الاهداء:
(إليك يا حنا مينة
يامن فهمت ماهية الضعف البشري
والقوة الإنسانية ...
إليـــــــــــــــك يا صديقي ...
أقــدم هذه القصص)
سعيد
لقد ماتت وأنا في الثانية من
عمري أتذكرها تماماً.. لقد كان
شعرها أزرق وعيناها حمراوين
(جيمس الابن)
ها أنذا أعود بعد أن نفضت يدي من تراب أمي.
كنت أسير وئيداً وأتلفت حوالي بحذر، ثم رفعت طرف سروالي لأمسح حذائي بجوربي لأخلص من تراب المقبرة .. كيف هربت هكذا بعد الجنازة؟ ماذا يقول الناس؟ إلى الجحيم بأقاويلهم .. أخذت أنظر إلى بريق الحذاء بارتياح، وتذكرت أنه بجب أن أضع له ميالتين من حديد حتى لا يبلى سريعاً، بينما حاولت أن أشعل سيجارة التاطلي سرت غليظة من الولاعة التي كان ينقصها الحجر، ولما ذهبت المحاولة أدراج الرياح، أشعلتها من أحد المارة ونسيت أن أشكره، ثم بصقت بشدة.
لا أدري ماهية الأحاسيس التي تكتنفني في هذه اللحظة، وحاولت جاهداً بحكم طبعي كطبيب أن أنفذ إلى شعوري فأحلله، كل ما شعرت به كان احساسات متناقضة، كنت خفيف الحركة تملأ نفسي كآبة غامضة فيها ارتياح لا أدري سببه، ولكن الشيء الوحيد الذي تأكدت منه هو أنني لا أشعر بشيء من الحزن.
(ماتت أمك) هذه هي الجملة التي طالعتني بها الخادمة مساء البارحة، وهي تنظر إليّ من خلال أهدابها، واعترف أنني لم أفكر في معنى قولها تفكيري في منظر عينيها تملأهما الدموع.
والآن، مات الشخص الوحيد الذي يربطني بذكرياتي وحياتي الماضية، ذكرى تلك الأيام التاعسة، البطيئة، القاتلة.
أيام كنت صغيراً ذليلاً أقف أمام البيوت أطرقها بيد شققها البرد لأسأل عن أمي.
ووجدتني أردد من أسناني (إلى المقبرة تلك الأيام).
لقد كانت أمي بكل بساطة غسالة! غسالة! حقيرة في بؤرة من بؤر حي الميدان.
ولقد كنت أتمثلها وهي عائدة من عملها منفوشة الشعر لاهثة الأنفاس، تبدو يداها بيضاوين بشعتين من تأثير الماء والصابون، فتضع في يدي القرش الذي أتلقفه في لهفة مقرونة بالخجل. وحين أحس بيديها تحتضاني وتضماني إلى صدرها وأرى في عينيها دموعاً لم أستطع في يوم ما أن أجد لها تفسيراً كنت أتمنى أن أبقى في حضنها إلى الأبد.
ونشأت بين رائحة الصابون ودخان المطابخ وقذر الثياب، أرى كل يوم بخار الماء الغالي والثياب المكدسة الوسخة، وأرى أمي منحنية انحناءاتها الخالدة فوق الطبق، وقد لهثت ككلب، ونبطت عروق رقبتها، وجبينها تندى بالعرق، بينما أخذت يداها تعملان جاهدتين في فرك الثياب.
وعندما كنت أعود من المدرسة على بيتنا الفقير الخاوي من كل ما يملأ البطن كنت أدور عليها في بيوت الحارة حتى يستوقفني صوت:
- ابن الغسالة ..ابن الغسالة ..أمك عندنا.
وأدخل بيتاً غريباً فيه أحياء يتحركون بدون وعي، لأنني لم أشعر ذات يوم أنهم نظروا إليّ أو أحسّوا بي .. وأحمل فضلات الطعام التي يعطونها لأمي وأخرج وأنا مختنق، متعب، مشمئز كأنما أحمل على ظهري أكداساً من القاذورات.
ومن هذا العمل الدؤوب .. كنت أحمل محفظتي صباحاً وأذهب إلى المدرسة .. مفكرا بالمستقبل .. بانياً الخطط وأنا أرى نفسي معزولاً وحيداً أمام قوى العالم .. وكانت أمي تقول:
مادام في هذا الجسم ذرة روح فستتعلم.. أريد أن تصبح دكتوراً لقد ماتت أختك لأن الدكتور رفض أن يطببها بدون أجرة.. أريدك دكتورا يرفع الرأس.
سألتها مرة عن والدي، فاتسعت حدقتاها بذعر وأطرقت واجمة، وقالت بعد تردد إنه مات منذ ولادتي، فدفنت رأسي وشعرت بدفء حنانها الملتهب وهي تضمني ضمة كادت تحطم أضلاعي الطرية.
كنت دوماً متعباً مرهقاً أكره العالم والأطفال واللعب .. وكانت معاملتي لأمي شاذة، فلقد كنت قاسياً عليها أنتظر أقل حافز لأنفجر، ولا أعلم بعد ذلك سبب ثورتي، وأذكر ذلك اليوم الذي انفجرت في وجهها ونعتّها بالغسالة خادمة البيوت التي لا تطبخ إلا إذا مرضت .. ثم .. ولا أدري كيف حصل ذلك ضربتها بحذائي!!
وكانت تقابل ثوراتي بصمت ثقيل كنت أحس به حجاباً صفيقاً يقوم بين قلبينا إلى الأبد.
لقد كنت غريباً بين العمالقة من أبناء الأسر الأخرى، وكان قصر قامتي يولد فيّ احتقارا مريراً لنفسي، فكنت أطأطئ رأسي أمام كل مناقشة أعرف تماماً أنني بها مصيب. . ألست قصيراً؟
ألست سخيفاً فقيراً ابن الغسالة؟ ففيم التبجح بالمنطق والمرافعة والسفسطة؟ يكفي أن يقف محدثي أمامي قليلاً، فأقيس قامتي بقامته، حتى أشعر أن قنفذاً ألتف حول رقبتي .. لقد كانت كل الأشياء به يوماً بعد يوم .. أمي .. وأساتذتي .. ودرجاتي المدرسية .. وكانت أمي تقول لي دائماً:
- أتمنى أن يكون قلبك كبيراً .. كعقلك.
ولقد كان قصري يولّد في نفسي غضباً على أمي !! أليست هي أصل البلاء، أليست سبب حياتي الذليلة؟ ماذا لو ولدتني غنياً أحمل تلك المحفظة التي يحملها عصام مثلاً وأركب مثل سيارته؟ ألست أذكى منه؟ ألم نتعلم أن المال ليس كل شيء في الحياة؟ إنه لا يمتاز عني بشيء .. ولكنه ...آه .. إنه أطول مني، دائما الطول .. الطول اللعين. لقد كنت إذا ما مررت بجدار أحاول أن أقيس طولي على تموجات الدهان فيه، وكنت انظر إلى ظلي في شمس الغروب، وتنطلق مني تنهيدة، ما أشد لهفتي إلى أن يصير طولي كظلي !!وكنت أسمع عن ليلة القدر، وأسهر ليلتها أهيء الدعاء .. ليس ثمة شيء كثير سوى جبل من ذهب، وعشر نساء بيضاوات كالثلج، وفتر من طول.
وكنت أرتاح لشيء واحد، وأشعر فيه بسيطرتي، هو أنني كنت أحس بالزهو والعظمة حينما أقف أمام أمي ... لقد كانت قامتي أطول من قامتها قليلاً .. يا للفرحة العامرة...
هل كنت أبغضها؟ لا أعلم .. ولكنها كانت تخافني .. وكنت أردد أمامها دائما أنها ولدتني للعذاب والشقاء .. وهي في كل مساوئي.
ومشيت في طريق الحياة، مسلحاً بالغرور واحتقار الناس .. ألست ذكياً ألست عبقرياً، إن درجاتي تنبئ بذلك .. ماذا يضر إذا كانت لي أم جاهلة غبية كهذه الأم ..ألم أسمع عن الزهرات التي تنبت في الوحل وتمتص منه غذاءها؟
ووصلت الهوة التي تفصلنا إلى قعرها .. عندما أخذت أخيراً، من بعد كدّ سنوات، إجازة في الطب ..لقد صرت دكتورا ..من يصدق أن أماً كهذه لها ابن دكتور.. أني أحس بالهوان في أعماقي ..أذكر تماماً نظراتها الفرحة إذ ذاك ..وبكاءها وصياحها اللاهث ..مبروك يا ابني ..مبروك يا حبيبي ..وتنهدت كأنها أدت مهمتها .. ونظرت إلى يديها بفخر، ثم أخفتهما عني بعد أن شعرتُ بالامتعاض لبشاعتهما، ومرضت ثلاثة أيام من الفرح ..لقد كانت سعيدة جدا لأنها كانت أول زبائني،
لقد كنت أحتاج إلى المال لأجل أن أجهز عيادة وإلى الدعاية والشهرة والعمل بدون أجر، والرضاء بالقليل لأبدأ الطريق ..فإلى العمل أيتها الغسالة ..إلى العمل أيتها العجوز الفانية ..عليك أن تؤدي ضريبة أن ابنك قد أصبح دكتوراً رغم عامّيتك وحقارتك.
ودارت الآلة الصدئة بجهد وصعوبة، ما أعجب البشر ..
من يصدق أن هذه الكتلة المتعبة من اللحم والدم تستطيع أن تعمل خمس عشرة ساعة ليلاً نهاراً .. تدور على البيوت وتحمل رزم الغسيل مرددة في كل مكان:
-أعندكم مريض ..ابني دكتور ..دكتور عظيم ويفهم.
وتأسست العيادة وأمرتها أن تتوارى حتى لا تتلوث سمعتي، ماذا يقول الناس عن دكتور لا تزال أمه تعمل غسالة ؟!
يتوجب عليّ أن أعولها بعد الآن لا بأس، سأعيلها، ماذا يقول الناس؟
قد أنسر أشياء أستطيع أن أتناساها بالإرادة، يكفي أن أفكر بشيء آخر، عندما تقفز إلى ذهني ذكرى أليمة، أفكر بسهرة هانئة مثلاً، أو بواجب ملقى عليّ، أو أتذكر مشاكل عيادتي ومرضاي، أو أحاول أن أحصي عدد ألوان السقف المدهون، أو أبادر إلى اصطناع مشاجرة حامية مع الخادمة، ولكن تلك الذكرى لم أستطع أن أمحوها .. كانت دائما تحز في رأسي كمقراض ضخم، يذكرني بها الجو .. والصباح ..والشارع .. ليست هي ذكرى غريبة، ولكن بعض الذكريات البسيطة، أو التي تبدو بسيطة، تبقى دائماً إحدى خلايا ذاكرتك، فلا تفكر إلا وتتحرك لتندمج مع الخلايا الأخريات.
عندما جئت أعلمها بخطوبتي كان الحر خانقاً، والنوافذ المطلة على الشارع مفتوحة، وبدأت كلامي وأنا أسمع جلبة العربات وصوت الحوذي وهو ينهر جواده، الترام الذي رنينه الواهن المنتظم، بينما ملأت الجو هتافات باعة الصحف، وهم ينادون عن جريمة مشهورة، ودق ناقوس الكنيسة يعلن الثانية عشرة، وبدا أمام عيني في الرصيف المقابل عنوان ضخم عن راقصة مشهورة برخصها وعهرها .. وشكلت هذه الأشياء جميعها جواً زاد في حدة أعصابي.
بدأت أقول بغير اكتراث، أنه قد آن لي أن أتزوج، وأخذت أعد الحوائج التي سأشتريها فقاطعتني بهدوء تسألني عن زوجتي المستقبلية ..يا الله كيف سهوت عنها يا أمي إنها رمزية..ورأيت وجهها الهرم يتجعد ويمتقع، ولا أدري لماذا تذكرت دهان مطعم سقراط في ذلك الوقت!! كان وجهها مسرحاً لإحساسات متناقضة، فأنا أعرف مقتها الشديد لرمزية، جارتنا التي كانت تتجاهل أمي كلما زارتنا تجاهلاً تاماً. ولكنها مدت يدها المرتجفة وهي تقول: مبروك يا ابني ..مبروك، فوجهت إليها الطعنة القاضية: أمي إني أرى أن صحتك لا تساعدك على الضجة، وأني استأجرت لك مسكناً في سوق ساروجة، وبذلك تتخلصين من عناء البيت والأولاد..
وخيل إليّ أن وجهها قد ابيض وشحب، وبذلت جهوداً جبارة كي تبتسم من خلال الدموع التي حبستها، وكان منظرها مضحكاً وهي تغالب عينيها الكابيتين ثم تجيب بصوتها الهادئ: مثل ما تريد ..مثل ما تريد وفي اللحظة التالية هوت على الكرس وهي تسعل سعالاً متصلاً هزّ جسدها الشيخ هزاً عنيفاً، وقبض على قلبي خيط واه من الحنان، ولعنت رمزية التي اشترطت عليً ابعادها، ولكنني، مع ذلك، ولكنني، ومع ذلك، لم أتراجع، فانفصلت عنها حتى جاءها السل، فأتيت بها أمرّضها في بيتي.
ومرة أخرى أستعنت بأحد المارة على إشعال سيجارة هي آخر ما تبقى في العلبة، ومرة أخرى نسيت أن أشكره.
وقف إلى ذهني خاطر رهيب، ألست أنا القاتل؟ نعم أنا الذي قتلتها، لقد أصابها الاجهاد بالسل في بيتها العفن، وهي صابرة لا تتكلم، وكنت حينما أزورها تجاهد نفسها كي لا تشعرني بمرضها، وكنت لا أطيل زيارتي، مرة كل شهر، والزيارة خمس دقائق، كأنها أحد المرضى الفقراء الذين خصص لهم يوما مجانياً على سبيل الدعاية لأعطيهم وصفات لا تنفع شيئاً، ولكنني كنت ألحظ امتقاعها والبقعتين الحمراوين على وجهها من أعراض السل الرئوي، هل كنت أتعامى عنها لأتخلص منها ومن كل الماضي المخجل الذي تمثله؟ أخيراً نقلتها إلى بيتي وأخذت أمرضها بفتور، كانت تلحّ علي ألا أتفرغ لها هي العجوز التي شارفت نهاية حياتها، وأن أترك أوقاتي للعيادة، وكنت أطيعها وأحس بشيء من الارتياح وأنا أغادرها، حتى كان مساء البارحة ..
اتصلت بي الخادمة تقول إن نوبة حادة أصابت أمي، وكنت أعالج رجلاً ذا مكانة فعزّ عليّ تركه، ولكنه عندما علم أن أمي هي المعنية، ألحّ عليّ بالذهاب فغادرت عيادتي غاضباً.
لست أنسى النظرة الوجلة المستكينة التي قابلتني بها ..وأحسست بعينيها تنهبني وتجردني من ثيابي، فأدرت وجهها لعنف فتأوهت وصبرت على قسوتي وانا أضعها في الفراش دونما لطف.. كانت عيناها تلاحقاني ..آه لو تنطفئ هذه النظرة الفظيعة من العينين .. أنا لم ارها في حياتي تنظر إلي على هذا الشكل ..أكرهتها إكراها على شرب المسكن فهمدت ولكن عيناها ظلتا مفتوحتين مسمرتين عليّ ضربت الباب بعنف وقوة وهربت إلى الفضاء.
وحينما عدت في المساء كانت أمي قد ماتت ..ودفنت اليوم كأنها متشردة لم يسمع بموتها سوى قلة ..ذلك لأنني لم أقل لأحد عن موتها.
كان أناس أعرفهم يدخلون ويخرجون من البيت حينما عدت إليه، ولمحت زوجتي تصف الكراسي بهمة أصحاب الرسميات، قطبت وجهها وبادرتني بسرعة:
-لماذا تأخرت ..نسيت الصبحية؟
- أية صّبَحيَّة؟
- أف ..بعد دقائق يأتي الناس للعزاء، هل أوصيت على القهوجي؟
- ومن أين آتي به؟
-من أية قهوة .. اسرع يا رجل ..ماذا يقول الناس عنا إذا أهملنا.
-لا يهمني أحد ..يا ليتنا لا نجلس في الصبحية!!
-لا ..لا تقل مثل هذا القول الأحمق، وإلا استاءت الحارة كلها إذا وقل عدد مرضاك، إن الناس ينتظرون سيرة يعلكون بها، إن هي ثلاثة أيام وننتهي من هذه المصيبة.
ولأول مرة لاحظت حبة وسخة صفراء تحتل خدّ زوجتي، وأنها مملة، فاستدرت بهدوء أنفذ الأوامر، وشعرت طوال العشية أنني غريب، وأن المقرئ المزعج الذي أتى به مختار الحارة، لا يصل صوته إلى أذني، وكنت أقوم وأقعد وأرد التحيات، بحركة أتوماتيكية ... أوه ما أتفه الحياة.
وتقدمت زوجتي مني تدعوني للنوم بحجة أني منهك بعد أن خلت الدار من المعزين، ولكني قابلتها بصمت ووجوم، فهزت كتفيها وذهبت وتركتني وحيداً جالساً على الكرسي أحدق في الأضواء المنيرة الكثيرة دون أن يطرف لي جفن.
وعندما انطفأت الأنوار، كانت تنتابني كآبة حائرة، وخيل إلي أني أشعر بالبرد رغم دفء الجو، وبأن شيئاً ما ينقصني كأن أحد أعضائي قد انفصل عني، فأدرت وجهي وأخذت أتمشى وأنا أدخن خيل لي أنني ضائع، وأن زوجتي قبيحة، وأن
البيت الذي أعيش فيه قبو معتم، وصرت أدخل غرف البيت وأخرج منها كأنما أفتش عن شيء يخلصني ..شد ما أنا حائر شد ما أشعر أنني فارغ.
وهززت رأسي وأنا أحدق في سرير أمي، وأقلب الحوائج الموجودة على المخّدة بملل ..عدة خياطة ..ومجموعة متباينة من الإبر..وعدة أوراق منها وصفة طبيب عرفت فيها خطي وورقة عليها حجاب يبدأ هكذا (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا حجاب يمنع جميع الأمراض ويداوي كل العلل بقدرة الواحد الأحد الفرد ...)
وهذه ورقة أخرى ..ما هذا؟ كانت ورقة كأنها لطالبة صغيرة تتعلم حروف الهجاء وتبدو فيها محاولات لكتابة جملة صغيرة. وابتسمت، هل كانت أمي تتعلم الكتابة قبل أن تموت؟ يا للأمر المضحك !! الآن فهمت سر الأوراق التي كانت تخبئها هي والخادمة التي تعرف القراءة والكتابة حينما آتي والتي كنت لا ألقي إليها بالاً ككل شيء يصدر عن أمي ..لعلها أرادت أن تفاجئني !! أوه كم أنت طيبة ونقيّة أيتها العجوز الفانية. وخيل إليّ أنني أتمنى أن أراها وأن أضمها إلى صدري فرحاً بتعلمها الكتابة، وأن أقبلها على خدها الأجعد وألمح السرور في عينيها..
وغمغمت:
- مسكينة لقد ماتت ولن ترجع إلى الأبد.
وشعرت بمغص حاد فجلست على حافة السرير، وخيل إليّ أن رأسي أكبر من الغرفة وعرتني رعشة حزينة .. كم كانت تحبني ..أليس رائعاً أن يجد الانسان في هذا العالم البارد من يدفَّئه بحبه؟
وقلبت الورقة، فرأيت عليها جملاً مفككة رديئة الخط لدرجة تجعل من الصعب قراءتها.
وطويتها ببطء، وأحسست بثقل يبهظني كأنني ألبس رداءً من الرصاص.
وحاولت أن أفعل أيّ شيء، أن أبكي ..أن أضحك، فلم أستطع. وحدقت في الضوء طويلاً دون أن أشعر بأي ألم .. يا لها من حياة عاشتها هذه العجوز..وشعرت بخدر كالشلل يتسرب إلى أعصابي فأخذت أقضم أظافري. وكانت يدي ترتجف، إذ لم أستطع أن أكبت شعوري، كما كنت أفعل من قبل فأسرعت ودسست رأسي في الماء.
شعرت أن دموعي المختلطة بالماء طاهرة، وأم وجودي قد أصبح مليئاً أكثر من قبل.
عدت إلى الغرفة ودموعي تتساقط في صمت، وجلست على السرير مطرقاً، ولمع شيء تحت مقعد في آخر الغرفة فاسترعى انتباهي، ولما أخرجته وجدته صندوقاً صغيراً تذكرت أن أمي كانت تضع فيه حوائجها الخاصة، وكان ضوء الغرفة يقع على معدنه الرخيص الصدئ فيبدو كامداً عتيقاً كأنه قبر نحاسي، واعتراني شيء من الوجل وأنا أفتحه.
ووقفت أحدّق في دهشة وذهول في محتويات الصندوق، بينما حاولت الابتسام من خلال دموعي ووجدتني أشهق من أعماقي.
لم يكن في الصندوق سوى صورة لشاب يشبهني، وأظن أنه أبي ..وشيء آخر، وغصصت بريقي .. حذاء صغير وسخ، هو نفس الحذاء القديم الذي كنت ضربتها به يوماً في إحدى ثورات غضبي.
سعيد حوارنية
عام 1949
* نالت هذه القصة الجائزة الأولى الممتازة في مسابقة مجلة النقاد التي أجريت في عام 1951
* من مجموعة قصصية شتاء قاس آخر صادرة عن دار الفارابي بيروت
الطبعة الأولى 1964
الطبعة الثانية 1979
=========================
ولد سعيد حورانية في دمشق عام 1929
وتلقى تعليمه فيها، وتخرج في جامعتها مجازاً في الأدب العربي ثم نال دبلوم التربية، وعمل في التدريس في سورية ولبنان، وأقام فترة طويلة في موسكو من مطلع الستينيات حتى عام 1974، ثم عاد إلى وطنه، واشتغل في وزارة الثقافة حتى وافته المنية عام 1994.
وضع سعيد حورانية ثلاث مجموعات قصصية، هي:
1-وفي الناس المسرة- قصص- دمشق 1954.
2-سلاماً يافرصوفيا- مقالات- دمشق 1957.
3-صياح الديكة- مسرحية- دمشق 1957.
4-شتاء قاس آخر- قصص- بيروت 1962.
5-سنتان وتحترق الغابة- قصص- بيروت 1964.
6-المهجع رقم 6- مسرحية- دمشق 1963.
7-القطة التي تنزهت على هواها- ترجمة- دمشق 1983.
توفي سنة 1994
(إليك يا حنا مينة
يامن فهمت ماهية الضعف البشري
والقوة الإنسانية ...
إليـــــــــــــــك يا صديقي ...
أقــدم هذه القصص)
سعيد
لقد ماتت وأنا في الثانية من
عمري أتذكرها تماماً.. لقد كان
شعرها أزرق وعيناها حمراوين
(جيمس الابن)
ها أنذا أعود بعد أن نفضت يدي من تراب أمي.
كنت أسير وئيداً وأتلفت حوالي بحذر، ثم رفعت طرف سروالي لأمسح حذائي بجوربي لأخلص من تراب المقبرة .. كيف هربت هكذا بعد الجنازة؟ ماذا يقول الناس؟ إلى الجحيم بأقاويلهم .. أخذت أنظر إلى بريق الحذاء بارتياح، وتذكرت أنه بجب أن أضع له ميالتين من حديد حتى لا يبلى سريعاً، بينما حاولت أن أشعل سيجارة التاطلي سرت غليظة من الولاعة التي كان ينقصها الحجر، ولما ذهبت المحاولة أدراج الرياح، أشعلتها من أحد المارة ونسيت أن أشكره، ثم بصقت بشدة.
لا أدري ماهية الأحاسيس التي تكتنفني في هذه اللحظة، وحاولت جاهداً بحكم طبعي كطبيب أن أنفذ إلى شعوري فأحلله، كل ما شعرت به كان احساسات متناقضة، كنت خفيف الحركة تملأ نفسي كآبة غامضة فيها ارتياح لا أدري سببه، ولكن الشيء الوحيد الذي تأكدت منه هو أنني لا أشعر بشيء من الحزن.
(ماتت أمك) هذه هي الجملة التي طالعتني بها الخادمة مساء البارحة، وهي تنظر إليّ من خلال أهدابها، واعترف أنني لم أفكر في معنى قولها تفكيري في منظر عينيها تملأهما الدموع.
والآن، مات الشخص الوحيد الذي يربطني بذكرياتي وحياتي الماضية، ذكرى تلك الأيام التاعسة، البطيئة، القاتلة.
أيام كنت صغيراً ذليلاً أقف أمام البيوت أطرقها بيد شققها البرد لأسأل عن أمي.
ووجدتني أردد من أسناني (إلى المقبرة تلك الأيام).
لقد كانت أمي بكل بساطة غسالة! غسالة! حقيرة في بؤرة من بؤر حي الميدان.
ولقد كنت أتمثلها وهي عائدة من عملها منفوشة الشعر لاهثة الأنفاس، تبدو يداها بيضاوين بشعتين من تأثير الماء والصابون، فتضع في يدي القرش الذي أتلقفه في لهفة مقرونة بالخجل. وحين أحس بيديها تحتضاني وتضماني إلى صدرها وأرى في عينيها دموعاً لم أستطع في يوم ما أن أجد لها تفسيراً كنت أتمنى أن أبقى في حضنها إلى الأبد.
ونشأت بين رائحة الصابون ودخان المطابخ وقذر الثياب، أرى كل يوم بخار الماء الغالي والثياب المكدسة الوسخة، وأرى أمي منحنية انحناءاتها الخالدة فوق الطبق، وقد لهثت ككلب، ونبطت عروق رقبتها، وجبينها تندى بالعرق، بينما أخذت يداها تعملان جاهدتين في فرك الثياب.
وعندما كنت أعود من المدرسة على بيتنا الفقير الخاوي من كل ما يملأ البطن كنت أدور عليها في بيوت الحارة حتى يستوقفني صوت:
- ابن الغسالة ..ابن الغسالة ..أمك عندنا.
وأدخل بيتاً غريباً فيه أحياء يتحركون بدون وعي، لأنني لم أشعر ذات يوم أنهم نظروا إليّ أو أحسّوا بي .. وأحمل فضلات الطعام التي يعطونها لأمي وأخرج وأنا مختنق، متعب، مشمئز كأنما أحمل على ظهري أكداساً من القاذورات.
ومن هذا العمل الدؤوب .. كنت أحمل محفظتي صباحاً وأذهب إلى المدرسة .. مفكرا بالمستقبل .. بانياً الخطط وأنا أرى نفسي معزولاً وحيداً أمام قوى العالم .. وكانت أمي تقول:
مادام في هذا الجسم ذرة روح فستتعلم.. أريد أن تصبح دكتوراً لقد ماتت أختك لأن الدكتور رفض أن يطببها بدون أجرة.. أريدك دكتورا يرفع الرأس.
سألتها مرة عن والدي، فاتسعت حدقتاها بذعر وأطرقت واجمة، وقالت بعد تردد إنه مات منذ ولادتي، فدفنت رأسي وشعرت بدفء حنانها الملتهب وهي تضمني ضمة كادت تحطم أضلاعي الطرية.
كنت دوماً متعباً مرهقاً أكره العالم والأطفال واللعب .. وكانت معاملتي لأمي شاذة، فلقد كنت قاسياً عليها أنتظر أقل حافز لأنفجر، ولا أعلم بعد ذلك سبب ثورتي، وأذكر ذلك اليوم الذي انفجرت في وجهها ونعتّها بالغسالة خادمة البيوت التي لا تطبخ إلا إذا مرضت .. ثم .. ولا أدري كيف حصل ذلك ضربتها بحذائي!!
وكانت تقابل ثوراتي بصمت ثقيل كنت أحس به حجاباً صفيقاً يقوم بين قلبينا إلى الأبد.
لقد كنت غريباً بين العمالقة من أبناء الأسر الأخرى، وكان قصر قامتي يولد فيّ احتقارا مريراً لنفسي، فكنت أطأطئ رأسي أمام كل مناقشة أعرف تماماً أنني بها مصيب. . ألست قصيراً؟
ألست سخيفاً فقيراً ابن الغسالة؟ ففيم التبجح بالمنطق والمرافعة والسفسطة؟ يكفي أن يقف محدثي أمامي قليلاً، فأقيس قامتي بقامته، حتى أشعر أن قنفذاً ألتف حول رقبتي .. لقد كانت كل الأشياء به يوماً بعد يوم .. أمي .. وأساتذتي .. ودرجاتي المدرسية .. وكانت أمي تقول لي دائماً:
- أتمنى أن يكون قلبك كبيراً .. كعقلك.
ولقد كان قصري يولّد في نفسي غضباً على أمي !! أليست هي أصل البلاء، أليست سبب حياتي الذليلة؟ ماذا لو ولدتني غنياً أحمل تلك المحفظة التي يحملها عصام مثلاً وأركب مثل سيارته؟ ألست أذكى منه؟ ألم نتعلم أن المال ليس كل شيء في الحياة؟ إنه لا يمتاز عني بشيء .. ولكنه ...آه .. إنه أطول مني، دائما الطول .. الطول اللعين. لقد كنت إذا ما مررت بجدار أحاول أن أقيس طولي على تموجات الدهان فيه، وكنت انظر إلى ظلي في شمس الغروب، وتنطلق مني تنهيدة، ما أشد لهفتي إلى أن يصير طولي كظلي !!وكنت أسمع عن ليلة القدر، وأسهر ليلتها أهيء الدعاء .. ليس ثمة شيء كثير سوى جبل من ذهب، وعشر نساء بيضاوات كالثلج، وفتر من طول.
وكنت أرتاح لشيء واحد، وأشعر فيه بسيطرتي، هو أنني كنت أحس بالزهو والعظمة حينما أقف أمام أمي ... لقد كانت قامتي أطول من قامتها قليلاً .. يا للفرحة العامرة...
هل كنت أبغضها؟ لا أعلم .. ولكنها كانت تخافني .. وكنت أردد أمامها دائما أنها ولدتني للعذاب والشقاء .. وهي في كل مساوئي.
ومشيت في طريق الحياة، مسلحاً بالغرور واحتقار الناس .. ألست ذكياً ألست عبقرياً، إن درجاتي تنبئ بذلك .. ماذا يضر إذا كانت لي أم جاهلة غبية كهذه الأم ..ألم أسمع عن الزهرات التي تنبت في الوحل وتمتص منه غذاءها؟
ووصلت الهوة التي تفصلنا إلى قعرها .. عندما أخذت أخيراً، من بعد كدّ سنوات، إجازة في الطب ..لقد صرت دكتورا ..من يصدق أن أماً كهذه لها ابن دكتور.. أني أحس بالهوان في أعماقي ..أذكر تماماً نظراتها الفرحة إذ ذاك ..وبكاءها وصياحها اللاهث ..مبروك يا ابني ..مبروك يا حبيبي ..وتنهدت كأنها أدت مهمتها .. ونظرت إلى يديها بفخر، ثم أخفتهما عني بعد أن شعرتُ بالامتعاض لبشاعتهما، ومرضت ثلاثة أيام من الفرح ..لقد كانت سعيدة جدا لأنها كانت أول زبائني،
لقد كنت أحتاج إلى المال لأجل أن أجهز عيادة وإلى الدعاية والشهرة والعمل بدون أجر، والرضاء بالقليل لأبدأ الطريق ..فإلى العمل أيتها الغسالة ..إلى العمل أيتها العجوز الفانية ..عليك أن تؤدي ضريبة أن ابنك قد أصبح دكتوراً رغم عامّيتك وحقارتك.
ودارت الآلة الصدئة بجهد وصعوبة، ما أعجب البشر ..
من يصدق أن هذه الكتلة المتعبة من اللحم والدم تستطيع أن تعمل خمس عشرة ساعة ليلاً نهاراً .. تدور على البيوت وتحمل رزم الغسيل مرددة في كل مكان:
-أعندكم مريض ..ابني دكتور ..دكتور عظيم ويفهم.
وتأسست العيادة وأمرتها أن تتوارى حتى لا تتلوث سمعتي، ماذا يقول الناس عن دكتور لا تزال أمه تعمل غسالة ؟!
يتوجب عليّ أن أعولها بعد الآن لا بأس، سأعيلها، ماذا يقول الناس؟
قد أنسر أشياء أستطيع أن أتناساها بالإرادة، يكفي أن أفكر بشيء آخر، عندما تقفز إلى ذهني ذكرى أليمة، أفكر بسهرة هانئة مثلاً، أو بواجب ملقى عليّ، أو أتذكر مشاكل عيادتي ومرضاي، أو أحاول أن أحصي عدد ألوان السقف المدهون، أو أبادر إلى اصطناع مشاجرة حامية مع الخادمة، ولكن تلك الذكرى لم أستطع أن أمحوها .. كانت دائما تحز في رأسي كمقراض ضخم، يذكرني بها الجو .. والصباح ..والشارع .. ليست هي ذكرى غريبة، ولكن بعض الذكريات البسيطة، أو التي تبدو بسيطة، تبقى دائماً إحدى خلايا ذاكرتك، فلا تفكر إلا وتتحرك لتندمج مع الخلايا الأخريات.
عندما جئت أعلمها بخطوبتي كان الحر خانقاً، والنوافذ المطلة على الشارع مفتوحة، وبدأت كلامي وأنا أسمع جلبة العربات وصوت الحوذي وهو ينهر جواده، الترام الذي رنينه الواهن المنتظم، بينما ملأت الجو هتافات باعة الصحف، وهم ينادون عن جريمة مشهورة، ودق ناقوس الكنيسة يعلن الثانية عشرة، وبدا أمام عيني في الرصيف المقابل عنوان ضخم عن راقصة مشهورة برخصها وعهرها .. وشكلت هذه الأشياء جميعها جواً زاد في حدة أعصابي.
بدأت أقول بغير اكتراث، أنه قد آن لي أن أتزوج، وأخذت أعد الحوائج التي سأشتريها فقاطعتني بهدوء تسألني عن زوجتي المستقبلية ..يا الله كيف سهوت عنها يا أمي إنها رمزية..ورأيت وجهها الهرم يتجعد ويمتقع، ولا أدري لماذا تذكرت دهان مطعم سقراط في ذلك الوقت!! كان وجهها مسرحاً لإحساسات متناقضة، فأنا أعرف مقتها الشديد لرمزية، جارتنا التي كانت تتجاهل أمي كلما زارتنا تجاهلاً تاماً. ولكنها مدت يدها المرتجفة وهي تقول: مبروك يا ابني ..مبروك، فوجهت إليها الطعنة القاضية: أمي إني أرى أن صحتك لا تساعدك على الضجة، وأني استأجرت لك مسكناً في سوق ساروجة، وبذلك تتخلصين من عناء البيت والأولاد..
وخيل إليّ أن وجهها قد ابيض وشحب، وبذلت جهوداً جبارة كي تبتسم من خلال الدموع التي حبستها، وكان منظرها مضحكاً وهي تغالب عينيها الكابيتين ثم تجيب بصوتها الهادئ: مثل ما تريد ..مثل ما تريد وفي اللحظة التالية هوت على الكرس وهي تسعل سعالاً متصلاً هزّ جسدها الشيخ هزاً عنيفاً، وقبض على قلبي خيط واه من الحنان، ولعنت رمزية التي اشترطت عليً ابعادها، ولكنني، مع ذلك، ولكنني، ومع ذلك، لم أتراجع، فانفصلت عنها حتى جاءها السل، فأتيت بها أمرّضها في بيتي.
ومرة أخرى أستعنت بأحد المارة على إشعال سيجارة هي آخر ما تبقى في العلبة، ومرة أخرى نسيت أن أشكره.
وقف إلى ذهني خاطر رهيب، ألست أنا القاتل؟ نعم أنا الذي قتلتها، لقد أصابها الاجهاد بالسل في بيتها العفن، وهي صابرة لا تتكلم، وكنت حينما أزورها تجاهد نفسها كي لا تشعرني بمرضها، وكنت لا أطيل زيارتي، مرة كل شهر، والزيارة خمس دقائق، كأنها أحد المرضى الفقراء الذين خصص لهم يوما مجانياً على سبيل الدعاية لأعطيهم وصفات لا تنفع شيئاً، ولكنني كنت ألحظ امتقاعها والبقعتين الحمراوين على وجهها من أعراض السل الرئوي، هل كنت أتعامى عنها لأتخلص منها ومن كل الماضي المخجل الذي تمثله؟ أخيراً نقلتها إلى بيتي وأخذت أمرضها بفتور، كانت تلحّ علي ألا أتفرغ لها هي العجوز التي شارفت نهاية حياتها، وأن أترك أوقاتي للعيادة، وكنت أطيعها وأحس بشيء من الارتياح وأنا أغادرها، حتى كان مساء البارحة ..
اتصلت بي الخادمة تقول إن نوبة حادة أصابت أمي، وكنت أعالج رجلاً ذا مكانة فعزّ عليّ تركه، ولكنه عندما علم أن أمي هي المعنية، ألحّ عليّ بالذهاب فغادرت عيادتي غاضباً.
لست أنسى النظرة الوجلة المستكينة التي قابلتني بها ..وأحسست بعينيها تنهبني وتجردني من ثيابي، فأدرت وجهها لعنف فتأوهت وصبرت على قسوتي وانا أضعها في الفراش دونما لطف.. كانت عيناها تلاحقاني ..آه لو تنطفئ هذه النظرة الفظيعة من العينين .. أنا لم ارها في حياتي تنظر إلي على هذا الشكل ..أكرهتها إكراها على شرب المسكن فهمدت ولكن عيناها ظلتا مفتوحتين مسمرتين عليّ ضربت الباب بعنف وقوة وهربت إلى الفضاء.
وحينما عدت في المساء كانت أمي قد ماتت ..ودفنت اليوم كأنها متشردة لم يسمع بموتها سوى قلة ..ذلك لأنني لم أقل لأحد عن موتها.
كان أناس أعرفهم يدخلون ويخرجون من البيت حينما عدت إليه، ولمحت زوجتي تصف الكراسي بهمة أصحاب الرسميات، قطبت وجهها وبادرتني بسرعة:
-لماذا تأخرت ..نسيت الصبحية؟
- أية صّبَحيَّة؟
- أف ..بعد دقائق يأتي الناس للعزاء، هل أوصيت على القهوجي؟
- ومن أين آتي به؟
-من أية قهوة .. اسرع يا رجل ..ماذا يقول الناس عنا إذا أهملنا.
-لا يهمني أحد ..يا ليتنا لا نجلس في الصبحية!!
-لا ..لا تقل مثل هذا القول الأحمق، وإلا استاءت الحارة كلها إذا وقل عدد مرضاك، إن الناس ينتظرون سيرة يعلكون بها، إن هي ثلاثة أيام وننتهي من هذه المصيبة.
ولأول مرة لاحظت حبة وسخة صفراء تحتل خدّ زوجتي، وأنها مملة، فاستدرت بهدوء أنفذ الأوامر، وشعرت طوال العشية أنني غريب، وأن المقرئ المزعج الذي أتى به مختار الحارة، لا يصل صوته إلى أذني، وكنت أقوم وأقعد وأرد التحيات، بحركة أتوماتيكية ... أوه ما أتفه الحياة.
وتقدمت زوجتي مني تدعوني للنوم بحجة أني منهك بعد أن خلت الدار من المعزين، ولكني قابلتها بصمت ووجوم، فهزت كتفيها وذهبت وتركتني وحيداً جالساً على الكرسي أحدق في الأضواء المنيرة الكثيرة دون أن يطرف لي جفن.
وعندما انطفأت الأنوار، كانت تنتابني كآبة حائرة، وخيل إلي أني أشعر بالبرد رغم دفء الجو، وبأن شيئاً ما ينقصني كأن أحد أعضائي قد انفصل عني، فأدرت وجهي وأخذت أتمشى وأنا أدخن خيل لي أنني ضائع، وأن زوجتي قبيحة، وأن
البيت الذي أعيش فيه قبو معتم، وصرت أدخل غرف البيت وأخرج منها كأنما أفتش عن شيء يخلصني ..شد ما أنا حائر شد ما أشعر أنني فارغ.
وهززت رأسي وأنا أحدق في سرير أمي، وأقلب الحوائج الموجودة على المخّدة بملل ..عدة خياطة ..ومجموعة متباينة من الإبر..وعدة أوراق منها وصفة طبيب عرفت فيها خطي وورقة عليها حجاب يبدأ هكذا (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا حجاب يمنع جميع الأمراض ويداوي كل العلل بقدرة الواحد الأحد الفرد ...)
وهذه ورقة أخرى ..ما هذا؟ كانت ورقة كأنها لطالبة صغيرة تتعلم حروف الهجاء وتبدو فيها محاولات لكتابة جملة صغيرة. وابتسمت، هل كانت أمي تتعلم الكتابة قبل أن تموت؟ يا للأمر المضحك !! الآن فهمت سر الأوراق التي كانت تخبئها هي والخادمة التي تعرف القراءة والكتابة حينما آتي والتي كنت لا ألقي إليها بالاً ككل شيء يصدر عن أمي ..لعلها أرادت أن تفاجئني !! أوه كم أنت طيبة ونقيّة أيتها العجوز الفانية. وخيل إليّ أنني أتمنى أن أراها وأن أضمها إلى صدري فرحاً بتعلمها الكتابة، وأن أقبلها على خدها الأجعد وألمح السرور في عينيها..
وغمغمت:
- مسكينة لقد ماتت ولن ترجع إلى الأبد.
وشعرت بمغص حاد فجلست على حافة السرير، وخيل إليّ أن رأسي أكبر من الغرفة وعرتني رعشة حزينة .. كم كانت تحبني ..أليس رائعاً أن يجد الانسان في هذا العالم البارد من يدفَّئه بحبه؟
وقلبت الورقة، فرأيت عليها جملاً مفككة رديئة الخط لدرجة تجعل من الصعب قراءتها.
وطويتها ببطء، وأحسست بثقل يبهظني كأنني ألبس رداءً من الرصاص.
وحاولت أن أفعل أيّ شيء، أن أبكي ..أن أضحك، فلم أستطع. وحدقت في الضوء طويلاً دون أن أشعر بأي ألم .. يا لها من حياة عاشتها هذه العجوز..وشعرت بخدر كالشلل يتسرب إلى أعصابي فأخذت أقضم أظافري. وكانت يدي ترتجف، إذ لم أستطع أن أكبت شعوري، كما كنت أفعل من قبل فأسرعت ودسست رأسي في الماء.
شعرت أن دموعي المختلطة بالماء طاهرة، وأم وجودي قد أصبح مليئاً أكثر من قبل.
عدت إلى الغرفة ودموعي تتساقط في صمت، وجلست على السرير مطرقاً، ولمع شيء تحت مقعد في آخر الغرفة فاسترعى انتباهي، ولما أخرجته وجدته صندوقاً صغيراً تذكرت أن أمي كانت تضع فيه حوائجها الخاصة، وكان ضوء الغرفة يقع على معدنه الرخيص الصدئ فيبدو كامداً عتيقاً كأنه قبر نحاسي، واعتراني شيء من الوجل وأنا أفتحه.
ووقفت أحدّق في دهشة وذهول في محتويات الصندوق، بينما حاولت الابتسام من خلال دموعي ووجدتني أشهق من أعماقي.
لم يكن في الصندوق سوى صورة لشاب يشبهني، وأظن أنه أبي ..وشيء آخر، وغصصت بريقي .. حذاء صغير وسخ، هو نفس الحذاء القديم الذي كنت ضربتها به يوماً في إحدى ثورات غضبي.
سعيد حوارنية
عام 1949
* نالت هذه القصة الجائزة الأولى الممتازة في مسابقة مجلة النقاد التي أجريت في عام 1951
* من مجموعة قصصية شتاء قاس آخر صادرة عن دار الفارابي بيروت
الطبعة الأولى 1964
الطبعة الثانية 1979
=========================
ولد سعيد حورانية في دمشق عام 1929
وتلقى تعليمه فيها، وتخرج في جامعتها مجازاً في الأدب العربي ثم نال دبلوم التربية، وعمل في التدريس في سورية ولبنان، وأقام فترة طويلة في موسكو من مطلع الستينيات حتى عام 1974، ثم عاد إلى وطنه، واشتغل في وزارة الثقافة حتى وافته المنية عام 1994.
وضع سعيد حورانية ثلاث مجموعات قصصية، هي:
1-وفي الناس المسرة- قصص- دمشق 1954.
2-سلاماً يافرصوفيا- مقالات- دمشق 1957.
3-صياح الديكة- مسرحية- دمشق 1957.
4-شتاء قاس آخر- قصص- بيروت 1962.
5-سنتان وتحترق الغابة- قصص- بيروت 1964.
6-المهجع رقم 6- مسرحية- دمشق 1963.
7-القطة التي تنزهت على هواها- ترجمة- دمشق 1983.
توفي سنة 1994