محمد نبيه الشعار - كروان...

[1]

تلفتت كروان يساراً قليلاً يميناً قليلاً ثم استدارت باتجاه الصوت الأغنّ وقد عبث بوقارها المهذب الذي اعتاده الحي كله، وامتطى كبريائها في تحدّ فظّ.. حدّقت في الوجه اليافع، تمعنت فيه، بحرّت.. ربما إنه راق لها، ربما أعجبها فقط..، لكنها قالت: استح.. يا ابن الشرمو [..]. فالفتى صبّ تغزّله على الموقع الأكثر اختباءً وإخفاءً في جسد أي امرأة.. وتجرأ، بل تواقَحَ وسمّاه.

اكتفت بهذه الشتيمة واستمرت سير الحجل الغرير متجلببة بالسواد.. كان كعب حذائها النحاسي العالي يقرع الرصيف من أولّه حتى آخره.. فيرنُّ –ليس الرصيف فحسب- وإنما الشارع كله، ويلبس لرنّته رداء الاشتياق.

[2]

عيّنت كروان في فراغ لامرئي وأذِنت لخيالها أن يرجع عشرين سنة وأكثر.

أبصرت بعين الخيال [بسّام] ذلك الفتى الأشقر في نظافة بادية ومحسوبة رغم أنه مجرد صبي لدى بائع الخضرة وظيفته أن يتولى توصيل طلبات المنازل.. كان مبتسماً على الدوام، ويرفض على الدوام تناول المكافأة النقدية من يدها الطرية، فتبادله ابتساماً بابتسام، ثم لا تغلق الباب على عجل، إنما بتؤدة متمهلة ورفيقة، كأنها لا تودُّ أن تغلقه.. لم تكن تريد أن تنتهي الابتسامة العذبة..

كان يقول لها: - احفظي مكافأتي لديك. وكانت تحفظها.. تضعها كل مساء تحت وسادتها. وفي الصباح تدسها في محفظتها وتذهبان معاً إلى المدرسة.

لقد امتلكت نقود بسّام كيانها كله.. وكما احتفظت بها سراً بينها وبينه، كذلك احتفظت بابتساماته.. فكانت تدسها في قلبها عند الباب، وما إن يغادر تستخرجها وتلهو معها النهار كله، وتحلُّ بها مسائل الرياضيات العويصة، وتستعين بها على حفظ قصائد الشعر الجاهلي.. غدت وحيدة الصف التي حفظت دون غلطة واحدة، منهاج الشعر الجاهلي كله وخطبة قسِّ بن ساعدة ومقاطع من بخلاء الجاحظ.. مما جعلها موضع العناية الفُضلى لدى مُدَرّسة الأدب العربي، وموضع حسد بعض الزميلات وإعجاب بعضهن الآخر.. وإذا آوت إلى السرير خبأت الابتسامات بين نقوده تحت الوسادة، كي تسترجعها من جديد في الصباح..

ومثلما كانت تزداد النقود مع ازدياد طلبيات الخضار أو الفواكه، فكذلك كانت الابتسامات.

[3]

بعد أشهر، وربما عام.. قال لها بسام: أنت جميلة.. وناولها طبقاً فيه تين وكيساً فيه عنب، وأردف: أجمل من كل فاكهة الدنيا. ثم ابتسم. قالت: أنت أجمل. وأغلقت الباب بالأناة المعتادة.

[4]

إحدى زميلاتها حدّثتها عن أشياء حميمة تفعلها البنات مع الصبيان في خلوات تتهيأ لهم أو يهيئونها على سطح منزل أو تحت درج، وأنها –كما قالت- ترد الروح. سألتها:

-هل تحبين؟

أجابت:

-وأنتِ، هل أحببت أحداً؟

-أقول لك عن الأشياء الحميمة، ثم تسألينني.. طبعاً أحببت وأحب، ويا لكثرة ومتعة ما فعلناه.. كل مع الآخر.

تمنّت كروان، فشابت وجهها حُمرة حييّة وداعبته تلك الابتسامة.. ودت لو كان مدّ يده إلى خدها يوم أن قال لها أنت جميلة.. وودت لو أنها مدت يدها ورفعت خصلة شعره الشقراء، العابثة أبداً بالجبين الأحبّ، لكانت أحست لبعض لحظةٍ، لحظةً جزءً من الحميمية التي سمعت بها على التوّ.

[5]

الفتى اليافع الذي أسمعها ما أسمعها، عاد فشاغل سمعها بالتغزّل نفسه. لم تتوقف هذه المرة، كما لم تشتمه.. اكتفت بأن نظرت في وجهه. عاودها وجه الفتى صبي الخُضار والفواكه، فاستشعرت قشعريرة خلَجَتْها كلها حتى كادت أن تسقط.. ولكن الحجل استمر يمشي.. واستمر اليافع يتبعه، إلا أنه لم يعد يقول شيئاً. ظل وراءها ظلاً من الظلال أشبه بالأليف. ثم حاذاها.. خاف كل شيء فيها من لمسة أو إمساكة لعضد..

-كيف أتصرف إذا فعلها؟ إن الجرأة التي له أمر لا يصدّق. أبْعِدْهُ عني يا رب..

تظاهرت بلا مبالاة متيقظة. مضت وقد حاذاها تماماً. تعمدت ألا تنظر إليه. لكنه كان ينظر وكان يبتسم، بل ويكاد يضحك.. نظر إلى الرصيف الآخر وهمس إني أعتذر، حقاً كنت قليل أدب. وصمت، ثم لوى خطواته فصار على الجانب الآخر من الطريق. لكنه ظل ينظر إليها.. وظل يبتسم.

[6]

تمنت لو أنه ما اعتذر.. لا تدري لماذا هذه الأمنية.. كانت في داخلها مساحة رغبة واشتياق تناديه على استحياء ليسحب اعتذاره، وربما ليعاود قول ما قال. أما الشتيمة فقد كانت من قبيل رد الفعل الإنعكاسي.

[7]

-ما الذي حدث جراء ما قاله؟ لا شيء.. إنه شاب واشتهى، لم يمكنه عمره من إبداء الإعجاب بطريقة أخرى. لقد قذفه عمره باتجاه النهايات. ومن كان في مثل سن يفاعته تعنيه النتائج لا المقدمات.. إن قلت عن نفسي كيف لي أن أتعامل مع فتى يافع، لا يجب أن أقول كيف لفتى يافع أن يتعامل معي.

صمتت برهة لتعاود القول لنفسها:

-ثم ربما إن زوجة أب رّبته فافتقد الأم حتى وجدها في.. إن الحرمان العاطفي يفعل أكثر من هذا. وإن الحرمان العاطفي يفجر المضامين.. والفتى باعتذاره، لم يقصد أن يعتذر، بل عبر عن مقدار ما فعلته لديه، شتيمتي.. لا، أنا ما قسوت. كان يستحق ما سمع..



[8]

تقصدت أن تنظر إلى الرصيف الآخر وأن تجعله يراها تنظر إليه.. ما كانت تظن أن له الابتسامة التي لبسام. بسام كان عرق ورد والتوى في هاجرة الحرب. عشرون ربيعاً فتياً أكلتها نيران الحرب. لقد أخذ مني ما أخذ بينما أنا داخل النشوة والرضا. بلى، لقد كان فعلاً حميمياً ودافئاً، ومدعاة سعادة لم أقدر على وصفها إطلاقاً.. هل يريد اللّه بجلال قدرته أن يكرر علي بسام؟ من يدري. والعمر؟ تباً للعمر كيف يحول بيننا وبين صبواتنا.. لا، يجب ألا يحول، فإن نازك الصلحدار جعلت من عمرها جسراً وعبرت عليه إلى ضفتها الثانية.

كان الفتى اليافع يتشاغل بالنظر أماماً، ولكنه أيضاً كان يبتسم.



[9]

في يوم آخر صعقت كروان، رأته واقفاً بالباب كالقدر. قالت:

-ادخل.. لا تفضحنا.. يا لك من جريء.

ابتسم الفتى..

لم يدخل

قال:

-أتيت لأعتذر وجهاً لوجه، فأنت بمقام أمي.

نظر بحنان جم في وجهها الفل. كانت له نظرة جندي مندحر وجريح على سرير في الوطن.

همّ بقبلة عجلى. أسلست له خداً توّرد في اندهاش.

لامست الخدّ شفتان من ندى، وشارب من زغب الدُرّاق

وكَمَنْ فوجئ بجمرةٍ تأكل فمه.. أدار وجهه. وجعل يهبط درجات السلم كأنه مطارد.. كان خائفاً من شيء ما..

بتوءدة كظيمة، تركت كروان الباب، فأوصد الباب نفسه.





1715582393061.png

=============
ولد في مدينة حلب عام 1941
تلقى تعليمه في حلب وعمل في الصحافة السورية والسعودية.
عمل في الحقل الإعلامي مذيعاً وكاتباً ومحدثاً ومعد برامج في إذاعتي حلب ودمشق وصحفياً في عدد من الصحف السورية‏
والسعودية، وهو عضو اتحاد الكتاب العرب وجمعية العاديات وجمعية الشعر، وقد صدرت له العديد من المجموعات الشعرية والقصصية، كما انه ناشط في المنابر الثقافية في سورية.‏

* مؤلفاته:
- تراب الغرباء- شعر- دمشق 1973.
- بالع السكين- شعر- دمشق 1984.
-موال وفيقة
-قبلة الماء


توفي يوم الاثنين 30/3/ 2009

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى