فقالت مريم: فاسمع إذًا يا صاحب، تقول إنك لم تتخذ اسمي إلا وسيلة لإظهار مبادئك، وأنا أيضًا لم أتخذ إهانتك لي إلا وسيلة لإظهار ما في نفسي، فلا تظن أنني غضبت هذا الغضب تأثُّرًا بإهانتك لي، كلَّا! — وضحكَتْ — فإن رأيك وآراء جميع الناس لا تهمني. أمَا قُلتُ لك إنني أعدهم خنازير قذرة؟ فمن يعتدُّ برأي الخنازير؟ وإنما الذي أغضبني في كلامك وأضحكني معًا شنُّكَ غارة شعواء على أمثالي من الضعفاء والمساكين والساقطين كما تدعوهم، وتجريدهم من التعزية الكبرى والعذر الأعظم الذي لهم في هذه الدنيا، فإن كلامك يوهم أن هؤلاء الضعفاء والمساكين والساقطين إنما سقطوا لضعفهم وانحطاطهم فقط؛ ولذلك توجَّب نبذهم، بل دوسهم؛ لكي لا يبقى في الهيئة الاجتماعية إلا الأقوياء الأشِدَّاء ترقيةً لها.
فيا صاحبي، إنك تتحكم في البشر كأنك خالقهم. إنني امرأة ساقطة كما تقول، ولمجرد حكمك بأني ساقطة تقضي بإهلاكي وإفنائي من الوجود دون أن تبحث هل أنا أَسْقطتُ نفسي أم غيري أسقطني؟ إنك ترى على شاطئ النهر حمامة جميلة بيضاء تستحِم في مياهه، فتغدرها أفعى وتنقض عليها وتفترسها، فتقول: الخطأ في جانب الحمامة لأنها افتُرست، وهي ضعيفة يجب أن تهلك وتفنى. أما الأفعى فهي قوية، فيجب أن تعيش وتلد أفاعي أخرى لتفترس حمامات أخرى. هذا ما تسمية ترقيةً يا صاحب؟ وأيُّ عقل سليم وقلب ذكي يُسلِّم معك بتجريد الحمامة المفتَرَسَة من تعزيتها الكبرى وعذرها الأعظم، بينما يتقطع لحمها ويتحطم عظمها تحت أنياب الأفعى؟ أما تعزيتها الكُبرى فهي اعتقادها بأن الأفعى غدَّارة خائنة قاتلة، تستحق لعنة الله والناس، وأن جميع الناس يعتقدونها كذلك، وكلما ازدادت الأفعى سمنًا، وانتفخَتْ شحمًا ولحمًا، يُصبح جوفها المملوء بجثث فرائسها لاعنًا ذلك الشحم واللحم الذي اكتُسب بالغدر والخيانة والقتل. هذه تعزيتها. أما أنت فتقول — بحسب مبادئك وفلسفتك الراقية — إن الحمامة مُستأهلة نصيبها من الغدر والقتل؛ لأنها ضعيفة.
فاضحكي يا أفاعي الأرض من هذه الفلسفة الجديدة، وابكي لها يا حمام. هَبْك، يا صاحبُ، خالقَ الكون، أنسيتَ أن خليقتك خلقت طبقات طبقات بعضها أضعف من بعض؟ وما لي أتكلم عن الحيوان، فإنني بذلك أقصِّر حُجَّتي؛ لأن غدر الحيوان وقتله أمران مألوفان، وأنت تعلم أنني ما قصدتُ بكلامي إلا التمثيل والقياس على الإنسان.
فالبشر يُخلقون أقوياء وضعفاء، وليس فيهم ضعيف إلا وترى أضعف منه، ولا قوي إلا وترى أقوى منه: أفاعٍ وحمام، ونعاج وذئاب، فما ذنب النعجة إذا لم تستطِع مقاومة الذئب؟ وكيف تطلب مقاومتها له وهي خُلقَتْ أضعف منه؟ إذا كان هنا ذنب فالذنب هائل، وهو واقع على خالقها لا عليها؛ لأنه خلقها أضعف من الذئب. هذا هو العذر الأعظم للضعيف يا صاحب، وأنت تريد تجريده من هذا العذر، وجعْل عُذره هذا ذنبًا له.
ثم يا صاحب، ما تعني بالقوة والضعف؟ إن القوة والضعف في الحيوان قوة عضلية وضعف عضلي، أعني قوة بدنية وضعفًا بدنيًّا. لا تستغرب معرفتي بهذه الأمور، فلدينا — نحن بني إسرائيل — علماء كما لديكم علماء، وقد سمعتُ كثيرين من علمائنا يردُّون على علمائكم، ويُقبِّحون مدنيَّتكم، فالحيوان قوي أو ضعيف بحسب نوعه، وتركيب جسمه، وقوة عضلاته.
أما الإنسان فالقوة البدنية إحدى قواه لا قوته كلها، وقوته الكبرى هي قوة عقله.
بهذه القوة يتحكم في الأرض وكائناتها، ويُخضع جميع قواتها، ألا تراه قد استأسر بها الفرَس والثور والرياح، وهي أقوى منه؟ أما سمعت أن إسكندر المقدوني غلب الفُرس وجيشه أقل عددًا من جيوشهم؟ أما قَهَرنا واستأسَرنا قائدُكم بومبيوس بجيشٍ قليل، وعددنا نحن بني إسرائيل أضعافه؟ ففي المجتمع البشري قوة فوق القوة البدنية؛ وهي قوة العقل. فاسمع الآن، ما قولك في رجل بليد جاهل لا يعرف من الدنيا شيئًا غير جمع المال بالطرق المحللة والمحرَّمة، وهمه في غش الناس للربح منهم، جسمه كجسم الثور غلاظةً وضخامة، وعقله كعقل العصفور، ورجل آخر ضعيف الجسم، ولكنه قوي العقل صحيح الأخلاق، يخترع لقومه آلات حربية يردُّون بها أعداءهم عن الأسوار، ومطاحن لطحن حبوبهم، ومناسج لنسج أنسجتهم، ومحاريث لحراثة أرضهم؟
أيهما في شرعك هو القوي الذي يجب أن يعيش في الدنيا؛ لأنه أنفع لها، وأيهما الضعيف الذي يجب أن يتلاشى في شرعك؟ هل عندك شكٌّ في أن الثاني هو القوي الحقيقي؛ لأن القوة الحقيقية الكبرى هي للعقل لا للبدن، كما تقدم؟ ولكن انظر ماذا يحدث في الدنيا يا صاحب، فقد خبرت منها ما لم تخبر، يحدث أن الأول تكون أفكاره متجهة إلى جهةٍ واحدة، وهي التغلُّب على غيره بكل الطرق، فعنده الغش، والاحتيال، والسرقة، وتعمُّد ضرر الغير، وخرق حُرمة كل نظام وشريعة بطرقٍ يعرفها، ويعرف أنها لا توقعه تحت طائلة الشريعة، والاستئثار بكل شيء، واستخفاف كل شيء في الأرض والسماء؛ إذ لا قيمة لشيء عنده غير المال.
كل هذه تبلغ لديه أشدها وتوجِّه جميع قوى نفسه إلى نقطة واحدة تنحصر كلها فيه؛ وهي ربح المال والوجاهة، وهو في هذا السبيل يجود بكل رخيص وغالٍ، ويسلك هذا المسلك بهمةٍ مشحوذة كهمة ذئب يطلب الفرائس في كل مكان. ويحدث أن الثاني تكون أفكاره مُنصرفة إلى وجهة أخرى، فإن العاقل ذو ميل إلى الاستزادة من العقل، كما أن صاحب المال ذو ميل إلى الاستزادة من المال، فعقله متجه على الدوام إلى طلب صفات العقل، وهي أولًا نصبه أمام عينيه غرضًا شريفًا يسعى إليه فيما يسعى إليه من منافعه الذاتية، والجد في نفعه الذاتي، ولكن ضمن دائرة الشريعة، واحترام ملك غيره وعرضه وشرفه؛ ليحترم غيره ملكه وعرضه وشرفه، وترك العدوان والغش والاحتيال والكذب والسرقة؛ لأن عقله ينهاه عنها، وطبيعته لا تُطاوعه عليها، بل تُنفِّره منها؛ لأنها لم تُرَبَّ في ممارستها والتوجُّه إليها. فالآن إذا التقى هذان الرجلان في عمل؛ أيهما تظنه يغلب رفيقه فيه؟ أيهما يكون فيه الضعيف؟ وأيهما يكون القوي؟
إن الرجل الثاني يُحارب في ذلك العمل حرب رجل مُقيَّد بقيود ضمن حدود، وهي الحدود التي يرسمها له العقل، واعتاد أن يعيش معه ضمنها. وأما الرجل الأول فيُحارب حرب رجل مُطلق من كل قيود وحدود، فبالكذب والاحتيال والغش والسرقة والنهب والسلب يبلغ مُناه، ويتغلَّب على رفيقه المأسور ضمن سور مبادئه. وهكذا تُصبح الأرض ولا حق فيها إلا للقوة؛ إذ لا حق، وتنمو فيها وتسود الغلظة والقسوة والغش والعدوان والسرقة وجميع مظاهر القوة، بينما تُمحى منها مظاهر العقل والحق تدريجًا، كما في ميدان تقتتل فيه وتتنازع حيوانات مدنية، لا فرق بينها وبين الحيوانات الوحشية إلا في أن تلك تمشي على ساقين وهذه على أربع.
فهل الإنسانية الجديدة التي تريدها، يا صاحبُ، هي على شاكلة هذه الوحوش البشرية التي لا قيود لها ولا حدود؟ أنا معك في هذا؛ لأني تلميذتك. ألا تراني أعيش بلا قيد ولا حد؛ أمرح في الدنيا كأنها فضاء أطير فيه من أُفق إلى أفق، ولا حدود فيها توقفني عند شيء، أو تمنعني من أن أضع يدي فيها على شيء؟ فلتحي الحرية يا صاحب، ولتحي مبادئك وفلسفتك. إنك تُبرِّئ بها القَتَلة وتذنِّب القَتْلى، تُعطي الحق للظالم وتلوم المظلوم، توافق على فعل السارق وتستهزئ بالمسروق، وكأنك تقول لهم: لا تُنْصَفون إلا إذا كنتم تقتلون وتَظلمون وتسرقون؛ فالضعيف أو الشهيد الذي يقع في جهاد الحياة هو المذنب الجاني، فيجب حذفه من الوجود، فكونوا كلكم قتلة وظلمة وسارقين فلا تُحذَفوا …
كانت مريم تلقي هذا الكلام كصخرٍ حطَّه السيل من علٍ وهي قائمة بأوداج منتفخة، وعينين ثائرتين يلوح فيهما الغضب ويختفي طبقًا لموضوع كلامها، وكان شيشرون جالسًا أمامها على العُشب وعيناه شاخصتان في جهتها. أما يوسف، فإنه كان قد تحمَّس لكلام مريم تحمُّسًا شديدًا، فقام واقفًا وخطا خطوة نحوها كأنه يودُّ ألَّا يفوته كلمة منه، وكان من حينٍ إلى حين ينتقل بنظره من مريم إلى يوسف، ومن يوسف إلى مريم، مُعجبًا بحماسة مريم ومعاني كلامها، ومُراقِبًا وقع ذلك الكلام لدى رفيقه شيشرون، وقد رفع رأسه فخارًا بأن مبادئه صدمت على شفتَي مريم تلك الصدمة مبادئ شيشرون التي صدمته وأعيته، فدُهش وسُرَّ معًا.
فإنه دُهش لأنه سمع من فم تلك المرأة ذلك الكلام السامي، وتلك الحُجَّة القوية، وسُرَّ لأنه رأى أن الظلام الذي أحاط بنفسه بعد سماعه مبادئ رفيقه قد انقشع عنها، وحلَّ النور محله، ولكن دهشته هذه وسروره هذا فَسَحَا مجالًا في نفسه لعاطفة ثالثة أخرى، فإن القارئ رأى — فيما تقدَّم — أن يوسف مال إلى مريم أول ما لقيها تحت الرمانة، فلما سمع منها هنا هذا الكلام، ورأى ارتفاع نفسها إلى مبادئ الفكر والخير؛ ازداد ميلًا إليها، وتعلُّقًا بها، فكان وهو واقف أمامها خافق القلب، تائه الفكر، مدهوشًا، حائرًا، يُشبه صبيًّا مدهوشًا رأى وهو واقف أمام مزبلة ملاكًا يخرج من المزبلة بين الأقذار، ويرتفع في جو النقاء والسناء نقيًّا طاهرًا.
فأخذ يقول في نفسه وهو يُمِرُّ يده على جبينه لمسح العرق الذي كان يتصبَّبُ منه لثورة نفسه واضطراب باطنه: قالوا إن نوابغ الأرض يكونون إلهًا عظيمًا أو شيطانًا رجيمًا، على أني أرى هذه المرأة الغريبة الأخلاق قد جمعَت الأمرين معًا.
ولما سكتت مريم لتمسح العرق عن وجهها بينما كان يوسف يفكر ويحلم مدهوشًا، كما تقدم، تململ شيشرون في مكانه ثم التفت إلى مريم وقال: هل فرغت من كلامكِ أيتها السيدة؟ إنكِ أخطأتِ في ظنكِ أنني أقول ما قلتِ، ومعاذ الله أن يكون غرضي ما ذكرتِ في بدء كلامكِ عن تجريد الحمامة المفترَسَة من تعزيتها الكبرى وعذرها الأعظم. كلَّا، وإنما غرضي أن تحتاط الحمامة لنفسها لئلَّا تُفتَرَس … أفهمتِ الآن أيتها السيدة مريم؟ ليس عمدة كلامي أن يدوس القوي الضعيف. واعلمي أيتها السيدة أنه إذا وردت هذه العبارة بمعناها ومبناها في أثناء كلامي، فما هي إلا تهديد نافع نقول به، لا من أجل مصلحة القوي، بل من أجل مصلحة الضعيف ليتشدَّد ويتقوَّى، فلا يعتمد إلا على نفسه في دفع الأذى عنه، فكأننا نقول له: كُنْ على حذرٍ، واشحَذْ عزيمتك، ونبِّه نشاطك، وإلا فانسحاقك ودَوسك أمرٌ مُحتَّم. هل تأذنين لي أن أتكلم بحرية كما تكلمتِ؟ لقد سرَّني اشتغالك بكلامي بجِدٍّ، ولا تظني أنه يسوءني منكِ شيء. وهذا الرفيق الذي خبرته في يوم واحد ذو قلب كريم، وعقل سليم، وهو جدير بثقتك، فلا يسوءنَّكِ كلامي أمامه، فاسمعي ما كنتُ أريد قوله لكِ منذ زمان، وأغتنم الفرصة لقوله لكِ الآن؛ إذ لا لأجد فرصة أفضل من هذه.
أنتِ أيتها السيدة مريم امرأة جميلة أنيقة، جسمكِ صحيح قوي، ونفسكِ جميلة لطيفة؛ لأنني أرى في عينيكِ شعاع جمالها ولطفها، ولا عبرة بحدَّتهما وشراستهما أحيانًا، ولم يلذ لي شيء في حياتي قط كرؤيتي إيَّاكِ يومًا جالسة بجانب الأكمة القريبة من منزلكِ، ويُمناكِ على كتاب مفتوح على رُكبتكِ، ويُسراكِ تسند رأسكِ، وعيناكِ تتيهان في الفضاء تحلمان وتُفكِّران كأنهما تبحثان في أعالي الجو عن شيءٍ مجهول فرارًا من شيء مملول.
أي نعم يا مريم، إن حلمكِ وتفكيرك هكذا يجعلني أحلم وأفكر أيضًا، فإنني أتصوركِ حين كنتِ في السادسة عشرة من عمركِ فتاة ساذجة القلب حيية، إذا رشقكِ رجل بنظرة تورَّدَتْ وجنتاكِ خجلًا، وخفق قلبكِ وجلًا. إنكِ لم تقُصِّي عليَّ إلا طرفًا من تاريخ حياتكِ، ولكنني الآن أحلم وأتصوَّر كما قلتُ لكِ، فدعيني أكمل حلمي وتصوري. إنني أراكِ في صباكِ — كما قُلتُ — فتاةً حيية طاهرة القلب، تخرجين مع أمكِ العجوز وأخواتكِ إلى الحقل لمساعدتهن في أعمالهن، وكانت أمكِ أشد عناية بكِ منها بسائر أخواتكِ؛ لأنها كانت ترى فيكِ شيئًا ممتازًا عنهن؛ وهو بشاشتكِ، وعذوبة حديثكِ، وسلامة قلبكِ، وشدة اندفاع عواطفكِ، حتى إنه كان كل ما في قلبك على لسانكِ، وكله كان جميلًا طاهرًا، فكانت تقول: إن مريم وردة البيت، فإذا دخلته وكان مُظلِمًا استنار ببشاشتها وورد خدها؛ ولذلك كانت تأتيكِ وأنت راقدة بجانب أخواتكِ في الصباح فتُقَبِّلُكِ أولًا، ثم تخرج من بيتكم الصغير إلى أرض أمامه مغروسة ببعض الأزهار، فتقطف وردة ثم تعود وتغرسها في شعرك وأنتِ نائمة، وتقول: انظروا، وَردٌ على ورد! فكنتِ أول انتباهكِ من النوم تستنشقين ريحين: ريح الورد في شعركِ، وأنفاس أمكِ الحنون التي كانت تستقبلكِ، ثم توفِّيَتْ أمُّكِ وانفرط عقد منزلكِ؛ إذ تزوجت أخواتكِ وتزوجتِ أنتِ أيضًا، ولكن كان نصيبكِ هائلًا … أصبحتِ وحيدة فريدة في الدنيا ترين الناس يقومون ويقعدون، ويروحون إلى أعمالهم ويجيئون، وأنتِ منفردة ساكنة ليس لكِ أحد تعتمدين عليه، وتستندين إليه، فماذا تفعلين؟ وكيف تعيشين؟ هنا وصلتُ إلى الحمامة المفتَرَسة التي استشهدتِ بها في كلامكِ، فماذا كان ينبغي للحمامة أن تفعله لئلَّا تُفتَرَس؟
لقد كان أمامها طريقان: الأول أن تكون قوية، فتتسلَّط على عقلها وقلبها وتُبادر بنشاط النحلة ودأب النملة إلى كسب رزقها بيديها؛ للاستغناء عن غيرها إذا لم تجد كفُؤًا لها يصونها ويغنيها. ولَكَسرة خبزٍ تؤكَل في هذه الحالة من الاستقلال وعزة النفس، وشرف الاسم، وطيب الأحدوثة بين الناس؛ خير من جميع ثروات الدنيا وتَرَفها إذا كانت — أي هذه الثروات — غير مقرونة بها. والطريق الثاني: الاستسلام إلى العواطف والأوهام ووهن العزيمة … على أن تلك الحمامة لم تقدر على حُسن الاختيار بين هذين الطريقين؛ لأنها لم تُهيَّأ لهذا الاختيار ولم تُعدَّ له. وهذه عقدة المسألة.
هنا تظهر بأجلى بيان مبادئي التي سمعتِها وأنتِ متوارية وراء الشجرة، وغضبتِ هذا الغضب من أجلها؛ فمبادئي توجب على الحمامة أن تختار الطريق الأول؛ أعني أن تكون قوية وتحذر، وتنبِّه نشاطها، وتُقوِّي إرادتها، وتختط خطة تسير عليها دون أن تترك للصدفة سبيلًا للعبث بها. القوة والإرادة والدربة، هذا ما كان ينقص الحمامة؛ فما كل حمامة تفترسها الأفعى مع قوتها وغدرها، وإنما تفترِس الأفعى الحمامة التي لا تحتاط لنفسها، ولا تُحسن الدفاع عنها.
فماذا تقول الحمامة يا مريم إذا قلتُ لها هذا القول: إنكِ أجمل الطيور الأليفة، فلا تتركي الأفاعي تُدنِّسكِ وتسطو عليكِ … لقد خلق الله لكِ جناحين تطيرين بهما إلى حيث لا تصل الأفاعي إليكِ … وإذا احتطتِ لنفسكِ وأعملتِ فكرتكِ ونشاطكِ ودُربتكِ، واستعملتِ إرادتكِ، فليس لجارحٍ أو كاسر في أعالي الجو قوة على الوصول إليكِ؛ لأنكِ مع ضعفكِ وشدة ذلك الكاسر قد أُعطيتِ قوة على التخلُّص منه، على شرط أن تشحذي قوتكِ وإرادتكِ وتُنبهيهما فيكِ على الدوام، ولكن إذا نمتِ عنهما وتركتِهما تنامان، واستسلمتِ إلى الضعف والوهن والصدفة والاتفاق، فعدم وجودكِ خير من وجودك في هذا الزحام الهائل في الحياة؛ لأن في عدم وجودكِ راحة لكِ، وفي وجودكِ ضعيفة بين الجوارح والكواسر ألم دائم وعذاب أبدي.
هذا ما كنتُ أقوله يا مريم وأغضبكِ ذلك الغضب، هذا ما كنت أقوله في حمامة السماء، وأقوله الآن لحمامة الأرض أيضًا … أمن حقك أن تثوري عليَّ تلك الثورة بعد هذا؟ ألا ترينني في كلامي نصير الضعفاء لا نصير الأقوياء؟ ألا تعتقدين أن مبادئي هذه هي الوحي الجديد الذي يحتاج إليه شرقكم الذي أفنَته تلك المبادئ القديمة، وأضعفَتْ فيه كل حماسة للحياة الراقية، وأصابت روحه بالشلل؟ لقد كنتُ في هذا صديقكِ لا عدوكِ يا مريم، فاحكمي بعد أن سمعتِ.
قال شيشرون هذا الكلام ثم سكت وشخصَ في جهة مريم ليرى فعل كلامه فيها، وكانت لوائح الألم تلوحُ في وجه مريم من حينٍ إلى حين في أثناء كلامه، فتارة يغور دمها إلى قلبها فتبرد أطرافها ويصفرُّ وجهها، وطورًا يثور دمها ويفور فيصطبغ وجهها بلونٍ قُرمزي، ويتوارد الدم إلى دماغها تواردًا يكاد يخنقها؛ ذلك أن شيشرون أثار فيها بكلامه هذا عاطفتين هائلتين: الأولى عاطفة الكبرياء الذاتية، والكبرياء أم الفضائل، كما أنها أم الرذائل، فإنه بثنائه عليها، ووصفه جمال جسمها ونفسها، وطهارة حياتها السابقة حرَّك ما كان كامنًا فيها من الأشجان، وردَّ إليها نفسها الأولى التي كانت لها قبل دخولها في وادي الشقاء …
ولكن هذه العاطفة كانت ضعيفة بالنسبة إلى العاطفة الثانية التي أثارها فيها كلام شيشرون البارع، فإنه لمَّا أخذ يصف تربيتها في صباها، ويُذكِّرها أمها وحنوها عليها، وحبها لها، وتعلُّقها بها، وتفانيها من أجلها، ثار كل ما كان مكنونًا في نفس هذه المرأة المسكينة من العواطف الطيبة، والتذكارات العيلية الجميلة، كأن زوبعة هائلة هبَّتْ في داخلها فنسفته نسفًا؛ ولذلك لم يفرغ شيشرون من كلامه ويُلقي عليها قوله الأخير: فاحكمي بعد أن سمعتِ. حتى ارتخَتْ أعصابها بعد توتُّرها، وانحنَتْ قامتها بعد انتصابها، وبقيَتْ شاخصة في جهة شيشرون، ساكتة جامدة جمود الصنم. وبعد انقضاء عشرين ثانية عليها وهي في هذه الحالة ارتعشَتْ ارتعاشًا شديدًا، ورفعَتْ بغتة يديها إلى عينيها، ثم استخرَطَتْ في البكاء كأنه أصابها ألم فُجائي.
فدُهش شيشرون ويوسف لِمَا أصابها، ونظر أحدهما إلى الآخر وقد تحرَّكا كلاهما نحوها، إلا أن مريم لم تُمهلهما أن يصلا إليها فانتفضَتْ وصاحَتْ وسقطَتْ إلى الأرض مغمى عليها؛ إذ أصابتها نوبتها العصبية.
وبينما كان يوسف وشيشرون يُعنيان بمريم ويُنبِّهان حواسها وهما في حزنٍ وأسفٍ لِما أصابها، كان راعي الغنم في أعلى شُرفة الوادي يُنادي قائلًا: يا قديس يوسف، سيعلق بك شياطينها. الحمد لله أن غنمي بعيدة عنها.
ثم إن الراعي تناول مزماره ونفخ فيه في وسط ذلك الهدوء أنغامًا مُطربة، فكان مثالًا لفراغ البال والهناء في الخلاء، بينما كانت مريم تحت الشجرة أمامه تتشنَّج وتصيح كمثال لآلام الهيئة الاجتماعية وشقائها واضطراباتها.
====================
فرح بن أنطون بن الياس أنطون (1874-1922م)، صحافي وروائي ومسرحي وكاتب سياسي واجتماعي. ولد وتعلم في طرابلس لبنان، وانتقل إلى الإسكندرية في مصر هربا من الاضطهاد العثماني عام 1897م، فأصدر مجلة «الجامعة» وتولّى تحرير «صدى الأهرام» ستة أشهر، وأنشأ لشقيقته روز أنطون حداد مجلة السيدات وكان يكتب فيها بتواقيع مستعارة. رحل إلى أمريكا سنة 1907م، فأصدر مجلة وجريدة باسم «الجامعة»، وعاد إلى مصر، فشارك في تحرير عدة جرائد، وكتب عدة روايات تمثيلية، وعاود إصدار مجلته، فاستمر إلى أن توفي في القاهرة.
فيا صاحبي، إنك تتحكم في البشر كأنك خالقهم. إنني امرأة ساقطة كما تقول، ولمجرد حكمك بأني ساقطة تقضي بإهلاكي وإفنائي من الوجود دون أن تبحث هل أنا أَسْقطتُ نفسي أم غيري أسقطني؟ إنك ترى على شاطئ النهر حمامة جميلة بيضاء تستحِم في مياهه، فتغدرها أفعى وتنقض عليها وتفترسها، فتقول: الخطأ في جانب الحمامة لأنها افتُرست، وهي ضعيفة يجب أن تهلك وتفنى. أما الأفعى فهي قوية، فيجب أن تعيش وتلد أفاعي أخرى لتفترس حمامات أخرى. هذا ما تسمية ترقيةً يا صاحب؟ وأيُّ عقل سليم وقلب ذكي يُسلِّم معك بتجريد الحمامة المفتَرَسَة من تعزيتها الكبرى وعذرها الأعظم، بينما يتقطع لحمها ويتحطم عظمها تحت أنياب الأفعى؟ أما تعزيتها الكُبرى فهي اعتقادها بأن الأفعى غدَّارة خائنة قاتلة، تستحق لعنة الله والناس، وأن جميع الناس يعتقدونها كذلك، وكلما ازدادت الأفعى سمنًا، وانتفخَتْ شحمًا ولحمًا، يُصبح جوفها المملوء بجثث فرائسها لاعنًا ذلك الشحم واللحم الذي اكتُسب بالغدر والخيانة والقتل. هذه تعزيتها. أما أنت فتقول — بحسب مبادئك وفلسفتك الراقية — إن الحمامة مُستأهلة نصيبها من الغدر والقتل؛ لأنها ضعيفة.
فاضحكي يا أفاعي الأرض من هذه الفلسفة الجديدة، وابكي لها يا حمام. هَبْك، يا صاحبُ، خالقَ الكون، أنسيتَ أن خليقتك خلقت طبقات طبقات بعضها أضعف من بعض؟ وما لي أتكلم عن الحيوان، فإنني بذلك أقصِّر حُجَّتي؛ لأن غدر الحيوان وقتله أمران مألوفان، وأنت تعلم أنني ما قصدتُ بكلامي إلا التمثيل والقياس على الإنسان.
فالبشر يُخلقون أقوياء وضعفاء، وليس فيهم ضعيف إلا وترى أضعف منه، ولا قوي إلا وترى أقوى منه: أفاعٍ وحمام، ونعاج وذئاب، فما ذنب النعجة إذا لم تستطِع مقاومة الذئب؟ وكيف تطلب مقاومتها له وهي خُلقَتْ أضعف منه؟ إذا كان هنا ذنب فالذنب هائل، وهو واقع على خالقها لا عليها؛ لأنه خلقها أضعف من الذئب. هذا هو العذر الأعظم للضعيف يا صاحب، وأنت تريد تجريده من هذا العذر، وجعْل عُذره هذا ذنبًا له.
ثم يا صاحب، ما تعني بالقوة والضعف؟ إن القوة والضعف في الحيوان قوة عضلية وضعف عضلي، أعني قوة بدنية وضعفًا بدنيًّا. لا تستغرب معرفتي بهذه الأمور، فلدينا — نحن بني إسرائيل — علماء كما لديكم علماء، وقد سمعتُ كثيرين من علمائنا يردُّون على علمائكم، ويُقبِّحون مدنيَّتكم، فالحيوان قوي أو ضعيف بحسب نوعه، وتركيب جسمه، وقوة عضلاته.
أما الإنسان فالقوة البدنية إحدى قواه لا قوته كلها، وقوته الكبرى هي قوة عقله.
بهذه القوة يتحكم في الأرض وكائناتها، ويُخضع جميع قواتها، ألا تراه قد استأسر بها الفرَس والثور والرياح، وهي أقوى منه؟ أما سمعت أن إسكندر المقدوني غلب الفُرس وجيشه أقل عددًا من جيوشهم؟ أما قَهَرنا واستأسَرنا قائدُكم بومبيوس بجيشٍ قليل، وعددنا نحن بني إسرائيل أضعافه؟ ففي المجتمع البشري قوة فوق القوة البدنية؛ وهي قوة العقل. فاسمع الآن، ما قولك في رجل بليد جاهل لا يعرف من الدنيا شيئًا غير جمع المال بالطرق المحللة والمحرَّمة، وهمه في غش الناس للربح منهم، جسمه كجسم الثور غلاظةً وضخامة، وعقله كعقل العصفور، ورجل آخر ضعيف الجسم، ولكنه قوي العقل صحيح الأخلاق، يخترع لقومه آلات حربية يردُّون بها أعداءهم عن الأسوار، ومطاحن لطحن حبوبهم، ومناسج لنسج أنسجتهم، ومحاريث لحراثة أرضهم؟
أيهما في شرعك هو القوي الذي يجب أن يعيش في الدنيا؛ لأنه أنفع لها، وأيهما الضعيف الذي يجب أن يتلاشى في شرعك؟ هل عندك شكٌّ في أن الثاني هو القوي الحقيقي؛ لأن القوة الحقيقية الكبرى هي للعقل لا للبدن، كما تقدم؟ ولكن انظر ماذا يحدث في الدنيا يا صاحب، فقد خبرت منها ما لم تخبر، يحدث أن الأول تكون أفكاره متجهة إلى جهةٍ واحدة، وهي التغلُّب على غيره بكل الطرق، فعنده الغش، والاحتيال، والسرقة، وتعمُّد ضرر الغير، وخرق حُرمة كل نظام وشريعة بطرقٍ يعرفها، ويعرف أنها لا توقعه تحت طائلة الشريعة، والاستئثار بكل شيء، واستخفاف كل شيء في الأرض والسماء؛ إذ لا قيمة لشيء عنده غير المال.
كل هذه تبلغ لديه أشدها وتوجِّه جميع قوى نفسه إلى نقطة واحدة تنحصر كلها فيه؛ وهي ربح المال والوجاهة، وهو في هذا السبيل يجود بكل رخيص وغالٍ، ويسلك هذا المسلك بهمةٍ مشحوذة كهمة ذئب يطلب الفرائس في كل مكان. ويحدث أن الثاني تكون أفكاره مُنصرفة إلى وجهة أخرى، فإن العاقل ذو ميل إلى الاستزادة من العقل، كما أن صاحب المال ذو ميل إلى الاستزادة من المال، فعقله متجه على الدوام إلى طلب صفات العقل، وهي أولًا نصبه أمام عينيه غرضًا شريفًا يسعى إليه فيما يسعى إليه من منافعه الذاتية، والجد في نفعه الذاتي، ولكن ضمن دائرة الشريعة، واحترام ملك غيره وعرضه وشرفه؛ ليحترم غيره ملكه وعرضه وشرفه، وترك العدوان والغش والاحتيال والكذب والسرقة؛ لأن عقله ينهاه عنها، وطبيعته لا تُطاوعه عليها، بل تُنفِّره منها؛ لأنها لم تُرَبَّ في ممارستها والتوجُّه إليها. فالآن إذا التقى هذان الرجلان في عمل؛ أيهما تظنه يغلب رفيقه فيه؟ أيهما يكون فيه الضعيف؟ وأيهما يكون القوي؟
إن الرجل الثاني يُحارب في ذلك العمل حرب رجل مُقيَّد بقيود ضمن حدود، وهي الحدود التي يرسمها له العقل، واعتاد أن يعيش معه ضمنها. وأما الرجل الأول فيُحارب حرب رجل مُطلق من كل قيود وحدود، فبالكذب والاحتيال والغش والسرقة والنهب والسلب يبلغ مُناه، ويتغلَّب على رفيقه المأسور ضمن سور مبادئه. وهكذا تُصبح الأرض ولا حق فيها إلا للقوة؛ إذ لا حق، وتنمو فيها وتسود الغلظة والقسوة والغش والعدوان والسرقة وجميع مظاهر القوة، بينما تُمحى منها مظاهر العقل والحق تدريجًا، كما في ميدان تقتتل فيه وتتنازع حيوانات مدنية، لا فرق بينها وبين الحيوانات الوحشية إلا في أن تلك تمشي على ساقين وهذه على أربع.
فهل الإنسانية الجديدة التي تريدها، يا صاحبُ، هي على شاكلة هذه الوحوش البشرية التي لا قيود لها ولا حدود؟ أنا معك في هذا؛ لأني تلميذتك. ألا تراني أعيش بلا قيد ولا حد؛ أمرح في الدنيا كأنها فضاء أطير فيه من أُفق إلى أفق، ولا حدود فيها توقفني عند شيء، أو تمنعني من أن أضع يدي فيها على شيء؟ فلتحي الحرية يا صاحب، ولتحي مبادئك وفلسفتك. إنك تُبرِّئ بها القَتَلة وتذنِّب القَتْلى، تُعطي الحق للظالم وتلوم المظلوم، توافق على فعل السارق وتستهزئ بالمسروق، وكأنك تقول لهم: لا تُنْصَفون إلا إذا كنتم تقتلون وتَظلمون وتسرقون؛ فالضعيف أو الشهيد الذي يقع في جهاد الحياة هو المذنب الجاني، فيجب حذفه من الوجود، فكونوا كلكم قتلة وظلمة وسارقين فلا تُحذَفوا …
كانت مريم تلقي هذا الكلام كصخرٍ حطَّه السيل من علٍ وهي قائمة بأوداج منتفخة، وعينين ثائرتين يلوح فيهما الغضب ويختفي طبقًا لموضوع كلامها، وكان شيشرون جالسًا أمامها على العُشب وعيناه شاخصتان في جهتها. أما يوسف، فإنه كان قد تحمَّس لكلام مريم تحمُّسًا شديدًا، فقام واقفًا وخطا خطوة نحوها كأنه يودُّ ألَّا يفوته كلمة منه، وكان من حينٍ إلى حين ينتقل بنظره من مريم إلى يوسف، ومن يوسف إلى مريم، مُعجبًا بحماسة مريم ومعاني كلامها، ومُراقِبًا وقع ذلك الكلام لدى رفيقه شيشرون، وقد رفع رأسه فخارًا بأن مبادئه صدمت على شفتَي مريم تلك الصدمة مبادئ شيشرون التي صدمته وأعيته، فدُهش وسُرَّ معًا.
فإنه دُهش لأنه سمع من فم تلك المرأة ذلك الكلام السامي، وتلك الحُجَّة القوية، وسُرَّ لأنه رأى أن الظلام الذي أحاط بنفسه بعد سماعه مبادئ رفيقه قد انقشع عنها، وحلَّ النور محله، ولكن دهشته هذه وسروره هذا فَسَحَا مجالًا في نفسه لعاطفة ثالثة أخرى، فإن القارئ رأى — فيما تقدَّم — أن يوسف مال إلى مريم أول ما لقيها تحت الرمانة، فلما سمع منها هنا هذا الكلام، ورأى ارتفاع نفسها إلى مبادئ الفكر والخير؛ ازداد ميلًا إليها، وتعلُّقًا بها، فكان وهو واقف أمامها خافق القلب، تائه الفكر، مدهوشًا، حائرًا، يُشبه صبيًّا مدهوشًا رأى وهو واقف أمام مزبلة ملاكًا يخرج من المزبلة بين الأقذار، ويرتفع في جو النقاء والسناء نقيًّا طاهرًا.
فأخذ يقول في نفسه وهو يُمِرُّ يده على جبينه لمسح العرق الذي كان يتصبَّبُ منه لثورة نفسه واضطراب باطنه: قالوا إن نوابغ الأرض يكونون إلهًا عظيمًا أو شيطانًا رجيمًا، على أني أرى هذه المرأة الغريبة الأخلاق قد جمعَت الأمرين معًا.
