الإهداء: إلى الذين قدر لهم النجاة.
عانت كريمة وزوجها فقدان القدرة على الإنجاب، بعد أن أكدت لهما هذه الحقيقة السنوات الأربع التي مرت على اقتران أحدهما بالأخر، وصارت هي زوجة له، وصار هو زوجاً لها، كانت أمه من اختارتها له، قالت له يومها مبتسمة وهي تلامس أرنبة أنفه:
– سأطمئن عليك معها يا “شويطيني”!
وتحققت رغبة الأم. واحتواهما مسكن أقرب إلى “الكوخ” منه إلى البيت، يقع في أحد أزقة درنة القديمة المطلة على الوادي، شاب وشابة يعيشان أول مراحل العمر، يمخر بهما عُباب البحر قارب الأمل، مجاديفهما نبض قلبيهما البيت “الكوخ” كان في نظرهما، ليس كما يراه غيرهما، كل ما فيه استمد منهما بريقا فبدا في عينيهما يبرق، وبهجة فكان بهما يُبهج.
من حوله تسامقت الباسقات، وأشجار التوت، ودوالي العنب، والتين، والمشمش، والرمان، وشجيرات الياسمين والبنفسج، حيث راق للعصافير أن تبني أوكارها، فبنت وتغنت. مضت الأيام تتابع بصفائها ورقتها. كان كلّما عنى له أن يتغزل فيها، ويذكر مفاتنها وحسنها، يردد على مسمعيها:
– صدقت أمي يا كريمة والله صدقت!
فتبتسم كريمة منتشيه، فهي تعرف مقصده وترد عليه:
– وأنا أحمد الله أن استجاب لدعائي!
فيبتسم لها فهو يعرف ماذا كان دعاؤها.
تلك الليلة و قد غاب عنها صفاؤها و تداعت سُحبها، و اكفهرت أجوائها، و تراجع قمرها، و تلاشت نجومها، فأمست موحشة مرعبة، كان هو يتطلع إليها بنظرات لم تدرك هي معناها، ما جعلها تحس و كأنه لم يبصرها من قبل، و لكن لم يغب عن ملامحه، شغفه و هيامه الشديد بها ، انتبهت أن تلك القطرات التي تتساقط خلفه من سقف الحجرة، و قد وضعت إناءً أسفلها لتجميعها، لتُسكب بعد ذلك في الخارج، بدأت تتكاثر و تتسارع، أثارت مخاوفها، أما هو فقد تزاحمت على ملامح وجهه أكثر من دلالة رأتها هي كريمة المحبة لبيتها وزوجها و ولديها غير مطمئنة. لكنه ورغم كل شيء لم يكف عن النظر إليها، والتمعن في تقاطيع وجهها مع افتعاله التبسم. كان أحد التوأمين ” محسن” قد نام في حجره بعد أن أشبعه مداعبة، بينما نام الأخر” كريم” في حجرها، لا أحد منهما يدري من هو الأكبر، حتى هي لم تدرك حين عملية الوضع، أيهما سبق الأخر قدوما إلى الدنيا، فالفرحة كانت أكبر من أن تترك مجالا للالتفات لأمر أخر غير هذا. تذْكر جيداً كما يذكرْ هو جيداً، إلى أي
ـ 2 ـ
أي مدى بلغت معاناتهما حينما وقفا على حافة اليأس والقنوط من الإنجاب، وهما يدركان جيدا ماذا يعني هذا، وسط مجتمع له رأي في هذا الاتجاه لا تراجع عنه ألبته، وحال تشبث أحدهما بالأخر فهما يدركان أنهما لن يهنأ أبداً، فتدخلات الآخرين ستضيق عليهما في حياتهما، ما دفعهما معتمدين على الخالق وليس على سواه، أن يعيشا نضالا لا هوادة فيه، من أجل أن تقرّ عيناهما بمولود، يضع حدا لمعاناة بدت ملامحها تتشكل.
وتنازلا عن كل ممتلكاتهما، عدا البيت “الكوخ” وإطلالته من وسط البساتين وشجيرات الياسمين على مجرى الوادي، وادي درنة، وكذلك فزعة أقرب المقربين إليهما، ووقفتهم معهما. غرْبا وشرْقا، لم يترددا في التعامل والتفاعل مع كل ما نُصحا به أو أشير به عليهما. إلى أن شاء الخالق، أن يتحقق لهما مبتغاهما من خلال ما أنجزه العلم في هذا الاتجاه، وحين غفلة منها، نبتت في أحشائها ذات يوم، بذرة الأمل والرجاء، ياله من يوم ليس كغيره من الأيام، كأنه خلق لهما دون سواهما، ظل عالقا بذهنيهما، ويذكرانه كل حين وأوان دونما ملل، وزاد ارتباط كل منهما وتعلقه بالأخر، ما عاد أنور يطيق سوى ملازمة كريمة وأينما تحركت، وبشكل مثير للضحك، وما كان يهتم، بل صار يمعن فيما هو فيه، تجمعه وإياها الغبطة والبهجة. حتى أنه قال لها ذات مرة بي رغبة ملحة في أن أخرج وأطوف شوارع وأزقة درنة كلها، معلنا عن غرامي وهيامي بك، ضحكت كريمة يومها كثيراً، وعبرت له عن سعادتها وفرحها. وأذن الرحمن، ورزقا بتوءمين، وردد الوادي صدى ما انطلق في البيت “الكوخ” من زغاريد الفرح والابتهاج. وهدأت الحياة، راقت لهما، ازدادت صفاءً.
ثم ماذا؟ ليس نحن من يرسم موقع أقدامنا حتى وإن كان اليَرَاعُ بين أصابعنا. ليلتها كان صفير الرياح في الخارج وزمجرتها لا يهدأ، بل كان وهو أشبه ما يكون في حالة غضب في تصاعد مستمر، ما يثير الرعب ويرفع من خفقان القلب. عينا كريمة كانتا على الصغير “محسن” و هو في حجر والده، و كفها دونما تدري لا تكف عن المسح على رأس الصغير “كريم” المستغرقٌ في نومه وسط حجرها ، عندما تدفقت دموعها و أعلنت لزوجها عن مخاوفها، الذي في التو طلب منها وهو يسلمها الصغير و قد استشعر خطورة الموقف، أن تعتني بهما، فهو ذاهب إلى الخارج، ليلقي نظرة، و يحضر معه ما يثبت به باب الحجرة، و كذلك المزيد من الأواني لتجميع ما يتسرب من سقف الحجرة من مياه، حتى لا يصل إلى ما لديهم من أثاث و يفسده، لكنه و قبل أن يفتح الباب إذ بموجة كالجبل تضرب الباب
ـ 3 ـ
وتدفعه وكل ما أمامها إلى حيث لا يعلم إلا الله. بعد هذا ما عاد يدري شيئاً، وعندما فتح عيناه وجدهم حوله يعتنون به ويحمدون له على سلامته، مؤكدين له وهم يصفقون أن نجاته كانت معجزة.. برهة.. لم يدرك وسط ذهوله مما حوله شيئاً، قبل أن يسألهم عن الصغيرين وكريمة؟ جاءته الإجابة بالدعوة لهم بالرحمة، لقد وجدوها والصغيران في حضنها وقد فارقوا الحياة، ودفن الثلاثة في قبر واحد. أحس حينها الوهن وفقدان القدرة على التنفس، وقبل أن يفقد وعيه، تساءل وهو يتطلع بعيداً، وقد فاضت مقلتيه بالدموع، لماذا لم يتسع حضنك لي؟
20 / 10 / 2023م.
عبدالعزيز الزني
مواليد مدينة درنة 1948م. المهنة معلم متقاعد. متحصل على دبلوم معهد المعلمين الخاص/ لغة انجليزية 1971م. دورة دراسية مطولة بالمعهد العالي للفنون المسرحية والسينما في بودابست دولة المجر 1981م ـــ 1984م، إضافة إلى دورات دراسية أخرى. قدم العديد من الدورات المسرحية والورش الفنية. بداية الكتابة مع بدايات سبعينيات القرن الماضي. كتب: القصة القصيرة / والتمثيلية المسموعة والمرئية / والمقالة / والمسرحية. في المسموعة أول عمل كان بعنوان "كل عقدة ولها حلال" أخرجها علي أحمد سالم 1971م. في المرئية أول عمل "الدميم" أخرجها محمود الزردومي، 1974م. في المسرح أول عمل قُدم على خشبة المسرح/ نطقت القبور وضاع الزمن 1975م إخراج رمضان الكوم. ومن النصوص المسرحية: أجمل جنية في العالم 1975م في "المنو دراما" الممثل الفرد كتبتُ عدة أعمال منها: زيارة ذات مساء "1" زيارة ذات مساء "2" السجين.. السجينة.. للطفل كتبت: الشياطين ترقص " مسرحية " أبناء الجن والمردة.. نالت الترتيب الأول كنص مسرحي غابة العفاريت والمردة / رواية شعرية للطفل.. ومن الكتب: "درنة .. هبة الساقية " كتاب حول تاريخ المدينة الاجتماعي. " فنـــــون " كتاب عن تاريخ درنة المسرحي.
عانت كريمة وزوجها فقدان القدرة على الإنجاب، بعد أن أكدت لهما هذه الحقيقة السنوات الأربع التي مرت على اقتران أحدهما بالأخر، وصارت هي زوجة له، وصار هو زوجاً لها، كانت أمه من اختارتها له، قالت له يومها مبتسمة وهي تلامس أرنبة أنفه:
– سأطمئن عليك معها يا “شويطيني”!
وتحققت رغبة الأم. واحتواهما مسكن أقرب إلى “الكوخ” منه إلى البيت، يقع في أحد أزقة درنة القديمة المطلة على الوادي، شاب وشابة يعيشان أول مراحل العمر، يمخر بهما عُباب البحر قارب الأمل، مجاديفهما نبض قلبيهما البيت “الكوخ” كان في نظرهما، ليس كما يراه غيرهما، كل ما فيه استمد منهما بريقا فبدا في عينيهما يبرق، وبهجة فكان بهما يُبهج.
من حوله تسامقت الباسقات، وأشجار التوت، ودوالي العنب، والتين، والمشمش، والرمان، وشجيرات الياسمين والبنفسج، حيث راق للعصافير أن تبني أوكارها، فبنت وتغنت. مضت الأيام تتابع بصفائها ورقتها. كان كلّما عنى له أن يتغزل فيها، ويذكر مفاتنها وحسنها، يردد على مسمعيها:
– صدقت أمي يا كريمة والله صدقت!
فتبتسم كريمة منتشيه، فهي تعرف مقصده وترد عليه:
– وأنا أحمد الله أن استجاب لدعائي!
فيبتسم لها فهو يعرف ماذا كان دعاؤها.
تلك الليلة و قد غاب عنها صفاؤها و تداعت سُحبها، و اكفهرت أجوائها، و تراجع قمرها، و تلاشت نجومها، فأمست موحشة مرعبة، كان هو يتطلع إليها بنظرات لم تدرك هي معناها، ما جعلها تحس و كأنه لم يبصرها من قبل، و لكن لم يغب عن ملامحه، شغفه و هيامه الشديد بها ، انتبهت أن تلك القطرات التي تتساقط خلفه من سقف الحجرة، و قد وضعت إناءً أسفلها لتجميعها، لتُسكب بعد ذلك في الخارج، بدأت تتكاثر و تتسارع، أثارت مخاوفها، أما هو فقد تزاحمت على ملامح وجهه أكثر من دلالة رأتها هي كريمة المحبة لبيتها وزوجها و ولديها غير مطمئنة. لكنه ورغم كل شيء لم يكف عن النظر إليها، والتمعن في تقاطيع وجهها مع افتعاله التبسم. كان أحد التوأمين ” محسن” قد نام في حجره بعد أن أشبعه مداعبة، بينما نام الأخر” كريم” في حجرها، لا أحد منهما يدري من هو الأكبر، حتى هي لم تدرك حين عملية الوضع، أيهما سبق الأخر قدوما إلى الدنيا، فالفرحة كانت أكبر من أن تترك مجالا للالتفات لأمر أخر غير هذا. تذْكر جيداً كما يذكرْ هو جيداً، إلى أي
ـ 2 ـ
أي مدى بلغت معاناتهما حينما وقفا على حافة اليأس والقنوط من الإنجاب، وهما يدركان جيدا ماذا يعني هذا، وسط مجتمع له رأي في هذا الاتجاه لا تراجع عنه ألبته، وحال تشبث أحدهما بالأخر فهما يدركان أنهما لن يهنأ أبداً، فتدخلات الآخرين ستضيق عليهما في حياتهما، ما دفعهما معتمدين على الخالق وليس على سواه، أن يعيشا نضالا لا هوادة فيه، من أجل أن تقرّ عيناهما بمولود، يضع حدا لمعاناة بدت ملامحها تتشكل.
وتنازلا عن كل ممتلكاتهما، عدا البيت “الكوخ” وإطلالته من وسط البساتين وشجيرات الياسمين على مجرى الوادي، وادي درنة، وكذلك فزعة أقرب المقربين إليهما، ووقفتهم معهما. غرْبا وشرْقا، لم يترددا في التعامل والتفاعل مع كل ما نُصحا به أو أشير به عليهما. إلى أن شاء الخالق، أن يتحقق لهما مبتغاهما من خلال ما أنجزه العلم في هذا الاتجاه، وحين غفلة منها، نبتت في أحشائها ذات يوم، بذرة الأمل والرجاء، ياله من يوم ليس كغيره من الأيام، كأنه خلق لهما دون سواهما، ظل عالقا بذهنيهما، ويذكرانه كل حين وأوان دونما ملل، وزاد ارتباط كل منهما وتعلقه بالأخر، ما عاد أنور يطيق سوى ملازمة كريمة وأينما تحركت، وبشكل مثير للضحك، وما كان يهتم، بل صار يمعن فيما هو فيه، تجمعه وإياها الغبطة والبهجة. حتى أنه قال لها ذات مرة بي رغبة ملحة في أن أخرج وأطوف شوارع وأزقة درنة كلها، معلنا عن غرامي وهيامي بك، ضحكت كريمة يومها كثيراً، وعبرت له عن سعادتها وفرحها. وأذن الرحمن، ورزقا بتوءمين، وردد الوادي صدى ما انطلق في البيت “الكوخ” من زغاريد الفرح والابتهاج. وهدأت الحياة، راقت لهما، ازدادت صفاءً.
ثم ماذا؟ ليس نحن من يرسم موقع أقدامنا حتى وإن كان اليَرَاعُ بين أصابعنا. ليلتها كان صفير الرياح في الخارج وزمجرتها لا يهدأ، بل كان وهو أشبه ما يكون في حالة غضب في تصاعد مستمر، ما يثير الرعب ويرفع من خفقان القلب. عينا كريمة كانتا على الصغير “محسن” و هو في حجر والده، و كفها دونما تدري لا تكف عن المسح على رأس الصغير “كريم” المستغرقٌ في نومه وسط حجرها ، عندما تدفقت دموعها و أعلنت لزوجها عن مخاوفها، الذي في التو طلب منها وهو يسلمها الصغير و قد استشعر خطورة الموقف، أن تعتني بهما، فهو ذاهب إلى الخارج، ليلقي نظرة، و يحضر معه ما يثبت به باب الحجرة، و كذلك المزيد من الأواني لتجميع ما يتسرب من سقف الحجرة من مياه، حتى لا يصل إلى ما لديهم من أثاث و يفسده، لكنه و قبل أن يفتح الباب إذ بموجة كالجبل تضرب الباب
ـ 3 ـ
وتدفعه وكل ما أمامها إلى حيث لا يعلم إلا الله. بعد هذا ما عاد يدري شيئاً، وعندما فتح عيناه وجدهم حوله يعتنون به ويحمدون له على سلامته، مؤكدين له وهم يصفقون أن نجاته كانت معجزة.. برهة.. لم يدرك وسط ذهوله مما حوله شيئاً، قبل أن يسألهم عن الصغيرين وكريمة؟ جاءته الإجابة بالدعوة لهم بالرحمة، لقد وجدوها والصغيران في حضنها وقد فارقوا الحياة، ودفن الثلاثة في قبر واحد. أحس حينها الوهن وفقدان القدرة على التنفس، وقبل أن يفقد وعيه، تساءل وهو يتطلع بعيداً، وقد فاضت مقلتيه بالدموع، لماذا لم يتسع حضنك لي؟
20 / 10 / 2023م.
عبدالعزيز الزني
مواليد مدينة درنة 1948م. المهنة معلم متقاعد. متحصل على دبلوم معهد المعلمين الخاص/ لغة انجليزية 1971م. دورة دراسية مطولة بالمعهد العالي للفنون المسرحية والسينما في بودابست دولة المجر 1981م ـــ 1984م، إضافة إلى دورات دراسية أخرى. قدم العديد من الدورات المسرحية والورش الفنية. بداية الكتابة مع بدايات سبعينيات القرن الماضي. كتب: القصة القصيرة / والتمثيلية المسموعة والمرئية / والمقالة / والمسرحية. في المسموعة أول عمل كان بعنوان "كل عقدة ولها حلال" أخرجها علي أحمد سالم 1971م. في المرئية أول عمل "الدميم" أخرجها محمود الزردومي، 1974م. في المسرح أول عمل قُدم على خشبة المسرح/ نطقت القبور وضاع الزمن 1975م إخراج رمضان الكوم. ومن النصوص المسرحية: أجمل جنية في العالم 1975م في "المنو دراما" الممثل الفرد كتبتُ عدة أعمال منها: زيارة ذات مساء "1" زيارة ذات مساء "2" السجين.. السجينة.. للطفل كتبت: الشياطين ترقص " مسرحية " أبناء الجن والمردة.. نالت الترتيب الأول كنص مسرحي غابة العفاريت والمردة / رواية شعرية للطفل.. ومن الكتب: "درنة .. هبة الساقية " كتاب حول تاريخ المدينة الاجتماعي. " فنـــــون " كتاب عن تاريخ درنة المسرحي.