تطلعت من النافذة, غابة خضراء غامقة, بقايا شمس لا تحيلها إلى سواد. سكوت عميق يغطي الكون برداء لا انثناء فيه.

عادت تجلس على الكرسي الهزاز, حركته فاهتز هو ولكنها هي لم تهتز " ليس لكرسي اليوم زقزقته المعتادة. من أين تأتي بالصوت في هذا الصمت?". فتحت المذياع, فارتفع الصوت بالكلام الغريب " ماذا يقول المذيع? وماذا يعلق على هذه الموسيقى الغربية? هل تستطيع أن تجيبه الأصوات الأخرى? أما من صوت عربي في هذه الغربة السحيقة?.

الليلة آخر الليالي في هذا البلد الغريب. صباح اليوم انتهت الحمّامات المعدنية, وانتهى التدليك وأفرغت العاملة آخر وجبة من أكداس الطين الأسود على الأنحاء المريضة من جسمها.

قال لها الطبيب, عبر لغتيهما الغريبة المكسرة, إنها تحتاج إلى راحة جسم وراحة فكر وراحة عواطف " راحة جسم! راحة فكر! وراحة عواطف!!".

أجابته أنها غير قادرة على توفير أي من هذه الراحات التي يصفها. سأل: ولم, فبماذا تجيب? وكيف تفهمه من هي? هل تستطيع أن تعلن عن المهمات المعلقة على كتفيها ورأسها وذراعيها? وهي التي حاولت أن تحجب شخصيتها الحقيقية في هذا البلد الغريب? هي التي حاولت أن تتخفى فلا يعرف أحد أنها هنا تريح جسدها وفكرها وعواطفها?

قال أخوها يوم قرر الطبيب في بلدها أنها مرهقة إلى حد الانهيار وبحاجة إلى جو جديد, إلى منتجع لا تقوم فيه بأية مهمة أو عمل, إلى الاسترخاء والنوم وتجميد التفكير.

قال أخوها بعد تفكير طويل ودراسة عميقة: " ومن سيساعدني?" عاد الطبيب الغريب يسأل: ما تراها تعمل حتى أصيبت بكل هذا الإجهاد? وهذا التوتر? واحتارت ماذا تجيب? هل تشرح طبيعة عملها? هل تقول إنها أخت أخيها?

لو تعرف عليها السواح العرب, يقول أخوها, فسيقولون تبرجزوا وهم المناضلون, تبرجزوا وهم المسؤولون, تبرجزوا وهم المكافحون. " نعم هي أخت المناضل وهي أخت المسؤول وهي أخت المكافح يجب أن لا تتبرجز. الحس بالتعب برجزة. وانهيار الجسد أمام المسؤوليات برجزة. وضعف الأعصاب أمام الإرهاق والسهر برجزة ".

نذر أخوها نفسه للقضية. رهن حياته لمسيرة هذه القضية. كان مندفعا متحمسا منذ أول إدراكه لهموم الوطن وكانت هي أصغر سنا منه, وهو شاب البيت الوحيد, فتأثرت بأقواله وآمنت بأعماله وتحمست لقوة شخصيته فصارت تدعو لآرائه وتكرر أقواله وصار هو يشرح لها ظروف القضية. جعلها كاتمة أسراره وهي الشابة الوحيدة في البيت, لم تدر إلا وهي تخوض عملا نضاليا كبيرا. ووجد أخوها فيها رفيقة النضال فازدادت حماستها وشغلت كل أوقاتها بالعمل.

ولكن أخاها وجد خلال كل هذا الاندفاع ومع كل هذا النضال وبجانب كل هذا العمل, وجد رفيقة أخرى, رفيقة من نوع آخر. رفيقة أخيها الجديدة صارت زوجته. دخلت حياته من بابها السهل. وصارت الزوجة المدللة " وبقيت هي.. هي أخته رفيقة النضال".

الناس يعرفون هذا تماما, يعرفون كاتمة أسراره, هي وحدها كاتمة كل هذه الأسرار الكبيرة. ويعرفون أن وراء شخصيته الفذة الأخاذة أخته نذرا للقضية وأنه يستشيرها في كل تصريحاته وخططه.

ولأن الناس ينتظرون من المرأة أن تكون أكثر كلاما من الرجال صاروا يلاحقونها أين وجدوها بأسئلة مباشرة أو غير مباشرة, ولكنها نجحت في الامتحان وصمدت أمام إغراء السؤال, حتى أصبح مريدو أخيها ومؤيدوه يسمونها أخت الرجال, " منحوها شرف الاعتراف بأخوّتهم "!

هي, كانت تدري أن القضية أهم من أية مغريات بشرية, وقاطعت لأجل هذا عوالم النساء. فلا ارتياد لصالونات حلاقة أو دار أزياء أو تجول في الأسواق أو زيارات صباحية. " هذه عوالم تضييع الوقت وهي تدري أهمية الوقت في العمل".

واستغربت أن ترى أخاها وقد وضعت زوجته ولدا وصار ينادى أبا رفيق, استغربت أنه أصبح يمضي جزءا من وقته الثمين في ملاعبة ابنه وازدادت المسؤوليات عليها. أما هي فصارت تنادى عمة رفيق, منحوها حق عمومة رفيق ولم تعد تنادى أخت الرجال, صار الرجال طفلا صغيرا".

" لو كانت كنيتها أما لرفيق? فكرة لم تساورها من قبل " كل ما تعرفه من عروض الزواج, خطبتها في أول صباها لرجل لم تره إلا من خلال الهدايا التي قدمتها لها أمه وأخته ثم... قرر أبوها أن الخطيب لا يناسبها فأرجعت الهدايا. وتساءلت لمَ ناسبها? ولمَ لم يعد يناسبها? لم يجب أبوها أبدا عن هذا السؤال لا من خلال تساؤلها لنفسها ولا من خلال استفسارها من أمها: أبوك يرى أن هذا هو الأفضل.

" ماذا جرى لتلك الهدايا? من يلبسها الآن?".. حين يعود أخوها من أسفاره يحمل لزوجته ولرفيق ولبقية الأولاد هدايا. وهي.. هي يحمل لها عددا جديدا من الكتب السياسية.

ذات مرة رأت زوجة أخيها في جلسة مع زائراتها وإحداهن تكشف لها المستقبل في فنجان القهوة.. فتقدمت لها بفنجانها. وفي المساء.. تساءل أخوها باستنكار: أهذا هو مستواها الفكري? أتسف هي إلى حد انتظار معرفة المستقبل من فنجان قهوة? نحن نصنع المستقبل, نحن الذين نبنيه, فهل نلجأ إلى فنجان يخبرنا عما يجب أن نعمل, عما سيحدث? وتساءلت ما كان يحدث لو وقفت أمام المرآة تتبرج كما تفعل زوجة أخيها? قال جدها: إنها زوجة ويجب أن تتزين لزوجها لترضيه, أما أنت فهل ترضين أن تتزيني لأصدقاء أخيك? وماذا يقول الناس لو اهتم بك أحد هؤلاء? ولو... ولو لا سمح الله, قال أخوها, أحبك واحد منهم, فهذا معناه أنني أشركتك في مهمتنا الوطنية لأجد لك زوجا. أنت محصنة ضد كل هذا بتصرفك الرصين وكفاك فخرا أنك أخت الرجال... وضحك فرحا: أليس كذلك يا عمة رفيق?

عادت تطل من النافذة, ازدادت الغابة المحيطة بالفندق عتمة. غابت الشمس من مدة. مرت فترة الغروب وجاء الليل الطويل. هذه آخر ليلة لها في هذا البلد الغريب. حاذرت فيه أن ترى وتشاهد ويتعرف عليها. هذه آخر ليلة في هذا البلد الغريب ولم تتعرف هي على الليل فيه. شاهدت الشوارع المؤدية للمصح في النهار وشاهدت هناك غرفة التدليك بالأيدي والتدليك بالماء وغرفة الطين " ماذا رأت في هذا البلد الغريب غير صور مائه المعدني?".. " وغرفتها ماذا فيها غير جدرانها وسقفها ونافذتها الوحيدة تطل على غابة خضراء صباحا, معتمة مساء, سوداء ليلا, موحشة وقت الأرق".

دق جرس المطعم يعلن ساعة تناول العشاء, وهي عادة لا تنزل إلى القاعة بل تطلب العشاء إلى غرفتها " اليوم, هذه الليلة هي الأخيرة في هذا البلد الغريب. ستنزل إلى المطعم وتختار مائدة منزوية بعيدة عن نظرات الفضوليين".

في طريقها إلى المطعم شاهدت غرفة مضاءة محشورة بالناس. غرفة تراها لأول مرة مكتوب على بابها بالضوء الأحمر ( بار ) بكل اللغات التي يمكن أن تميزها.

كانت الغرفة موجودة ومقفلة ساعات النهار. الليل عالم ثان لم تتعرف عليه طوال هذه الأسابيع " فهل أراحها قضاء الليالي الطويلة في غرفتها تطالع الكتب السياسية?" عالم المطعم جديد. فكيف حرمته كل هذه الليالي? ما الذي أغراها بتناول العشاء في غرفتها? ما الذي يخيفها كل هذا الخوف من الليل? وهي المناضلة أخت الرجال, عمة رفيق? والنهار هل كانت أكثر جرأة فيه? أنسيت أنها تتناول غذاءها في مطعم ( المصح ) المملوء بالشيوخ والعجزة والمرضى? وفطورها? مقصورة على الماء المعدني يصلها من حنفية الشرب الطالعة في غرفتها?

ورددت بصوت عال رجال ونساء رجال ونساء " أنسيت أنها أخت الرجال, أنها عمة رفيق?".






1715583821979.png

=================
ولدت ديزي الأمير في البصرة جنوب العراق في عام 1935 لأب عراقي هو الطبيب ميرزا الأمير وأم لبنانية من ضهور الشوير هي «وداد تبشراني». تلقت دراستها الابتدائية في مدرسة البتاوين في بغداد والإعدادية والثانوية في المدرسة المركزية للبنات. بعد حصولها على شهادة البكالوريوس من كلية تدريب المعلمين من بغداد عام 1955 سافرت ديزي إلى جامعة كامبريدج لدراسة وكتابة أطروحتها عن الأدب العربي. رفض والدها دفع الرسوم الدراسية وعادت للعراق.

عملت بعد تخرجها في التعليم فدرست عشر سنوات في إحدى المدارس الإعدادية للبنات ثم في دار المعلمات بالبصرة ولما انتقلت إلى بيروت وجدت وظيفة سكرتيرة في السفارة العراقية. رقيت في نهاية المطاف إلى وظيفة مساعد الملحق الصحفي. في عام 1975 عندما اندلعت الحرب الأهلية في لبنان عينت مديرا للمركز الثقافي العراقي. عادت إلى العراق في عام 1982 بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان. تعكس قصصها تجارب النساء أثناء الأوقات العصيبة في الشرق الأوسط بما في ذلك خلال الحرب الأهلية اللبنانية وأثناء صعود قوة صدام حسين في العراق. ديزي الأمير ألفت خمسة مصنفات منشورة بما في ذلك: البلد البعيد الذي تحب عام 1964 وثم تعود الموجة عام 1969 وفي دوامة الحب والكراهية عام 1979 ووعود للبيع عام 1981 عن الحرب الأهلية اللبنانية وعلى لائحة الانتظار عام 1988 وجراحة لتجميل الزمن عام 1996.


* بيبلوغرافيا
قائمة الانتظار: حكاية امرأة عراقية في الغربة.
الحكاية الأندلسية.
البلد البعيد الذي أحب.
ثم تعود الموجة.
في دوامة الحب والكراهية.
وعود للبيع.
البيت العربي السعيد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى