كنت أعرف الشيخ حسين ولي جارًا لنا يسكن في قرية قريبة من كفرنا في الشرقية، وكان له ما يقرب من الفدان يزرعه ويعيش منه، فكنت وأنا صغير أخرج مع أخي أو ابن عمي فنسير في الحقول حتى نبلغ أرض هذا الجار فنقعد عند ساقية كان يسقي منها زرعه ونتحادث معه في شئون شتى. وكان حول الساقية حرجة من الأشجار المتكاثفة من السنط والجميز، وكان لها ظل سابغ إذا بلغناه قعدنا فيه وارتوينا بجرعات الماء نحمله بأيدينا من قناة الساقية إلى أفواهنا.
وكان الشيخ حسين فوق الخمسين معروق الوجه قليل شعر اللحية آدم اللون، وكان يقعد أحيانًا معنا يحدثنا عن كل شيء يخطر في باله، وكان إذا تكلم نكت الأرض بعصاه وابتسم وأبرقت أساريره، فنرى في وجهه بشاشة حلوة نأنس بها.
ولم يكن حديثه يلذ لنا كثيرًا لأنه كان يتكلم على الدوام عن الزراعة والغلات، وهذه كلها لم نكن في سننا تلك نأبه لها، وإنما كنا نحب منه تلك الأنسة التي كان يلقانا بها وأيضًا ذلك الخيار أو القثاء الطازجة يقطعها من أرضه ويقدمها لنا.
وكانت هذه الساقية وما حولها من الأشجار والشيخ حسين وأولاده وما انطبع على وجوههم من هناء العيش وطمأنينة الحياة كلها كانت تجذبنا، فلا يكاد يمر علينا يوم بالكَفر إلا ونزورها.
وشببنا ودخلنا المدارس واغتربنا بعضُنا في القاهرة وبعضنا في المدن الأخرى، فكنت لا أذكر أيام صباي وحلاوتها إلا مقرونة بساقية الشيخ حسين وتلك الساعات التي قضيناها في ظلال أشجارها، وما كنت أنسى وأنا أزور الكَفر زيارة الشيخ حسين فأقعد معه وأحاوره في الزراعة التي صرت أفهم فيه شيئًا، وإن كانت «الدورة الزراعية» لم تكن قد وضحت بعدُ في ذهني مع أني كنت قد جزت الخامسة عشرة. فكنت أحرص على ألَّا يظهر جهلي بها أمام أحد الفلاحين.
وحدث وأنا حول العشرين أني زرت الشيخ حسين فألفيت الأحوال قد حالت، وما كنت أراه من طمأنينة في وجوه العائلة وانبساط وأنسة في كلا الشيخ حسين قد تبدل كله شيئًا من الكآبة والصمت والشكوى.
فاستوضحته عن حقيقة شكواه فأخبرني، وهو يحيل كل شيء إلى إرادة الله: أن أرضه مرهونة وأن قيمة الرهن كبيرة تبلغ نحو ٨٠ جنيهًا، وأنه يلقى صعوبات كثيرة في دفع القسط، ولكنه يعتمد على الله في وفاء الدين وتخليص الأرض، وكان يروى لي قصة الدَّيْنِ وهو ينظر إلى الأرض ينكتها بعصاه على عادته، وتبين لي من هذه القصة أن أرض الشيخ حسين كانت في الأصل غير مربعة تستطيل قليلًا ثم يدخل طرفها في أرض الجار، وكان يحلم على الدوام بادِّخَارِ شيء من المال لكي يشتري بضعة قراريط ويدفع عوضًا للجار فتصير العشرين القيراط التي معه نحو ثمانية وعشرين قيراطًا مربعة. وادَّخَرَ بالفعل مقدارًا من المال وشرع في مفاوضة جاره في شراء ثمانية قراريط منه وفي عمل الاستبدالات اللازمة لكى تصير القطعة مربعة. ولكن الثمن لم يكن كله حاضرًا فاحتاج إلى الاقتراض من بنك فريد أحد المرابين في المدينة.
وكان فريد هذا مرابيًا معروفًا في المدينة، فلما ذكر اسمه التفت إليَّ ابن الشيخ حسين وكان يُدعى محمودًا وكان في سني تقريبًا وقال: «أنا حذرته منه يا أفندي، والله العظيم أنا حذرته منه» قال هذا وزفر زفرة تشبه التأوُّه.
فقال الشيخ حسين وهو يرد على ابنه أكثر مما يروي لي: «لما قلت نعمل القطعة مربعة كلكم وافقتوني، حد منكم قال لا؟ الدين ده أصله إيه؟ أنا عشت بعشرين قيراط وطول عمري أنتم اللي طمعتم».
ورأيت المحاورة بين الأب والابن توشك أن تحتدم وكل منهما يتهم الآخر بالطمع وبأنه السبب في الدَّيْنِ، فهونت عليهما وارتجلت لهما حسابًا يمكنهما من دفع القسط واستهلاك شيء من رأس المال كل عام، فلا تمضي ست أو سبع سنوات حتى تكون الأرض خالصة من الدَّيْنِ، فوافقني كلاهما معتمدين على الله وما يكتبه لهما في لوح القدر.
وتركتهما وفي نفسي كمود أفكر في طريقي وأنا عائد إلى الكفر، وأتأمل في هذا الشيخ الذي كنت أتمثل السعادة الريفية فيه وأذكر قناة ساقيته بمائها الصافي والظل الوارف الذي تسبغه الأشجار عليها كأنها لازمة من لوازم السعادة. وأذكر البشاشة التي كانت تكسو وجهه كيف تبدلت الآن همًّا عظيمًا يأخذ عليه مسالك تفكيره ويملأ حياته نكدًا ونغاصة، ما كان أسعده وهو في تلك العشرين القيراط وإن لم تكن في ذلك الوقت مربعة، وما أشقاه الآن بهموم الدين ولو أن القطعة مربعة وتبلغ ثمانية وعشرين قيراطًا.
والحق أني تمنيت لهذا المسكين أمنية خالصة أن يخلص من دينه ويعود إلى حياته الساذجة وأن يفرغ من هذه الهموم التي طرأت عليه في شيخوخته وسوَّدت عليه أيامه.
واغتربت أنا عن الكفر نحو ست سنوات عدت بعدها إليه، فما كان أشد استغرابي وألمي عندما سمعت أن الشيخ حسين ولي وأولاده قد انتقلوا إلى كفرنا بعد أن بيعت أرضهم وبيع بيتهم في القرية المجاورة، وأنهم الآن يشتغلون بالأجرة، وكانت خلاصة ذلك أنهم لم يقدروا على دفع الدَّيْنِ فبيعت الأرض فلم تفِ بالدين فبيع البيت أيضًا.
هذه هي خلاصة القصة التي رواها لي أهل كفرنا، ولكني أردت أن أستقيها من مَعِينِهَا الأصلي، فانتهزت فرصة وجود الشيخ حسين بالغيط وخرجت لكى أقعد معه قليلًا وأهون عليه هذه الحالة الجديدة التي ألقاه فيها القدر، ولكن ما أشد ما كانت دهشتي عندما رأيت الشيخ حسين قد عادت إليه بشاشته ووجهه متهلل ينبسط في الحديث ويروي ماضيه رواية موضوعية كأن لا شأن له في وقائعها، فذكرت حاله هذه بحالِه تلك عندما زرته عند الساقية وهو مثقل بالدَّيْنِ مشتت الفكر حائر في كيفية دفعه فقلت في نفسي: «هذا هو برد اليقين تطمئن إليه النفس بعد هموم الحيرة، فإن المصيبة مهما ثقلت وفدحت أهون على النفس عند التحقق من وقوعها مما هي عند الشك في وقوعها والنجاة منها».
وقعدت أمامه على العشب أغذو عيني من هيئته الساذجة واستسلامه لحكم الأقدار، وكانت عصاه معه ينكت بها الأرض وساقاه عاريتين إلى الرُّكَبِ وعروقهما بارزة، أما وجهه فلم يتغير عمَّا عهدته منذ صباي لولا أنَّ الشيب قد وخطه قليلًا وأسنانه الأمامية قد زالت إلا اثنتين ضلتا أخواتهما ووقفتا مفردتين معلَّقَتَيْنِ.
فأبديت شوقي لرؤيته وذكرت له أسفي عن فقدانه أرضه، فضحك ونظر إلى الأرض ونكتها بعصاه وقال: «هيه. عمرك طويل كلها فانية، واهو عمر ويفوت»
قلت: «ولكن أرضك يا شيخ حسين كانت جيدة وغلتها كبيرة، وكان يمكنك دفع الأقساط كلها».
فقال: «كان يمكنِّي، لكن حصل غش وسرقوا منا الأرض سرقة، الله يجازيهم».
فلما ذكر الغش مالت نفسي إلى سماع القصة؛ لأن بيع الأرض لم يجرِ على الطرق المألوفة في مثل هذه الحالات: عجز عن الدفع ثم البيع، فسألته أن يحكي لى القصة من أولها.
فقال: «لما اشترينا الأرض استلفنا من بنك فريد ٤٠ جنيهًا ندفعها ٨٠ في خمس سنوات كل سنة ١٦ جنيهًا، وكنا وقت التيسير ندفع القسط، وكان الكاتب رجلًا كلامه حلو لكن قلبه أسود، يرخي لنا الحبل ويطلب منَّا في مقابل ذلك شيئًا من الجبن والزبد، وحصلت بيننا وبينه مودة فلم نطلب منه كتابة إيصالات».
فتجسم في ذهني نوع «الغش» الذي سرقوا به الأرض منه فقلت: «ولِمَ لم تكتب إيصالًا؟»
فقال: «والله يا أفندي عمري ما كتبت وظني أن الدنيا سلام وأمان، ولكن بعد ثلاث سنوات جاءني إعلان دعوى بالدفع وفيه أنى متأخر لم أدفع شيئًا قط».
قلت: «وماذا قلت في المحكمة؟»
فقال: «أنا عمري ما دخلت محكمة، كنت أظن أن المحكمة واسعة والقاضي رجل شيخ يلبس عمامة كبيرة وأمامه كتاب الله يحلف عليه بالحق، لكن لما دخلت لقيت واحد أفندي شاب صغير، كنت أفتكر في الأول إنه لما يشوفني يشتمني ويقول لي: ليه ما دفعتش يا ابن الكلب؟ زي العساكر ما بتقول للفلاحين، ولكن هو أول ما شافني تلطف وقال لي: يا عم يا بوي. فارتحت ورجع لي نفسي وقلت له: أنا دفعت الأقساط كلها للكاتب فلان. وكان الكاتب جنبي، فسأله القاضي فأنكر وعرض على القاضي أنه يحلف اليمين».
وهنا تجسم في ذهني «غش» آخر وقع فيه هذا المسكين لأن اليمين قاطعة وتمنع السير في التحقيق فقلت: «وهل حلف؟ وهل رضيت أن يحلف؟»
فمد ساقه على العشب ورفع عصاه وقال: «أنا قلت للقاضي: يحلف؟ إن كان يحلف يحلف. هو ودينه ومنه لله. وأمره القاضي أن يحلف فحلف بأسرع من البرق وأنكر كل شىء أخذه مني، وتشمرت أنا وبدأت أبين وأوضح، ولكن القاضي هنا قال لي: اسكت يا شيخ؛ انت قبلت اليمين، القضية انتهت. قلت: قضية ايه يا حضرة القاضي؟ للساعة ابتدينا؟! ولكن كل كلامي كان غير مفيد، حكم علينا بالمبلغ والفوائد ورفضت الخروج ولكن الحاجب جاء وأخرجني».
قلت: «وبعد ذلك؟»
فمسح جبهته كأنه يمحو ذكرى قديمة مؤلمة، وتنهد ثم نظر إلى الأرض وعاد إلى نَكتها بعصاه وقال: «عمرك طويل، بعد الحكم الحجز والعمدة يعين الخفراء على المحصول ياكلوه، وارتباك في ذيل ارتباك حتى البيع، واهو عمر ويفوت».
وكان الشيخ حسين فوق الخمسين معروق الوجه قليل شعر اللحية آدم اللون، وكان يقعد أحيانًا معنا يحدثنا عن كل شيء يخطر في باله، وكان إذا تكلم نكت الأرض بعصاه وابتسم وأبرقت أساريره، فنرى في وجهه بشاشة حلوة نأنس بها.
ولم يكن حديثه يلذ لنا كثيرًا لأنه كان يتكلم على الدوام عن الزراعة والغلات، وهذه كلها لم نكن في سننا تلك نأبه لها، وإنما كنا نحب منه تلك الأنسة التي كان يلقانا بها وأيضًا ذلك الخيار أو القثاء الطازجة يقطعها من أرضه ويقدمها لنا.
وكانت هذه الساقية وما حولها من الأشجار والشيخ حسين وأولاده وما انطبع على وجوههم من هناء العيش وطمأنينة الحياة كلها كانت تجذبنا، فلا يكاد يمر علينا يوم بالكَفر إلا ونزورها.
وشببنا ودخلنا المدارس واغتربنا بعضُنا في القاهرة وبعضنا في المدن الأخرى، فكنت لا أذكر أيام صباي وحلاوتها إلا مقرونة بساقية الشيخ حسين وتلك الساعات التي قضيناها في ظلال أشجارها، وما كنت أنسى وأنا أزور الكَفر زيارة الشيخ حسين فأقعد معه وأحاوره في الزراعة التي صرت أفهم فيه شيئًا، وإن كانت «الدورة الزراعية» لم تكن قد وضحت بعدُ في ذهني مع أني كنت قد جزت الخامسة عشرة. فكنت أحرص على ألَّا يظهر جهلي بها أمام أحد الفلاحين.
وحدث وأنا حول العشرين أني زرت الشيخ حسين فألفيت الأحوال قد حالت، وما كنت أراه من طمأنينة في وجوه العائلة وانبساط وأنسة في كلا الشيخ حسين قد تبدل كله شيئًا من الكآبة والصمت والشكوى.
فاستوضحته عن حقيقة شكواه فأخبرني، وهو يحيل كل شيء إلى إرادة الله: أن أرضه مرهونة وأن قيمة الرهن كبيرة تبلغ نحو ٨٠ جنيهًا، وأنه يلقى صعوبات كثيرة في دفع القسط، ولكنه يعتمد على الله في وفاء الدين وتخليص الأرض، وكان يروى لي قصة الدَّيْنِ وهو ينظر إلى الأرض ينكتها بعصاه على عادته، وتبين لي من هذه القصة أن أرض الشيخ حسين كانت في الأصل غير مربعة تستطيل قليلًا ثم يدخل طرفها في أرض الجار، وكان يحلم على الدوام بادِّخَارِ شيء من المال لكي يشتري بضعة قراريط ويدفع عوضًا للجار فتصير العشرين القيراط التي معه نحو ثمانية وعشرين قيراطًا مربعة. وادَّخَرَ بالفعل مقدارًا من المال وشرع في مفاوضة جاره في شراء ثمانية قراريط منه وفي عمل الاستبدالات اللازمة لكى تصير القطعة مربعة. ولكن الثمن لم يكن كله حاضرًا فاحتاج إلى الاقتراض من بنك فريد أحد المرابين في المدينة.
وكان فريد هذا مرابيًا معروفًا في المدينة، فلما ذكر اسمه التفت إليَّ ابن الشيخ حسين وكان يُدعى محمودًا وكان في سني تقريبًا وقال: «أنا حذرته منه يا أفندي، والله العظيم أنا حذرته منه» قال هذا وزفر زفرة تشبه التأوُّه.
فقال الشيخ حسين وهو يرد على ابنه أكثر مما يروي لي: «لما قلت نعمل القطعة مربعة كلكم وافقتوني، حد منكم قال لا؟ الدين ده أصله إيه؟ أنا عشت بعشرين قيراط وطول عمري أنتم اللي طمعتم».
ورأيت المحاورة بين الأب والابن توشك أن تحتدم وكل منهما يتهم الآخر بالطمع وبأنه السبب في الدَّيْنِ، فهونت عليهما وارتجلت لهما حسابًا يمكنهما من دفع القسط واستهلاك شيء من رأس المال كل عام، فلا تمضي ست أو سبع سنوات حتى تكون الأرض خالصة من الدَّيْنِ، فوافقني كلاهما معتمدين على الله وما يكتبه لهما في لوح القدر.
وتركتهما وفي نفسي كمود أفكر في طريقي وأنا عائد إلى الكفر، وأتأمل في هذا الشيخ الذي كنت أتمثل السعادة الريفية فيه وأذكر قناة ساقيته بمائها الصافي والظل الوارف الذي تسبغه الأشجار عليها كأنها لازمة من لوازم السعادة. وأذكر البشاشة التي كانت تكسو وجهه كيف تبدلت الآن همًّا عظيمًا يأخذ عليه مسالك تفكيره ويملأ حياته نكدًا ونغاصة، ما كان أسعده وهو في تلك العشرين القيراط وإن لم تكن في ذلك الوقت مربعة، وما أشقاه الآن بهموم الدين ولو أن القطعة مربعة وتبلغ ثمانية وعشرين قيراطًا.
والحق أني تمنيت لهذا المسكين أمنية خالصة أن يخلص من دينه ويعود إلى حياته الساذجة وأن يفرغ من هذه الهموم التي طرأت عليه في شيخوخته وسوَّدت عليه أيامه.
واغتربت أنا عن الكفر نحو ست سنوات عدت بعدها إليه، فما كان أشد استغرابي وألمي عندما سمعت أن الشيخ حسين ولي وأولاده قد انتقلوا إلى كفرنا بعد أن بيعت أرضهم وبيع بيتهم في القرية المجاورة، وأنهم الآن يشتغلون بالأجرة، وكانت خلاصة ذلك أنهم لم يقدروا على دفع الدَّيْنِ فبيعت الأرض فلم تفِ بالدين فبيع البيت أيضًا.
هذه هي خلاصة القصة التي رواها لي أهل كفرنا، ولكني أردت أن أستقيها من مَعِينِهَا الأصلي، فانتهزت فرصة وجود الشيخ حسين بالغيط وخرجت لكى أقعد معه قليلًا وأهون عليه هذه الحالة الجديدة التي ألقاه فيها القدر، ولكن ما أشد ما كانت دهشتي عندما رأيت الشيخ حسين قد عادت إليه بشاشته ووجهه متهلل ينبسط في الحديث ويروي ماضيه رواية موضوعية كأن لا شأن له في وقائعها، فذكرت حاله هذه بحالِه تلك عندما زرته عند الساقية وهو مثقل بالدَّيْنِ مشتت الفكر حائر في كيفية دفعه فقلت في نفسي: «هذا هو برد اليقين تطمئن إليه النفس بعد هموم الحيرة، فإن المصيبة مهما ثقلت وفدحت أهون على النفس عند التحقق من وقوعها مما هي عند الشك في وقوعها والنجاة منها».
وقعدت أمامه على العشب أغذو عيني من هيئته الساذجة واستسلامه لحكم الأقدار، وكانت عصاه معه ينكت بها الأرض وساقاه عاريتين إلى الرُّكَبِ وعروقهما بارزة، أما وجهه فلم يتغير عمَّا عهدته منذ صباي لولا أنَّ الشيب قد وخطه قليلًا وأسنانه الأمامية قد زالت إلا اثنتين ضلتا أخواتهما ووقفتا مفردتين معلَّقَتَيْنِ.
فأبديت شوقي لرؤيته وذكرت له أسفي عن فقدانه أرضه، فضحك ونظر إلى الأرض ونكتها بعصاه وقال: «هيه. عمرك طويل كلها فانية، واهو عمر ويفوت»
قلت: «ولكن أرضك يا شيخ حسين كانت جيدة وغلتها كبيرة، وكان يمكنك دفع الأقساط كلها».
فقال: «كان يمكنِّي، لكن حصل غش وسرقوا منا الأرض سرقة، الله يجازيهم».
فلما ذكر الغش مالت نفسي إلى سماع القصة؛ لأن بيع الأرض لم يجرِ على الطرق المألوفة في مثل هذه الحالات: عجز عن الدفع ثم البيع، فسألته أن يحكي لى القصة من أولها.
فقال: «لما اشترينا الأرض استلفنا من بنك فريد ٤٠ جنيهًا ندفعها ٨٠ في خمس سنوات كل سنة ١٦ جنيهًا، وكنا وقت التيسير ندفع القسط، وكان الكاتب رجلًا كلامه حلو لكن قلبه أسود، يرخي لنا الحبل ويطلب منَّا في مقابل ذلك شيئًا من الجبن والزبد، وحصلت بيننا وبينه مودة فلم نطلب منه كتابة إيصالات».
فتجسم في ذهني نوع «الغش» الذي سرقوا به الأرض منه فقلت: «ولِمَ لم تكتب إيصالًا؟»
فقال: «والله يا أفندي عمري ما كتبت وظني أن الدنيا سلام وأمان، ولكن بعد ثلاث سنوات جاءني إعلان دعوى بالدفع وفيه أنى متأخر لم أدفع شيئًا قط».
قلت: «وماذا قلت في المحكمة؟»
فقال: «أنا عمري ما دخلت محكمة، كنت أظن أن المحكمة واسعة والقاضي رجل شيخ يلبس عمامة كبيرة وأمامه كتاب الله يحلف عليه بالحق، لكن لما دخلت لقيت واحد أفندي شاب صغير، كنت أفتكر في الأول إنه لما يشوفني يشتمني ويقول لي: ليه ما دفعتش يا ابن الكلب؟ زي العساكر ما بتقول للفلاحين، ولكن هو أول ما شافني تلطف وقال لي: يا عم يا بوي. فارتحت ورجع لي نفسي وقلت له: أنا دفعت الأقساط كلها للكاتب فلان. وكان الكاتب جنبي، فسأله القاضي فأنكر وعرض على القاضي أنه يحلف اليمين».
وهنا تجسم في ذهني «غش» آخر وقع فيه هذا المسكين لأن اليمين قاطعة وتمنع السير في التحقيق فقلت: «وهل حلف؟ وهل رضيت أن يحلف؟»
فمد ساقه على العشب ورفع عصاه وقال: «أنا قلت للقاضي: يحلف؟ إن كان يحلف يحلف. هو ودينه ومنه لله. وأمره القاضي أن يحلف فحلف بأسرع من البرق وأنكر كل شىء أخذه مني، وتشمرت أنا وبدأت أبين وأوضح، ولكن القاضي هنا قال لي: اسكت يا شيخ؛ انت قبلت اليمين، القضية انتهت. قلت: قضية ايه يا حضرة القاضي؟ للساعة ابتدينا؟! ولكن كل كلامي كان غير مفيد، حكم علينا بالمبلغ والفوائد ورفضت الخروج ولكن الحاجب جاء وأخرجني».
قلت: «وبعد ذلك؟»
فمسح جبهته كأنه يمحو ذكرى قديمة مؤلمة، وتنهد ثم نظر إلى الأرض وعاد إلى نَكتها بعصاه وقال: «عمرك طويل، بعد الحكم الحجز والعمدة يعين الخفراء على المحصول ياكلوه، وارتباك في ذيل ارتباك حتى البيع، واهو عمر ويفوت».