ولما سكتت مريم لتمسح العرق عن وجهها بينما كان يوسف يفكر ويحلم مدهوشًا، كما تقدم، تململ شيشرون في مكانه ثم التفت إلى مريم وقال: هل فرغت من كلامكِ أيتها السيدة؟ إنكِ أخطأتِ في ظنكِ أنني أقول ما قلتِ، ومعاذ الله أن يكون غرضي ما ذكرتِ في بدء كلامكِ عن تجريد الحمامة المفترَسَة من تعزيتها الكبرى وعذرها الأعظم. كلَّا، وإنما غرضي أن تحتاط الحمامة لنفسها لئلَّا تُفتَرَس … أفهمتِ الآن أيتها السيدة مريم؟ ليس عمدة كلامي أن يدوس القوي الضعيف. واعلمي أيتها السيدة أنه إذا وردت هذه العبارة بمعناها ومبناها في أثناء كلامي، فما هي إلا تهديد نافع نقول به، لا من أجل مصلحة القوي، بل من أجل مصلحة الضعيف ليتشدَّد ويتقوَّى، فلا يعتمد إلا على نفسه في دفع الأذى عنه، فكأننا نقول له: كُنْ على حذرٍ، واشحَذْ عزيمتك، ونبِّه نشاطك، وإلا فانسحاقك ودَوسك أمرٌ مُحتَّم. هل تأذنين لي أن أتكلم بحرية كما تكلمتِ؟ لقد سرَّني اشتغالك بكلامي بجِدٍّ، ولا تظني أنه يسوءني منكِ شيء. وهذا الرفيق الذي خبرته في يوم واحد ذو قلب كريم، وعقل سليم، وهو جدير بثقتك، فلا يسوءنَّكِ كلامي أمامه، فاسمعي ما كنتُ أريد قوله لكِ منذ زمان، وأغتنم الفرصة لقوله لكِ الآن؛ إذ لا لأجد فرصة أفضل من هذه.
أنتِ أيتها السيدة مريم امرأة جميلة أنيقة، جسمكِ صحيح قوي، ونفسكِ جميلة لطيفة؛ لأنني أرى في عينيكِ شعاع جمالها ولطفها، ولا عبرة بحدَّتهما وشراستهما أحيانًا، ولم يلذ لي شيء في حياتي قط كرؤيتي إيَّاكِ يومًا جالسة بجانب الأكمة القريبة من منزلكِ، ويُمناكِ على كتاب مفتوح على رُكبتكِ، ويُسراكِ تسند رأسكِ، وعيناكِ تتيهان في الفضاء تحلمان وتُفكِّران كأنهما تبحثان في أعالي الجو عن شيءٍ مجهول فرارًا من شيء مملول.
أي نعم يا مريم، إن حلمكِ وتفكيرك هكذا يجعلني أحلم وأفكر أيضًا، فإنني أتصوركِ حين كنتِ في السادسة عشرة من عمركِ فتاة ساذجة القلب حيية، إذا رشقكِ رجل بنظرة تورَّدَتْ وجنتاكِ خجلًا، وخفق قلبكِ وجلًا. إنكِ لم تقُصِّي عليَّ إلا طرفًا من تاريخ حياتكِ، ولكنني الآن أحلم وأتصوَّر كما قلتُ لكِ، فدعيني أكمل حلمي وتصوري. إنني أراكِ في صباكِ — كما قُلتُ — فتاةً حيية طاهرة القلب، تخرجين مع أمكِ العجوز وأخواتكِ إلى الحقل لمساعدتهن في أعمالهن، وكانت أمكِ أشد عناية بكِ منها بسائر أخواتكِ؛ لأنها كانت ترى فيكِ شيئًا ممتازًا عنهن؛ وهو بشاشتكِ، وعذوبة حديثكِ، وسلامة قلبكِ، وشدة اندفاع عواطفكِ، حتى إنه كان كل ما في قلبك على لسانكِ، وكله كان جميلًا طاهرًا، فكانت تقول: إن مريم وردة البيت، فإذا دخلته وكان مُظلِمًا استنار ببشاشتها وورد خدها؛ ولذلك كانت تأتيكِ وأنت راقدة بجانب أخواتكِ في الصباح فتُقَبِّلُكِ أولًا، ثم تخرج من بيتكم الصغير إلى أرض أمامه مغروسة ببعض الأزهار، فتقطف وردة ثم تعود وتغرسها في شعرك وأنتِ نائمة، وتقول: انظروا، وَردٌ على ورد! فكنتِ أول انتباهكِ من النوم تستنشقين ريحين: ريح الورد في شعركِ، وأنفاس أمكِ الحنون التي كانت تستقبلكِ، ثم توفِّيَتْ أمُّكِ وانفرط عقد منزلكِ؛ إذ تزوجت أخواتكِ وتزوجتِ أنتِ أيضًا، ولكن كان نصيبكِ هائلًا … أصبحتِ وحيدة فريدة في الدنيا ترين الناس يقومون ويقعدون، ويروحون إلى أعمالهم ويجيئون، وأنتِ منفردة ساكنة ليس لكِ أحد تعتمدين عليه، وتستندين إليه، فماذا تفعلين؟ وكيف تعيشين؟ هنا وصلتُ إلى الحمامة المفتَرَسة التي استشهدتِ بها في كلامكِ، فماذا كان ينبغي للحمامة أن تفعله لئلَّا تُفتَرَس؟
لقد كان أمامها طريقان: الأول أن تكون قوية، فتتسلَّط على عقلها وقلبها وتُبادر بنشاط النحلة ودأب النملة إلى كسب رزقها بيديها؛ للاستغناء عن غيرها إذا لم تجد كفُؤًا لها يصونها ويغنيها. ولَكَسرة خبزٍ تؤكَل في هذه الحالة من الاستقلال وعزة النفس، وشرف الاسم، وطيب الأحدوثة بين الناس؛ خير من جميع ثروات الدنيا وتَرَفها إذا كانت — أي هذه الثروات — غير مقرونة بها. والطريق الثاني: الاستسلام إلى العواطف والأوهام ووهن العزيمة … على أن تلك الحمامة لم تقدر على حُسن الاختيار بين هذين الطريقين؛ لأنها لم تُهيَّأ لهذا الاختيار ولم تُعدَّ له. وهذه عقدة المسألة.
هنا تظهر بأجلى بيان مبادئي التي سمعتِها وأنتِ متوارية وراء الشجرة، وغضبتِ هذا الغضب من أجلها؛ فمبادئي توجب على الحمامة أن تختار الطريق الأول؛ أعني أن تكون قوية وتحذر، وتنبِّه نشاطها، وتُقوِّي إرادتها، وتختط خطة تسير عليها دون أن تترك للصدفة سبيلًا للعبث بها. القوة والإرادة والدربة، هذا ما كان ينقص الحمامة؛ فما كل حمامة تفترسها الأفعى مع قوتها وغدرها، وإنما تفترِس الأفعى الحمامة التي لا تحتاط لنفسها، ولا تُحسن الدفاع عنها.
فماذا تقول الحمامة يا مريم إذا قلتُ لها هذا القول: إنكِ أجمل الطيور الأليفة، فلا تتركي الأفاعي تُدنِّسكِ وتسطو عليكِ … لقد خلق الله لكِ جناحين تطيرين بهما إلى حيث لا تصل الأفاعي إليكِ … وإذا احتطتِ لنفسكِ وأعملتِ فكرتكِ ونشاطكِ ودُربتكِ، واستعملتِ إرادتكِ، فليس لجارحٍ أو كاسر في أعالي الجو قوة على الوصول إليكِ؛ لأنكِ مع ضعفكِ وشدة ذلك الكاسر قد أُعطيتِ قوة على التخلُّص منه، على شرط أن تشحذي قوتكِ وإرادتكِ وتُنبهيهما فيكِ على الدوام، ولكن إذا نمتِ عنهما وتركتِهما تنامان، واستسلمتِ إلى الضعف والوهن والصدفة والاتفاق، فعدم وجودكِ خير من وجودك في هذا الزحام الهائل في الحياة؛ لأن في عدم وجودكِ راحة لكِ، وفي وجودكِ ضعيفة بين الجوارح والكواسر ألم دائم وعذاب أبدي.
هذا ما كنتُ أقوله يا مريم وأغضبكِ ذلك الغضب، هذا ما كنت أقوله في حمامة السماء، وأقوله الآن لحمامة الأرض أيضًا … أمن حقك أن تثوري عليَّ تلك الثورة بعد هذا؟ ألا ترينني في كلامي نصير الضعفاء لا نصير الأقوياء؟ ألا تعتقدين أن مبادئي هذه هي الوحي الجديد الذي يحتاج إليه شرقكم الذي أفنَته تلك المبادئ القديمة، وأضعفَتْ فيه كل حماسة للحياة الراقية، وأصابت روحه بالشلل؟ لقد كنتُ في هذا صديقكِ لا عدوكِ يا مريم، فاحكمي بعد أن سمعتِ.
قال شيشرون هذا الكلام ثم سكت وشخصَ في جهة مريم ليرى فعل كلامه فيها، وكانت لوائح الألم تلوحُ في وجه مريم من حينٍ إلى حين في أثناء كلامه، فتارة يغور دمها إلى قلبها فتبرد أطرافها ويصفرُّ وجهها، وطورًا يثور دمها ويفور فيصطبغ وجهها بلونٍ قُرمزي، ويتوارد الدم إلى دماغها تواردًا يكاد يخنقها؛ ذلك أن شيشرون أثار فيها بكلامه هذا عاطفتين هائلتين: الأولى عاطفة الكبرياء الذاتية، والكبرياء أم الفضائل، كما أنها أم الرذائل، فإنه بثنائه عليها، ووصفه جمال جسمها ونفسها، وطهارة حياتها السابقة حرَّك ما كان كامنًا فيها من الأشجان، وردَّ إليها نفسها الأولى التي كانت لها قبل دخولها في وادي الشقاء …
ولكن هذه العاطفة كانت ضعيفة بالنسبة إلى العاطفة الثانية التي أثارها فيها كلام شيشرون البارع، فإنه لمَّا أخذ يصف تربيتها في صباها، ويُذكِّرها أمها وحنوها عليها، وحبها لها، وتعلُّقها بها، وتفانيها من أجلها، ثار كل ما كان مكنونًا في نفس هذه المرأة المسكينة من العواطف الطيبة، والتذكارات العيلية الجميلة، كأن زوبعة هائلة هبَّتْ في داخلها فنسفته نسفًا؛ ولذلك لم يفرغ شيشرون من كلامه ويُلقي عليها قوله الأخير: فاحكمي بعد أن سمعتِ. حتى ارتخَتْ أعصابها بعد توتُّرها، وانحنَتْ قامتها بعد انتصابها، وبقيَتْ شاخصة في جهة شيشرون، ساكتة جامدة جمود الصنم. وبعد انقضاء عشرين ثانية عليها وهي في هذه الحالة ارتعشَتْ ارتعاشًا شديدًا، ورفعَتْ بغتة يديها إلى عينيها، ثم استخرَطَتْ في البكاء كأنه أصابها ألم فُجائي.
فدُهش شيشرون ويوسف لِمَا أصابها، ونظر أحدهما إلى الآخر وقد تحرَّكا كلاهما نحوها، إلا أن مريم لم تُمهلهما أن يصلا إليها فانتفضَتْ وصاحَتْ وسقطَتْ إلى الأرض مغمى عليها؛ إذ أصابتها نوبتها العصبية.
وبينما كان يوسف وشيشرون يُعنيان بمريم ويُنبِّهان حواسها وهما في حزنٍ وأسفٍ لِما أصابها، كان راعي الغنم في أعلى شُرفة الوادي يُنادي قائلًا: يا قديس يوسف، سيعلق بك شياطينها. الحمد لله أن غنمي بعيدة عنها.
ثم إن الراعي تناول مزماره ونفخ فيه في وسط ذلك الهدوء أنغامًا مُطربة، فكان مثالًا لفراغ البال والهناء في الخلاء، بينما كانت مريم تحت الشجرة أمامه تتشنَّج وتصيح كمثال لآلام الهيئة الاجتماعية وشقائها واضطراباتها.
====================
فرح بن أنطون بن الياس أنطون (1874-1922م)، صحافي وروائي ومسرحي وكاتب سياسي واجتماعي. ولد وتعلم في طرابلس لبنان، وانتقل إلى الإسكندرية في مصر هربا من الاضطهاد العثماني عام 1897م، فأصدر مجلة «الجامعة» وتولّى تحرير «صدى الأهرام» ستة أشهر، وأنشأ لشقيقته روز أنطون حداد مجلة السيدات وكان يكتب فيها بتواقيع مستعارة. رحل إلى أمريكا سنة 1907م، فأصدر مجلة وجريدة باسم «الجامعة»، وعاد إلى مصر، فشارك في تحرير عدة جرائد، وكتب عدة روايات تمثيلية، وعاود إصدار مجلته، فاستمر إلى أن توفي في القاهرة.