أبووردة السعدني - رشفات من رحيق الحضارة الإسلامية في الهند ( ٢ )

... عاشت الهند - قبل أن تشرق فيها شمس الاسلام - مرحلة جاهلية تسودها ظلمات بعضها فوق بعض ، فتنوعت آلهتها بين أصنام وأوثان وكواكب وحيوانات ، وتعددت تلك الآلهة ، فبلغ عددها أكثر من ثلاثمائة وثلاثين ألف إله ، ووصلت عقائدهم مدى بعيدا من التطرف ، الذي يجانب أدنى مباديء الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، فكانوا يحرقون جثث موتاهم بإضرام النار فيها ، وإن كان للميت زوجة على قيد الحياة تحرق معه حية ، وكانوا يحرمون ذبح البقرة ، ويشربون أبوالها للبركة والاستشفاء !!.. ، فلما أشرقت شمس الإسلام في الهند - في القرن الأول الهجري - شهدت تلك البلاد الشاسعة نقلة حضارية في مختلف مجالات الحياة ، وأسهمت بقسط وافر في تطور الحضارة الإسلامية ورقيها ، وأنجبت علماء - لا يحصون عدا - كانوا محاسن الدنيا ، ونجوم الكون ، ومفاخر المسلمين جميعا ، فضلا عن مسلمي الهند ...
.... من بين العلماء الذين أنجبتهم الهند : العلامة ، العربي الأصل ، الشريف عبدالحي فخر الدين الحسني ، الذي لقب ب " مؤرخ الهند " ، هاجرت أسرته من بغداد إلي بلاد الهند على أثر نكبة عاصمة الخلافة العباسية على أيدي المغول في القرن السابع الهجري /الثالث عشر الميلادي ،فنشأ في بيت دين وعلم وجهاد في سبيل الله ، وتعددت مدارس العلم ومدائنه التي نهل منها ، فظهر نبوغه في العلوم الدينية والعربية والفارسية والأردوية ، ومارس مهنة الطب ، وأشرف على " دار العلوم " في " ديوبند " منذ تأسيسها عام 1866/1283 ، وقد تطورت تلك الدار حتى أضحت أكبر وأقدم جامعة إسلامية في شبه القارة الهندية ، تقوم بتدريس الكتاب والسنة ، وتخرج فيها علماء متضلعون في العلوم الدينية والعربية ، وأطلق عليها لقب " أزهر الهند "...
.... أيضا : كان للشريف عبدالحي الحسني دور كبير في تأسيس " ندوة العلماء " - سنة 18933/1311 - في مدينة " لكنهؤ " ، وتولى أمانتها - حسبة لله تعالى - ، و " ندوة العلماء " مؤسسة إسلامية تهتم بدراسة الحديث النبوي الشريف ، والتقريب بين علماء المذاهب الإسلامية ، وتحقيق المخطوطات ، وتنسيق الجهود في إصلاح التعليم الإسلامي وتطويره ...
.... وبعد حياة حافلة بالعطاء ، لحق الشريف عبدالحي الحسني بالرفيق الأعلى - راضيا مرضيا - سنة 1923/1341 ، وقد أنجب عددا من الأبناء اقتدوا بسنة والدهم ، فساروا على دربه خدمة للدين والعلم ، أشهرهم : الدكتور عبدالعلي الحسني - ت 1961/1380 - كان مديراً ل" ندوة العلماء " في الهند ، وعمل في خدمة التعليم أربعين عاما تقريبا ، كما قام بجهد كبير في نشر مؤلفات والده ، ومن أولاده - أيضا - : المفكر الاسلامي ، والداعية الهندي ، وأمين " ندوة العلماء " الشيخ أبوالحسن الندوي ، المتوفى سنة ١٤٢٠/١٩٩٩ ، ولعل لقب " الندوي " الذي اشتهر به الشريف عبدالحي الحسني وبنوه نسبة إلى " ندوة العلماء " ، التي حرصوا - أشد الحرص - على خدمتها ورعاية شئونها .....
مؤلفاته :
*******
أثرى الشريف عبدالحي الندوي المكتبة الإسلامية بمؤلفات قيمة ، أماطت اللثام ، وأزالت الحجب والأستار عن تاريخ شبه القارة الهندية وحضارتها ، وصل عددها إلى ستة عشر مؤلفا ، باللغات العربية والفارسية والأردوية ، نذكر منها :
كتاب : نزهة الخواطر ، وبهجة المسامع والنواظر :
**************************************
وهو كتاب يقع في ثمانية أجزاء ، عكف على تأليفه ثلاثة عقود ، أورد فيه تراجم أكثر من اربعة آلاف وخمسمائة ، لأعيان الهند المسلمين رجالا ونساء ، ومآثرهم ، وكل ما وقف عليه من أخبارهم ، وهو أوسع كتاب في تراجم علماء وأعيان شبه القارة الهندية ، قال في مقدمته :
" ...فإني منذ عرفت اليمين من الشمال ، وميزت بين الرشد والضلال ، لم أزل ولوعا بمطالعة كتب الأخيار ، مغرى بالبحث عن أحوال الأدباء الأخيار ، حريصا على خبر أسمعه ، أو شيء تفرق شمله فأجمعه ، جتى اجتمع عندي ما طاب وراق ، وزين بمحاسن لطائفه الأقلام والأوراق ، فاقتصرت منه على أخبار الهند التي أنا فيها ، وضربت صفحا عن أدباء الأقاليم الأخر التي تنافيها ، حرصا على جمع ما لم يجمع ، وتقييد شيء لم يقل الا ليقيد ويسمع ، ثم أشار إلي من إشارته حكم ، وطاعته غنم ، أن لا أقتصر على أخبار الأدباء ، بل أذيله بذكر العلماء ، وأهل الفضل سواء كانوا من المشايخ والأمراء ..."...
.... وقد أثنى كثير من العلماء على الشريف عبدالحي الحسني ، منهم - على سبيل الذكر - : الشيخ علي الطنطاوي - توفي في جدة سنة 1999/1420 - فقال عنه : " إنه مؤرخ الهند " ، وقال عن كتاب " نزهة الخواطر ..." إنه : جمع من سير أعلام الهند ، ومن نشأ فيها ، ما لم يجمعه كتاب غيره ، فهو يغني في هذا الباب عن كل كتاب ، ولا يغني عنه كتاب " وأطلق عالم آ خر على الشيخ الحسني لقب : " ابن خلكان الهند " * ، وقد طبع كتاب نزهة الخواطر باسم : الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام " ، في ثلاثة مجلدات ....
كتاب : جنة المشرق ، ومطلع النور المشرق :
**********************************
... وهو أجل كتاب في تاريخ الهند الإسلامية ، وجغرافيتها ، وخططها ، وآثارها ، قال في مقدمته :
" ... فإني لما فرغت من تأليف نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر ، في مجلدات حافلة ، وأسفار شاملة ، في تراجم أعيان الهند ، وكان وقع لي في أثناء تأليفه أمور ، لا يسعني الإعراض عنها ، وأن أضرب صفحا عما ينجم منها ، فأحببت أن أفرد لها كتابا ، أجمع فيه أخبار الهند من جهات مختلفة ، وأذكر فيه علما قد أغفلوه ، وأنفرد بفن لم يذكروه ، إلا على وجه الإخلال والنقض ، بحيث لا يشفي الغليل ، ولا يروي العليل ..."...
... قسم المؤلف كتابه الى ثلاثة فنون ، الأول : في الجغرافيا ، والثاني : في التاريخ ، والثالث : في الخطط والآثار ...
... وكتاب " جنة المشرق ..." شأنه شأن الكتب التي أرخت للخطط والآثار في الحضارة الاسلامية ، ككتاب : " المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار " ، للمؤرخ المصري : أحمد بن علي المقريزي المتوفى سنة 1442/845 ، وكتاب " نفح الطيب ، لغص الأندلس الرطيب " للمؤرخ : أحمد المقريء المغربي المالكي ، المتوفي سنة1578/1041 ...
... والكتاب زاخر بالمعلومات الثرة التي تثير نهم الباحثين ، وحسبنا - في تلك العجالة - أن نذكر ما كتبه " الشيخ عبدالحي الحسني " عن مسجد " قبة الاسلام " ، إذ قال :
..." أول جامع أسس في مدينة دهلي سنة ٥٨٧ ، لا يوجد له نظير في الدنيا ، زاره ابن بطوطة** وقال عنه : إنه كبير المساحة ، حيطانه وسقفه وفرشه ، كل ذلك من الحجارة البيض ، المنحوتة أبدع نحت ، ملصقة بالرصاص أتقن إلصاق ، وفيه ثلاث عشرة قبة من حجارة ، ومنبره أيضاً من الحجر ، وله أربعة من الصحون ، وفي وسط الجامع العمود الهائل الذي كان من هغت جوش .** * " ...
... ونذكر - أيضاً - ما أورده في كتابه من نظم في وصف مدينة " دهلي " ، لمحدث عصره ، ورئيس علماء مصره ، الشيخ : عبدالعزيز بن ولي الله الدهلوي ، المتوفى سنة ١٢٣٨/ ١٨٢٣ :
يا من يسائل عن دهلي ورفعتها
على البلاد وما حازته من شرف
إن البلاد إماء وهي سيدها
لأنها درة والكل كالصدف
فاقت بلاد الورى عزا ومنقبة
غير الحجاز وغير القدس والنجف
سكانها هم جمال الأرض قاطبة
خلقا وخلقا بلا عجب ولا صلف
بها مدارس لو طاف البصير بها
لم تنفتح عينه إلا على الصحف
كم مسجد زخرفت فيها منارته
لو قابلته شموس الصحو تنكسف
لا غرو إن زينت الدنيا بزينتها
كم من أب قد علا بابن ذوي شرف
... وقد طبع هذا الكتاب باسم :
الهند في العهد الإسلامي....
كتاب : معارف العوارف في أنواع العلوم والمعارف :
***************************************
... وهو كتاب حضاري حافل بأسماء العلوم الدينية والعربية والإكلينيكية التي كانت تدرس في مدارس شبه القارة الهندية ، غزير المادة في موضوعه ، طبع بعنوان : الثقافة الإسلامية في الهند ....
.... إلى غير ذلك من المؤلفات التي لا يتسع المقام لعرضها ..
************
.... رضي الله عن العلامة الشريف عبدالحي الحسني ، جزاء ما حفظ للمسلمين من تراث.....
***************
* ابن خلكان : قاضي القضاة ، شمس الدين أبوالعباس أحمد ، من أعيان دمشق ، صاحب كتاب " وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان " ، توفي ١٢٨٢/٦٨١
** ابن بطوطة : ابو عبدالله محمد الطنجي ، المعروف بابن بطوطة ، رحالة وقاض من قبيلة لواتة بالمغرب الأقصى ، توفي سنة ١٣٧٧/٧٧٩ ، صاحب كتاب : تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار .. .
*** هغت جوش : مدينة في بلاد فارس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى