أنعام الجندي - لم يكن أبدا...

فاجأهم بحضوره، كحاله كلما حضر، فبعض الخلق لا تنفك مشوقا إليهم، تفتقدهم كلما بانوا عنك، ولو إلى يسير زمن، فإذا حلّوا في مجلس أو ندوة أو لقاء، كانوا الحضور كله، وكان الآخرون غياباً إلا بهم.

قال قائلهم: أين أنت يا رجل، كنت معنا ولم تكن، وكنت حديثنا ولم تكن تتكلم؟

ابتسم: ألم يقل القائل: قليلاً ما وترونني، قليلاً ما ولا ترونني؟

حدق بعضهم في عيون بعضهم متوجسين: لا صدق فألك، فما زلت في ريعان العمر!

قال وهو يمضغ أساه، ويتملى من وجه أكثر المعلقين في حظيرة التأمل: عسى ألا تكون أول السابقين، فاليد التي تمحو، لا تميز بين الناشئ وبين من توكأ جرمه على جدار الوهم! ألا ترى أن أكثر الأضرار في عصرنا، تتحول إلى أضدادها؟

همس أحدهم، في أذن آخر: ما بال السيد اليوم، ممتلئاً بحضور الغياب؟

أجاب الآخر: كأنه اليوم من الأضداد! ألا ترى ما في كلماته من ظلال الحنين إلى ما كان؟

ثم انشغلوا عنه بالحديث عنه، كأنهم ما يزالون يحاورونه!

- كان أكثر الخلق أحلاماً، ونأياً عن الواقع المشلول، كما كان يصفه!

- وكان واقعياً كأن العالم خلا من الحلم!

- الضد والضد!

- كان يبطل الضد بالضد، حتى لتشعر أنْ ليس ثمة إلا هذا الضد!

- وكان مرهفاً وديعاً إلى حد تشعر معه أنه غير موجود، لعظم رقته، ودماثة طبعه!

- ولكنه كان شرساً إلى حد الرغبة في الفتك عندما يستشعر نزوعاً عن الحق!

- وكانت الحقيقة مدركاً أصيلاً، أكانت في ما يرغب، أو في ما يرهب! فلايحاجّ إلا من أجلها، ولا ينازع إلا عليها، ولا يقارف إلا في سبيلها!

- ومن عجب أن هذه الحقيقة كادت تقتله مراراً، بأيدي أصحاب الحقيقة!

- ذلكم أنهم التبست عليهم، أو لبّسها عليهم المزيفون، فلم يميزوا بين الضد وضده!

- ومن عجب أنه كان كأنما يستعجل مقتله، ولكنه كان يعود كل مرة حزيناً، أقرب إلى البأس!

- لعله كان يعتقد أن مقتله وسيلة وحيدة لإثبات الحقيقة!

- فلِمَ كان إذن يعتقد أن الحقيقة واضحة وضوح الشمس فلا تحتاج إلى دليل أو برهان!

- يخيل إلي أن كل ناس عصرنا يخشون الحقيقة ولا يصدعون بها إلا إذا كانت تثبت حقاً يطلبونه. - كان يقول: ليست الحقيقة وسيلة! إنها الطريق والغاية!

- واليوم لا حقيقة إلا وسيلة!

- زمن فج!

- بل صرنا في زمن اللازمن!

- هل تحدث عما حدث له حين اعتقل وسجن في زنزانة في الطابق الثالث تحت سطح الأرض؟

- حدثني ابن عم لي، كان يشهد ولا يجرؤ على كلام. هددوا كل من شهد بقتل أبنائه أمام عينيه، وكان ابن عمي أحد عرفاء السجن! حدثني أنه لم يقل كلمة واحدة منذ دخل السجن. كانوا يأتونه بالطعام السيء على كل حال، ويبصقون في صحن الطعام،أو يضعون فيه حشرة ميتة. فلا يملك أن يستفرغ، رغم فراغ معدته. وقد استمرت الحال ثلاثة أيام، حتى تحول الاستفراغ إلى حالة تشنج، خافوا معها أن يموت! فعدلواعن أسلوبهم، فصاروا يأتونه بطعام جيد، فلا يقبل عليه. فجاءوا بطباخ، ومواد أولية!كان الطباخ يطهوها أمامه، بعد أن يتفحص كل جزء فيها، فيأكل.

- ألم يحتج يوماً؟

- لم ينبس بكلمة واحدة طوال عشرين سنة قضاها في السجون، بدءاً من الزنزانة، وانتهاء بالعراء تحت الثلج والصقيع.

- يبدو أنه وطّن نفسه منذ البداية على احتمال كل نتائج النضال، من النصر فما دون حتى الموت!

- ولكن، ألم يكتب شيئاً؟!

- رفض أن يخطر حرفاً واحداً! عذب أنواعاً من العذاب، وقدم له ورق وقلما ليكتب ما يشاء، فلم يجب، ولم ينبس! كادوا يقعدونه على عضو العبد الأسود، فلميحرْ!

- العبد الأسود؟

- تمثال من بلاستيك صلب، ابتدعوه وسيلة تعذيب، يقعدون السجين على عضوه، فيشطروه وتسيل دماؤه!

- ما أقبح ما أسمع!

- مأساتهم أنهم يعتقدون أن حكمهم زائل، إن لم يدعموه بكل وسائل الترهيب ولو بعبد بلاستيكي أسود!

- وبعد أن أطلق سراحه، رفض أن يتكلم! كأنه يخشى الكلام!

- لا! لم يرهب شيئاً أبداً. ألححت عليه يوماً. قال: ذاك أمر مضى. قلت:هل ننسى الماضي؟ قال: الماضي شيء، وهذه حال! فلنفكر في المستقبل، انطلاقاً من حاضرنا الآن!

- وما رأيه في الحاضر!

- أما رأيته حين نذكر الحاضر يتنهد؟ بل هو بين التنهد والصرخة، تشعر وأنت تسمع الأنين المراوغ عن التنهدة، كأن صرخته تملأ الكون!

- لماذا؟

- لأن الحاضر ليس حاضراً لمستقبل. إنه نوع من موت الغابر فحسب!

- ولكن! ألم يكن الحاضر مستقبلاً للماضي العظيم؟

- هذا الحاضر انقطع عن الماضي خمسة قرون، لذلك يحاول ترميم الهوة، ويمنعه المزيفون والعنصريون، والطائفيون، والطامعون في ثرواتنا ومصيرنا.

- ويعتقد بإمكان ردم الهوة أو تجاوزها!

- الهوة مصطنعة، وهو يؤمن أن كل مصطنع لا يعوق حركة التاريخ!

- يخيل إلى أنه حدد مسار كل شيء! ولكن لِمَ لا يتكلم في كل الحوارات بيننا؟

- لأنه يرى أن كل حوار نوعاً من إزجاء وقت تافه! إلاً إذا كان في مسألة تتصل بالمصير!

- فلماذا يحول جلسات الحوار إلى مزاح وضحك!

- إنه سيد النكتة دون منازع، إلا إذا كان الحوار في العمق! ولذلك يفضح سطحية الحوار بالهذر!

- حتى في الأدب؟

- يرى أن كل ما يكتب، أو يطرح للحوار في مجال الأدب، مسروق ومشوه، ولاعلاقة له بما يدعى الحداثة، لأن أي تحديث يجب أن ينطلق مما لديك، لا مما يطرحهالآخرون، فاللغة غير اللغات الأخرى، وما تحتضنه من حضارات، ومعارف، وتراث، ومعالم الذات، يختلف كل الاختلاف، والآخرون يأخذون صيغاً مترجمة ترجمة سيئة أغلب الأحيان،فيأتون صوراً مشوهة عن الحداثة!

- ولكنه لا يكتب!

- لا يكتب ولا يتحدث، ويكتفي بالأنة الصراخ!

- يخطر لي أنه لم يحبب مرة!

- بل إنه لعمق ما يحب، يخشى أن يشوه ما يحب بالهذر!

- أقصد الحب الآخر!

- بل أحب مرات، وكان كل مرة أكثر حباً من المرات السابقة!

- أعجب لما تقول! ولكن! هل كان حباً من طرف واحد!

- على العكس! المرة الوحيدة التي يُحَبُّ فيها هي هذه المرة!

- ما تقول؟

- ثمة فتاة تلاحقه، وهو يتجاهل فكيف تحبه فتاة وهو في السبعين؟!

- وهي؟

- في العشرين!

- تعال نحاول معه حواراً!

- فلنجرب!

إلتفتوا! لم يكن هناك، بحثوا عنه! لم يكن في أي مكان! لم يكن أبدا.ً






==================


1715544274891.png

========================
إنعام الجندي من مواليد سلمية { 1924 - 2015 }
و هو من عائلة الجندي المعروفة بالأدب و السياسة , درس في مدينة سلمية و تابع في حمص إلى أن ذهب اللبنان ليعمل محررا في جريدة الديار و عمل في جريدة الصحافة عام 1958 أيام الرئيس جمال عبد الناصر
و عمل محررا في الأسبوع العربي و الدستور و الفجر و الوطن العربي و الطليعة العربية
يعتبر أنعام الجندي من المجددين في الشعر العربي كما كان من كتّاب الروايات و القصة القصيرة
ثم أنتقل إلى فرنسا ليقوم بترجمة الكثير من الروايات الفرنسية إلى العربية منها رواية الغريب لألبير كامو في العام 1955
ورواية مائة عام من العزلة لغابرييل غارسيا ماركيز التي ترجمها بالاشتراك مع أخيه د. سامي في العام 1979.
و من مؤلفاته كتاب الفلسفة عند العرب و كتاب دراسات في الأدب العربي و كتاب الرائد في الأدب العربي و كتاب المتنبي و الثورة
و كذلك رواية زمن الرعب و رواية انفجار و رواية الجرثومة
و من مؤلفاته السياسية إلى أين يسير الشيوعيون بالعراق؟ حيث كتب مقدمة الكتاب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر .
كما أنه فاز بجائزة الكونكورد الفرنسية عن مجمل أعماله ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى