علاقة الأدب بالفن التشكيلى قديمة قدم البشرية, تبدأ من قبل التاريخ, عندما كان الساحر أو الكاهن يحكى عن نشأة الكون والحياة الأخرى فيتلقفها رسام مبدع ويضعها على الجدران رسومات وألوانا مازالت باقية حتى يومنا هذا .
هذه العلاقة شغلتنى منذ أن كنت فى باريس أدرس الدكتوراة فى الطب, وقتها كنت أجوب المتاحف فى باريس وأوربا وأتساءل : لماذا هذه العلاقة خافتة بل ربما غير موجودة فى أدبنا المصرى والعربى, وكلمة الأدب لا تعنى فقط الروايات والشعر, بل أقصد أيضا الأساطير والقصص الدينى والحكايات الشعبية..
كلمة واحدة كانت المفتاح لفهم ما حدث : Renaissance وهى تترجم إلى "عصر النهضة", وهى ترجمة تعبر عن المعنى العام وليس الجوهر .. Re تعنى إعادة, وnaissance تعنى ميلاد, الميلاد من جديد, والميلاد الأول للحضارة الأوروبية هو فى العصر الأغريقى والرومانى, وإعادة الميلاد تعنى العودة لهذه الجذور وليس القطيعة معها. فيما يخص الفن التشكيلى عاد الرسامون والنحاتون إلى الحكى الأول واساطير الألهة والبشر واستلهموا منها أعظم ابداعات الفن التشكيلى .. عادوا إلى كتابات هوميروس وأوفيد وكذلك القصص الدينى فى العهدين القديم والجديد واستلهموا منه لوحات وتماثيل تعبر عن الوجدان الانسانى العام, ويكفى أن نعود إلى لوحات وتماثيل مايكل أنجلو وبيرنينى ورافائيل وكارافاجيو وجويا وغيرهم حتى نرى ما حدث .
وفى عصور التنوير والرومانسية بعد ذلك كان بودلير بأشعاره وإميل زولا برواياته الواقعية تشكل إلهاما لفنانين كبار مثل أوجين دولاكروا وسيزان الذى ألهم بعده ماتيس وبيكاسو من أساطير الفن الحديث .
بالطبع كان التأثير متبادلا بين الأدب والرسم , لكن البداية كانت من الأساطير التى ترسم لوحات بالكلمات والحروف, وفى الأدب العربى, كانت قليلة تلك الأعمال التى توحى الكلمات بأفكار للوحات إبداعية وذلك لأسباب متعددة منها الدينى والأجتماعى, حتى قرأت هذه الرواية التشكيلية الرائعة " متاهة الغرف المتداخلة " .
فالرواية تحكى عن فنان تشكيلى يعانى من اضطرابات نفسية وعقلية شديدة .. ومن اللحظة الأولى نجد أن الكاتب (الراوى) والفنان التشكيلى أجتمعا معا فى شخصية بطل الرواية المضطرب عقليا .. فالبطل فنان يقوم بتشكيل العالم حسب رؤيته وخيالاته التى تتصارع فيها شخصيات من صنعه ورؤى لايراها غيره وكذلك هلاوسه السمعية والبصرية, أوليس فن الرواية أو الموسيقى أو الرسم إلا هواجس تتضارب فى رأس الفنان حتى ينزل بها إلى أرض الواقع ؟ .. أوليس التمثال قبل أن نراه هو فكرة غير منظورة لدى مبدعه ؟.
فالكاتب "الراوى" أبدع على لسان سليمان بطل الرواية فى تشكيل لوحاته داخل النص, ليس هذا فقط, بل هو المبدع المستمع لهلاوسه الممسك بريشته وخيالاته, وهو تلك الشخصيات التى سكنت دماغ البطل المنفصم, وهو أيضا تلك الشخصيات؛ هند - ربيع الوحش – والأب الشيخ – ومارى – وتيريزا والخالة فاطمة وطبعا صافى حبيبته .
وبطل الرواية تصنعه الشخصيات المحيطة به, وكذلك الشخصيات المستحوذة على دماغه وتتصارع وتتآلف معه طوال الوقت, وهى شخصيات لا تقل حقيقة ولا تأثيرا عن شخصيات من لحم ودم مثل أمه وأبيه وخالته, فهى شخصيات لا تفارقه أبدا ولا يستطيع أن يصرفها أو يتخلص منها, وكيف له أن يتخلص مثلا من ربيع الوحش القابض على كل لحظات توتره واضطرابه وخوفه وغضبه, وخيانته له ( إن كان قد خانه ) مع حبيبته صافى .
قادت سليمان طفولته المعقدة وحياته العاطفية المربكة واضطرابه النفسى والعقلى وخيالاته التى ابتدعت أشخاصا بالنسبة له لا تقل وجودا وحقيقة عن أى انسان نراه نحن فى حياتنا, قاده كل هذا إلى إلى مصحة للأمراض النفسية والعقلية, حيث تدور أحداث الرواية منذ صفحتها الأولى .. يمكنك أن تبحث كما تشاء فى فيلم Beautiful Mind وفى علم النفس عن مرض الفصام واضطرابات الهوية وستجد كيف رسمت هذه الشخصية بدقة أخاذة وباتقان محكم .
رواية " متاهة الغرف المتداخلة ", ذات مستويات متعددة على مستوى السرد والأحداث والشخصيات, يمكنك أن تقرأها حيث يشدك الحكى وتنوع الصراع والشخصيات, فتنهيها وأنت تصرخ يا ألله على هذا الجمال, هذه هى الرواية النفسية بامتياز .. ثم بعد تأمل يأخذك البعد الاجتماعى الذى لا يقل روعة وتأثيرا عن ذلك .. يمكنك أن تصنفها ما بعد حداثية أذا أنت من محبى التصنيفات الحادة .. فهى خليط من كل هذا وتقبل أى تسمية تطلقها عليها .. لكن الرواية ومن وجهة نظرى الخاصة تقف فى منطقة تتفرد فيها وتنفرد بها, وسأترك كل النواحى التى تكلمت عنها للناقد المحترف, ربما هو أقدر منى على تناولها لأن الرواية جديرة بدراسات متخصصة من هذا النوع, وسوف أتناولها من منظور واحد تندرج تحته طبقات متعددة من السحر والجمال .. هذا المنظور هو الفن التشكيلى .. فالكاتب والراوى والبطل شخص واحد هو سليمان, ذلك الفنان التشكيلى من أول كلمة فى الرواية إلى آخر جملة فيها, واضطرابه النفسى خلق داخله خيالات وشخصيات مكتملة فنيا من حيث الصراع والتباين الفنى والشكلى .
إن كل صفحة من الرواية لوحة أو أكثر, ضمها متحف كبير بكل معنى الكلمة .. ففى كل لوحة ألوان ومنظور ونقاط تلاشى ونقاط التقاء, كأنك مع مرشد فنى يأخذ بعينيك من خلال الكلمات إل أفاق فى الفن والتعبير لم نكن لنصل إليها إلا من خلاله ومن خلال هذا الفنان المضطرب المنفصم .إقرأ معى هذه الجملة الأولى للرواية :
" عندما نزلت إلى هنا لأول مرة, اخترت مكانا قريبا من هذه الشجرة الضخمة, كانت شجرة قصيرة, لكنهاكشجرة فيكس كثيفة الأوراق, كانت تظلل مساحة كبيرة من الأرض, ثم جئت أنت وسحبتنى ناحية الكنبة الخشبية العتيقة الموجودة تحت هذه الشجرة "
فالبطل من اللحظة الأولى يبحث عن مبتغاه, المكان الذى سيتأمل فيه لوحاته, والألوان التى سيلون بها كلماته, " طبيعة عملى كرسام كانت تدفعنى دائما للبحث عن أى لون فى الحديقة", فالأديب يبحث عن اللون من خلال الكلمات, كما أن الرسام يبحث عن المشاعر الانسانية من خلال اللون, "عندما نزلت إلى حديقة المستشفى, ضايقنى خلوها من الزهور الحمراء", وهو يقرر على لسان حبيبته صافى" اللون الأحمر هو لون السخونة والنار, واثبات الذات", واللون الأبيض يشبه الموت ويجعله يختنق ويضيق صدره, وكان أيضا أن مات أخوه تحت شجرة الياسمين الهندى وفوق أزهارها الصفراء حيث كان يجد اللون ألصفر رغم أنه لون العاطفة إلا أنه أيضا لون الخوف الذى يدعو للإنتحار.
أيضا, كانت علاقة سليمان بالأشجار, عميقة ومتداخلة مع الأصوات والصور داخل رأسه.. فشجرة الياسمين الهندى عندما تسقط أوراقها تتحول إلى ضفدع عجوز يقف على ساقيه ويرفع يديه إلى السماء, وشجرة أم الشعور تتعلق بها الجنيات وهى تسبح فى النهر مع سليمان, ثم شجرو البونسيانا ذات البذور الحمراء التى تخضب بها صافى قدميها وهى تخطو لسليمان فى مرسمه, وهذه الشجرة التى تحولت إلى امرأة تتدلى ثمارها كأثداء للقطاف, والتى جعلتنى أستدعى تمثال النحات الإيطالى " لورنزو بيرنينى " وتمثاله الرائع " أبوللو ودافنى " حيث كان الإله أبوللو يطارد الحسناء دافنى وهى تجرى أمامه هاربة منه, وعندما أوشك على الإمساك بها تحولت إلى شجرة .
فى البداية نجد أن عوالم سليمان هى عوالم العرفان عند المتصوفة, وليس غريبا أن الكاتب يستشهد بالمقولات المركبة المضطربة الكاشفة للتبريزى وجلال الدين الرومى, وهى تصورات فلسفية تضفى على اللوحات أبعادا ميتافيزيقية .
"الهواء يأتى من بين الأشجار الكثيرة المنتشرة على جانب الطريق محملا برائحة أوراقها التى يبللها الضباب الذى غالبا ما كان يفترش الحقول فى هذا الوقت .. نسمع هسيس الشجر ونقيق الضفادع فأشعر برقص الجنيات على أنغامها حين تخرج من أماكنها التى تختبئ فيها .. أتذكر حواديت الخالة فاطمة ونحن نجلس صغار عند أقدامها .. " الجنيات كائنات شريرة , عيناها تبخ نار وأنفاسها تحرق الزرع , لو نظرت إلى أى أحد ولم يعجبها تحرقه فى مكانه , ذكورها أشداء مختلفة الصور والخلق والالوان والوجوه والابدان , فمنهم رؤوس بلا أبدان ومنهم أبدان بلا رؤوس ومنهم من هو على صفة الوحوش ومنهم من هو على صفة السباع وهم فى أحجام الجبال أرجلهم فى تخوم الأرض ورؤسهم فى السحاب أما بناتهن فإنهن البدر المنير والقمر المستدير بعينين كحيلتين وحاجبين مقرنين وفم كأنه خاتم سليمان وأسنان كالدر والمرجان وهى تسلب العقول بحسنها وجمالها وقدودها وهن يعشن فى قصور باطنها ستر من ديباج احمر مكلل بالدر والجوهر وخارجها روضة من الياسمين المنثور والبنفسج والورد وجميع ما يكون وقد توشحت الأشجار بالاثمار وفيها الطيور من جمرى وحمام وبلابل ويمام وكل طير يغرد بصوته .. خلقها الله بعقول مثلنا وبقدرات خارقة لتستعين بها على معيشتها فى الخفاء , لكنها استعانت بهذه القوة الخارقة فى إيذاء الناس " .
هذا هو صوت الخالة فاطمة داخل دماغ سليمان وكأنه لوحة "يوم القيامة" لمايكل أنجلو ..
" كيف اصدق حواديت الخالة فاطمة وقد كنت أحب جنية ؟ " .. وكيف لا يصدقها وهو يحب جنية, هذا ليس سردا غرائبيا .. أنه يحب جنية فعلا ويخاطبها فعلا ويحفظ سرها داخله, قالت له أن اسمها هند وكان يذهب معها سرا إلى مخدعها وبلادها الغريبة, " تأخذنى فى حضنها وهى تربط على جسدى بحنان ينخلع له قلبى .. تضعنى على ظهرها العارى وتطير بى .. نحلق فوق حقول الذرة و أنا ألمس شواشيها بأقدامى .. نطير بالقرب من صفحة مياة النهر ذهابا وأيابا , نرتفع إلى السماء الصافية التى تلونها شعاعات الفجر بلونها الفضى .. نمضى بين النجوم قبل أن تنطفئ , أجمل شيئ أن ترى الحقيقة فى هذه الأشياء حتى لا تمنحك خيالا زائفا, كنت ألمس النجمة بكف يدى الصغيرة, أحسها كأنها قطعة من الثلج المضيئ, تلقينى الجنية الأم على ندف السحاب الناعمة .. أستلقى كأننى أنام على قطعة فرو ناعمة, تدفعنى بيدها كأننى طفل فى عربته ".
هند أيضا علمته كيف يرسم, كيف يحول الجسد العارى الذى كان شغفه الأكبر منذ الطفولة إلى عمل فنى عندما قالت له " ما عليك إلا أن تنظر طويلا طويلا إلى الفراغ, الفراغ هو العامل الحقيقى لتحديد كتلة الأجسام المادية وحركتها داخله, من دون التحديق فى الفراغ لن ترى حقيقتى وجسدى " .
وهكذا كان يأتى دور الراوى لكى يحول هذا التكنيك إلى لوحات ملهمة تبدأ بالهمس فى دماغ سليمان بكلمات شعرية مصورة حتى تستقر فى لوحة ملونة .
أنظر معى حين رأى سليمان حبيبته صافى لأول مرة .. " كانت تستلقى على مخدع من قماش حريرى, أورجوانى اللون .. الغرفة على اتساعها خالية من الضوء عدا شمعة صغيرة مضاءة وضعت فى ركن قريب, كان الوقت ليل وضوئها يتماوج عاكسا لون المخدع فوق جسدها شبه العارى .. أتذكر أنه فى تلك اللحظة كأن كأس من النبيذ الأحمر انسكب على جسدها فى مشهد خيالى .. خطفنى سحر عينيها المفعم بمزيج من الرغبة والشهوة معا, بينما خصلات شعرها الأسود اللامع تنزلق من فوقهما حتى لامست الأرض" .
هذا ما كان يراه سليمان الفنان عبر الراوى قبل أن يترجمها إلى لوحة, وفى هذه الترجمة يكون متزنا أشد الاتزان وواعيا لأعلى درجات الوعى, لايضرب ريشاته ضرب عشواء, بل ان كل اضطراباته النفسية تتحول فى هذه اللحظة إلى شئ فى منتهى الجمال ومنتهى التركيز والعقلانية .. شئ يستحيل أن نصل إليه نحن "الأسوياء" , لكن الراوى استطاع أن يتقمص تلك الشخصية فى أكثر لحظاتها العاصفة المرتبكة حتى يصفو ذهنه لرسم تلك اللوحات البديعة .
البحر يضرب ويصفو, والريح تهب وتخبو, وكذلك نحن, وكذلك سليمان, وفى كل حالاته هو يمثلنا ويصفنا ويعبر عنا, الفرق بيننا وبينه, أنه فنان يستطيع أن يصل إلى عوالم عصية علينا, يرى مالا نرى ويسمع مالا نسمع .. أنظر إليه وهو يرى المراكب تطير فى السماء, وأنظر إلى تلك اللوحة المكتوبة حين يقول وهو عائد مع حبيبته صافى على الطريق الساحلى ".. على شمالنا كانت تمتد مساحات مهولة من السبخات التى تنتشر فيها النباتات الملحية القصيرة, ويبدو البحر فى أخرها خيط رفيع باللون الأزرق, من خلفه كانت السفن تبحر كأنها سمكات فضية عملاقة, بينما طيور النورس البيضاء تبدو من بعيد كسهام مارقة تصطدم بالبحر وهى تغرق وراء الأفق ".
وتأمل معى حبيبته صافى عندما دخلت إلى مرسمه ..".. تسللت عليّ أطراف أصابعها حافية القدمين المخضبتين بلون زهور البونسيانا الحمراء, وحين جلست خلعت ملابسها كلها إلا من شال أحمر اللون رقيق وكاشف, بالكاد يغطى أجزاء قليلة من جسدها, يهبط شعرها الأسود الفاحم على نهديها العاريين وينسدل متفرقا على انحاء جسدها ".
الراوى هنا هو واحد من الشخصيات التى تسكن عقل سليمان ويستحضرها فى لحظاته الابداعية مثلما يستحضر ربيع الوحش فى لحظات ضعفه ومثلما يستحضر هند فى لحظات نشوته, وعندما يستحضر صافى حبيبته فى كل لحظات حياته لا نكاد نعرف أهى حقيقية فعلا بكل صفاتها الأغريقية أم أنه يستحضرها ساعة يتداخل عليه الابداع ممزوجا بالقهر والتسلط ..
وسليمان عندما يصل إلى حافة الانهيار, يهب إلى نجدته شخصان نتمنى لو سكن كل منهما فينا : الراوى و صافى .. صافى هى أثينا بكل سطوتها الأنثوية الطاغية والكهف الذى يلجأ إليه مثل انسان بدائى , يرسم على جدرانها وهو يحتسى نبيذها الذى يقطر من جسدها , والرواى الذى يأخذنا بيده وعقله ليصل باللوحة إلى مرتبة الكمال .. يخلق فيه الفراغ والخيال وتشكيل العالم من جديد .
والكاتب هنا المولع باللوحات العالمية يستحضرها فى عقل سليمان ونراها معه بعينيه وخيالاته, فنرى صرخة ادفارت مونش فى لوحته الشهيرة الصرخة وهى تمثل كل قهرة وانسحاقه من الكرباج المعلق فى بيت طفولته والعالق فى ذهنه أبدا .. ونرى لوحة إيميل شاباس الشهيرة " صباح سبتمبر " وهو يصف حبيبته صافى عندما راحت تجرى ناحية البحر وهى تخلع ملابسها وتلقيها على الرمل قطعة وراء قطعة ..
انظر معى أيضا إلى لوحة " الموجة التاسعة " للرسام الروسى العالمى ايفان ايفازوفسكى حيث الركاب يتعلقون بسارى سفينتهم التى تحطمت بفعل موجة ضخمة مدمرة وقت الفجر,أملا منهم أن تكون هى سفينة نوح قبل أن ينتهى العالم, وأنت تقرأ ماقاله الرواى على لسان سليمان وقت موت أبيه أثر تحطم الكارتة التى يركبها وهى تسقط فى النهر " وقفت على الشط متجمدا فى ذعرى .. الحصانان يقاومان الغرق , يضربان بقوائمهما بكل عنف وهما مربوطان فى الكارتة التى راحت تهبط إلى القاع وعليها أبى الشيخ وربيع الوحش .. كانا يتخبطان فى عوارض العربة التى تفتت من هول الإصطدام بحافة النهر والحصانان يصهلان بصوت أشبه بالبكاء, يرفسان بقوائمهما فى كل إتجاه والعربة تهوى إلى القاع و تتلاشى تحت سطح المياة ساحبة معها الجميع", حيث ذكرنى هذا المشهد بلوحة "سفينة العبيد" للرسام البريطانى وليام تيرنر.
شَكّلَ العرى مساحة كبيرة لدى سليمان من طفولته, منذ أن التصق بجسد أمه وهما عاريان وتمثل ذلك فى علاقته بعائشة زوجة ربيع الوحش وفى وصفه لجسد حبيبته صافى فى كثير من المشاهد .. أقرأ معى "سأقول لك الآن شيئا كان يخطف النوم من عينى و يجعلنى أنتظر بفارغ الصبر حتى أرى هند .. لقد أخبرتنى من أول ليلة قضتها بجانبى وهى تهمس فى أذنى أن أقوم معها لكى أراها فى مخبأها السرى الذى تسكن فيه هى ويقية الجنيات .. قالت لى وهى تشجعنى على النهوض والذهاب معها وهى تتبسم بخبث و كنت أنا ما بين الصحو والنوم, أنهم يعيشون عراة وليس لديهم ما يستر عريهم ..لا أكتمك سرا, فقد كان لدى منذ صغرى شغف لا يقاوم لرؤية الأجسام العارية ", لكن هذا العرى كان يتماهى مع فكرة الانعتاق, هذا الإسم الذى أطلقه على اللوحة التى رسمها لحبيبته صافى , كما جعل الدوقة آلبا فى لوحة " الماجا العارية " التى رسمها الفنان الأسبانى جويا فرانسيسكو وهى عارية تماما, تنعتق من اللوحة لتجلس مع سليمان وتحكى له أن اللوحة لم تكن تعبر عن نظرة شهوة المرأة عندما تحب, ولكن اللوحة كانت ثورة فعلها الحب, ثورة مهدت للديموقراطية فى أوربا ودفعت إلى التحرر من قيود الكنيسة الأورثوذكسية, كما فعلت لوحات العرى لدى الفرنسى ادوارد مانيه التى أصبحت رائدة للمدرسة الانطباعية فى أوربا والعالم فى القرن التاسع عشر .
وأخيرا لن ننسى سبعاوى الضخم الذى احتضن حسنين الضئيل وقفز به على هذا الوضع من فوق سطح المصحة سقوط حر لانهائى, سبعاوى الضخم الذى عاش فى المصحة مفزوعا من الأشياء المعلقة على الأسلاك الشائكة التى تحيط بحديقة المستشفى ورغبته القاتلة فى تحريرها وكيف كان يقف بالساعات أمام السور دون أن يتحرك أو يحركه شئ .. كم ذكرنى بلوحة الفنان مايك مالوى, "الأسلاك الشائكة" التى رسم فيها قطعة من القماش معلقة فى سلك شائك وتلعب بها الريح تحاول أن تحررها, هذا الرسام الأيرلندى الأمريكى من القرن التاسع عشر والذى انتهى به الحال مقتولا بعد أن عاش مشردا .
تماثل سليمان بطل الرواية فى سلوكه المريض مع أثنين من عباقرة الفن التشكيلى وكان فى اضطرابهما العقلى والنفسى شبها كبيرا معه, الأول هو الفنان الايطالى كارافاجيو فى مطلع القرن السابع عشر, هذا الفنان الذى تزامن وجوده مع فترات الاصلاح الدينى, حيث غير مفهوم الرسم وهو يرسم اللوحات التى كان يكلفه برسمها الأساقفة من قصص دينى مستوحاة من الكتاب المقدس,لكنه كان يرسمها بطريقته وجنونه الذى عرف عنه ولوحته عن يوحنا المعمدان وهو مقطوع الرأس ممسكا بها قاتله وهو يقدمها على طبق لسالومى, هى ثورة فى عالم الرسم وتعكس اضطرابه الخلاق عندما صور نفسه من خلال رأس يوحنا المعمدان .
الثانى وهو كبير العباقرة " فان جوخ " فى مصحته النفسية وهو يرسم خالدته " نجوم الليل " وهو عندما رآها دوامات لانهائية كانت هى تلك الدومات التى تتداخل فى دماغه تماما مثل تلك السمكات التى تتقافز فى دماغ سليمان .
عندما تنتهى من الرواية ستجد أنها قد خلفت وراءها كما قال الراوى على لسان سليمان " حفرا من الوجع", ولكنك ستجد بالأخص أنها قد خلفت عالما رحبا من الجمال والخيال واللوحات .. أنها رواية أشبه بمتحف كبير .
• الدكتور شفيق صالح
دكتوراة أطفال الأنابيب جامعة جرينول – فرنسا
عضو جمعية المترجمين من اللغة الفرنسية – باريس
الأعمال المترجمة : يوم صامت فى طنجة للطاهر بن جلون – مكتبة مدبولى القاهرة
الترام الأخير للتركى نديم جورسيل – مكتبة مدبولى القاهرة
أغنية ناراياما لليابانى فوكازاوا
الكتابة العلمية الحديثة – ريتشارد دوكينز
مجموعة قصصية بعنوان بنت من مصر
هذه العلاقة شغلتنى منذ أن كنت فى باريس أدرس الدكتوراة فى الطب, وقتها كنت أجوب المتاحف فى باريس وأوربا وأتساءل : لماذا هذه العلاقة خافتة بل ربما غير موجودة فى أدبنا المصرى والعربى, وكلمة الأدب لا تعنى فقط الروايات والشعر, بل أقصد أيضا الأساطير والقصص الدينى والحكايات الشعبية..
كلمة واحدة كانت المفتاح لفهم ما حدث : Renaissance وهى تترجم إلى "عصر النهضة", وهى ترجمة تعبر عن المعنى العام وليس الجوهر .. Re تعنى إعادة, وnaissance تعنى ميلاد, الميلاد من جديد, والميلاد الأول للحضارة الأوروبية هو فى العصر الأغريقى والرومانى, وإعادة الميلاد تعنى العودة لهذه الجذور وليس القطيعة معها. فيما يخص الفن التشكيلى عاد الرسامون والنحاتون إلى الحكى الأول واساطير الألهة والبشر واستلهموا منها أعظم ابداعات الفن التشكيلى .. عادوا إلى كتابات هوميروس وأوفيد وكذلك القصص الدينى فى العهدين القديم والجديد واستلهموا منه لوحات وتماثيل تعبر عن الوجدان الانسانى العام, ويكفى أن نعود إلى لوحات وتماثيل مايكل أنجلو وبيرنينى ورافائيل وكارافاجيو وجويا وغيرهم حتى نرى ما حدث .
وفى عصور التنوير والرومانسية بعد ذلك كان بودلير بأشعاره وإميل زولا برواياته الواقعية تشكل إلهاما لفنانين كبار مثل أوجين دولاكروا وسيزان الذى ألهم بعده ماتيس وبيكاسو من أساطير الفن الحديث .
بالطبع كان التأثير متبادلا بين الأدب والرسم , لكن البداية كانت من الأساطير التى ترسم لوحات بالكلمات والحروف, وفى الأدب العربى, كانت قليلة تلك الأعمال التى توحى الكلمات بأفكار للوحات إبداعية وذلك لأسباب متعددة منها الدينى والأجتماعى, حتى قرأت هذه الرواية التشكيلية الرائعة " متاهة الغرف المتداخلة " .
فالرواية تحكى عن فنان تشكيلى يعانى من اضطرابات نفسية وعقلية شديدة .. ومن اللحظة الأولى نجد أن الكاتب (الراوى) والفنان التشكيلى أجتمعا معا فى شخصية بطل الرواية المضطرب عقليا .. فالبطل فنان يقوم بتشكيل العالم حسب رؤيته وخيالاته التى تتصارع فيها شخصيات من صنعه ورؤى لايراها غيره وكذلك هلاوسه السمعية والبصرية, أوليس فن الرواية أو الموسيقى أو الرسم إلا هواجس تتضارب فى رأس الفنان حتى ينزل بها إلى أرض الواقع ؟ .. أوليس التمثال قبل أن نراه هو فكرة غير منظورة لدى مبدعه ؟.
فالكاتب "الراوى" أبدع على لسان سليمان بطل الرواية فى تشكيل لوحاته داخل النص, ليس هذا فقط, بل هو المبدع المستمع لهلاوسه الممسك بريشته وخيالاته, وهو تلك الشخصيات التى سكنت دماغ البطل المنفصم, وهو أيضا تلك الشخصيات؛ هند - ربيع الوحش – والأب الشيخ – ومارى – وتيريزا والخالة فاطمة وطبعا صافى حبيبته .
وبطل الرواية تصنعه الشخصيات المحيطة به, وكذلك الشخصيات المستحوذة على دماغه وتتصارع وتتآلف معه طوال الوقت, وهى شخصيات لا تقل حقيقة ولا تأثيرا عن شخصيات من لحم ودم مثل أمه وأبيه وخالته, فهى شخصيات لا تفارقه أبدا ولا يستطيع أن يصرفها أو يتخلص منها, وكيف له أن يتخلص مثلا من ربيع الوحش القابض على كل لحظات توتره واضطرابه وخوفه وغضبه, وخيانته له ( إن كان قد خانه ) مع حبيبته صافى .
قادت سليمان طفولته المعقدة وحياته العاطفية المربكة واضطرابه النفسى والعقلى وخيالاته التى ابتدعت أشخاصا بالنسبة له لا تقل وجودا وحقيقة عن أى انسان نراه نحن فى حياتنا, قاده كل هذا إلى إلى مصحة للأمراض النفسية والعقلية, حيث تدور أحداث الرواية منذ صفحتها الأولى .. يمكنك أن تبحث كما تشاء فى فيلم Beautiful Mind وفى علم النفس عن مرض الفصام واضطرابات الهوية وستجد كيف رسمت هذه الشخصية بدقة أخاذة وباتقان محكم .
رواية " متاهة الغرف المتداخلة ", ذات مستويات متعددة على مستوى السرد والأحداث والشخصيات, يمكنك أن تقرأها حيث يشدك الحكى وتنوع الصراع والشخصيات, فتنهيها وأنت تصرخ يا ألله على هذا الجمال, هذه هى الرواية النفسية بامتياز .. ثم بعد تأمل يأخذك البعد الاجتماعى الذى لا يقل روعة وتأثيرا عن ذلك .. يمكنك أن تصنفها ما بعد حداثية أذا أنت من محبى التصنيفات الحادة .. فهى خليط من كل هذا وتقبل أى تسمية تطلقها عليها .. لكن الرواية ومن وجهة نظرى الخاصة تقف فى منطقة تتفرد فيها وتنفرد بها, وسأترك كل النواحى التى تكلمت عنها للناقد المحترف, ربما هو أقدر منى على تناولها لأن الرواية جديرة بدراسات متخصصة من هذا النوع, وسوف أتناولها من منظور واحد تندرج تحته طبقات متعددة من السحر والجمال .. هذا المنظور هو الفن التشكيلى .. فالكاتب والراوى والبطل شخص واحد هو سليمان, ذلك الفنان التشكيلى من أول كلمة فى الرواية إلى آخر جملة فيها, واضطرابه النفسى خلق داخله خيالات وشخصيات مكتملة فنيا من حيث الصراع والتباين الفنى والشكلى .
إن كل صفحة من الرواية لوحة أو أكثر, ضمها متحف كبير بكل معنى الكلمة .. ففى كل لوحة ألوان ومنظور ونقاط تلاشى ونقاط التقاء, كأنك مع مرشد فنى يأخذ بعينيك من خلال الكلمات إل أفاق فى الفن والتعبير لم نكن لنصل إليها إلا من خلاله ومن خلال هذا الفنان المضطرب المنفصم .إقرأ معى هذه الجملة الأولى للرواية :
" عندما نزلت إلى هنا لأول مرة, اخترت مكانا قريبا من هذه الشجرة الضخمة, كانت شجرة قصيرة, لكنهاكشجرة فيكس كثيفة الأوراق, كانت تظلل مساحة كبيرة من الأرض, ثم جئت أنت وسحبتنى ناحية الكنبة الخشبية العتيقة الموجودة تحت هذه الشجرة "
فالبطل من اللحظة الأولى يبحث عن مبتغاه, المكان الذى سيتأمل فيه لوحاته, والألوان التى سيلون بها كلماته, " طبيعة عملى كرسام كانت تدفعنى دائما للبحث عن أى لون فى الحديقة", فالأديب يبحث عن اللون من خلال الكلمات, كما أن الرسام يبحث عن المشاعر الانسانية من خلال اللون, "عندما نزلت إلى حديقة المستشفى, ضايقنى خلوها من الزهور الحمراء", وهو يقرر على لسان حبيبته صافى" اللون الأحمر هو لون السخونة والنار, واثبات الذات", واللون الأبيض يشبه الموت ويجعله يختنق ويضيق صدره, وكان أيضا أن مات أخوه تحت شجرة الياسمين الهندى وفوق أزهارها الصفراء حيث كان يجد اللون ألصفر رغم أنه لون العاطفة إلا أنه أيضا لون الخوف الذى يدعو للإنتحار.
أيضا, كانت علاقة سليمان بالأشجار, عميقة ومتداخلة مع الأصوات والصور داخل رأسه.. فشجرة الياسمين الهندى عندما تسقط أوراقها تتحول إلى ضفدع عجوز يقف على ساقيه ويرفع يديه إلى السماء, وشجرة أم الشعور تتعلق بها الجنيات وهى تسبح فى النهر مع سليمان, ثم شجرو البونسيانا ذات البذور الحمراء التى تخضب بها صافى قدميها وهى تخطو لسليمان فى مرسمه, وهذه الشجرة التى تحولت إلى امرأة تتدلى ثمارها كأثداء للقطاف, والتى جعلتنى أستدعى تمثال النحات الإيطالى " لورنزو بيرنينى " وتمثاله الرائع " أبوللو ودافنى " حيث كان الإله أبوللو يطارد الحسناء دافنى وهى تجرى أمامه هاربة منه, وعندما أوشك على الإمساك بها تحولت إلى شجرة .
فى البداية نجد أن عوالم سليمان هى عوالم العرفان عند المتصوفة, وليس غريبا أن الكاتب يستشهد بالمقولات المركبة المضطربة الكاشفة للتبريزى وجلال الدين الرومى, وهى تصورات فلسفية تضفى على اللوحات أبعادا ميتافيزيقية .
"الهواء يأتى من بين الأشجار الكثيرة المنتشرة على جانب الطريق محملا برائحة أوراقها التى يبللها الضباب الذى غالبا ما كان يفترش الحقول فى هذا الوقت .. نسمع هسيس الشجر ونقيق الضفادع فأشعر برقص الجنيات على أنغامها حين تخرج من أماكنها التى تختبئ فيها .. أتذكر حواديت الخالة فاطمة ونحن نجلس صغار عند أقدامها .. " الجنيات كائنات شريرة , عيناها تبخ نار وأنفاسها تحرق الزرع , لو نظرت إلى أى أحد ولم يعجبها تحرقه فى مكانه , ذكورها أشداء مختلفة الصور والخلق والالوان والوجوه والابدان , فمنهم رؤوس بلا أبدان ومنهم أبدان بلا رؤوس ومنهم من هو على صفة الوحوش ومنهم من هو على صفة السباع وهم فى أحجام الجبال أرجلهم فى تخوم الأرض ورؤسهم فى السحاب أما بناتهن فإنهن البدر المنير والقمر المستدير بعينين كحيلتين وحاجبين مقرنين وفم كأنه خاتم سليمان وأسنان كالدر والمرجان وهى تسلب العقول بحسنها وجمالها وقدودها وهن يعشن فى قصور باطنها ستر من ديباج احمر مكلل بالدر والجوهر وخارجها روضة من الياسمين المنثور والبنفسج والورد وجميع ما يكون وقد توشحت الأشجار بالاثمار وفيها الطيور من جمرى وحمام وبلابل ويمام وكل طير يغرد بصوته .. خلقها الله بعقول مثلنا وبقدرات خارقة لتستعين بها على معيشتها فى الخفاء , لكنها استعانت بهذه القوة الخارقة فى إيذاء الناس " .
هذا هو صوت الخالة فاطمة داخل دماغ سليمان وكأنه لوحة "يوم القيامة" لمايكل أنجلو ..
" كيف اصدق حواديت الخالة فاطمة وقد كنت أحب جنية ؟ " .. وكيف لا يصدقها وهو يحب جنية, هذا ليس سردا غرائبيا .. أنه يحب جنية فعلا ويخاطبها فعلا ويحفظ سرها داخله, قالت له أن اسمها هند وكان يذهب معها سرا إلى مخدعها وبلادها الغريبة, " تأخذنى فى حضنها وهى تربط على جسدى بحنان ينخلع له قلبى .. تضعنى على ظهرها العارى وتطير بى .. نحلق فوق حقول الذرة و أنا ألمس شواشيها بأقدامى .. نطير بالقرب من صفحة مياة النهر ذهابا وأيابا , نرتفع إلى السماء الصافية التى تلونها شعاعات الفجر بلونها الفضى .. نمضى بين النجوم قبل أن تنطفئ , أجمل شيئ أن ترى الحقيقة فى هذه الأشياء حتى لا تمنحك خيالا زائفا, كنت ألمس النجمة بكف يدى الصغيرة, أحسها كأنها قطعة من الثلج المضيئ, تلقينى الجنية الأم على ندف السحاب الناعمة .. أستلقى كأننى أنام على قطعة فرو ناعمة, تدفعنى بيدها كأننى طفل فى عربته ".
هند أيضا علمته كيف يرسم, كيف يحول الجسد العارى الذى كان شغفه الأكبر منذ الطفولة إلى عمل فنى عندما قالت له " ما عليك إلا أن تنظر طويلا طويلا إلى الفراغ, الفراغ هو العامل الحقيقى لتحديد كتلة الأجسام المادية وحركتها داخله, من دون التحديق فى الفراغ لن ترى حقيقتى وجسدى " .
وهكذا كان يأتى دور الراوى لكى يحول هذا التكنيك إلى لوحات ملهمة تبدأ بالهمس فى دماغ سليمان بكلمات شعرية مصورة حتى تستقر فى لوحة ملونة .
أنظر معى حين رأى سليمان حبيبته صافى لأول مرة .. " كانت تستلقى على مخدع من قماش حريرى, أورجوانى اللون .. الغرفة على اتساعها خالية من الضوء عدا شمعة صغيرة مضاءة وضعت فى ركن قريب, كان الوقت ليل وضوئها يتماوج عاكسا لون المخدع فوق جسدها شبه العارى .. أتذكر أنه فى تلك اللحظة كأن كأس من النبيذ الأحمر انسكب على جسدها فى مشهد خيالى .. خطفنى سحر عينيها المفعم بمزيج من الرغبة والشهوة معا, بينما خصلات شعرها الأسود اللامع تنزلق من فوقهما حتى لامست الأرض" .
هذا ما كان يراه سليمان الفنان عبر الراوى قبل أن يترجمها إلى لوحة, وفى هذه الترجمة يكون متزنا أشد الاتزان وواعيا لأعلى درجات الوعى, لايضرب ريشاته ضرب عشواء, بل ان كل اضطراباته النفسية تتحول فى هذه اللحظة إلى شئ فى منتهى الجمال ومنتهى التركيز والعقلانية .. شئ يستحيل أن نصل إليه نحن "الأسوياء" , لكن الراوى استطاع أن يتقمص تلك الشخصية فى أكثر لحظاتها العاصفة المرتبكة حتى يصفو ذهنه لرسم تلك اللوحات البديعة .
البحر يضرب ويصفو, والريح تهب وتخبو, وكذلك نحن, وكذلك سليمان, وفى كل حالاته هو يمثلنا ويصفنا ويعبر عنا, الفرق بيننا وبينه, أنه فنان يستطيع أن يصل إلى عوالم عصية علينا, يرى مالا نرى ويسمع مالا نسمع .. أنظر إليه وهو يرى المراكب تطير فى السماء, وأنظر إلى تلك اللوحة المكتوبة حين يقول وهو عائد مع حبيبته صافى على الطريق الساحلى ".. على شمالنا كانت تمتد مساحات مهولة من السبخات التى تنتشر فيها النباتات الملحية القصيرة, ويبدو البحر فى أخرها خيط رفيع باللون الأزرق, من خلفه كانت السفن تبحر كأنها سمكات فضية عملاقة, بينما طيور النورس البيضاء تبدو من بعيد كسهام مارقة تصطدم بالبحر وهى تغرق وراء الأفق ".
وتأمل معى حبيبته صافى عندما دخلت إلى مرسمه ..".. تسللت عليّ أطراف أصابعها حافية القدمين المخضبتين بلون زهور البونسيانا الحمراء, وحين جلست خلعت ملابسها كلها إلا من شال أحمر اللون رقيق وكاشف, بالكاد يغطى أجزاء قليلة من جسدها, يهبط شعرها الأسود الفاحم على نهديها العاريين وينسدل متفرقا على انحاء جسدها ".
الراوى هنا هو واحد من الشخصيات التى تسكن عقل سليمان ويستحضرها فى لحظاته الابداعية مثلما يستحضر ربيع الوحش فى لحظات ضعفه ومثلما يستحضر هند فى لحظات نشوته, وعندما يستحضر صافى حبيبته فى كل لحظات حياته لا نكاد نعرف أهى حقيقية فعلا بكل صفاتها الأغريقية أم أنه يستحضرها ساعة يتداخل عليه الابداع ممزوجا بالقهر والتسلط ..
وسليمان عندما يصل إلى حافة الانهيار, يهب إلى نجدته شخصان نتمنى لو سكن كل منهما فينا : الراوى و صافى .. صافى هى أثينا بكل سطوتها الأنثوية الطاغية والكهف الذى يلجأ إليه مثل انسان بدائى , يرسم على جدرانها وهو يحتسى نبيذها الذى يقطر من جسدها , والرواى الذى يأخذنا بيده وعقله ليصل باللوحة إلى مرتبة الكمال .. يخلق فيه الفراغ والخيال وتشكيل العالم من جديد .
والكاتب هنا المولع باللوحات العالمية يستحضرها فى عقل سليمان ونراها معه بعينيه وخيالاته, فنرى صرخة ادفارت مونش فى لوحته الشهيرة الصرخة وهى تمثل كل قهرة وانسحاقه من الكرباج المعلق فى بيت طفولته والعالق فى ذهنه أبدا .. ونرى لوحة إيميل شاباس الشهيرة " صباح سبتمبر " وهو يصف حبيبته صافى عندما راحت تجرى ناحية البحر وهى تخلع ملابسها وتلقيها على الرمل قطعة وراء قطعة ..
انظر معى أيضا إلى لوحة " الموجة التاسعة " للرسام الروسى العالمى ايفان ايفازوفسكى حيث الركاب يتعلقون بسارى سفينتهم التى تحطمت بفعل موجة ضخمة مدمرة وقت الفجر,أملا منهم أن تكون هى سفينة نوح قبل أن ينتهى العالم, وأنت تقرأ ماقاله الرواى على لسان سليمان وقت موت أبيه أثر تحطم الكارتة التى يركبها وهى تسقط فى النهر " وقفت على الشط متجمدا فى ذعرى .. الحصانان يقاومان الغرق , يضربان بقوائمهما بكل عنف وهما مربوطان فى الكارتة التى راحت تهبط إلى القاع وعليها أبى الشيخ وربيع الوحش .. كانا يتخبطان فى عوارض العربة التى تفتت من هول الإصطدام بحافة النهر والحصانان يصهلان بصوت أشبه بالبكاء, يرفسان بقوائمهما فى كل إتجاه والعربة تهوى إلى القاع و تتلاشى تحت سطح المياة ساحبة معها الجميع", حيث ذكرنى هذا المشهد بلوحة "سفينة العبيد" للرسام البريطانى وليام تيرنر.
شَكّلَ العرى مساحة كبيرة لدى سليمان من طفولته, منذ أن التصق بجسد أمه وهما عاريان وتمثل ذلك فى علاقته بعائشة زوجة ربيع الوحش وفى وصفه لجسد حبيبته صافى فى كثير من المشاهد .. أقرأ معى "سأقول لك الآن شيئا كان يخطف النوم من عينى و يجعلنى أنتظر بفارغ الصبر حتى أرى هند .. لقد أخبرتنى من أول ليلة قضتها بجانبى وهى تهمس فى أذنى أن أقوم معها لكى أراها فى مخبأها السرى الذى تسكن فيه هى ويقية الجنيات .. قالت لى وهى تشجعنى على النهوض والذهاب معها وهى تتبسم بخبث و كنت أنا ما بين الصحو والنوم, أنهم يعيشون عراة وليس لديهم ما يستر عريهم ..لا أكتمك سرا, فقد كان لدى منذ صغرى شغف لا يقاوم لرؤية الأجسام العارية ", لكن هذا العرى كان يتماهى مع فكرة الانعتاق, هذا الإسم الذى أطلقه على اللوحة التى رسمها لحبيبته صافى , كما جعل الدوقة آلبا فى لوحة " الماجا العارية " التى رسمها الفنان الأسبانى جويا فرانسيسكو وهى عارية تماما, تنعتق من اللوحة لتجلس مع سليمان وتحكى له أن اللوحة لم تكن تعبر عن نظرة شهوة المرأة عندما تحب, ولكن اللوحة كانت ثورة فعلها الحب, ثورة مهدت للديموقراطية فى أوربا ودفعت إلى التحرر من قيود الكنيسة الأورثوذكسية, كما فعلت لوحات العرى لدى الفرنسى ادوارد مانيه التى أصبحت رائدة للمدرسة الانطباعية فى أوربا والعالم فى القرن التاسع عشر .
وأخيرا لن ننسى سبعاوى الضخم الذى احتضن حسنين الضئيل وقفز به على هذا الوضع من فوق سطح المصحة سقوط حر لانهائى, سبعاوى الضخم الذى عاش فى المصحة مفزوعا من الأشياء المعلقة على الأسلاك الشائكة التى تحيط بحديقة المستشفى ورغبته القاتلة فى تحريرها وكيف كان يقف بالساعات أمام السور دون أن يتحرك أو يحركه شئ .. كم ذكرنى بلوحة الفنان مايك مالوى, "الأسلاك الشائكة" التى رسم فيها قطعة من القماش معلقة فى سلك شائك وتلعب بها الريح تحاول أن تحررها, هذا الرسام الأيرلندى الأمريكى من القرن التاسع عشر والذى انتهى به الحال مقتولا بعد أن عاش مشردا .
تماثل سليمان بطل الرواية فى سلوكه المريض مع أثنين من عباقرة الفن التشكيلى وكان فى اضطرابهما العقلى والنفسى شبها كبيرا معه, الأول هو الفنان الايطالى كارافاجيو فى مطلع القرن السابع عشر, هذا الفنان الذى تزامن وجوده مع فترات الاصلاح الدينى, حيث غير مفهوم الرسم وهو يرسم اللوحات التى كان يكلفه برسمها الأساقفة من قصص دينى مستوحاة من الكتاب المقدس,لكنه كان يرسمها بطريقته وجنونه الذى عرف عنه ولوحته عن يوحنا المعمدان وهو مقطوع الرأس ممسكا بها قاتله وهو يقدمها على طبق لسالومى, هى ثورة فى عالم الرسم وتعكس اضطرابه الخلاق عندما صور نفسه من خلال رأس يوحنا المعمدان .
الثانى وهو كبير العباقرة " فان جوخ " فى مصحته النفسية وهو يرسم خالدته " نجوم الليل " وهو عندما رآها دوامات لانهائية كانت هى تلك الدومات التى تتداخل فى دماغه تماما مثل تلك السمكات التى تتقافز فى دماغ سليمان .
عندما تنتهى من الرواية ستجد أنها قد خلفت وراءها كما قال الراوى على لسان سليمان " حفرا من الوجع", ولكنك ستجد بالأخص أنها قد خلفت عالما رحبا من الجمال والخيال واللوحات .. أنها رواية أشبه بمتحف كبير .
• الدكتور شفيق صالح
دكتوراة أطفال الأنابيب جامعة جرينول – فرنسا
عضو جمعية المترجمين من اللغة الفرنسية – باريس
الأعمال المترجمة : يوم صامت فى طنجة للطاهر بن جلون – مكتبة مدبولى القاهرة
الترام الأخير للتركى نديم جورسيل – مكتبة مدبولى القاهرة
أغنية ناراياما لليابانى فوكازاوا
الكتابة العلمية الحديثة – ريتشارد دوكينز
مجموعة قصصية بعنوان بنت من مصر