القديمة التي تُشَكِلها متصدعة وصدئة لأقصي حد. فهي تبدو علي استعداد تام للانهيار، لكن الفقر الذي بناها بيديه المتوحشتين ترك عليها بصمته الخالدة. كائنات حية تسكن هنا؛ أصواتها الكهفية تدوي وتملأ الجو بتهديدات غريبة. الروائح الكريهة للِمنازعات والشكاوي الدنيئة تترشح عبر الفواصل القاتمة. في كل مكان تتكشف العلاقات الحميمية البشعة الممددة و بلا أمل. بعض أواني الطبخ متناثرة علي الأرض، والتي يتنصل منها أصحابها كأشياء نجسة وغير مفيدة. النفايات -التي لا تحصي من أجيال عديدة ماتت و نُسيت - تزدهر بطول هذا الدرب الملعون. إنها نهاية العالم؛ لا يمكننا الذهاب بعيدا. هنا وجد البؤس الإنساني مقبرته.
فجأة يتوقف أبو شاوالي ويطرف بعينيه. تتخلص الشمس من كتلة السحب وهذا الإفراط المفاجيء للنور يشعره بخطر ينجم عن وضوح الأشياء.
يبدو له الخطر في شكل لون مشرق، مثمر بشكل فريد، ويشبه جرحا مفتوحا في الأرض السوداء والبائسة. يبدو أن ذلك يتطور في فضاء ضبابي، كالحلم لا يمكن الإمساك به. يقترب أبو شاوالي بحذر ويبقي لفترة طويلة يتأمل هذا الضوء الأرجواني المتدفق عبر بشاعة المادة غير القابلة للتدمير، والتي توجد ممثلة في مجرد رداء قطني أحمر. لكن الذي لا يستطيع فهمه بعد، وجود هذا الرداء علي جسم الصغيرة نوس؛ واحدة من أفضل تلاميذه. أنه شيء ما غيرمسبوق كالظهور المفاجيء لحماقة جماعية.
حينئذ تذكر أبو شاوالي أن الصغيرة نوس لم تظهر في المدرسة منذ عدة أيام. كان يظن أنها مريضة أو ببساطة ماتت. وها هو يقابلها الآن في زينة صاخبة، فالوجه نظيف، مبتسم،و ربما أيضا مخضب. في النهاية طريقة غريبة لجلب نظر المحسنين. انحني أبو شاوالي، أمسك بذراع الصغيرة نوس وشرع في جره، يود بهذه الحركة المؤذية أن يدرك حقيقتها الملحوظة. ثم أخذ يسبها بطريقة فظة وفاحشة، ويعاملها كفاجرة و كابنة داعرة. عندئذ بكت الصغيرة نوس و أخذت تطلق صيحات حتي أن أم عاكوش، أمها، ظهرت علي عتبة كوخها. إنها ثرثارة بغيضة، لا تقهر كالجداروالتي نشهد لها كبطلة للعديد من المشاجرات الدامية، حيث إن بعض الرجال مع أنهم ليسوا ضعافا كانت تدوس عليهم وتعرضهم للعار في كل مكان. أنها تصل كبحر هائج.
رآها أبوشاوالي تأتي نحوه، أغلق عينيه و كأنه يهرب من رؤية كارثية.
- إنها ابنتي التي تعاملها كبنت داعرة، يا خرفَان يا عاجز؟
هز صوت أم عاكوش الدنيا. صوت غير محدد الجنس، مرعب كالموت.
- يا أم عاكوش - قال أبو شاوالي - ماذا تسمين هذا ؟ والله إنه لعمل مخفق. ماذا تفعل ابنتك بهذا الزي ؟ سوف تجعلين منها عاهرة؟
- أنت العاهر. أتعتقد أن كل الناس مثلك؟ أيها المؤخرة القذرة ! هيا، فلتترك الصغيرة هادئة. لا تحتاج لنصائحك الوسخة. يا ابن المتسولة.
يريد أبو شاوالي الانسحاب من المعركة، لكن وعيه مشغول بصراع غير متكافئ. إنه يدافع عن فكرة اجتماعية. خلفه كل كتلة البؤساء. طفل يتبول ليس ببعيد عن هنا، بصوت رشاش. تلعب أشعة الشمس في برك البول.
- فلتوضحي لي. ماذا تعني هذه المسخرة. أأصبحتي مجنونة، أيتها المرأة؟
- ماذا تريد أن أوضح لك، أيها العجوز الخرفان. هل نحن مدينون لك بشيء ما؟
- من ابن الكلب الذي علمك أن تتحدثي هكذا، أيتها المرأة الجاهلة؟ إنها لغة أناس شبعين. لكنك عما قريب سوف تموتين من الجوع مع أولادك. لا تأتي لتحكي لي إذن حكاياتك. لن أستمع لك.
- ومن يريد التحدث معك، أيها المتسول القذر؟ هل نحن بحاجة لمعرفتك؟ تعالوا اسمعوا، يا ناس،هذا العجوز المعفن الذي يتجرأ ويسب امرأة شريفة.
بالضبط في هذه اللحظة، تختفي الشمس وراء كتلة السحب، وظل رطب يمتد في كل مكان علي الأرض. ينظر أبو شاوالي لفستان الصغيرة نوس، الذي يبدو الآن فاقد البريق،أقل إشراقاً مما كان عليه تحت أشعة الشمس. ذلك أفقرها إلي حد ما لكنها لاتزال تحتفظ بطابعها ذي البريق الفانتازي. إنه فستان من القطن أحمر اللون، تزينه زهور صغيرة صفراء. يري فيها أبو شاوالي تحديا حقيقيا لكل الأعراف السابقة، لكل مباديء التسول الثابتة. جعلته جرأة هذه الخيانة يفترض أخطار أخري، أكثر اتساعا، أكثر لياقة. يشعر بالدوار، بالمعني الحرفي غمرته رائحة البول النفاذة هذه، المفرطة في السخاء، والتي تؤثر عليه كالمخدر.
يبدو أن الشمس قد اختفت للأبد. بالقرب من أحد الأكواخ رجل يجلس علي كرسي مطبخ، يُفلي من القمل بلا مبالاة. تمر امرأة، تحمل بستلة ماء متوازنة علي رأسها. لم تكن متعجلة؛ تمر ببطء ويلاحظ أبو شاوالي إنها حامل.
- سأتركك، أيتها المرأة المنحرفة، قال في النهاية. ماذا يمكنني أن أقول لك؟مخك يشبه مخ جاموسة. وبالنسبة لهذه المستحدثات الزائلة، أبصق عليها.
ويبصق في اتجاه الصغيرة نوس.
- يا سفاح، تصيح أم عاكوش. تعالوا يا ناس لتروا، قاطع الطريق هذا الذي يهاجم البنات الصغيرة.
في البداية كان شجارا فاقدا للوعي، و لم يكن يبدو خطيرا. ثم تُسمع بعض الصرخات، مدعومة بموجة من اللعنات القاتلة،حيث يميز المرء بقلق صوت أم عاكوش القاسي. ثم أصبح الشجار أكثر كثافة، أكثر عتوا، كما لوكان اصطدم بقوة هائلة. حينئذ فهم أهل المنطقة أن هذيانا انفجر في مكان ما وتسارع جميعهم باتجاه مكان الشجار. دون السؤال عن أي شيء، دون أن يشغلوا أنفسهم بالسبب، تدخلوا في الموضوع، ثم أطلقوا الشتائم وأوجدوا التباسا غير مفيد وغير قابل للعلاج.
لا يعرف أبو شاوالي كم استمرت حفلات الزفاف المؤلمة هذه، ولا كيف خلص نفسه و تمكن من الهرب.
توجد مدرسة المتسولين في نهاية درب الطفل الذي يبول، في مكان يُدعي ميدان النخيل. إنها كوخ حقير قديم في حالة من الانهيار، غارق علي نحو فظيع في الأقذار. وفي نفس الوقت يستخدم كمسكن لـ أبو شاوالي، والأسبوع الماضي تم اكتشاف ثعبان ذي طول مروع فيه، والذي فشل - بالموت المبكر- في كسر سيرالعملية الدراسية للعديد من المتسولين الصغار. ومنذ ذلك، أصبح جميع المتسولين الصغار حذرين وينظرون من حولهم بعيون قلقة. فالمكفوفون أنفسهم يتعلقون بزملائهم، ينتظرون لحظة ليلوذوا بالفرار. إلا أن الثعبان لم يظهر ثانية ؛ نعتقد أنه قد اختبأ عند فوده، الساحر، لأننا رأينا هذا الأخير يجوب الأرض باحثا عن أطعمة غريبة.
في الداخل، يعرض الكوخ مظهرا لكهف مروع وكئيب. أبوشاوالي جالس، مطوي الساقين، علي سرير حقير يغطيه العديد من الخرق، والتي يبدو بها مرصعا. من مكانه يسيطر علي لفيف المتسولين الصغار، الجالسين القرفصاء في أوضاع مستسلمة بشكل غريب. يغوص نظره بين هذا الركام من العراة المشينين و الأسمال الكريهة.و في يده اليمني، يمسك عصا يعنف بها هذه الأجسام الصغيرة الحزينة، يوجههم وأحيانا يمنحهم ما يشبه الحياة. لم يبدأ بعدُ درسَه. فالصدمة التي شهدها جعلته يتأمل ومنعته من توفير الثروات القيمة من تعليمه. لم يتعافَ من ذلك بعدُ. وفي بعض الأحيان، يقول بعض التهديدات المريبة ضد كائنات لا مرئية، حيث الشر يبدو زائدا عن الحد. يكرر- كثيرا وبكراهية - السباب الذي يمنحه هيبتة وكرامتة كمربٍ.
إذن هذا الملعون توفيق جاد ابتكر طريقةً جديدةً لطلب الإحسان، طريقةً لا إنسانية وفانتازية، ليس لها أيُ علاقة بالواقع. إنها حقا شيءٌ ما من درب المستحيل؛ مسخرة، رغبة حقيرة في السخرية من الناس. فأبو شاوالي يشمئز من الفانتازيا، يتحيز للواقعية الأكثرفجاجة، والأكثر تجردا من الملاطفة، تلك التي تُمسك بحناجر الزبائن، تخنقهم وتجعلهم غير مؤهلين لأي نوع من التفاؤل. إنه يلزمه مخلوقات تجسد في داخلها أسوأ التشوهات الجسدية، ملوثة بآلاف الأمراض المعدية والتي لا يرجي شفائها. في المجمل مادة بشرية تستطيع أن تُشعرُ- بالأسي- القلوب الفاسدة والضمائر المشوهة للإنسانية الشَبِعَة. ليس فقط إشعارهم بالأسي، ولكن أيضا إخافتهم. لأن أبو شاوالي كان يحمل في داخله - متجذرة علي نحو عميق- فكرة اجتماعية مملوءة بالثورات المظلمة. وهذه الفكرة القاسية والمتصلبة لم تكن لتستطيع التصالح مع هذه الفانتازيات اللطيفة الناتجة عن عجز مثقَّف محبَط. أدرك أبو شاوالي أنه لا يوجد عدو له أكبر من هذا الرجل. ومع ذلك كانت شخصية (جاد) الغريبة تفتنه رغما عنه.
في أثناء الحوار الذي داربينهما- في مقهي الباشا- ظهر جاد غير واقعي في هذا اليوم. بدا أنه يطور في واقع غريب، والذي يرجع لتأثير الحشيش، لأنه تعوّد - لفترة طويلة -المخدرات. في ذلك المساء بدأ في حكي قصص عسيرة ثم فجأة- دون تمهيد،أعلن أن علم النفس علم رائع و أن العصر هو عصر علماء النفس. بالتأكيد لم يفهم أحد ماذا يعني ذلك، حتي علي مبارك محصل الترامواي السابق، رغم أنه رأي وسمع الكثير من الأشياء. وعندما سأله أبو شاوالي توضيحا، لم يود جاد قول أي شيء. فقط استمر في قوله أنه هو نفسه قد درس هذا العلم لمدة سنوات طوال، مما أتاح له أن يعرف بدقة روح هذه الحشود التي تتجول في الشوارع والتي تجلس في شرفات المقاهي. كما قال أنه استحوذ علي عقلية هذه الكائنات الزاخرة المتخمة- المقيمة في نعيمها المقيت - بالمعارف الغريبة والمشهورة. علي سبيل المثال، لقد فهم إلي أي مدي كانت هذه الكائنات لا تحب أن تُشوَّش في رؤيتها التفاؤلية للعالم، بواسطة العرض المتعمَد لكثير من المآسي الأليمة. تبعا له، فذلك يوقظ فيهم مشاعر ندم غامضة وتسلمهم لحالة من الشر لا تصدق. مجرد أن يأتي متسول صغير رث الثياب ليعرض عليهم مشهدَ جذامه أوعماه، يشمئزون اشمئزازا شديدا، ويتهيئون للسباب والإهانة. باختصار، هكذا تواجدت شروط التسول مختزلة في صراع لا يتوقف و يائس.
لكن المثقف جاد كان قد وجد وسيلة لعلاج هذه الحالة المشينة، التي تجعل التسول عملا عدائيا و بربريا. لقد أزال - بكل بساطة - الشفقة كوسيلة تكتيكية. متخليا عن القواعد القديمة مرسخا معطيات جديدة، لم يعد يعتمد علي مساهمة البلاءات الملموسة شديدة التفاوت. الرحمة عاطفة ميتة، ومن ثم لم نعد ننتظر أدني مساعدة. من الآن فصاعدا لا يجب أن يُثيروا الشفقة لكن التعاطف. فالتعاطف عاطفة لا تزال غير مستغلة من الطبقة المتسولة. حتي ذلك الحين، كانت تكمن قيمة المتسول في بؤسه الشنيع، جروحه المتقيحة، وساخته التي لا توصف. أيضا هذا الصنف من المتباكين غير القابلين للشفاء ذوي الآلام الصارخة والجانب الإنساني يجب أن يختفي ويمنح مكانا لحشد من مخلوقات صغيرة ترتدي ملابس كعرائس من الحلوي ، وذات أوضاع بسيطة وساحرة. من خلال وضعهم وحركاتهم المملوئَين برقة غريبة، سوف يُنشئون لدي الزبائن تيارا من التعاطف، سرعان ما يكافئوا، لأنه لا شيء يرضي الإنسان الشَبِع كالعرض الذي يثيره عاطفيا بشكل لائق، دون توسيخه أو إفزاعه. بالتأكيد كل الحمقي العاطفيين في المدينة الأوروبية تغويهم هذه الغواية التي لا تقاوم لهذا المشهد المثيرالجديد.
كانت هذه الأطروحة في خطوطها الرئيسية هي النظرية الرائعة للمثقف جاد التي اكتشفها وطورها.
يتذكر أبو شاوالي كل تفاصيل هذه النظرية الملعونة بعدائية متنامية. هذه الجهود النظرية لمثقف محبط لم تكن ذات طبيعة مرضية لحس العدل المطلق. هو دائم التفكير في كتلة الفقراء الضخمة. إن أصالة مثل هذا المفهوم تبدو له أنها تضمر خطرا مستترا، قادرا علي تهديد الاندفاع البطيء للزمن. يعتبره كفانتازيا لا أخلاقية و منحطة. لم يعد يستطيع تصور أن توفيق جاد أراد فقط المزاح برفعه مثل هذا الجنون لمصاف المبدأ. لقد اتسع مجال النظرية بشكل واسع. نموذج الصغيرة نوس كان أمرًا فريداً في تاريخ التسول، ولكنه أمر واقعي، خاضع لمجال التطبيق. هذه الصغيرة نوس واحدة من أفضل التلاميذ. كان يمكنها التعلق بالزبون حتي الموت وأخذت من أمها صفات قدرة التحمل والمثابرة الوحشية حقا.
تساءل أبو شاوالي عما إذا كان لن يفقد تلاميذ آخرِين وحاول أن يخمن رد فعل الآباء تجاه الأفكار الجديدة. طرف بعينيه ونظر علي نحو محموم لقدميه. يستطيع أن يري تلاميذه،أدرك أنهم لم يغادروا بعدُ، وإنه يمكنه الاعتماد علي القوة المتضمنة في بؤسهم المرير. لكن المتسوليين الصغار كانوا هناك، في انحطاطهم التام؛ يستطيع رؤيتهم و أيضا لمسهم مباشرة بيديه المعروقتين. كانوا هناك، يجلسون القرفصاء علي الأرض الترابية، يقدمون للبرد والرطوبة أجسادهم للتعذيب كمبتدئين. ومن بينهم يوجد مكفوفون،كُتع، عرجي، و آخرون أصيبوا بعاهات نهائية. جدران الكوخ السوداء تغطيهم بظل بغيض، بلا مخرج علي الإطلاق. يتأملهم أبو شاوالي فيصمت، ثم- للحظة - يتخيلهم يرتدون ألوانا زاهية،وجوههم نظيفة، مبتسمة وجميعهم مثل الأطفال الحقيقيين لآباء حقيقيين. لكن هذه الرؤية المنافية للعقل جمدته من الخوف وأطلق وهو يرتجف علي سريره الحقير، الشتائم الطقسية:
- أبناء الخنازير، الملاعين. هل أتيتم هنا لتناموا؟ هيا، استيقظوا، الدرس يبدأ.
عندئذ تحرك المتسولون الصغار وأخذوا أوضاعا تتوافق وخطورة اللحظة. بدورها الصغيرة عُلا، مجندة جديدة ومن ثم تبدو حالتها مثيرة للاهتمام للغاية. نهضت من علي الأرض وذهبت لتقف أمام أبو شاوالي. تمسك بين ذراعيها طفلا ذا بضعة شهور، ولد كفيفا وملفوفا في كل أنواع الخرق القذرة. يبدو الطفل ميتا منذ فترة طويلة ووجهه يتشح بشحوب أخضر.
- إذن، هو دورك- دمدم أبو شاوالي- ماذا تفعلين بهذه اللفة بين ذراعيك ؟ هل تتجولين بصرتك بالصدفة ؟
- هذه اللفة أخي، قالت الصغيرة.
- أه! هو أخوك! اقتربي حتي أراه.
تقترب الصغيرة عُلا وتمد لـ أبو شاوالي اللفة المقرفة من الأقمشة القذرة التي تلف أخاها. الوجه الضارب في الخضرة للمولود الجديد فقط مايبرز من اللفة، هادئا كالميت. ينحني أبوشاوالي، يتعرف علي طبيعة هذا الموضوع ويبدو للحظة يفكر. مثل هذا العرض، يلزمه تقنية مناسبة.
- حسنا، قال، سوف نري هذا فيما بعد. فلتجلسي الآن. فقط انتبهي جيدا حتي لا يختنق في هذه اللفة. هل يأكل؟
- لا- أجابت الصغيرة - فقط في بعض الأحيان يفتح فمه.
- حسنا، حسنا، فلتجلسي.
تصل الصغيرة علا لمكانها بين زملائها. ينتظر أبو شاوالي لحظة، ثم ينادي الصغير كيكا.
- تعالَ هنا، يا ابن الخنزير، وقل ما تعرف.
بخصوص ماذا؟ يا معلم.
- ماذا تقول : بخصوص ماذا يا بن أمك ! هل تظن أننا نلعب هنا لعبة الحجلة؟ هيا، اقرأ عليّ درس الأمس. كيف تتعامل مع زبون يرتدي بدلة جديدة؟
ساد صمت حرج بعد السؤال.
- لا تعرف، يا ابن الخنزير.
لم يكن التلميذ كيكا شديد الذكاء؛ ميراث ثقيل ومشئوم يثقل عليه. ظل هناك جامدا، الأذرع مكتوفة بقوة، حتي يحافظ علي اليدين تحت دفء الإبطين. كان يبدو متحيرا وحزينا تماما.نظافة نسبية في وجهه تضيء الظلام القبيح للكوخ. يلاحظ أبوشاوالي هذا البياض الوقح، ويدخل في غضب جنوني.
- لكن اقترب إذن! ياالله! هل أحلم، أوبالأحري هي الحقيقة، أنت غسلت وجهك! هيا، أجبني أو سأقطع رقبتك. تسمعني، يا ابن الخنزير.
استولي رعب همجي علي كل جسدالصغير كيكا. لم يستطع النطق بكلمة. لكن السمت الشرس لـ أبو شاوالي أقنعه بالتحدث.
- أول أمس، يا معلم، أمطرت. جاء ماء المطر علي وجهي. إنها ليست غلطتي.
- ولم تكن تستطيع إخفائه من المطر، يا حمار؟وجهك يشبه الآن مؤخرة قرد. ماذا سأفعل بجمال كهذا؟ اذهب ؛ أنت مطرود.
لم يتحرك الطفل. لا يعرف ما يجب أن يفعله.لا يفهم كيف يطرده أبو شاوالي من المدرسة.
- إذن، لا تود الرحيل، صاح أبو شاوالي.
- أين سأذهب؟ سأل الصغير.
- ستذهب إلي أمك، يا جاموس. سوف تخبرها عني أنني لم أعد أود رؤيتك هنا، لأنك تجازف بإفساد زملائك بمظاهر ابن العائلة و ميلك المفرط في النظافة. لأنني منذ فترة طويلة أرقبك، يا صغيري. منذ وقت طويل أدرك أن مظهرك يصبح أكثر فأكثر غير معتاد في مكان كهذا. ببساطة أمك أرملة فقيرة مريضة وليس لها غيرك لتقوتها. ولقد عهدت بك إليّ حتي أصنع منك رجلا، حقيقيا وليس فتي شوارع جميل. لكن الله يقرر كل شيء، يا بني، لم تخلق لتصبح متسولا، انصرف من هنا.
أدرك الصغير كيكا أن كل شيء قد انتهي، كل شيء، حتي بخصوص وجوده أيضا. لم يعد لديه أدني شك؛ طُرد من المدرسة؟ كيف سيمثُل أمام أمه؟
مثقل القلب، ينظر لزملائه للمرة الأخيرة، ثم يقرر الرحيل بتمهل. وهو في الخارج، بدأ في التبول بحزن لانهائي.
الآن يتحدث أبو شاوالي لتلاميذه عن ضرورة أن يكونوا متسخين بشكل دائم وعما تحدثه الوساخة من تأثير علي قرار الزبائن. يعطي بعض الأمثلة العنيفة ليعضد فرضيته، ثم يطردهم جميعا ويشرع في التفكير. في البداية، يحاول أن يجد في المدرسة الجديدة طابعا رخوا وزائلا. يحدث نفسه إنها طريقة عمل فتاكة لكنها ستزول مع الوقت. لا يمكن السير ضد التقاليد ولا يمكن التخلص بسهولة من العادات والمواثيق المستقرة منذ الأزل. هل رأينا من قبل متسولين يتنزهون في الشوارع، يرتدون ملابس كالبهلوانات ويثيرون عطف الناس المحترمين؟حتي لو حصل ذلك علي نجاح ما، لا يمكن أن يكون إلا نجاح حب الاستطلاع. سرعان ما يلاحظ أهل المدينة أن ذلك لم يكن إلا حيلة مضحكة تهدف إلي خداعهم.و لن يسمح أي شخص لنفسه بالاستغراق في هذا الأمر طويلا. لا يمكن إخفاء ويلات العوز الموجود من آلاف السنين، إنها تنتقل بشكل حتمي، علي الرغم من مستحضرات التجميل و أدوات التنكر.
يعتقد أبو شاوالي اعتقادا راسخا في فضيلة الإرهاب. المتسولون القذرون والذين يلقون الإرهاب في كل مكان، هذه هي الصورة التي تصنع القوة. إن قوة الفقراء تكمن في أسمالهم وفي وجوههم المعذبة. لا يمكن انتزاعهم هذه القوة؛ إنها تظل الملاذ الوحيد لمصيرهم المأساوي. فبها يدافعون ضد عالم الأقوياء الإجرامي وبها أيضا يستطيعون التأثير في هذا العالم، ويؤذونه في أمنه وفي رفاهيته.
انجرف أبوشاوالي عبر حماسته. هكذا واتته فكرة أن يذهب لمناقشة توفيق جاد. ربما سيجعله يفهم أن وجود الفقراء لا يمكن حله بطريقة فانتازية هكذا. تبدو له هذه المقابلة ضرورة مطلقة. لكن سيكون ذلك في وقت آخر؛ الآن يود قضاء قيلولته. إنه في حاجة للراحة لأن مشاجرة أم عاكوش أجهدته بشكل كبير.
عندما استيقظ أبو شاوالي، كان الليل قد أطل. بدأ- وبشكل عشوائي- في إطلاق بعض السباب الموجه لتلاميذه، لكن لم يرد عليه أحد. عندئذ خرج من كوخه الحقير وتوجه نحو درب الباشا، الشريان الرئيسي للمكان. قرر الذهاب إلي توفيق جاد.
ضرب الليل جذوره في الأرض. الجو كدر وبارد. هنا وهناك، بعض النيران من خشب مشتعل دون يقين كبير. بعض الناس يجلسون القرفصاء علي عتبة أكواخهم ليخدعوا جوعهم بالانخراط في حوارات لا طائل منها، بينما آخرون، متخفون خلف جدران غير واقعية، يمارسون بلا كلل الحب.أطفال متبلدون من الفقر ومن التعب ينامون غير مدركين للبرد، بين القذارة والبراز. يعرف أبوشاوالي هذا العالم، كل هذه الكائنات الحزينة والموسومة بمصير لا يرحم. ذلك كان بالنسبة لمعظم آباء تلاميذه. عادة تتسم تحياتهم بالتقدير والاحترام. لكن هذا المساء يعتقد أنه يستشف فيهم بعض الارتياب. بعضهم ألقاه أثناء مروره بمزح مشينة. أدرك أبوشاوالي أن مؤامرة كانت تحاك ضده وتوقف مترددا،بالقرب من درب اللصوص.
ضوء فريد من نوعه لكنه وافر يبرق بالقرب من المكان الذي توقف فيه. إنه مقهي حامد فرغلي الملقب بـ الباشا،لأنه الوحيد في المنطقة الذي كان يضاجع ثلاث نساء بشكل شرعي. لا يود أبو شاوالي أن يراه الباشا ولا الجالسين عنده في المقهي الآن. كان يعرف أنهم سوف يسألونه عن أحداث الصباح و هو يود تجنب النقاش قبل أن يقابل توفيق جاد.
اتجه يمينا أبوشاوالي واندفع داخل درب اللصوص. هناك،الظلمة مؤكدة ويجب أن يسير محتكا بالأكواخ. صمت مخيف يسيطر علي هذا الدرب المنيع حيث يسكن، كما يقال، أكبر قاتل في العالم. خلال بضع دقائق، استطاع أبو شاوالي متحسسا طريقه التعرف علي كوخ توفيق جاد. كان مشيدا من ألواح خشبية متفسخة وغير ملتحمة و يفصل بينها تيارات الهواء التي تعبرها وهي تصفر. اكتشف أبوشاوالي حجرا كبيرا بالقرب من هنا وسوف يجلس فوقه. يفضل عدم الدخول عند توفيق جاد، ومقابلته عندما يخرج من كوخه. سوف يصبحون هكذا أكثر راحة في الحديث. في الحقيقة، يخشي أن تؤثر عليه حميمية هذا الرجل الغريب.
أبوشاوالي يعرف أن توفيق جاد سوف يخرج من كوخه في نهاية المطاف. إنه يعرف مثل كل الناس المرض الذي يعاني منه توفيق جاد والعادة المأساوية الناتجة عن هذا المرض. لقد كان يعاني المثقف جاد من إسهال مزمن، مما كان يجبره علي الذهاب مرات عديدة في اليوم إلي المراحيض العمومية- التي توجد علي بعد كيلومترا من هنا- بالقرب من المدينة الأوروبية. كان يُشاهَد دائما وهو يهرول في الطريق، الطربوش مغروس حتي أذنيه صانعا بعصاته لفات عبثية وخطيرة.
ممدا علي حصيرته، يحاول جاد أن يتوصل لطبيعة الحضور الذي - منذ لحظة- تجلي بطريقة غير محسوسة وغريبة. " ليس لصا بكل تأكيد"، حدث نفسه. يود النهوض، لكنه يشعر بثقل في أطرافه. هذا الحضور المستغرب أفزعه وبدأ يتصبب عرقا كما لو كان تحت تأثير حمي شديدة. ومع ذلك رفع نفسه علي مرفقيه و تأمل الظلام الدامس الذي يحيطه، في محاولة للإمساك بإشارة ما كاشفة. لكنه من المستحيل أن يري أي شيء في هذه الظلمة. مال جاد يمينا، يبحث عن قطعة من شمعة ملقاة علي الأرض يشعلها. في ذلك الحين أدرك مشهدا غير عادي وفي نفس الوقت مطمئنا. في أحد أركان الكوخ تقف - في وضع ثابت - دجاجة كبيرة بريش ذهبي اللون، مثبتة عينيها علي جاد كما لوأنها تود تنويمه مغناطيسيا. في البداية اندهش و سُر جاد بهذه الدجاجة. وبعد ذلك تساءل كيف استطاعت الدخول إلي كوخه. يعرف أن في كل المنطقة لم يعتد أحد علي تربية دجاج. وآخر من زار المنطقة من هذا النوع تلك التي كانت قد قدمت للباشا كوجبة، منذ عامين، عند خروجه من السجن.
جاد في حالة ارتباك شديد. ماذا يعني هذا الطيف الرائع؟ جمود الدجاجة أحاله هو أيضا لجمود رهيب و تأملي. منذ فترة طويلة لم ير دجاجة بهذا القرب. ثم إنه يوجد مغناطيسية غريبة في عيون هذه الدجاجة. كان جاد يشعر أنه منجذب لها كما ينجذب لطيف جسدي خطير مملوء بالرقة والأُنوثة. إنها تفتنه بشكل واضح. يرتجف جسده تحت ضغط الرغبة المفاجئة، التي تملؤه نشوة ورهبة. يظل جامدا علي حصيرته، مفتونا بالعيون الواسعة لهذه الدجاجة ذات الريش الذهبي والتي تبدو أنها تأخذ مظاهر امرأة شهوانية، تتعهد برذائل غير معروفة. بدا لجاد أن الدجاجة تحركت. كان يشعر أن إنفجارا سوف يحدث و أن بالفعل امرأة ساحرة وشهوانية سوف تخرج من هذه الدجاجة وهي تهزهز مؤخرتها. وجه رائع خرج من عفن و خسة الليل. ربما أيضا روح لطيف مهزوم من الفقر والذي سوف يتحرر قريبا. ينتظر جاد هذه المعجزة، وهو ينهج، كمن علي وشك الإغماء.
مر وقت لانهائي، لكن لم يحدث أي شيء. انطفأت الشمعة الآن. تشوش انتباه جاد في الظلام وشعر فجأة أنه فريسة لآلام مبرحة. لا يزال هذا الإسهال الملعون. حينئذ نهض من علي الحصيرة، يلتقط من الأرض عصاته وطربوشه وخرج وهو يهرول. ما أن رأي جاد يخرج حتي انطلق في إثره دون انتظار.
- توقف، يا جاد أفندي، صاح. أود أن أحدثك.
توقف جاد، مندهشا، لكن اندهاشه كان لفترة وجيزة، لأنه كان لديه شيء آخر ليفعله.
- مساء الخير يا معلم،قال. بالفعل ليس لدي وقت. أنا متعجل. فليكن ذلك في وقت لاحق.
- أود أن أخبرك بأمور خطيرة، تنهد أبو شاوالي مهموما.
- فليكن، أستمع لك، قال جاد. لكني أخبرك أنني في عجلة من أمري.
هما الآن علي الطريق. من بعيد تلمع مصابيح الإنارة الحكومية بشكل واضح. علي اليسار، طريق السكة الحديد، وفي الأمام تماما المدينة بأنوارها العديدة الجذابة والضارة.
يسير جاد وهو متجهم علي نحو عظيم. إنه رجل في الخمسين من عمره، يرتدي بدلة من الصوف بنية اللون، مجعدة تماما ولا يخلعها مطلقا. استدار ناحية أبوشاوالي وأراد أن يوضح له وضعه، لكن الآلام تعاوده فاضطر أن يسير بخطي حثيثة. بعد فترة، سأله:
- أنت ذاهب إلي المراحيض، يا معلم؟
- لا، أجاب أبو شاوالي.أصطحبك فقط. ولكن بهذه المناسبة، قل لي، ألا يمكنك أن تقضي حاجتك مثل كل الناس، بالقرب من الكوخ؟
- ماذا أقول لك، يا سيدي. إنها قصة طويلة. لكني لا أستطيع فعل ذلك في الهواء الطلق.
- أه! فهمت. ربما لديك تخوف من أن يري أحد مؤخرتك.
لم يرد جاد. هذه المزحة السوقية أثارت اشمئزازه وحث الخطي أكثر، بنية التخلص من المعلم. الحقيقة أنه لا يزال يحتفظ بميوله الفطرية كبرجوازي قديم،مشبعا بتحيزات مسبقة. يلتزم بأخلاقيات الإنسان المثقف. بالنسبة لمثقف مثله، قضاء حاجته في الخلاء يعادل خيانة للعقل.
طرح أبوشاوالي الموضوع الذي يحفظه في قلبه.
- أتيت، يا جاد أفندي، لأحدثك عن خطر يهدد عالم الفقراء.
- أي خطر يا معلم؟
- خطر الفانتازيا.
يسود صمت، أثناءه يحاول جاد الهروب من قبضة المعلم. في الحقيقة،هذه البيئة المجبر علي الحياة فيها تصيبه بالرعب. يشعر باشمئزاز فطري تجاه كل هذا العالم الواقعي والبائس. يفضل أن يرفه عن نفسه بأوضاع خيالية. مجال الفانتازيا شديد التنوع. يفكر في هذه الدجاجة ذات الريش الذهبي و في عيون المرأة الشهوانية، التي اختفت بشكل مفاجئ. هناك في الحياة أشياء خيالية وجاد يحب تلك الأشياء. و مع ذلك يلتفت نحو أبو شاوالي ويسأل باهتمام:
- ماذا قلت، يا سيدي؟
- قلت، يا جاد أفندي، أن، بالنسبة لنا، الفانتازيا خطر.نحن بحاجة لشيء آخر.
- وماذا نحتاج إذن، يا سيدي؟
نحتاج للواقعية،قالها بحدة أبو شاوالي.
كلمة الواقعية هذه شلت كل ملكات جاد. لم يعرف بماذا يرد. و تساءل عما إذا كان من الأفضل أن يُحدث المعلم عن هذه الدجاجة ذات العيون المغناطيسية، التي حاولت أن تغريه كمومس. في الحقيقة لم يزل لا يفهم ما يريده المعلم. ولماذا هذا الحوار العبثي؟حاول الهروب بأن يسرع في مشيته، لكن أبو شاوالي أمسكه من ذراعه.
- لقد ألقيت فيما بيننا البذرة المشئومة للفناتازيا، استنكر أبو شاوالي.والآن ماذا ستفعل؟
- الفانتازيا شيء رائع، يا سيدي.
- ستصبح مؤذية لنا.
هذا المثقف المحبط يجهل الفقر الحقيقي؛ الفقر العبثي والمستديم الذي يمسك بالبشر منذ ولادتهم. حتي فقره أيضا فانتازيا عابرة وليس حتميا. بل هو من كان يريده حيث سمح لنفسه أن يذهب إليه. يستطيع التخلص منه كشيء نرميه وننساه. لكنهم، لا يستطيعون. يجب إبطاء مسيرة الزمن لتجهيز الانفجار المروع الذي سيخلصهم.
- قل لي، جاد أفندي، هل ستفتح مدرسة؟ يجب أن أعرف.
- أي مدرسة، يا سيدي؟
بالفعل لم يفهم أي شيء من كل هذا. لايزال مستمرا في إظهار تجهمه المرعب.
- مدرسة للمتسوليين، يا جاد أفندي. ألا تريد أن تضع نظريتك الرائعة موضع التطبيق؟
- من أخبرك ذلك، يا سيدي ؟ ليس لدي نية فتح مدرسة. بشرفي، لا أفهم أي شيء من كل ما تقوله هذا.
- منذ بضعة أيام، وضح أبوشاوالي،حدثتنا عن علم ما يسمي علم النفس. في مقهي الباشا، ويوجد شهود. حدثتنا كذلك عن طريقة جديدة في طلب الإحسان. طريقة خيالية تماما. أتذكر ذلك؟
- أه! نعم، أتذكر ذلك، قال جاد. إنها فكرة كانت قد مرت برأسي. ألا تجدها رائعة؟
- أجدها وحشية.
- و لماذا ذلك؟
لأنها تنال من كرامتنا نحن الفقراء. أتريد أن تجعلنا كالبهلوانات؟ لا نريد التنكر في هيئة البهلوانات حتي نحصل علي حق الحياة. ما يمنحنا الناس، يجب أن نحصل عليه بوسائل لائقة وواقعية. أتريد أن تجعلهم يعتقدون أننا سعداء؟يجب أن يظهر أولادنا كما هم في الواقع، أي متسخين وملوثين ويتسكعون في الشوارع ككائنات حية لوامة. يجب أن يخافنا الناس ويشعرون من حولهم بتصاعد الرائحة المثيرة للغثيان نتيجة فقرنا الهائل.
- اعتقدت، قال جاد،أن شيئا ما من البهجة كان سيسهل بشكل كبير الأمور.
- لا نريد خدمات من مبدأ البهجة. البهجة يجب أن تهلك. نريد أن نكون شعبا واقعيا، شعبا يعاني، ومن ثم فالجروح واضحة وملموسة. فهمت، يا جاد أفندي؟ هذا ما كنت أود أن أخبرك به.
تردد جاد للحظة، ثم قال.
- ولكن التقدم يتطلب تعديلات في كل المجالات، يا سيدي. فقط كنت أود محاولة التجريب.
- التسول لا يخضع لتعديلات. يجب أن يظل كما هو أو يختفي كلية من علي وجه الأرض.
بقيا فترة صامتين. من حولهم هناك الحياة تمر؛ الحياة التي فوق الأحلام والانتقام وحيث لا يمكن أن يقف أي شيء. يتأمل جاد الطريق أمامه ويقيس بنظره المسافة التي بقيت ليسيرها قبل أن يصل للمراحيض العمومية. يريد أن يجري، لكن لايزال أبو شاوالي يمسك به من ذراعه. تنبح كلاب بالقرب من كوخ مهجور. يجري الرجلان الآن علي الطريق. قطار مضيء يمر علي السكة الحديد محدثا صوتا جهنميا.
يقتربان من المدينة. تصير المصابيح أكثر عددا وأكثر سطوعا. الحضارة تعطي نتائج جيدة هكذا، بالأنوار التي تتوافر حولها لتعمي الناس.
- لا أعرف ما يدخره لنا المستقبل، تنهد أبو شاوالي.
- المستقبل، قال جاد، في نهاية هذا الطريق،في هذا المبني الصغير الذي تراه هناك.
ينظر أبوشاوالي لآخر الطريق. ما يراه لم يكن مكانا مميزا بشكل محدد حتي يؤوي المستقبل.
- لكن إنها المراحيض العمومية، قال، مستغربا.
- حقا، يا سيدي. المستقبل في المراحيض العمومية، علي الأقل الآن.
لم يعد يستطيع تمالك نفسه. جري مباشرة أمامه، نحو المستقبل.
بقي أبوشاوالي بمفرده تماما في وسط الطريق. ينظر السماء المظلمة، ثم ينظركذلك أمامه. لكن أمامه هناك المدينة الشرهة والمجرمة. ويري المستقبل مسجلا علي شكل بقع دموية في وسط هذه المدينة.
==================
* نص نادر للكاتب المصري ألبير قصيري المولود عام»1913«
كتبه في المرحلة المصرية قبل أن يهاجر إلي فرنسا ليستقر هناك.
النص نشر في مجموعته القصصية الأولي " بشر نسيهم الله" التي نشرت عام 1941 ..وكان قد سبقها بديوان شعر وحيد حمل عنوان "لسعات » عام 1931 «
القصة التي تعتبر من بدايات قصيري تعبر عن فلسفته في الحياة والكتابة..وتحمل سمات عوالمه الإبداعية التي استمرت حتي رحيله في عاصمة النور ... حيث ظلت الأجواء المصرية تشكل عالمه ..هو الذي قال: "لست في حاجة لأن أعيش في مصر ولا لأن أكتب بالعربية، فإن مصر في داخلي وهي ذاكرتي".
--------------------
ألبير قصيري (3 نوفمبر 1913 - 22 يونيو 2008)، كاتب مصري من أصل سوري يكتب بالفرنسية، لقب بفولتير النيل وأوسكار وايلد الفرنسي وباستر كيتون العربي.
بدايته
ولد ألبير قصيري في 3 نوفمبر 1913م بحى الفجالة بالقاهرة لأبويين مصريين أصولهما من الشوام الروم الأرثوذكس، كانت عائلته من الميسورين حيث إن والده كان من أصحاب الأملاك. في حديث مع عبد الله نعمان عام 1998، قال قصيري: «نحن من شوام مصر. والدي أرثوذكسي من بلدة القصير قرب حمص في سوريا. انتقلت العائلة إلى مصر أواخر القرن التاسع عشر».
تلقى ألبير قصيري تعليمه في مدارس دينية مسيحية قبل أن ينتقل إلى مدرسة الجيزويت الفرنسية، حيث قرأ لبلزاك وموليير وفيكتور هوغو وفولتير وغيرهم من كبار الكتّاب الفرنسيين الكلاسيكيين.
حياته
كانت فلسفة ألبير قصيري في حياته هي فلسفة الكسل، لم يعمل في حياته وكان يقول انه لم ير أحدا من أفراد عائلته يعمل الجد والأب والأخوة في مصر كانوا يعيشون على عائدات الأراضى والأملاك، اما هو فقد عاش من عائدات كتبه وكتابة السيناريوهات، وكان يقول (حين نملك في الشرق ما يكفى لنعيش منه لا نعود نعمل بخلاف أوروبا التي حين نملك ملايين نستمر في العمل لنكسب أكثر).
عمل في البحرية التجارية ما بين عامى 1939 و1943 مما أتاح له زيارة العديد من الأماكن منها أمريكا وأنجلترا، زار فرنسا لأول مرة عندما كان في السابعة عشر من عمره قبل أن يقرر أن يستقر فيها في عام 1945م وكان حينها في الثانية والثلاثين.
عاش ألبير قصيري طوال حياته في غرفة رقم 58 في فندق لا لويزيان بشارع السين بحى سان جيرمان دو بريه منذ عام 1945م وحتى وفاته، وأختار العيش في غرفة فندق لأنه كان يكره التملك حيث كان يقول (الملكية هي التي تجعل منك عبدا).
تزوج ألبير قصيري من ممثلة مسرحية فرنسية ولكن لم يدم هذا الزواج طويلا وعاش بقية حياته أعزب وحين كان يسأل عن السعادة كان يقول أن أكون بمفردى.
تعرف ألبير قصيري في فرنسا على ألبير كامى وجان بول سارتر ولورانس داريل وهنرى ميللر الذين أصبحوا فيما بعد رفقته وصحبته اليومية طوال 15 عاما في مقهى كافيه دو فلور.
أصيب في عام 1998م بسرطان في الحنجرة حرمه من حباله الصوتية بعد عملية اجراها لستئصاله وفقد القدرة على النطق، وكان يجيب على أسئلة الصحفيين كتابة.
لم يطلب ألبير قصيري الحصول على الجنسية الفرنسية على الأطلاق وكان يؤكد (لست في حاجة لأن أعيش في مصر ولا لأن أكتب بالعربية، فإن مصر في داخلي وهى ذاكرتى)
أعماله الأدبية
بدأ ألبير قصيري الكتابة في سن العاشرة، وكان يصف نفسه ب(الكاتب المصري الذي يكتب بالفرنسية)، ترجمت أعماله إلى 15 لغة منها العربية، ولم يكن راض عن نسخة الترجمة العربية بسبب الحذف الذي تم من قبل الرقابة، وقد ترجم له بعض رواياته محمود قاسم وصدرت في القاهرة.
كانت مصر دائما مسرح رواياته وشخصيات رواياته من المصريين البسطاء، ورواياته وأعماله هي :
لسعات 1931 وهو ديوان شعريا نشر في القاهرة
بشر نسيهم الرب 1941 وهى مجموعته القصصية الأولى، وصدرت بالقاهرة
بيت الموت المحتوم 1944
تنابل الوادى الخصب 1948
شحاذون ومتغطرسون 1955
العنف والسخرية 1962 وقد حولت إلى فيلم أخرجته أسماء البكري
مؤامرة مهرجيين 1975
طموح في الصحراء 1984
موت المنزل الأكيد 1992
ألوان النذالة 1999 وهى آخر أعماله
دارت علي حساب مدرسة المتسولين مجموعة من الحكايات المدهشة جدا.
وأصل هذه الحكايات يعود لنقاش دار منذ فترة- في مقهي الباشا- بين مُعلم التسول أبوشاوالي والمثقف توفيق جاد. لأنه وعلي إثر هذا النقاش الذي تجول بين تفاصيل لا حصر لها، بصدد التجديد المزعوم، في جماليات النظام، سوف يصبح- علي ما يبدو- فن طلب الإحسان ثوريا، في كل مكان. وذلك كان يستدعي افتراض الأشياء الأصعب تصديقا. فالتحييز المثير للاشمئزاز من البعض والانتقادات الضارية من البعض الآخر كانا يجدان هنا مادة للممارسة. وسكان أرض الثعابين، الذين هم جميعا مسعورون بشكل رهيب، قد استفادوا من وضع غريب كهذا ليحدثوا فضيحة ضخمة، حيث تفرُّد الكارثة كان يغويهم. ثمة خطأ نفسي كان قد جعلهم يأخذون هذه القضية المؤسفة مأخذ نكتة عظيمة. فهم أناس لا يسعون للبحث في جوهر الأشياء، ويقنعون بأن يستخلصوا منها نتائج مبتسرة ودائما ذات طبيعة فضائحية. كما أنهم شغوفون بالشجارات التي لا نهاية لها، وبسوء الفهم غير القابل للعلاج وبكل ما يقلب الحياة بلا نهاية. كيف سيخطر ببالهم أن اختلافات الرأي التي قامت بين أبو شاوالي والمثقف توفيق جاد كانت تخفي مشكلة اجتماعية واسعة النطاق ؟ علي الأرجح، واحد منهم فقط كان قد أدرك كل ذلك، لكنه فودة الساحر رجل شديد الغموض وبخصوص تدخله لا نستطيع أن نعول عليه علي الإطلاق. باختصار، كنا نتوقع الأسوأ، عندما فسدت الأمور بطريقة مفاجئة وأوشكت أن تتحول لدراما.
إنه يوم كالأيام الأخري: بطيء، شرس وجائع للضحايا البشرية.لا أحد يستطيع أن يقول أي نوع من الأهوال تستعد للولادة، ولا يستطيع تحديد نوع المصائب الجديدة التي تهدد حياة البشر. لقد بدأ البرد منذ فترة طويلة مهمته المؤذية. لكن- الآن- القلق الوحيد يأتي من كتلة السحب هذه، التي تتسكع متثاقلة، ومن خلفها كانت الشمس شاردة تماما.
مدفون اليدين في جيوب قفطانه، يعبر أبو شاوالي درب الطفل الذي يبول، بهيئة متجهمة ومُهَدِدة بجثة متجولة. يطرف بشكل دائم بعينيه المريضتين ويتوقف من حين لآخر للتفكير. إنه عجوز عمره ستون عاما، أشعث اللحية ذو وجه شاحب وهزيل. يطفو شال كبير رث علي كتفيه النحيلتين كجناحين مخيفين لطائر جارح. وساخته لم تقدم أي شيء مميز ؛ إنها تتوافق مع المحتوي القاسي الذي يحوطه. في كل خطوة، كان يخاطر بالانزلاق في برك البول اللانهائية، الممتدة هناك كفخاخ فاحشة. درب الطفل الذي يبول يؤدي إلي مدرسة المتسولين. إنه الدرب الأكثر فقرا والأكثر ضيقا في المنطقة. وأكواخه أكثر بؤسًا وأكثر قذارة من أي مكان آخر؛ فبراميل النفط القديمة التي تُشَكِلها متصدعة وصدئة لأقصي حد. فهي تبدو علي استعداد تام للانهيار، لكن الفقر الذي بناها بيديه المتوحشتين ترك عليها بصمته الخالدة. كائنات حية تسكن هنا؛ أصواتها الكهفية تدوي وتملأ الجو بتهديدات غريبة. الروائح الكريهة للِمنازعات والشكاوي الدنيئة تترشح عبر الفواصل القاتمة. في كل مكان تتكشف العلاقات الحميمية البشعة الممددة و بلا أمل. بعض أواني الطبخ متناثرة علي الأرض، والتي يتنصل منها أصحابها كأشياء نجسة وغير مفيدة. النفايات -التي لا تحصي من أجيال عديدة ماتت و نُسيت - تزدهر بطول هذا الدرب الملعون. إنها نهاية العالم؛ لا يمكننا الذهاب بعيدا. هنا وجد البؤس الإنساني مقبرته.
فجأة يتوقف أبو شاوالي ويطرف بعينيه. تتخلص الشمس من كتلة السحب وهذا الإفراط المفاجيء للنور يشعره بخطر ينجم عن وضوح الأشياء.
يبدو له الخطر في شكل لون مشرق، مثمر بشكل فريد، ويشبه جرحا مفتوحا في الأرض السوداء والبائسة. يبدو أن ذلك يتطور في فضاء ضبابي، كالحلم لا يمكن الإمساك به. يقترب أبو شاوالي بحذر ويبقي لفترة طويلة يتأمل هذا الضوء الأرجواني المتدفق عبر بشاعة المادة غير القابلة للتدمير، والتي توجد ممثلة في مجرد رداء قطني أحمر. لكن الذي لا يستطيع فهمه بعد، وجود هذا الرداء علي جسم الصغيرة نوس؛ واحدة من أفضل تلاميذه. أنه شيء ما غيرمسبوق كالظهور المفاجيء لحماقة جماعية.
حينئذ تذكر أبو شاوالي أن الصغيرة نوس لم تظهر في المدرسة منذ عدة أيام. كان يظن أنها مريضة أو ببساطة ماتت. وها هو يقابلها الآن في زينة صاخبة، فالوجه نظيف، مبتسم،و ربما أيضا مخضب. في النهاية طريقة غريبة لجلب نظر المحسنين. انحني أبو شاوالي، أمسك بذراع الصغيرة نوس وشرع في جره، يود بهذه الحركة المؤذية أن يدرك حقيقتها الملحوظة. ثم أخذ يسبها بطريقة فظة وفاحشة، ويعاملها كفاجرة و كابنة داعرة. عندئذ بكت الصغيرة نوس و أخذت تطلق صيحات حتي أن أم عاكوش، أمها، ظهرت علي عتبة كوخها. إنها ثرثارة بغيضة، لا تقهر كالجداروالتي نشهد لها كبطلة للعديد من المشاجرات الدامية، حيث إن بعض الرجال مع أنهم ليسوا ضعافا كانت تدوس عليهم وتعرضهم للعار في كل مكان. أنها تصل كبحر هائج.
رآها أبوشاوالي تأتي نحوه، أغلق عينيه و كأنه يهرب من رؤية كارثية.
- إنها ابنتي التي تعاملها كبنت داعرة، يا خرفَان يا عاجز؟
هز صوت أم عاكوش الدنيا. صوت غير محدد الجنس، مرعب كالموت.
- يا أم عاكوش - قال أبو شاوالي - ماذا تسمين هذا ؟ والله إنه لعمل مخفق. ماذا تفعل ابنتك بهذا الزي ؟ سوف تجعلين منها عاهرة؟
- أنت العاهر. أتعتقد أن كل الناس مثلك؟ أيها المؤخرة القذرة ! هيا، فلتترك الصغيرة هادئة. لا تحتاج لنصائحك الوسخة. يا ابن المتسولة.
يريد أبو شاوالي الانسحاب من المعركة، لكن وعيه مشغول بصراع غير متكافئ. إنه يدافع عن فكرة اجتماعية. خلفه كل كتلة البؤساء. طفل يتبول ليس ببعيد عن هنا، بصوت رشاش. تلعب أشعة الشمس في برك البول.
- فلتوضحي لي. ماذا تعني هذه المسخرة. أأصبحتي مجنونة، أيتها المرأة؟
- ماذا تريد أن أوضح لك، أيها العجوز الخرفان. هل نحن مدينون لك بشيء ما؟
- من ابن الكلب الذي علمك أن تتحدثي هكذا، أيتها المرأة الجاهلة؟ إنها لغة أناس شبعين. لكنك عما قريب سوف تموتين من الجوع مع أولادك. لا تأتي لتحكي لي إذن حكاياتك. لن أستمع لك.
- ومن يريد التحدث معك، أيها المتسول القذر؟ هل نحن بحاجة لمعرفتك؟ تعالوا اسمعوا، يا ناس،هذا العجوز المعفن الذي يتجرأ ويسب امرأة شريفة.
بالضبط في هذه اللحظة، تختفي الشمس وراء كتلة السحب، وظل رطب يمتد في كل مكان علي الأرض. ينظر أبو شاوالي لفستان الصغيرة نوس، الذي يبدو الآن فاقد البريق،أقل إشراقاً مما كان عليه تحت أشعة الشمس. ذلك أفقرها إلي حد ما لكنها لاتزال تحتفظ بطابعها ذي البريق الفانتازي. إنه فستان من القطن أحمر اللون، تزينه زهور صغيرة صفراء. يري فيها أبو شاوالي تحديا حقيقيا لكل الأعراف السابقة، لكل مباديء التسول الثابتة. جعلته جرأة هذه الخيانة يفترض أخطار أخري، أكثر اتساعا، أكثر لياقة. يشعر بالدوار، بالمعني الحرفي غمرته رائحة البول النفاذة هذه، المفرطة في السخاء، والتي تؤثر عليه كالمخدر.
يبدو أن الشمس قد اختفت للأبد. بالقرب من أحد الأكواخ رجل يجلس علي كرسي مطبخ، يُفلي من القمل بلا مبالاة. تمر امرأة، تحمل بستلة ماء متوازنة علي رأسها. لم تكن متعجلة؛ تمر ببطء ويلاحظ أبو شاوالي إنها حامل.
- سأتركك، أيتها المرأة المنحرفة، قال في النهاية. ماذا يمكنني أن أقول لك؟مخك يشبه مخ جاموسة. وبالنسبة لهذه المستحدثات الزائلة، أبصق عليها.
ويبصق في اتجاه الصغيرة نوس.
- يا سفاح، تصيح أم عاكوش. تعالوا يا ناس لتروا، قاطع الطريق هذا الذي يهاجم البنات الصغيرة.
في البداية كان شجارا فاقدا للوعي، و لم يكن يبدو خطيرا. ثم تُسمع بعض الصرخات، مدعومة بموجة من اللعنات القاتلة،حيث يميز المرء بقلق صوت أم عاكوش القاسي. ثم أصبح الشجار أكثر كثافة، أكثر عتوا، كما لوكان اصطدم بقوة هائلة. حينئذ فهم أهل المنطقة أن هذيانا انفجر في مكان ما وتسارع جميعهم باتجاه مكان الشجار. دون السؤال عن أي شيء، دون أن يشغلوا أنفسهم بالسبب، تدخلوا في الموضوع، ثم أطلقوا الشتائم وأوجدوا التباسا غير مفيد وغير قابل للعلاج.
لا يعرف أبو شاوالي كم استمرت حفلات الزفاف المؤلمة هذه، ولا كيف خلص نفسه و تمكن من الهرب.
توجد مدرسة المتسولين في نهاية درب الطفل الذي يبول، في مكان يُدعي ميدان النخيل. إنها كوخ حقير قديم في حالة من الانهيار، غارق علي نحو فظيع في الأقذار. وفي نفس الوقت يستخدم كمسكن لـ أبو شاوالي، والأسبوع الماضي تم اكتشاف ثعبان ذي طول مروع فيه، والذي فشل - بالموت المبكر- في كسر سيرالعملية الدراسية للعديد من المتسولين الصغار. ومنذ ذلك، أصبح جميع المتسولين الصغار حذرين وينظرون من حولهم بعيون قلقة. فالمكفوفون أنفسهم يتعلقون بزملائهم، ينتظرون لحظة ليلوذوا بالفرار. إلا أن الثعبان لم يظهر ثانية ؛ نعتقد أنه قد اختبأ عند فوده، الساحر، لأننا رأينا هذا الأخير يجوب الأرض باحثا عن أطعمة غريبة.
في الداخل، يعرض الكوخ مظهرا لكهف مروع وكئيب. أبوشاوالي جالس، مطوي الساقين، علي سرير حقير يغطيه العديد من الخرق، والتي يبدو بها مرصعا. من مكانه يسيطر علي لفيف المتسولين الصغار، الجالسين القرفصاء في أوضاع مستسلمة بشكل غريب. يغوص نظره بين هذا الركام من العراة المشينين و الأسمال الكريهة.و في يده اليمني، يمسك عصا يعنف بها هذه الأجسام الصغيرة الحزينة، يوجههم وأحيانا يمنحهم ما يشبه الحياة. لم يبدأ بعدُ درسَه. فالصدمة التي شهدها جعلته يتأمل ومنعته من توفير الثروات القيمة من تعليمه. لم يتعافَ من ذلك بعدُ. وفي بعض الأحيان، يقول بعض التهديدات المريبة ضد كائنات لا مرئية، حيث الشر يبدو زائدا عن الحد. يكرر- كثيرا وبكراهية - السباب الذي يمنحه هيبتة وكرامتة كمربٍ.
إذن هذا الملعون توفيق جاد ابتكر طريقةً جديدةً لطلب الإحسان، طريقةً لا إنسانية وفانتازية، ليس لها أيُ علاقة بالواقع. إنها حقا شيءٌ ما من درب المستحيل؛ مسخرة، رغبة حقيرة في السخرية من الناس. فأبو شاوالي يشمئز من الفانتازيا، يتحيز للواقعية الأكثرفجاجة، والأكثر تجردا من الملاطفة، تلك التي تُمسك بحناجر الزبائن، تخنقهم وتجعلهم غير مؤهلين لأي نوع من التفاؤل. إنه يلزمه مخلوقات تجسد في داخلها أسوأ التشوهات الجسدية، ملوثة بآلاف الأمراض المعدية والتي لا يرجي شفائها. في المجمل مادة بشرية تستطيع أن تُشعرُ- بالأسي- القلوب الفاسدة والضمائر المشوهة للإنسانية الشَبِعَة. ليس فقط إشعارهم بالأسي، ولكن أيضا إخافتهم. لأن أبو شاوالي كان يحمل في داخله - متجذرة علي نحو عميق- فكرة اجتماعية مملوءة بالثورات المظلمة. وهذه الفكرة القاسية والمتصلبة لم تكن لتستطيع التصالح مع هذه الفانتازيات اللطيفة الناتجة عن عجز مثقَّف محبَط. أدرك أبو شاوالي أنه لا يوجد عدو له أكبر من هذا الرجل. ومع ذلك كانت شخصية (جاد) الغريبة تفتنه رغما عنه.
في أثناء الحوار الذي داربينهما- في مقهي الباشا- ظهر جاد غير واقعي في هذا اليوم. بدا أنه يطور في واقع غريب، والذي يرجع لتأثير الحشيش، لأنه تعوّد - لفترة طويلة -المخدرات. في ذلك المساء بدأ في حكي قصص عسيرة ثم فجأة- دون تمهيد،أعلن أن علم النفس علم رائع و أن العصر هو عصر علماء النفس. بالتأكيد لم يفهم أحد ماذا يعني ذلك، حتي علي مبارك محصل الترامواي السابق، رغم أنه رأي وسمع الكثير من الأشياء. وعندما سأله أبو شاوالي توضيحا، لم يود جاد قول أي شيء. فقط استمر في قوله أنه هو نفسه قد درس هذا العلم لمدة سنوات طوال، مما أتاح له أن يعرف بدقة روح هذه الحشود التي تتجول في الشوارع والتي تجلس في شرفات المقاهي. كما قال أنه استحوذ علي عقلية هذه الكائنات الزاخرة المتخمة- المقيمة في نعيمها المقيت - بالمعارف الغريبة والمشهورة. علي سبيل المثال، لقد فهم إلي أي مدي كانت هذه الكائنات لا تحب أن تُشوَّش في رؤيتها التفاؤلية للعالم، بواسطة العرض المتعمَد لكثير من المآسي الأليمة. تبعا له، فذلك يوقظ فيهم مشاعر ندم غامضة وتسلمهم لحالة من الشر لا تصدق. مجرد أن يأتي متسول صغير رث الثياب ليعرض عليهم مشهدَ جذامه أوعماه، يشمئزون اشمئزازا شديدا، ويتهيئون للسباب والإهانة. باختصار، هكذا تواجدت شروط التسول مختزلة في صراع لا يتوقف و يائس.
لكن المثقف جاد كان قد وجد وسيلة لعلاج هذه الحالة المشينة، التي تجعل التسول عملا عدائيا و بربريا. لقد أزال - بكل بساطة - الشفقة كوسيلة تكتيكية. متخليا عن القواعد القديمة مرسخا معطيات جديدة، لم يعد يعتمد علي مساهمة البلاءات الملموسة شديدة التفاوت. الرحمة عاطفة ميتة، ومن ثم لم نعد ننتظر أدني مساعدة. من الآن فصاعدا لا يجب أن يُثيروا الشفقة لكن التعاطف. فالتعاطف عاطفة لا تزال غير مستغلة من الطبقة المتسولة. حتي ذلك الحين، كانت تكمن قيمة المتسول في بؤسه الشنيع، جروحه المتقيحة، وساخته التي لا توصف. أيضا هذا الصنف من المتباكين غير القابلين للشفاء ذوي الآلام الصارخة والجانب الإنساني يجب أن يختفي ويمنح مكانا لحشد من مخلوقات صغيرة ترتدي ملابس كعرائس من الحلوي ، وذات أوضاع بسيطة وساحرة. من خلال وضعهم وحركاتهم المملوئَين برقة غريبة، سوف يُنشئون لدي الزبائن تيارا من التعاطف، سرعان ما يكافئوا، لأنه لا شيء يرضي الإنسان الشَبِع كالعرض الذي يثيره عاطفيا بشكل لائق، دون توسيخه أو إفزاعه. بالتأكيد كل الحمقي العاطفيين في المدينة الأوروبية تغويهم هذه الغواية التي لا تقاوم لهذا المشهد المثيرالجديد.
كانت هذه الأطروحة في خطوطها الرئيسية هي النظرية الرائعة للمثقف جاد التي اكتشفها وطورها.
يتذكر أبو شاوالي كل تفاصيل هذه النظرية الملعونة بعدائية متنامية. هذه الجهود النظرية لمثقف محبط لم تكن ذات طبيعة مرضية لحس العدل المطلق. هو دائم التفكير في كتلة الفقراء الضخمة. إن أصالة مثل هذا المفهوم تبدو له أنها تضمر خطرا مستترا، قادرا علي تهديد الاندفاع البطيء للزمن. يعتبره كفانتازيا لا أخلاقية و منحطة. لم يعد يستطيع تصور أن توفيق جاد أراد فقط المزاح برفعه مثل هذا الجنون لمصاف المبدأ. لقد اتسع مجال النظرية بشكل واسع. نموذج الصغيرة نوس كان أمرًا فريداً في تاريخ التسول، ولكنه أمر واقعي، خاضع لمجال التطبيق. هذه الصغيرة نوس واحدة من أفضل التلاميذ. كان يمكنها التعلق بالزبون حتي الموت وأخذت من أمها صفات قدرة التحمل والمثابرة الوحشية حقا.
تساءل أبو شاوالي عما إذا كان لن يفقد تلاميذ آخرِين وحاول أن يخمن رد فعل الآباء تجاه الأفكار الجديدة. طرف بعينيه ونظر علي نحو محموم لقدميه. يستطيع أن يري تلاميذه،أدرك أنهم لم يغادروا بعدُ، وإنه يمكنه الاعتماد علي القوة المتضمنة في بؤسهم المرير. لكن المتسوليين الصغار كانوا هناك، في انحطاطهم التام؛ يستطيع رؤيتهم و أيضا لمسهم مباشرة بيديه المعروقتين. كانوا هناك، يجلسون القرفصاء علي الأرض الترابية، يقدمون للبرد والرطوبة أجسادهم للتعذيب كمبتدئين. ومن بينهم يوجد مكفوفون،كُتع، عرجي، و آخرون أصيبوا بعاهات نهائية. جدران الكوخ السوداء تغطيهم بظل بغيض، بلا مخرج علي الإطلاق. يتأملهم أبو شاوالي فيصمت، ثم- للحظة - يتخيلهم يرتدون ألوانا زاهية،وجوههم نظيفة، مبتسمة وجميعهم مثل الأطفال الحقيقيين لآباء حقيقيين. لكن هذه الرؤية المنافية للعقل جمدته من الخوف وأطلق وهو يرتجف علي سريره الحقير، الشتائم الطقسية:
- أبناء الخنازير، الملاعين. هل أتيتم هنا لتناموا؟ هيا، استيقظوا، الدرس يبدأ.
عندئذ تحرك المتسولون الصغار وأخذوا أوضاعا تتوافق وخطورة اللحظة. بدورها الصغيرة عُلا، مجندة جديدة ومن ثم تبدو حالتها مثيرة للاهتمام للغاية. نهضت من علي الأرض وذهبت لتقف أمام أبو شاوالي. تمسك بين ذراعيها طفلا ذا بضعة شهور، ولد كفيفا وملفوفا في كل أنواع الخرق القذرة. يبدو الطفل ميتا منذ فترة طويلة ووجهه يتشح بشحوب أخضر.
- إذن، هو دورك- دمدم أبو شاوالي- ماذا تفعلين بهذه اللفة بين ذراعيك ؟ هل تتجولين بصرتك بالصدفة ؟
- هذه اللفة أخي، قالت الصغيرة.
- أه! هو أخوك! اقتربي حتي أراه.
تقترب الصغيرة عُلا وتمد لـ أبو شاوالي اللفة المقرفة من الأقمشة القذرة التي تلف أخاها. الوجه الضارب في الخضرة للمولود الجديد فقط مايبرز من اللفة، هادئا كالميت. ينحني أبوشاوالي، يتعرف علي طبيعة هذا الموضوع ويبدو للحظة يفكر. مثل هذا العرض، يلزمه تقنية مناسبة.
- حسنا، قال، سوف نري هذا فيما بعد. فلتجلسي الآن. فقط انتبهي جيدا حتي لا يختنق في هذه اللفة. هل يأكل؟
- لا- أجابت الصغيرة - فقط في بعض الأحيان يفتح فمه.
- حسنا، حسنا، فلتجلسي.
تصل الصغيرة علا لمكانها بين زملائها. ينتظر أبو شاوالي لحظة، ثم ينادي الصغير كيكا.
- تعالَ هنا، يا ابن الخنزير، وقل ما تعرف.
بخصوص ماذا؟ يا معلم.
- ماذا تقول : بخصوص ماذا يا بن أمك ! هل تظن أننا نلعب هنا لعبة الحجلة؟ هيا، اقرأ عليّ درس الأمس. كيف تتعامل مع زبون يرتدي بدلة جديدة؟
ساد صمت حرج بعد السؤال.
- لا تعرف، يا ابن الخنزير.
لم يكن التلميذ كيكا شديد الذكاء؛ ميراث ثقيل ومشئوم يثقل عليه. ظل هناك جامدا، الأذرع مكتوفة بقوة، حتي يحافظ علي اليدين تحت دفء الإبطين. كان يبدو متحيرا وحزينا تماما.نظافة نسبية في وجهه تضيء الظلام القبيح للكوخ. يلاحظ أبوشاوالي هذا البياض الوقح، ويدخل في غضب جنوني.
- لكن اقترب إذن! ياالله! هل أحلم، أوبالأحري هي الحقيقة، أنت غسلت وجهك! هيا، أجبني أو سأقطع رقبتك. تسمعني، يا ابن الخنزير.
استولي رعب همجي علي كل جسدالصغير كيكا. لم يستطع النطق بكلمة. لكن السمت الشرس لـ أبو شاوالي أقنعه بالتحدث.
- أول أمس، يا معلم، أمطرت. جاء ماء المطر علي وجهي. إنها ليست غلطتي.
- ولم تكن تستطيع إخفائه من المطر، يا حمار؟وجهك يشبه الآن مؤخرة قرد. ماذا سأفعل بجمال كهذا؟ اذهب ؛ أنت مطرود.
لم يتحرك الطفل. لا يعرف ما يجب أن يفعله.لا يفهم كيف يطرده أبو شاوالي من المدرسة.
- إذن، لا تود الرحيل، صاح أبو شاوالي.
- أين سأذهب؟ سأل الصغير.
- ستذهب إلي أمك، يا جاموس. سوف تخبرها عني أنني لم أعد أود رؤيتك هنا، لأنك تجازف بإفساد زملائك بمظاهر ابن العائلة و ميلك المفرط في النظافة. لأنني منذ فترة طويلة أرقبك، يا صغيري. منذ وقت طويل أدرك أن مظهرك يصبح أكثر فأكثر غير معتاد في مكان كهذا. ببساطة أمك أرملة فقيرة مريضة وليس لها غيرك لتقوتها. ولقد عهدت بك إليّ حتي أصنع منك رجلا، حقيقيا وليس فتي شوارع جميل. لكن الله يقرر كل شيء، يا بني، لم تخلق لتصبح متسولا، انصرف من هنا.
أدرك الصغير كيكا أن كل شيء قد انتهي، كل شيء، حتي بخصوص وجوده أيضا. لم يعد لديه أدني شك؛ طُرد من المدرسة؟ كيف سيمثُل أمام أمه؟
مثقل القلب، ينظر لزملائه للمرة الأخيرة، ثم يقرر الرحيل بتمهل. وهو في الخارج، بدأ في التبول بحزن لانهائي.
الآن يتحدث أبو شاوالي لتلاميذه عن ضرورة أن يكونوا متسخين بشكل دائم وعما تحدثه الوساخة من تأثير علي قرار الزبائن. يعطي بعض الأمثلة العنيفة ليعضد فرضيته، ثم يطردهم جميعا ويشرع في التفكير. في البداية، يحاول أن يجد في المدرسة الجديدة طابعا رخوا وزائلا. يحدث نفسه إنها طريقة عمل فتاكة لكنها ستزول مع الوقت. لا يمكن السير ضد التقاليد ولا يمكن التخلص بسهولة من العادات والمواثيق المستقرة منذ الأزل. هل رأينا من قبل متسولين يتنزهون في الشوارع، يرتدون ملابس كالبهلوانات ويثيرون عطف الناس المحترمين؟حتي لو حصل ذلك علي نجاح ما، لا يمكن أن يكون إلا نجاح حب الاستطلاع. سرعان ما يلاحظ أهل المدينة أن ذلك لم يكن إلا حيلة مضحكة تهدف إلي خداعهم.و لن يسمح أي شخص لنفسه بالاستغراق في هذا الأمر طويلا. لا يمكن إخفاء ويلات العوز الموجود من آلاف السنين، إنها تنتقل بشكل حتمي، علي الرغم من مستحضرات التجميل و أدوات التنكر.
يعتقد أبو شاوالي اعتقادا راسخا في فضيلة الإرهاب. المتسولون القذرون والذين يلقون الإرهاب في كل مكان، هذه هي الصورة التي تصنع القوة. إن قوة الفقراء تكمن في أسمالهم وفي وجوههم المعذبة. لا يمكن انتزاعهم هذه القوة؛ إنها تظل الملاذ الوحيد لمصيرهم المأساوي. فبها يدافعون ضد عالم الأقوياء الإجرامي وبها أيضا يستطيعون التأثير في هذا العالم، ويؤذونه في أمنه وفي رفاهيته.
انجرف أبوشاوالي عبر حماسته. هكذا واتته فكرة أن يذهب لمناقشة توفيق جاد. ربما سيجعله يفهم أن وجود الفقراء لا يمكن حله بطريقة فانتازية هكذا. تبدو له هذه المقابلة ضرورة مطلقة. لكن سيكون ذلك في وقت آخر؛ الآن يود قضاء قيلولته. إنه في حاجة للراحة لأن مشاجرة أم عاكوش أجهدته بشكل كبير.
عندما استيقظ أبو شاوالي، كان الليل قد أطل. بدأ- وبشكل عشوائي- في إطلاق بعض السباب الموجه لتلاميذه، لكن لم يرد عليه أحد. عندئذ خرج من كوخه الحقير وتوجه نحو درب الباشا، الشريان الرئيسي للمكان. قرر الذهاب إلي توفيق جاد.
ضرب الليل جذوره في الأرض. الجو كدر وبارد. هنا وهناك، بعض النيران من خشب مشتعل دون يقين كبير. بعض الناس يجلسون القرفصاء علي عتبة أكواخهم ليخدعوا جوعهم بالانخراط في حوارات لا طائل منها، بينما آخرون، متخفون خلف جدران غير واقعية، يمارسون بلا كلل الحب.أطفال متبلدون من الفقر ومن التعب ينامون غير مدركين للبرد، بين القذارة والبراز. يعرف أبوشاوالي هذا العالم، كل هذه الكائنات الحزينة والموسومة بمصير لا يرحم. ذلك كان بالنسبة لمعظم آباء تلاميذه. عادة تتسم تحياتهم بالتقدير والاحترام. لكن هذا المساء يعتقد أنه يستشف فيهم بعض الارتياب. بعضهم ألقاه أثناء مروره بمزح مشينة. أدرك أبوشاوالي أن مؤامرة كانت تحاك ضده وتوقف مترددا،بالقرب من درب اللصوص.
ضوء فريد من نوعه لكنه وافر يبرق بالقرب من المكان الذي توقف فيه. إنه مقهي حامد فرغلي الملقب بـ الباشا،لأنه الوحيد في المنطقة الذي كان يضاجع ثلاث نساء بشكل شرعي. لا يود أبو شاوالي أن يراه الباشا ولا الجالسين عنده في المقهي الآن. كان يعرف أنهم سوف يسألونه عن أحداث الصباح و هو يود تجنب النقاش قبل أن يقابل توفيق جاد.
اتجه يمينا أبوشاوالي واندفع داخل درب اللصوص. هناك،الظلمة مؤكدة ويجب أن يسير محتكا بالأكواخ. صمت مخيف يسيطر علي هذا الدرب المنيع حيث يسكن، كما يقال، أكبر قاتل في العالم. خلال بضع دقائق، استطاع أبو شاوالي متحسسا طريقه التعرف علي كوخ توفيق جاد. كان مشيدا من ألواح خشبية متفسخة وغير ملتحمة و يفصل بينها تيارات الهواء التي تعبرها وهي تصفر. اكتشف أبوشاوالي حجرا كبيرا بالقرب من هنا وسوف يجلس فوقه. يفضل عدم الدخول عند توفيق جاد، ومقابلته عندما يخرج من كوخه. سوف يصبحون هكذا أكثر راحة في الحديث. في الحقيقة، يخشي أن تؤثر عليه حميمية هذا الرجل الغريب.
أبوشاوالي يعرف أن توفيق جاد سوف يخرج من كوخه في نهاية المطاف. إنه يعرف مثل كل الناس المرض الذي يعاني منه توفيق جاد والعادة المأساوية الناتجة عن هذا المرض. لقد كان يعاني المثقف جاد من إسهال مزمن، مما كان يجبره علي الذهاب مرات عديدة في اليوم إلي المراحيض العمومية- التي توجد علي بعد كيلومترا من هنا- بالقرب من المدينة الأوروبية. كان يُشاهَد دائما وهو يهرول في الطريق، الطربوش مغروس حتي أذنيه صانعا بعصاته لفات عبثية وخطيرة.
ممدا علي حصيرته، يحاول جاد أن يتوصل لطبيعة الحضور الذي - منذ لحظة- تجلي بطريقة غير محسوسة وغريبة. " ليس لصا بكل تأكيد"، حدث نفسه. يود النهوض، لكنه يشعر بثقل في أطرافه. هذا الحضور المستغرب أفزعه وبدأ يتصبب عرقا كما لو كان تحت تأثير حمي شديدة. ومع ذلك رفع نفسه علي مرفقيه و تأمل الظلام الدامس الذي يحيطه، في محاولة للإمساك بإشارة ما كاشفة. لكنه من المستحيل أن يري أي شيء في هذه الظلمة. مال جاد يمينا، يبحث عن قطعة من شمعة ملقاة علي الأرض يشعلها. في ذلك الحين أدرك مشهدا غير عادي وفي نفس الوقت مطمئنا. في أحد أركان الكوخ تقف - في وضع ثابت - دجاجة كبيرة بريش ذهبي اللون، مثبتة عينيها علي جاد كما لوأنها تود تنويمه مغناطيسيا. في البداية اندهش و سُر جاد بهذه الدجاجة. وبعد ذلك تساءل كيف استطاعت الدخول إلي كوخه. يعرف أن في كل المنطقة لم يعتد أحد علي تربية دجاج. وآخر من زار المنطقة من هذا النوع تلك التي كانت قد قدمت للباشا كوجبة، منذ عامين، عند خروجه من السجن.
جاد في حالة ارتباك شديد. ماذا يعني هذا الطيف الرائع؟ جمود الدجاجة أحاله هو أيضا لجمود رهيب و تأملي. منذ فترة طويلة لم ير دجاجة بهذا القرب. ثم إنه يوجد مغناطيسية غريبة في عيون هذه الدجاجة. كان جاد يشعر أنه منجذب لها كما ينجذب لطيف جسدي خطير مملوء بالرقة والأُنوثة. إنها تفتنه بشكل واضح. يرتجف جسده تحت ضغط الرغبة المفاجئة، التي تملؤه نشوة ورهبة. يظل جامدا علي حصيرته، مفتونا بالعيون الواسعة لهذه الدجاجة ذات الريش الذهبي والتي تبدو أنها تأخذ مظاهر امرأة شهوانية، تتعهد برذائل غير معروفة. بدا لجاد أن الدجاجة تحركت. كان يشعر أن إنفجارا سوف يحدث و أن بالفعل امرأة ساحرة وشهوانية سوف تخرج من هذه الدجاجة وهي تهزهز مؤخرتها. وجه رائع خرج من عفن و خسة الليل. ربما أيضا روح لطيف مهزوم من الفقر والذي سوف يتحرر قريبا. ينتظر جاد هذه المعجزة، وهو ينهج، كمن علي وشك الإغماء.
مر وقت لانهائي، لكن لم يحدث أي شيء. انطفأت الشمعة الآن. تشوش انتباه جاد في الظلام وشعر فجأة أنه فريسة لآلام مبرحة. لا يزال هذا الإسهال الملعون. حينئذ نهض من علي الحصيرة، يلتقط من الأرض عصاته وطربوشه وخرج وهو يهرول. ما أن رأي جاد يخرج حتي انطلق في إثره دون انتظار.
- توقف، يا جاد أفندي، صاح. أود أن أحدثك.
توقف جاد، مندهشا، لكن اندهاشه كان لفترة وجيزة، لأنه كان لديه شيء آخر ليفعله.
- مساء الخير يا معلم،قال. بالفعل ليس لدي وقت. أنا متعجل. فليكن ذلك في وقت لاحق.
- أود أن أخبرك بأمور خطيرة، تنهد أبو شاوالي مهموما.
- فليكن، أستمع لك، قال جاد. لكني أخبرك أنني في عجلة من أمري.
هما الآن علي الطريق. من بعيد تلمع مصابيح الإنارة الحكومية بشكل واضح. علي اليسار، طريق السكة الحديد، وفي الأمام تماما المدينة بأنوارها العديدة الجذابة والضارة.
يسير جاد وهو متجهم علي نحو عظيم. إنه رجل في الخمسين من عمره، يرتدي بدلة من الصوف بنية اللون، مجعدة تماما ولا يخلعها مطلقا. استدار ناحية أبوشاوالي وأراد أن يوضح له وضعه، لكن الآلام تعاوده فاضطر أن يسير بخطي حثيثة. بعد فترة، سأله:
- أنت ذاهب إلي المراحيض، يا معلم؟
- لا، أجاب أبو شاوالي.أصطحبك فقط. ولكن بهذه المناسبة، قل لي، ألا يمكنك أن تقضي حاجتك مثل كل الناس، بالقرب من الكوخ؟
- ماذا أقول لك، يا سيدي. إنها قصة طويلة. لكني لا أستطيع فعل ذلك في الهواء الطلق.
- أه! فهمت. ربما لديك تخوف من أن يري أحد مؤخرتك.
لم يرد جاد. هذه المزحة السوقية أثارت اشمئزازه وحث الخطي أكثر، بنية التخلص من المعلم. الحقيقة أنه لا يزال يحتفظ بميوله الفطرية كبرجوازي قديم،مشبعا بتحيزات مسبقة. يلتزم بأخلاقيات الإنسان المثقف. بالنسبة لمثقف مثله، قضاء حاجته في الخلاء يعادل خيانة للعقل.
طرح أبوشاوالي الموضوع الذي يحفظه في قلبه.
- أتيت، يا جاد أفندي، لأحدثك عن خطر يهدد عالم الفقراء.
- أي خطر يا معلم؟
- خطر الفانتازيا.
يسود صمت، أثناءه يحاول جاد الهروب من قبضة المعلم. في الحقيقة،هذه البيئة المجبر علي الحياة فيها تصيبه بالرعب. يشعر باشمئزاز فطري تجاه كل هذا العالم الواقعي والبائس. يفضل أن يرفه عن نفسه بأوضاع خيالية. مجال الفانتازيا شديد التنوع. يفكر في هذه الدجاجة ذات الريش الذهبي و في عيون المرأة الشهوانية، التي اختفت بشكل مفاجئ. هناك في الحياة أشياء خيالية وجاد يحب تلك الأشياء. و مع ذلك يلتفت نحو أبو شاوالي ويسأل باهتمام:
- ماذا قلت، يا سيدي؟
- قلت، يا جاد أفندي، أن، بالنسبة لنا، الفانتازيا خطر.نحن بحاجة لشيء آخر.
- وماذا نحتاج إذن، يا سيدي؟
نحتاج للواقعية،قالها بحدة أبو شاوالي.
كلمة الواقعية هذه شلت كل ملكات جاد. لم يعرف بماذا يرد. و تساءل عما إذا كان من الأفضل أن يُحدث المعلم عن هذه الدجاجة ذات العيون المغناطيسية، التي حاولت أن تغريه كمومس. في الحقيقة لم يزل لا يفهم ما يريده المعلم. ولماذا هذا الحوار العبثي؟حاول الهروب بأن يسرع في مشيته، لكن أبو شاوالي أمسكه من ذراعه.
- لقد ألقيت فيما بيننا البذرة المشئومة للفناتازيا، استنكر أبو شاوالي.والآن ماذا ستفعل؟
- الفانتازيا شيء رائع، يا سيدي.
- ستصبح مؤذية لنا.
هذا المثقف المحبط يجهل الفقر الحقيقي؛ الفقر العبثي والمستديم الذي يمسك بالبشر منذ ولادتهم. حتي فقره أيضا فانتازيا عابرة وليس حتميا. بل هو من كان يريده حيث سمح لنفسه أن يذهب إليه. يستطيع التخلص منه كشيء نرميه وننساه. لكنهم، لا يستطيعون. يجب إبطاء مسيرة الزمن لتجهيز الانفجار المروع الذي سيخلصهم.
- قل لي، جاد أفندي، هل ستفتح مدرسة؟ يجب أن أعرف.
- أي مدرسة، يا سيدي؟
بالفعل لم يفهم أي شيء من كل هذا. لايزال مستمرا في إظهار تجهمه المرعب.
- مدرسة للمتسوليين، يا جاد أفندي. ألا تريد أن تضع نظريتك الرائعة موضع التطبيق؟
- من أخبرك ذلك، يا سيدي ؟ ليس لدي نية فتح مدرسة. بشرفي، لا أفهم أي شيء من كل ما تقوله هذا.
- منذ بضعة أيام، وضح أبوشاوالي،حدثتنا عن علم ما يسمي علم النفس. في مقهي الباشا، ويوجد شهود. حدثتنا كذلك عن طريقة جديدة في طلب الإحسان. طريقة خيالية تماما. أتذكر ذلك؟
- أه! نعم، أتذكر ذلك، قال جاد. إنها فكرة كانت قد مرت برأسي. ألا تجدها رائعة؟
- أجدها وحشية.
- و لماذا ذلك؟
لأنها تنال من كرامتنا نحن الفقراء. أتريد أن تجعلنا كالبهلوانات؟ لا نريد التنكر في هيئة البهلوانات حتي نحصل علي حق الحياة. ما يمنحنا الناس، يجب أن نحصل عليه بوسائل لائقة وواقعية. أتريد أن تجعلهم يعتقدون أننا سعداء؟يجب أن يظهر أولادنا كما هم في الواقع، أي متسخين وملوثين ويتسكعون في الشوارع ككائنات حية لوامة. يجب أن يخافنا الناس ويشعرون من حولهم بتصاعد الرائحة المثيرة للغثيان نتيجة فقرنا الهائل.
- اعتقدت، قال جاد،أن شيئا ما من البهجة كان سيسهل بشكل كبير الأمور.
- لا نريد خدمات من مبدأ البهجة. البهجة يجب أن تهلك. نريد أن نكون شعبا واقعيا، شعبا يعاني، ومن ثم فالجروح واضحة وملموسة. فهمت، يا جاد أفندي؟ هذا ما كنت أود أن أخبرك به.
تردد جاد للحظة، ثم قال.
- ولكن التقدم يتطلب تعديلات في كل المجالات، يا سيدي. فقط كنت أود محاولة التجريب.
- التسول لا يخضع لتعديلات. يجب أن يظل كما هو أو يختفي كلية من علي وجه الأرض.
بقيا فترة صامتين. من حولهم هناك الحياة تمر؛ الحياة التي فوق الأحلام والانتقام وحيث لا يمكن أن يقف أي شيء. يتأمل جاد الطريق أمامه ويقيس بنظره المسافة التي بقيت ليسيرها قبل أن يصل للمراحيض العمومية. يريد أن يجري، لكن لايزال أبو شاوالي يمسك به من ذراعه. تنبح كلاب بالقرب من كوخ مهجور. يجري الرجلان الآن علي الطريق. قطار مضيء يمر علي السكة الحديد محدثا صوتا جهنميا.
يقتربان من المدينة. تصير المصابيح أكثر عددا وأكثر سطوعا. الحضارة تعطي نتائج جيدة هكذا، بالأنوار التي تتوافر حولها لتعمي الناس.
- لا أعرف ما يدخره لنا المستقبل، تنهد أبو شاوالي.
- المستقبل، قال جاد، في نهاية هذا الطريق،في هذا المبني الصغير الذي تراه هناك.
ينظر أبوشاوالي لآخر الطريق. ما يراه لم يكن مكانا مميزا بشكل محدد حتي يؤوي المستقبل.
- لكن إنها المراحيض العمومية، قال، مستغربا.
- حقا، يا سيدي. المستقبل في المراحيض العمومية، علي الأقل الآن.
لم يعد يستطيع تمالك نفسه. جري مباشرة أمامه، نحو المستقبل.
بقي أبوشاوالي بمفرده تماما في وسط الطريق. ينظر السماء المظلمة، ثم ينظركذلك أمامه. لكن أمامه هناك المدينة الشرهة والمجرمة. ويري المستقبل مسجلا علي شكل بقع دموية في وسط هذه المدينة.
==================
* نص نادر للكاتب المصري ألبير قصيري المولود عام»1913«
كتبه في المرحلة المصرية قبل أن يهاجر إلي فرنسا ليستقر هناك.
النص نشر في مجموعته القصصية الأولي " بشر نسيهم الله" التي نشرت عام 1941 ..وكان قد سبقها بديوان شعر وحيد حمل عنوان "لسعات » عام 1931 «
القصة التي تعتبر من بدايات قصيري تعبر عن فلسفته في الحياة والكتابة..وتحمل سمات عوالمه الإبداعية التي استمرت حتي رحيله في عاصمة النور ... حيث ظلت الأجواء المصرية تشكل عالمه ..هو الذي قال: "لست في حاجة لأن أعيش في مصر ولا لأن أكتب بالعربية، فإن مصر في داخلي وهي ذاكرتي".
--------------------
ألبير قصيري (3 نوفمبر 1913 - 22 يونيو 2008)، كاتب مصري من أصل سوري يكتب بالفرنسية، لقب بفولتير النيل وأوسكار وايلد الفرنسي وباستر كيتون العربي.
بدايته
ولد ألبير قصيري في 3 نوفمبر 1913م بحى الفجالة بالقاهرة لأبويين مصريين أصولهما من الشوام الروم الأرثوذكس، كانت عائلته من الميسورين حيث إن والده كان من أصحاب الأملاك. في حديث مع عبد الله نعمان عام 1998، قال قصيري: «نحن من شوام مصر. والدي أرثوذكسي من بلدة القصير قرب حمص في سوريا. انتقلت العائلة إلى مصر أواخر القرن التاسع عشر».
تلقى ألبير قصيري تعليمه في مدارس دينية مسيحية قبل أن ينتقل إلى مدرسة الجيزويت الفرنسية، حيث قرأ لبلزاك وموليير وفيكتور هوغو وفولتير وغيرهم من كبار الكتّاب الفرنسيين الكلاسيكيين.
حياته
كانت فلسفة ألبير قصيري في حياته هي فلسفة الكسل، لم يعمل في حياته وكان يقول انه لم ير أحدا من أفراد عائلته يعمل الجد والأب والأخوة في مصر كانوا يعيشون على عائدات الأراضى والأملاك، اما هو فقد عاش من عائدات كتبه وكتابة السيناريوهات، وكان يقول (حين نملك في الشرق ما يكفى لنعيش منه لا نعود نعمل بخلاف أوروبا التي حين نملك ملايين نستمر في العمل لنكسب أكثر).
عمل في البحرية التجارية ما بين عامى 1939 و1943 مما أتاح له زيارة العديد من الأماكن منها أمريكا وأنجلترا، زار فرنسا لأول مرة عندما كان في السابعة عشر من عمره قبل أن يقرر أن يستقر فيها في عام 1945م وكان حينها في الثانية والثلاثين.
عاش ألبير قصيري طوال حياته في غرفة رقم 58 في فندق لا لويزيان بشارع السين بحى سان جيرمان دو بريه منذ عام 1945م وحتى وفاته، وأختار العيش في غرفة فندق لأنه كان يكره التملك حيث كان يقول (الملكية هي التي تجعل منك عبدا).
تزوج ألبير قصيري من ممثلة مسرحية فرنسية ولكن لم يدم هذا الزواج طويلا وعاش بقية حياته أعزب وحين كان يسأل عن السعادة كان يقول أن أكون بمفردى.
تعرف ألبير قصيري في فرنسا على ألبير كامى وجان بول سارتر ولورانس داريل وهنرى ميللر الذين أصبحوا فيما بعد رفقته وصحبته اليومية طوال 15 عاما في مقهى كافيه دو فلور.
أصيب في عام 1998م بسرطان في الحنجرة حرمه من حباله الصوتية بعد عملية اجراها لستئصاله وفقد القدرة على النطق، وكان يجيب على أسئلة الصحفيين كتابة.
لم يطلب ألبير قصيري الحصول على الجنسية الفرنسية على الأطلاق وكان يؤكد (لست في حاجة لأن أعيش في مصر ولا لأن أكتب بالعربية، فإن مصر في داخلي وهى ذاكرتى)
أعماله الأدبية
بدأ ألبير قصيري الكتابة في سن العاشرة، وكان يصف نفسه ب(الكاتب المصري الذي يكتب بالفرنسية)، ترجمت أعماله إلى 15 لغة منها العربية، ولم يكن راض عن نسخة الترجمة العربية بسبب الحذف الذي تم من قبل الرقابة، وقد ترجم له بعض رواياته محمود قاسم وصدرت في القاهرة.
كانت مصر دائما مسرح رواياته وشخصيات رواياته من المصريين البسطاء، ورواياته وأعماله هي :
لسعات 1931 وهو ديوان شعريا نشر في القاهرة
بشر نسيهم الرب 1941 وهى مجموعته القصصية الأولى، وصدرت بالقاهرة
بيت الموت المحتوم 1944
تنابل الوادى الخصب 1948
شحاذون ومتغطرسون 1955
العنف والسخرية 1962 وقد حولت إلى فيلم أخرجته أسماء البكري
مؤامرة مهرجيين 1975
طموح في الصحراء 1984
موت المنزل الأكيد 1992
ألوان النذالة 1999 وهى آخر أعماله