أمل الكردفاني - الدولة كوهم يتم تكريسه من أقليات

دائماً ما كنت اتساءل عن الأخلاق، والجدل الفلسفي حول طبيعتها، والنهاية المرة التي ستصل لها عندما تتعمق في تجذير المفاهيم، وخاصة تلك المصطلحات التي تملأ دنيانا بالصخب، كالعدالة والوطنية والحب والدولة والقانون..الخ. هذه مصطلحات يتم التعامل بها بشكل يومي من خلال وعي حدسي وشديد العمومية، وغير مرغوب -أقول غير مرغوب- في أي نقاش حولها، نحن على نحو دقيق لا نود ان ننسف تلك المصطلحات، بل نخشى أن نمارس عليها نقداً ولو بغير منهجية، لأنها قد تزعزع عالمنا الذي يبدو مستقراً وإن لم يك راسخاً. لقد ناقشت مشكلة العدالة في بعض المنشورات، ولكنني أجد أن مناقشة الدولة كمنتج بشري أشد صعوبة من أي موضوع آخر حتى تلك المواضيع شديدة الحساسية كالمواضيع الدينية. لكن مبدئياً يجب ألا ننسى أن هناك أطروحات قُدمت ضد فكرة الدولة الصلدة ونجحت إلى حد كبير، كفكرة اللا سلطة، وأيضاً بشكل نسبي كتفريغ المبررات التقليدية لوجود الدولة كالقومية، وظهرت دول مبرراتها آيدولوجية كالدولة المسيحية والدولة الإسلامية، بحيث لا تعني الدولة هنا تمركز شعوب بل بؤر تحالفات، ولا تجمع مشاعر بل تجمع أفكار. وحيث يكون مبرر وجود الدولة ليس الأمن بل التبشير. نعم، هذه أطروحات مضادة ولا تكمن أهميتها -بالنسبة لي على الأقل- في كونها مضادة بل في كونها مؤكدة لنسبية فكرة الدولة نفسها بما ينزع عنها قشرة الصلادة والرسوخ التاريخي، حينها سنعيد النظر في كون أن هناك شعب صيني وشعب جنوب أفريقي وشعب ياباني وشعب برازيلي، بل قد تكون هناك مجموعات مسلمين، ومجموعات مسيحيين، وربما حتى مجموعات محض قانونية أي صنعها القانون وأُسبغت عليها الشخصية المعنوية على شكل الدولة، تماماً كالشخصية المعنوية لشركات الشخص الواحد. سنجد نماذج تطبيقيةحالية حتى ولو كانت واهنة وتحتاج لمزيد من الجهد؛ فعلى سبيل المثال، هناك دولة "ليبرلاند"، التي يحاول مؤسسوها اكتساب اعتراف دولي بها، رغم صعوبة ذلك ولكنه ليس مستحيلاً؛ فهو يشبه النقود الرقمية التي نالت اعتراف قليل من الدول ولكنها تفرض نفسها يوماً بعد يوم. السر يكمن فقط في فهم نسبية الدولة، والتعامل معهاكحقيقة وكوهم، والشاعر القديم عكَس لنا ذلك فقال:
وكنا ألِفناها ولم تك مؤلفاً
كما يؤلف الوجه الذي ليس بالحسن.
وكما تؤلف الأرض التي لم يطب بها
هواء ولا ماء ولكنها وطن
فهنا يفند الشاعر صلادة فكرة الدولة ويمركزها في شاعريتها،مفرغاً إياها من مبرراتها الجوهرية كتحقيق الأمن، ويعريها من أي قيمة سوى مجرد الأُلفة. ولذلك ظللت أتساءل دوماً عما إذا كان اننقال شعوب من مكان إلى آخر قد لا يعني بالنسبة لهم شيئاً، وهذا أمر يجيده البدو من رعاة الإبل والبقر والذين يرتحلون من مكان إلى آخر مفندين أي قيمة أدبية للتضاريس والجغرافيا التي لا تحقق لهم مصالحهم الأساسية وهي توفير الكلأ والماء لماشيتهم، في حين نجد الرسوخ عند الزراع وارتباطهم بالمكان، ومع ذلك فحتى هؤلاء يهجرون أرضاً فقدت خصوبتها دون بكاء عليها، فالغالب في الدولة هو الرابط البشري على مستوى التوحد الثقافي والجيني، ولذلك فإن الغيتوهات تكثر في البلاد الحرة، كالغيتو اليهودي والصيني وغير ذلك، لأن هناك منزع حيواني إلى القطيع، وهكذا تستطيع بعض المجموعات المضطهدة خلق دولها الخاصة كاليهود، وقد تحقق الهجرات كذلك تلك الإمكانية لظهور دول جديدة.
إذا فالمسألة كلها تكمن في القطيع أي التشابه الجسدي، ولا تعكس الدولة أي قيمة مؤسسية وفق الفهم الحديث. تمثل لبنان ذلك النموذج المثالي وهي تنقسم لكنتونات طائفية، ولكن مع التشبث بالقيمة الأدبية للدولة اللبنانية، وكذلك الحال في سويسرا التي لها أكثر من لغة رسمية، وتظهر الصراعات التي تنشب نتيجة تشبث أصحاب المصالح بالقيمة الأدبية للدولة في مقابل تشبث آخرين بالقيمة الاجتماعية الأصغر كما في إقليم الباسك وإيرلندا الشمالية والجنوب والغرب والشرق السوداني، وسائر الدول التي تثور فيها حروب أهلية وصدام بين مجموعات تحافظ على مصالحها من خلال الدفاع عن القيمة الأدبية للدولة وبين أصحاب المصالح المتضررين من تلك القيمة الأدبية للدولة.
نشأت الدول بشكل بدائي من خلال الأسر وذلك لتحقيق الأمن حيث تدافع الأسرة عن أمنها من مخاطر الطبيعة والعدو، ثم تطورت إلى قبيلة فدولة، وتزداد الدولة صناعية حين تتجاهل الجذور الاجتماعية لنشأتها، وهكذا يتم خلق دول متعددة الإثنيات كأمريكا والتي وإن كان الإنسان الأبيض لا زال محتفظاً فيها بمكتسبات التأسيس، ولكن إلى حد كبير لا يمكن أن يحمل ذلك الإنسان الأبيض صك الأصالة مع وجود آخِر هندي أحمر.
الدولة من منتج تحالفي إلى منتج تصارعي:
نشأت الدولة -كما قلنا- من عمق المشترك الجيني في بادئ الأمر ثم الثقافي، أي أن نشأتها كانت عبارة عن حلف للدفاع، ولكن الدولة اليوم -وخاصة بعد نهاية الاستعمار الأوروبي- أصبحت نتاجاً للصراع، فعندما قسم الغرب التركة العثمانية والجغرافيا الإفريقية واللاتينية، كان ذلك نتيجة صراع غربي غربي، وهذا التقسيم لم يراعي القوى التقليدية الداخلية، فعندما تخلت أوروبا عن مستعمراتها تشكلت دول غير متجانسة، عدم التجانس هذا أفضى إلى صراعات مزمنة وخاصة في أفريقيا، وهكذا فقدت الدولة مبررها الأمني بل أصبحت هي في حد ذاتها خطراً على أمن الجميع، تماماً كصراع البكتريا في الجسد. في السابق كان الغزو يشكل الدول الجديدة، فالمغول غزوا العالم وشكلو امبراطوريتهم، وكذلك فعل من قبلهم الرومان والفرس واليونان، والعرب،..الخ. أما اليوم فلم يعد الغزو مشروعاً قانوناً، مما فرض بقاء الجميع مع الجميع كالزواج الكاثوليكي الذي لا طلاق فيه، مع محاولات من القانون الدولي لمنح تقرير المصير، لكن هذه المحاولات تفشل في الغالب، لأن الإثنيات المسيطرة داخل الدولة تفرض بقاء الإثنيات الخاضعة وتشيطن أي محاولات لتقرير المصير باعتبارها عمالة وخيانة للوطن، وتضطر المجتمعات المقهورة داخل الدولة للتعامل مع القيمة الأدبية للدولة كقيمة حقيقية. لقد قامت الصين بفرض لغة واحدة من ضمن عشرات اللغات، وقامت إيران بقمع أي محاولات لانفصال غير الفرس، وكذلك فعلت إسبانيا ومن قبلها بريطانيا، أما أفريقيا، فعمليات القمع بلغت حد الإبادات الجماعية، وكل ذلك تحت شعارات وطنية تستند إلى القيمة الأدبية للدولة. وهكذا يمكننا القول أن العديد من الدول الحالية كانت نشأتها من صراع خارجي أفضى لصراع داخلي، ولا يوجد أي تجانس، مما جعل وجود الدولة في حد ذاته خطراً على تلك الشعوب، بعد أن كان أساس نشأت الدولة في مظهرها البدائي هو الحماية والدفاع المشترك عن المصالح المشتركة نتيجة تحالف بين أصحاب روابط مشتركة إثنية أو ثقافية.
مآل الدولة:
هناك احتمالان:
- إما أن يتم التخلي عن المفهوم القانوني الحديث للدولة، والذي سيعمق الصراعات وسيزيد من المجازر والإبادات الجماعية، أو
- يتم التخلي عن فكرة الدولة القانونية الراهنة والسماح لأصحاب القواسم المشتركة بتقرير مصائرهم بحرية، وهكذا ستتشكل دول متجانسة نسبياً.
بالرغم من أن الدول عندما تعود إلى جذور نشأتها الطبيعية ستحقق انسجاماً ومن ثم استقراراً، إلا ان ذلك لا يعني أن الإنسجام والإستقرار سيكونا مطلقين، لأن القطعان لن تكون متطابقة وإن كانت متشابهة، ومن ثم فإن بذور الصراع ستظل موجودة، لكن أدوات الصراع ستكون مختلفة. ربما أقل عنفاً وذات أثر محدود، أما الصراع نفسه فسيبقى ما دام هناك إنسان، وما دام أن الإنسان لا يتخلى عن طموحاته أبداً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى