تعتبر دراسة قضايا الإنسان العربي ومشاكله اليومية من وظيفة علم الاجتماع النقدي، فهناك مشاكل المرأة والبطالة والثقافة، والشباب والمسنين، والفقر والعنف، والطلاق والزواج، والهجرة وصراع الأجيال، والقيم وقضاء وقت الفراغ، اللجوء السياسي والإنساني، والفساد بكل أشكاله وأنماطه، ومشاكل الحضارة الجديدة من جانب، وغياب حقوق الإنسان من جانب آخر. وهناك مشكلة الأقليات والإثنيات والطوائف، والعلاقة بين الدولة والمجتمع، والاقتصاد والمجتمع، والقيم والتغير القيمي([1]).
إن معظم المشاكل الاجتماعية الداخلية التي نعاني منها هي نتاج السياق التاريخي والاجتماعي الخاص، ذلك السياق الذي افتقر إلى عمليات التغير التاريخي والفكري وجمّد حركة المجتمع. ولذلك ظل الفكر التراثي والقبلي والبطريركي يتحكم بنا ويكوّن شخصيتنا، ويولد القيم التراثية والقبلية المناقضة للديمقراطية والحداثة، والمعبرة عن مأزق المجتمع والدولة([2]).
في هذا السياق، سنحاول استعراض بشيء من الإيجاز نظرية الإصلاح الاجتماعي عند عالم الاجتماع العراقي علي الوردي([3]) باعتباره مفكراً كبيراً ومصلحا متميزاً في الدراسات السوسيولوجية ذات الطابع النقدي، وبالأخص فيما يتعلق بحركة الإصلاح الاجتماعي حول المجتمعات العربية والإسلامية لمعرفة أسباب التخلف والجمود فيها وسُبل الخروج من هذه الحلقة المفرغة.
إن المرجعية الفكرية والفلسفية للوردي متأثرة بقيم ومبادئ عصر التنوير والحداثة الغربية، حيث لا يرى قدسية كبيرة للتراثي - يقصد الوردي بالتراثي ما يسمى بالاصطلاح العلمي ومعناها مجموعة من المعتقدات والقيم والتقاليد والعادات والمألوفات التي يتميز بها مجتمع عن آخر، والتي ينشأ عليها الإنسان منذ طفولته - بل يتجاوزه وينقده بالواقع؛ أي إنه ينقد القديم والنص التاريخي بالحاضر والواقع، لذلك تجاوز كل مفكري عصره في نقده وتطلعاته وأفقه. وقد أثار جدلاً كبيراً حول آرائه في حياته وبعد مماته. والدليل على ذلك أن الوردي كان شغوفاً بموضوع القوالب النمطية* التي تربّى عليها في مجتمعه المحلي منذ طفولته، والحصيلة المعرفية والفكرية التي تكونت لديه من خلال دراسته وجهوده العلمية وتجاربه الشخصية خارج مجتمعه المحلي، وقد مهد لهذا الموضوع في أول باكورة إنتاجه المعرفي في عام 1953 في كتابه "خوارق اللاشعور"([4]).
يعدّ علي الوردي عالم اجتماع وأنثروبولوجي* تخصص في دراسة المجتمع العربي بصورة عامة والمجتمع العراقي بصورةٍ خاصةٍ، دعا إلى ثورة في التفكير الاجتماعي من خلال وضع نظرية اجتماعية ومنهجية علمية وفرضيات تتلاءم ودراسة المجتمع العراقي والشخصية العراقية. كما أن الوردي هو "علماني"، بمعنى أنه غير ملتزم([5])، لقد كانت نظرة الوردي للمجتمع واقعية، لا طوباوية، ولا مثالية، تتمثل بقوله: "إن المشكلات لكل مجتمع هي حالة طبيعية، تحرّك الناس لدراستها وحلّها، ولا يمكن لمجتمع أن يخلو من المشاكل، حيث الناس ينقسمون ويتصارعون، فيكون الرأي والرأي الآخر ليشعر الإنسان أنه حي ينمو مع مرور الأزمان"([6]).
وفيما يتعلق بعملية الإصلاح الاجتماعي شبه الوردي القوى اللاشعورية التي تقيد العقل والمجتمع بالضغط الجوي الذي نتحمل ثقله الهائل دون أن نحس به، إلا إذا انتقلنا إلى مكان آخر حيث يكون الضغط الجوي مختلفاً، كذلك العقل البشري فهو لا يشعر بوطأة الإطار الفكري الذي يقيده إلا إذا انتقل إلى مجتمع آخر وثقافة أخرى، فسوف يلاحظ أن هناك أفكاراً وقيماً ومفاهيم أخرى مغايرة لما ألفه، وفي هذا الصدد يقول: "إن من الصعب على الإنسان، أو مستحيل أحياناً، أن ينظر في الأمور بحرية تامة. وقد يتراءى لبعض المغفلين أنهم أحرار في تفكيرهم، وسبب ذلك أن الإطار الفكري قيد لا شعوري موضوع على عقولهم من حيث لا يحسون به. فهو بهذا الاعتبار كالضغط الجوي الذي نتحمل ثقله الهائل على أجسامنا دون أن نحس به. وقد نحس به بعض الإحساس إذا تحولنا إلى مكان آخر يتغير فيه مقدار الضغط. عندئذ نشعر بأننا كنا واهمين"([7]).
وهذا الإطار الفكري مستمد من المجتمع الذي يفرض على الإنسان قواعد وقيم اجتماعية وثقافية، فإذا رأى أحداً يخالف هذه القواعد والقيم يثور عليه؛ لأنه يعتقد بقرارة نفسه بأنه يقف مع الحق والحقيقة. "وأن أغلب الحروب والاضطهادات التي شنها البشر على بعضهم البعض"([8]) هي نتاج الإطار الفكري الذي يكبّل عقل الإنسان ويأسره. وهذا لا يعني- حسب الوردي - بأن ليس هناك حقائق عامة وشاملة كالظلم والعدل؛ لأن الإنسان يدعي أنه يحب الحق والحقيقة ويضحي بنفسه وماله من أجلها "عندما تكون الحقيقة نافعة له، حيث بمجرد تحول هذه الحقيقة إلى جانب خصمه حتى يبدأ يراوغ ويدور ويبحث عن الأدلة التي تقلل من شأن هذه الحقيقة، وقد ينكرها تماماً إذا عجز عن تفنيدها"([9])، فهو خاضع في تفكيره للقوالب الذي تصبها البيئة الاجتماعية فيه.
وفي هذا السياق، بذل الوردي جهداً كبيراً ليبين أن العجز والقصور الذي يصيب العقل يحصل بسبب الإطار الفكري الذي يفرض قيوداً أو حدوداً على عقل الانسان عند تفكيره أو عند نظرته للمواقف المختلفة، كالقيود النفسية الشعورية واللاشعورية والاجتماعية كانتمائه إلى جماعة أو أقليم أو طائفة أو القيود الحضارية التي تشترك بها كل الجماعات في حضارة معينة، إن هذه القيود تشير إلى أن العقل البشري هو نتاج اجتماعي، وأن الحقائق التي يمتلكها هذا العقل ويدافع عنها هي حقائق مطلقة وإنما هي نتائج عملية الإعداد الاجتماعي التي تسعى إلى تنميط وقولبة فكر الإنسان. لذلك، نجد أن وظيفة المجتمع الإنساني هي قولبة العقل البشري وأنه صنيعة من صنائع المجتمع، وهو لا ينمو ولا ينضج إلا في زحمة الاتصال الاجتماعي والتفاعل الإنساني([10]). وفي هذا الصدد يقول الوردي: "إن أي إنسان لا ينمو عقله إلا في حدود القالب الذي يصنعه المجتمع له. ومن الظلم أن نطالب إنساناً عاش بين البدائيين مثلاً أن ينتج لنا فلسفة معقدة كفلسفة برجسون أو رياضيات عالية كرياضيات أينشتاين"([11]).
كما، يبرهن ويقول الوردي: إن "الحقيقة هي في الواقع بنت البحث والمناقشة"([12]) ولكن من المؤسف أن نرى رجال الدين لا يفهمون هذه الحقيقة، ولهذا وجدناهم يقاومون كل تيار جديد، فهم يقاومونه أول الأمر، ثم يرضخون له أخيراً. كما أنه بالمقابل يريدون تغيير طبيعة الناس وتغيير نفوسهم بالخطب والمواعظ، ولم يدركوا بأنهم يطلبون المستحيل؛ لأنهم سوف لن يجدوا أذناً صاغية لمواعظهم. ويأتي الوردي بعدد من الأمثلة على ذلك. فبعض الوعاظ يطلبون من الناس أن ينظفوا أنفسهم من الحقد والحسد والأنانية والنفاق، وهم أنفسهم أكثر أنانية وحسداً ونفاقاً. كما أن تغيير هذه الصفات من الناحية الاجتماعية لا يتم إلا بتغيير الظروف الاجتماعية التي سببتها وكذلك الدوافع التي دفعت إليها، وعلى وعاظ السلاطين أن يغيروا أنفسهم قبل أن يطلبوا من الآخرين ذلك. في حين أن العلماء المعاصرين يحاولون التعرف على الظروف الاجتماعية والعوامل الخفية والدوافع التي تقف وراء ذلك، والتي تؤثر في تفكير الناس وفي سلوكهم ومواقفهم من الآخرين، وبعد ذلك يحاولون إصلاحهم. وفي هذا الصدد يقول الوردي: "إن شر المجتمعات هو ذلك المجتمع الذي يحترم طريقاً معيناً في الحياة في الوقت الذي ينصح الواعظون فيه بإتباع طريق آخر معاكس له"([13])، طبعاً إن لم يخالف الشريعة. وهكذا نجد أن الوردي كان من دعاة الفكر السوسيولوجي التنويري وأستاذ أكاديمي مرموق ومتميز، دعا إلى الفصل بين الدين والدولة، كما انتقد الوردي فئات رجال الدين ووعاظ السلاطين والحكام المفسدين، والصراعات الطبقية بشكل غير مباشر.
كما أسهب الوردي في نقد رجالات الدين ووعاظ السلاطين وحبهم للدنيا وتناقض أفعالهم مع أقوالهم واستغلالهم الدين لمصالحهم وجبروتهم وتعاملهم مع الحكومات الطاغوتية فضلاً عن تقسيمه الطبقي للمجتمع والارستقراطية الدينية. وإن ولوجه موضوع الدين من خلال نقد وعاظ السلاطين، كان قد كسر المحرم وتجاوز الممنوع، في مجتمع ديني تقليدي ما يزال يرزح تحت وطأة الاستغلال والقمع واستغلال الدين فيما هو أشبه بحكم الكنيسة في الغرب، وبذلك فتح باب النقد الديني على مصراعيه بعد أن شعرت امبراطوريات تستغل الدين بالخطر على مصالحهم ودنياهم من هذا الوعي والنقد الذي بدأ ينتشر في الأمة.
وفي المقابل، يجب أن نشير أن الوردي لم ينقد الدين بحد ذاته بل نقد ممارسات بعض رجال الدين وأتباع الهوى والسلطان والدنيا واستغلالهم للدين في مصالحهم الشخصية، وهم يتكلمون عن الزهد والورع والآخرة، بينما هم أحرص الناس على المال والدنيا. لذلك، يمكننا اعتبار الوردي مصلح تنويري عظيم، وفي هذا الصدد يقول الوردي: "كان محمد ﷺ ثائراً مجدداً يدعو إلى التقدم الاجتماعي في أقصى معانيه، وذلك بخلاف ما نرى الآن من رجال الدين من جمود ومحاربة لكل شيء جديد. وكان من أكره الأمور عند النبي محمد ﷺ أن يقول الناس: إننا وجدنا آباءنا على أمة وأنا على آثارهم مقتدون"([14]). بذلك لا يريد النبي ﷺ الركود لأمته؛ لأن الدين لا يستقيم مع الجمود.
وفيما يتعلق بموقفه من الدين، ينظر الوردي إلى الإسلام بوصفه دين العدل والمساواة، ودين الضعفاء والمغلوبين، بل جاء من أجل نشر الفضيلة بين الأمم، وهو ثورة كبرى على صعيد القيم الإنسانية، فهو بمثابة قلب لقيم الجزيرة العربية التي كانت تعيش على الغلبة والقتل، لذلك يرى الوردي أن الإسلام بدأ في أول أمره نظاماً ديمقراطياً، لا سيما مع رسولنا الكريم محمد ﷺ والخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، فالمسلمون الأولون كانوا يكافحون الظلم والترف والتعالي. وقد استطاع النبي ﷺ أن ينتقل بالمجتمع الإسلامي من حال الفرقة والتشرذم إلى حال الوحدة والعدل([15]).
إن المتتبع للسيرة الأكاديمية وأحداث السياق الاجتماعي وتفاعلاته التي عايشها الوردي وانعكاساتها على نتاجه الفكري يجد أنه درس في العالم الأوروبي، وتأثر سلباً أو إيجاباً، ثم نقد الواقع الاجتماعي والارستقراطية مدافعاً عن الفقراء والمحرومين. لذلك، نال نقداً واسعاً ممَنْ ضُربت مصالحهم خصوصاً طبقة رجال الدين المترفة، التي شعرت بتهديد مصالحها وثرائها وطغيانها. كما أنه برز كعالم اجتماع تنويري مع صعود الدكتاتورية القومية وكذلك لأنه ليس خطيباً ملتزماً، وأن استقلاليته الفكرية ومنهجه الاجتماعي وخوفه من زبانية النظام السياسي القمعي وعدم خروجه من العراق جعله منزوياً في صومعته الفكرية ومتوقفاً عن الكتابة والتأليف منذ بداية سبعينيات القرن المنصرم([16]). وهذا يعني أن الوردي عاش في فترة صراع بين إيديولوجيات مختلفة، إسلامية وقومية واشتراكية، فإنه استطاع أن يقف منها محايداً وأن يحافظ على استقلاليته الفكرية وأن يكون عالماً اجتماعياً جريئاً وناقداً تنويرياً لظواهر اجتماعية عديدة ترتبط بالمتخلف والمقدس والمحرم وبما اعتاد عليه الناس. وهي ظاهرة لم تكن مألوفة، فهو كان يسبح عكس التيار التقليدي العام مركزاً في انتقاده على الذهنية التقليدية التي يسيرها المنطق القديم توصيف وحل المشاكل والهموم التي يعاني منها الإنسان العربي، ويرى الوردي "أن المعارضة أهم من الحكومة في أمر الإصلاح الاجتماعي. والواقع أن المعارضة والحكومة وجهان متلازمان من أوجه التطور الحضاري لا يستقيم أحدهما بغير الآخر"([17]).
وفي النهاية، لا يسعنا إلا أن نقول إن الوردي قدّم تجديداً ومارس تحدياً شجاعاً للواقع والمجتمع، كما أنه عاش زاهداً بعيداً عن هوى النفس والشهرة والمصالح الشخصية والدنيوية، وترك الدنيا وهو نزيهاً يده طاهرة وكان بإمكانه أن يحصل على الكثير لو تنازل عن بعض المبادئ لكنه رفض، فالوردي سعى إلى تغيير الماضي بالواقع والحاضر، باحثاً عن الحق والحقيقة والإصلاح الاجتماعي([18]) من خلال إيمانه بالعقل ومفرزات فكر الحداثة. كما أنه نصح في خاتمة كتابه "مهزلة العقل البشري" أن الجيل الجديد مقبل على دراسة الأفكار الحديثة. وقد أصبح ذهنه مشبعاً بما فيها من منطق واقعي. وهو لذلك لا يستسيغ هاتيك الأفكار العاجية التي أكل الدهر عليها وشرب([19]). إنه يطالب رجال الدين أن يجددوا من خطابهم الديني بما يتماشى مع متغيرات العصر الحديث من منطلق أن الدين صالح لكل زمان ومكان، وحتى يقتدي بآرائهم وأفعالهم جميع أفراد المجتمع بما يصب في الصالح العام.
وفيما يتعلق بالدراسة العلمية الجادة (تحليلاً ونقداً) للواقع الاجتماعي نجد أنه لا يمكن لأي مجتمع يريد فهم نفسه بصورة علمية لحل الأزمات والمشاكل التي تعترضه، أو حتى إدراك أبعاد شخصيته الاجتماعية ومكامن طاقاتها الإبداعية والنهضوية والتطورية ومعالجة معوقات تكاملها وحركتها السليمة، بدون أن يكون لديه نظريات سوسيولوجية ومنهجية لا تخرج عن سياق المجتمع المدروس لتحلل وتفسر وتوضح معالم شخصيته وتبّين خصائص وسمات البناء الاجتماعي للمجتمع. ومن ثم تساهم تلك النظريات من خلال تخصصها في دراسة المجتمع بطرح أعمق لكل ما يختص بالهيئة الاجتماعية وكيفية وجودها وحركتها، وكيفية الانتقال بها من واقع آلي بسيط، وربما قديم ومتحجر إلى واقع اجتماعي عضوي توظف فيه طاقات الأفراد بداخلها بشكل منظم أكثر إنتاجاً وتخصصاً وكفاءة وعملية وانسجاماً، ولهذا كان علم الاجتماع مهماً إذا لم نقل مصيرياً للمجتمعات الحديثة. فضلاً عن الكتابة حوله وتناوله بصورة فكرياً ومنهجياً وباستمرار... وهذا ما تحتاج إليه مجتمعاتنا بصريح العبارة. "فالمجتمع الصالح هو الذي يحترم حقوق الإنسان وكرامته، وهو الذي يقوم على قيم التسامح والتعددية والديمقراطية وحرية الرأي والرأي الآخر، ويقوم النظام الاجتماعي فيه على هذه المعايير معايير العدالة والتضامن والمساواة، وهذه قيم المجتمع الديمقراطي التعددي"([20]).
ختاماً، علم الاجتماع النقدي ليس ترفاً معرفياً كما يُخيل للبعض، والواقع في المستقبل القريب سيثبت لكم ذلك. نحن الآن على اعتاب معطف تاريخي مهم والدور الكبير فيه سيكون لعلم الاجتماع مايسترو الهندسة الاجتماعية. حتى لو كان محارباً من النظم الاستبدادية والقوى الظلامية والاستعمارية بكافة أشكالها.... التي لا تريد لمجتمعاتنا تحقيق الفهم والنهوض لأن منْ يفهم في هذه الأيام يتعب ويُتعِب.
--------------------------------------------
- المراجع المعتمدة:
([1]) أبو بكر أحمد باقادر وعبد القادر عرابي: آفاق علم اجتماع عربي معاصر، دار الفكر آفاق معرفة متجددة، دمشق، ط1، 2006، ص(182).
([2]) المرجع السابق نفسه، ص(182).
([3]) علي الوردي هو علي حسين محسن عبد الجليل الوردي (1913- 1995)، وهو عالم اجتماع عراقي، أستاذ ومؤرخ وعُرف بتبنيه للنظريات الاجتماعية الحديثة في وقته، لتحليل الواقع الاجتماعي العراقي، وكذلك استخدم تلك النظريات بغرض تحليل بعض الأحداث التاريخية، كما فعل في كتاب وعاظ السلاطين وهو من رواد العلمانية في العراق. يميل الدكتور الوردي للواقعية في تحليلاته الاجتماعية على طريقة ابن خلدون وميكافيللي. من أهم مؤلفاته: مهزلة العقل البشري، وعاظ السلاطين، خوارق اللاشعور أو (أسرار الشخصية الناجحة)، هكذا قتلوا قرة العين، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث (8 أجزاء)، الأحلام بين العلم والعقيدة، منطق ابن خلدون، قصة الأشراف وابن سعود، أسطورة الأدب الرفيع، شخصية الفرد العراقي (بحث في نفسية الشعب العراقي على ضوء علم الاجتماع الحديث).
* مجموعة من المعتقدات أو الأفكار تتعلق بفئات من الأشخاص أو الجماعات أو الموضوعات تراكمت وأصبحت مقبولة مقدماً بحكم العادات والأحكام والتوقعات المألوفة وهي ليست نتاجاً لتقديرات جديدة متطورة للظواهر. بمعنى آخر، هي تعميمات ثابتة نسبياً ومبالغة التبسيط فيما يتعلق بمجموعات أو فئات من الناس.
([4]) ناظم جواد كاظم وهشام عادل هراطه: القوالب النمطية في سوسيولوجيا علي الوردي النشأة والآثار، مجلة جامعة بابل للعلوم الإنسانية، المجلد: 27، العدد:1، العراق، 2019، ص(505).
* كما حلل أصول المهاجرين وتميزت مؤلفات وأبحاث الوردي بالصبغة الانثروبولوجية حيث ما أنفك يبحث عن الكثير في واقع مجتمع العراق والمجتمع البغدادي وعاداته وتقاليده المتحدرة من عهود الخلافة العباسية. وعن المناسبات الدينية وأهميتها في حياة الفرد البغدادي وذكرى عاشوراء.
([5]) نبيل حيدري: الإصلاح الاجتماعي بين علي الوردي وعلي شريعتي، الحوار المتمدن - العدد: 3422، 10/07/2011. نبيل الحيدرى - الإصلاح الإجتماعى بين على الوردى وعلى شريعتى
([6]) المحرر الثقافي: عرض لكتاب نبيل الحيدري: التنوير والإصلاح الاجتماعي، مجلة فكر الثقافية، الرياض، 21/10/2018. التنوير والإصلاح الاجتماعي بين الوردي وشريعتي
([7]) علي الوردي: مهزلة العقل البشري، دار كوفان، لندن، ط2، 1994، ص(46-47).
([8]) ناظم جواد كاظم وهشام عادل هراطه: القوالب النمطية في سوسيولوجيا علي الوردي النشأة والآثار، مرجع سبق ذكره، ص(505).
([9]) عمار الهاشمي: العقل والحقيقة، الحوار المتمدن، العدد: 1485، 10/03/2006. عمار الهاشمي - العقل والحقيقة
([10]) ناظم جواد كاظم وهشام عادل هراطه: القوالب النمطية في سوسيولوجيا علي الوردي النشأة والآثار، مرجع سبق ذكره، ص(499).
([11]) علي الوردي: مهزلة العقل البشري، مرجع سبق ذكره، ص(133).
([12]) علي الوردي: مهزلة العقل البشري، مرجع سبق ذكره ص(7).
([13]) علي الوردي: وعاظ السلاطين، دار كوفان، لندن، ط2، 1995، ص(18).
([14]) علي الوردي: وعاظ السلاطين، مرجع سبق ذكره، ص(104).
([15]) علي المرهج: الموقف من الدين في فكر علي الوردي، صحيفة العالم الجديد، العراق، الأربعاء 20 كانون الأول 2017. al-aalem.com
([16]) نبيل حيدري: الإصلاح الاجتماعي بين علي الوردي وعلي شريعتي، مرجع سبق ذكره (بتصرف).
([17]) علي الوردي: مهزلة العقل البشري، مرجع سبق ذكره ص(276).
([18]) نبيل حيدري: الإصلاح الاجتماعي بين علي الوردي وعلي شريعتي، مرجع سبق ذكره.
([19]) علي الوردي: مهزلة العقل البشري، مرجع سبق ذكره ص(300).
([20]) أبو بكر أحمد باقادر وعبد القادر عرابي: آفاق علم اجتماع عربي معاصر، مرجع سبق ذكره، ص(188-189).
د. حسام الدين فياض
الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة
قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً
إن معظم المشاكل الاجتماعية الداخلية التي نعاني منها هي نتاج السياق التاريخي والاجتماعي الخاص، ذلك السياق الذي افتقر إلى عمليات التغير التاريخي والفكري وجمّد حركة المجتمع. ولذلك ظل الفكر التراثي والقبلي والبطريركي يتحكم بنا ويكوّن شخصيتنا، ويولد القيم التراثية والقبلية المناقضة للديمقراطية والحداثة، والمعبرة عن مأزق المجتمع والدولة([2]).
في هذا السياق، سنحاول استعراض بشيء من الإيجاز نظرية الإصلاح الاجتماعي عند عالم الاجتماع العراقي علي الوردي([3]) باعتباره مفكراً كبيراً ومصلحا متميزاً في الدراسات السوسيولوجية ذات الطابع النقدي، وبالأخص فيما يتعلق بحركة الإصلاح الاجتماعي حول المجتمعات العربية والإسلامية لمعرفة أسباب التخلف والجمود فيها وسُبل الخروج من هذه الحلقة المفرغة.
إن المرجعية الفكرية والفلسفية للوردي متأثرة بقيم ومبادئ عصر التنوير والحداثة الغربية، حيث لا يرى قدسية كبيرة للتراثي - يقصد الوردي بالتراثي ما يسمى بالاصطلاح العلمي ومعناها مجموعة من المعتقدات والقيم والتقاليد والعادات والمألوفات التي يتميز بها مجتمع عن آخر، والتي ينشأ عليها الإنسان منذ طفولته - بل يتجاوزه وينقده بالواقع؛ أي إنه ينقد القديم والنص التاريخي بالحاضر والواقع، لذلك تجاوز كل مفكري عصره في نقده وتطلعاته وأفقه. وقد أثار جدلاً كبيراً حول آرائه في حياته وبعد مماته. والدليل على ذلك أن الوردي كان شغوفاً بموضوع القوالب النمطية* التي تربّى عليها في مجتمعه المحلي منذ طفولته، والحصيلة المعرفية والفكرية التي تكونت لديه من خلال دراسته وجهوده العلمية وتجاربه الشخصية خارج مجتمعه المحلي، وقد مهد لهذا الموضوع في أول باكورة إنتاجه المعرفي في عام 1953 في كتابه "خوارق اللاشعور"([4]).
يعدّ علي الوردي عالم اجتماع وأنثروبولوجي* تخصص في دراسة المجتمع العربي بصورة عامة والمجتمع العراقي بصورةٍ خاصةٍ، دعا إلى ثورة في التفكير الاجتماعي من خلال وضع نظرية اجتماعية ومنهجية علمية وفرضيات تتلاءم ودراسة المجتمع العراقي والشخصية العراقية. كما أن الوردي هو "علماني"، بمعنى أنه غير ملتزم([5])، لقد كانت نظرة الوردي للمجتمع واقعية، لا طوباوية، ولا مثالية، تتمثل بقوله: "إن المشكلات لكل مجتمع هي حالة طبيعية، تحرّك الناس لدراستها وحلّها، ولا يمكن لمجتمع أن يخلو من المشاكل، حيث الناس ينقسمون ويتصارعون، فيكون الرأي والرأي الآخر ليشعر الإنسان أنه حي ينمو مع مرور الأزمان"([6]).
وفيما يتعلق بعملية الإصلاح الاجتماعي شبه الوردي القوى اللاشعورية التي تقيد العقل والمجتمع بالضغط الجوي الذي نتحمل ثقله الهائل دون أن نحس به، إلا إذا انتقلنا إلى مكان آخر حيث يكون الضغط الجوي مختلفاً، كذلك العقل البشري فهو لا يشعر بوطأة الإطار الفكري الذي يقيده إلا إذا انتقل إلى مجتمع آخر وثقافة أخرى، فسوف يلاحظ أن هناك أفكاراً وقيماً ومفاهيم أخرى مغايرة لما ألفه، وفي هذا الصدد يقول: "إن من الصعب على الإنسان، أو مستحيل أحياناً، أن ينظر في الأمور بحرية تامة. وقد يتراءى لبعض المغفلين أنهم أحرار في تفكيرهم، وسبب ذلك أن الإطار الفكري قيد لا شعوري موضوع على عقولهم من حيث لا يحسون به. فهو بهذا الاعتبار كالضغط الجوي الذي نتحمل ثقله الهائل على أجسامنا دون أن نحس به. وقد نحس به بعض الإحساس إذا تحولنا إلى مكان آخر يتغير فيه مقدار الضغط. عندئذ نشعر بأننا كنا واهمين"([7]).
وهذا الإطار الفكري مستمد من المجتمع الذي يفرض على الإنسان قواعد وقيم اجتماعية وثقافية، فإذا رأى أحداً يخالف هذه القواعد والقيم يثور عليه؛ لأنه يعتقد بقرارة نفسه بأنه يقف مع الحق والحقيقة. "وأن أغلب الحروب والاضطهادات التي شنها البشر على بعضهم البعض"([8]) هي نتاج الإطار الفكري الذي يكبّل عقل الإنسان ويأسره. وهذا لا يعني- حسب الوردي - بأن ليس هناك حقائق عامة وشاملة كالظلم والعدل؛ لأن الإنسان يدعي أنه يحب الحق والحقيقة ويضحي بنفسه وماله من أجلها "عندما تكون الحقيقة نافعة له، حيث بمجرد تحول هذه الحقيقة إلى جانب خصمه حتى يبدأ يراوغ ويدور ويبحث عن الأدلة التي تقلل من شأن هذه الحقيقة، وقد ينكرها تماماً إذا عجز عن تفنيدها"([9])، فهو خاضع في تفكيره للقوالب الذي تصبها البيئة الاجتماعية فيه.
وفي هذا السياق، بذل الوردي جهداً كبيراً ليبين أن العجز والقصور الذي يصيب العقل يحصل بسبب الإطار الفكري الذي يفرض قيوداً أو حدوداً على عقل الانسان عند تفكيره أو عند نظرته للمواقف المختلفة، كالقيود النفسية الشعورية واللاشعورية والاجتماعية كانتمائه إلى جماعة أو أقليم أو طائفة أو القيود الحضارية التي تشترك بها كل الجماعات في حضارة معينة، إن هذه القيود تشير إلى أن العقل البشري هو نتاج اجتماعي، وأن الحقائق التي يمتلكها هذا العقل ويدافع عنها هي حقائق مطلقة وإنما هي نتائج عملية الإعداد الاجتماعي التي تسعى إلى تنميط وقولبة فكر الإنسان. لذلك، نجد أن وظيفة المجتمع الإنساني هي قولبة العقل البشري وأنه صنيعة من صنائع المجتمع، وهو لا ينمو ولا ينضج إلا في زحمة الاتصال الاجتماعي والتفاعل الإنساني([10]). وفي هذا الصدد يقول الوردي: "إن أي إنسان لا ينمو عقله إلا في حدود القالب الذي يصنعه المجتمع له. ومن الظلم أن نطالب إنساناً عاش بين البدائيين مثلاً أن ينتج لنا فلسفة معقدة كفلسفة برجسون أو رياضيات عالية كرياضيات أينشتاين"([11]).
كما، يبرهن ويقول الوردي: إن "الحقيقة هي في الواقع بنت البحث والمناقشة"([12]) ولكن من المؤسف أن نرى رجال الدين لا يفهمون هذه الحقيقة، ولهذا وجدناهم يقاومون كل تيار جديد، فهم يقاومونه أول الأمر، ثم يرضخون له أخيراً. كما أنه بالمقابل يريدون تغيير طبيعة الناس وتغيير نفوسهم بالخطب والمواعظ، ولم يدركوا بأنهم يطلبون المستحيل؛ لأنهم سوف لن يجدوا أذناً صاغية لمواعظهم. ويأتي الوردي بعدد من الأمثلة على ذلك. فبعض الوعاظ يطلبون من الناس أن ينظفوا أنفسهم من الحقد والحسد والأنانية والنفاق، وهم أنفسهم أكثر أنانية وحسداً ونفاقاً. كما أن تغيير هذه الصفات من الناحية الاجتماعية لا يتم إلا بتغيير الظروف الاجتماعية التي سببتها وكذلك الدوافع التي دفعت إليها، وعلى وعاظ السلاطين أن يغيروا أنفسهم قبل أن يطلبوا من الآخرين ذلك. في حين أن العلماء المعاصرين يحاولون التعرف على الظروف الاجتماعية والعوامل الخفية والدوافع التي تقف وراء ذلك، والتي تؤثر في تفكير الناس وفي سلوكهم ومواقفهم من الآخرين، وبعد ذلك يحاولون إصلاحهم. وفي هذا الصدد يقول الوردي: "إن شر المجتمعات هو ذلك المجتمع الذي يحترم طريقاً معيناً في الحياة في الوقت الذي ينصح الواعظون فيه بإتباع طريق آخر معاكس له"([13])، طبعاً إن لم يخالف الشريعة. وهكذا نجد أن الوردي كان من دعاة الفكر السوسيولوجي التنويري وأستاذ أكاديمي مرموق ومتميز، دعا إلى الفصل بين الدين والدولة، كما انتقد الوردي فئات رجال الدين ووعاظ السلاطين والحكام المفسدين، والصراعات الطبقية بشكل غير مباشر.
كما أسهب الوردي في نقد رجالات الدين ووعاظ السلاطين وحبهم للدنيا وتناقض أفعالهم مع أقوالهم واستغلالهم الدين لمصالحهم وجبروتهم وتعاملهم مع الحكومات الطاغوتية فضلاً عن تقسيمه الطبقي للمجتمع والارستقراطية الدينية. وإن ولوجه موضوع الدين من خلال نقد وعاظ السلاطين، كان قد كسر المحرم وتجاوز الممنوع، في مجتمع ديني تقليدي ما يزال يرزح تحت وطأة الاستغلال والقمع واستغلال الدين فيما هو أشبه بحكم الكنيسة في الغرب، وبذلك فتح باب النقد الديني على مصراعيه بعد أن شعرت امبراطوريات تستغل الدين بالخطر على مصالحهم ودنياهم من هذا الوعي والنقد الذي بدأ ينتشر في الأمة.
وفي المقابل، يجب أن نشير أن الوردي لم ينقد الدين بحد ذاته بل نقد ممارسات بعض رجال الدين وأتباع الهوى والسلطان والدنيا واستغلالهم للدين في مصالحهم الشخصية، وهم يتكلمون عن الزهد والورع والآخرة، بينما هم أحرص الناس على المال والدنيا. لذلك، يمكننا اعتبار الوردي مصلح تنويري عظيم، وفي هذا الصدد يقول الوردي: "كان محمد ﷺ ثائراً مجدداً يدعو إلى التقدم الاجتماعي في أقصى معانيه، وذلك بخلاف ما نرى الآن من رجال الدين من جمود ومحاربة لكل شيء جديد. وكان من أكره الأمور عند النبي محمد ﷺ أن يقول الناس: إننا وجدنا آباءنا على أمة وأنا على آثارهم مقتدون"([14]). بذلك لا يريد النبي ﷺ الركود لأمته؛ لأن الدين لا يستقيم مع الجمود.
وفيما يتعلق بموقفه من الدين، ينظر الوردي إلى الإسلام بوصفه دين العدل والمساواة، ودين الضعفاء والمغلوبين، بل جاء من أجل نشر الفضيلة بين الأمم، وهو ثورة كبرى على صعيد القيم الإنسانية، فهو بمثابة قلب لقيم الجزيرة العربية التي كانت تعيش على الغلبة والقتل، لذلك يرى الوردي أن الإسلام بدأ في أول أمره نظاماً ديمقراطياً، لا سيما مع رسولنا الكريم محمد ﷺ والخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، فالمسلمون الأولون كانوا يكافحون الظلم والترف والتعالي. وقد استطاع النبي ﷺ أن ينتقل بالمجتمع الإسلامي من حال الفرقة والتشرذم إلى حال الوحدة والعدل([15]).
إن المتتبع للسيرة الأكاديمية وأحداث السياق الاجتماعي وتفاعلاته التي عايشها الوردي وانعكاساتها على نتاجه الفكري يجد أنه درس في العالم الأوروبي، وتأثر سلباً أو إيجاباً، ثم نقد الواقع الاجتماعي والارستقراطية مدافعاً عن الفقراء والمحرومين. لذلك، نال نقداً واسعاً ممَنْ ضُربت مصالحهم خصوصاً طبقة رجال الدين المترفة، التي شعرت بتهديد مصالحها وثرائها وطغيانها. كما أنه برز كعالم اجتماع تنويري مع صعود الدكتاتورية القومية وكذلك لأنه ليس خطيباً ملتزماً، وأن استقلاليته الفكرية ومنهجه الاجتماعي وخوفه من زبانية النظام السياسي القمعي وعدم خروجه من العراق جعله منزوياً في صومعته الفكرية ومتوقفاً عن الكتابة والتأليف منذ بداية سبعينيات القرن المنصرم([16]). وهذا يعني أن الوردي عاش في فترة صراع بين إيديولوجيات مختلفة، إسلامية وقومية واشتراكية، فإنه استطاع أن يقف منها محايداً وأن يحافظ على استقلاليته الفكرية وأن يكون عالماً اجتماعياً جريئاً وناقداً تنويرياً لظواهر اجتماعية عديدة ترتبط بالمتخلف والمقدس والمحرم وبما اعتاد عليه الناس. وهي ظاهرة لم تكن مألوفة، فهو كان يسبح عكس التيار التقليدي العام مركزاً في انتقاده على الذهنية التقليدية التي يسيرها المنطق القديم توصيف وحل المشاكل والهموم التي يعاني منها الإنسان العربي، ويرى الوردي "أن المعارضة أهم من الحكومة في أمر الإصلاح الاجتماعي. والواقع أن المعارضة والحكومة وجهان متلازمان من أوجه التطور الحضاري لا يستقيم أحدهما بغير الآخر"([17]).
وفي النهاية، لا يسعنا إلا أن نقول إن الوردي قدّم تجديداً ومارس تحدياً شجاعاً للواقع والمجتمع، كما أنه عاش زاهداً بعيداً عن هوى النفس والشهرة والمصالح الشخصية والدنيوية، وترك الدنيا وهو نزيهاً يده طاهرة وكان بإمكانه أن يحصل على الكثير لو تنازل عن بعض المبادئ لكنه رفض، فالوردي سعى إلى تغيير الماضي بالواقع والحاضر، باحثاً عن الحق والحقيقة والإصلاح الاجتماعي([18]) من خلال إيمانه بالعقل ومفرزات فكر الحداثة. كما أنه نصح في خاتمة كتابه "مهزلة العقل البشري" أن الجيل الجديد مقبل على دراسة الأفكار الحديثة. وقد أصبح ذهنه مشبعاً بما فيها من منطق واقعي. وهو لذلك لا يستسيغ هاتيك الأفكار العاجية التي أكل الدهر عليها وشرب([19]). إنه يطالب رجال الدين أن يجددوا من خطابهم الديني بما يتماشى مع متغيرات العصر الحديث من منطلق أن الدين صالح لكل زمان ومكان، وحتى يقتدي بآرائهم وأفعالهم جميع أفراد المجتمع بما يصب في الصالح العام.
وفيما يتعلق بالدراسة العلمية الجادة (تحليلاً ونقداً) للواقع الاجتماعي نجد أنه لا يمكن لأي مجتمع يريد فهم نفسه بصورة علمية لحل الأزمات والمشاكل التي تعترضه، أو حتى إدراك أبعاد شخصيته الاجتماعية ومكامن طاقاتها الإبداعية والنهضوية والتطورية ومعالجة معوقات تكاملها وحركتها السليمة، بدون أن يكون لديه نظريات سوسيولوجية ومنهجية لا تخرج عن سياق المجتمع المدروس لتحلل وتفسر وتوضح معالم شخصيته وتبّين خصائص وسمات البناء الاجتماعي للمجتمع. ومن ثم تساهم تلك النظريات من خلال تخصصها في دراسة المجتمع بطرح أعمق لكل ما يختص بالهيئة الاجتماعية وكيفية وجودها وحركتها، وكيفية الانتقال بها من واقع آلي بسيط، وربما قديم ومتحجر إلى واقع اجتماعي عضوي توظف فيه طاقات الأفراد بداخلها بشكل منظم أكثر إنتاجاً وتخصصاً وكفاءة وعملية وانسجاماً، ولهذا كان علم الاجتماع مهماً إذا لم نقل مصيرياً للمجتمعات الحديثة. فضلاً عن الكتابة حوله وتناوله بصورة فكرياً ومنهجياً وباستمرار... وهذا ما تحتاج إليه مجتمعاتنا بصريح العبارة. "فالمجتمع الصالح هو الذي يحترم حقوق الإنسان وكرامته، وهو الذي يقوم على قيم التسامح والتعددية والديمقراطية وحرية الرأي والرأي الآخر، ويقوم النظام الاجتماعي فيه على هذه المعايير معايير العدالة والتضامن والمساواة، وهذه قيم المجتمع الديمقراطي التعددي"([20]).
ختاماً، علم الاجتماع النقدي ليس ترفاً معرفياً كما يُخيل للبعض، والواقع في المستقبل القريب سيثبت لكم ذلك. نحن الآن على اعتاب معطف تاريخي مهم والدور الكبير فيه سيكون لعلم الاجتماع مايسترو الهندسة الاجتماعية. حتى لو كان محارباً من النظم الاستبدادية والقوى الظلامية والاستعمارية بكافة أشكالها.... التي لا تريد لمجتمعاتنا تحقيق الفهم والنهوض لأن منْ يفهم في هذه الأيام يتعب ويُتعِب.
--------------------------------------------
- المراجع المعتمدة:
([1]) أبو بكر أحمد باقادر وعبد القادر عرابي: آفاق علم اجتماع عربي معاصر، دار الفكر آفاق معرفة متجددة، دمشق، ط1، 2006، ص(182).
([2]) المرجع السابق نفسه، ص(182).
([3]) علي الوردي هو علي حسين محسن عبد الجليل الوردي (1913- 1995)، وهو عالم اجتماع عراقي، أستاذ ومؤرخ وعُرف بتبنيه للنظريات الاجتماعية الحديثة في وقته، لتحليل الواقع الاجتماعي العراقي، وكذلك استخدم تلك النظريات بغرض تحليل بعض الأحداث التاريخية، كما فعل في كتاب وعاظ السلاطين وهو من رواد العلمانية في العراق. يميل الدكتور الوردي للواقعية في تحليلاته الاجتماعية على طريقة ابن خلدون وميكافيللي. من أهم مؤلفاته: مهزلة العقل البشري، وعاظ السلاطين، خوارق اللاشعور أو (أسرار الشخصية الناجحة)، هكذا قتلوا قرة العين، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث (8 أجزاء)، الأحلام بين العلم والعقيدة، منطق ابن خلدون، قصة الأشراف وابن سعود، أسطورة الأدب الرفيع، شخصية الفرد العراقي (بحث في نفسية الشعب العراقي على ضوء علم الاجتماع الحديث).
* مجموعة من المعتقدات أو الأفكار تتعلق بفئات من الأشخاص أو الجماعات أو الموضوعات تراكمت وأصبحت مقبولة مقدماً بحكم العادات والأحكام والتوقعات المألوفة وهي ليست نتاجاً لتقديرات جديدة متطورة للظواهر. بمعنى آخر، هي تعميمات ثابتة نسبياً ومبالغة التبسيط فيما يتعلق بمجموعات أو فئات من الناس.
([4]) ناظم جواد كاظم وهشام عادل هراطه: القوالب النمطية في سوسيولوجيا علي الوردي النشأة والآثار، مجلة جامعة بابل للعلوم الإنسانية، المجلد: 27، العدد:1، العراق، 2019، ص(505).
* كما حلل أصول المهاجرين وتميزت مؤلفات وأبحاث الوردي بالصبغة الانثروبولوجية حيث ما أنفك يبحث عن الكثير في واقع مجتمع العراق والمجتمع البغدادي وعاداته وتقاليده المتحدرة من عهود الخلافة العباسية. وعن المناسبات الدينية وأهميتها في حياة الفرد البغدادي وذكرى عاشوراء.
([5]) نبيل حيدري: الإصلاح الاجتماعي بين علي الوردي وعلي شريعتي، الحوار المتمدن - العدد: 3422، 10/07/2011. نبيل الحيدرى - الإصلاح الإجتماعى بين على الوردى وعلى شريعتى
([6]) المحرر الثقافي: عرض لكتاب نبيل الحيدري: التنوير والإصلاح الاجتماعي، مجلة فكر الثقافية، الرياض، 21/10/2018. التنوير والإصلاح الاجتماعي بين الوردي وشريعتي
([7]) علي الوردي: مهزلة العقل البشري، دار كوفان، لندن، ط2، 1994، ص(46-47).
([8]) ناظم جواد كاظم وهشام عادل هراطه: القوالب النمطية في سوسيولوجيا علي الوردي النشأة والآثار، مرجع سبق ذكره، ص(505).
([9]) عمار الهاشمي: العقل والحقيقة، الحوار المتمدن، العدد: 1485، 10/03/2006. عمار الهاشمي - العقل والحقيقة
([10]) ناظم جواد كاظم وهشام عادل هراطه: القوالب النمطية في سوسيولوجيا علي الوردي النشأة والآثار، مرجع سبق ذكره، ص(499).
([11]) علي الوردي: مهزلة العقل البشري، مرجع سبق ذكره، ص(133).
([12]) علي الوردي: مهزلة العقل البشري، مرجع سبق ذكره ص(7).
([13]) علي الوردي: وعاظ السلاطين، دار كوفان، لندن، ط2، 1995، ص(18).
([14]) علي الوردي: وعاظ السلاطين، مرجع سبق ذكره، ص(104).
([15]) علي المرهج: الموقف من الدين في فكر علي الوردي، صحيفة العالم الجديد، العراق، الأربعاء 20 كانون الأول 2017. al-aalem.com
([16]) نبيل حيدري: الإصلاح الاجتماعي بين علي الوردي وعلي شريعتي، مرجع سبق ذكره (بتصرف).
([17]) علي الوردي: مهزلة العقل البشري، مرجع سبق ذكره ص(276).
([18]) نبيل حيدري: الإصلاح الاجتماعي بين علي الوردي وعلي شريعتي، مرجع سبق ذكره.
([19]) علي الوردي: مهزلة العقل البشري، مرجع سبق ذكره ص(300).
([20]) أبو بكر أحمد باقادر وعبد القادر عرابي: آفاق علم اجتماع عربي معاصر، مرجع سبق ذكره، ص(188-189).
د. حسام الدين فياض
الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة
قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً