بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. اللهم صل على محمد واله الطاهرين. ربنا اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين.
ان من أهم صفات الشريعة الإسلامية الواضحة والقطعية انها مجموعة معارف متناسقة متوافقة متفقة متسقة لا اختلاف فيها ولا تناقض، وهذا لا يكون فقط على مستوى العلم والمعرفة بل على مستوى الخطاب والنصوص. ولأهمية النص القرآني بل واصليته وجوهريته واساسيته في المعارف الشرعية لا بد من عدم التعامل معه بسطحية وحشوية بل يجب دوما إدراك التناسق والاتساق في نصوصه وخطاباته.
ان من اهم صفات القرآن خطابا ونصا ومعرفة وعلما انه موضوعي وعقلائي وفطري ووجداني، وهذا ما يصحح اخضاع نصوصه كلها الى هذه الأصول وعدم صحة التعامل مع النص القرآني بأصول لفظية بحتة فان ذلك يؤدي وبلا ريب الى الظاهرية والحشوية التي تصاحبها في أحيان كثيرة أخطاء معرفية واضحة.
حينما امر الله تعالى في كتابه بإطاعة الأنبياء عليهم السلام وبين امامتهم ووجوب اتباعهم والاقتداء بهم، كان ذلك دالا بلا ريب على ان تقليد الأنبياء مطلق ولا اعرف أحدا خصصه، فكل من قرأت له في تفسير قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) انها طاعة مطلقة، وكل من تناول قوله تعالى (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) فانه قال بالتقليد المطلق لرسول الله صلى الله عليه واله وكل من تحدث في قوله تعالى ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) قال انها مطلقة بلا تخصيص، وعلى ذلك جاء تعريف السنة الاصطلاحي بانه فعله او قوله صلى الله عليه واله ولم اجد أحدا يخصص. من هنا يكون القول بالتفكيك بين الشخصية التبليغية والشخصية الامتثالية للنبي وبين أفعال التبليغ فيعصم فيها وأفعال الامتثال فلا يعصم فيها لا شاهد له، ولقد تتبعت المسالة فوجدت الاقوال مجردة عن بحث مفصل فيها وانما اكتفى كل من الطرفين بذكر القول المختار عندهم اعتمادا على المتعارف او الاجماع او المقرر دون بحث تفصيلي في ادلة ذلك. ومن المعلوم ان دين الله هو القران والسنة وان المعرفة الشرعية هي القران والسنة وكل ما عداهما قابل للمناقشة والاخذ والرد.
قبل كل كلام لا بد من التذكير بما قدمت من ان الشريعة الإسلامية وكل كتب الله تعالى واقواله ووصاياه تتميز بالتناسق والتوافق وان بعضها يصدق بعضا وانه لا اختلاف فيها، وأنها موافقة للفطرة والوجدان وسلوك العقلاء في المعرفة وبيانها. ومن الواضح اننا لا نجد اثرا للتفصيل بين أفعال التبليغ وافعال الامتثال للنبي صلى الله عليه واله لا في نصوص الشريعة ولا في الوجدان ولا فطرة العقلاء، اذ ان تصور كون النبي معصوما في التبليغ وغير معصوم في الامتثال غير متصور عقلائيا ومخالف للوجدان، ولا مجال للتعبد هنا لان الامر امر عرفي عقلائي. ومن هنا فالنقل المخالف لذلك هو ظن لا يثبت كأخبار الاحاد التي اشارت الى عدم عصمة الأنبياء في امتثالاهم وافعالهم العادية، وان ثبت الصدور قطعا كآيات القران فهو متشابه يجب ان يؤول الى ما يوافق المحكم. ان هذا هو المنهج الحق المخرج للشريعة من الظن ومن الظاهرية ومن الحشوية. وسابين هنا الأصول القرانية التي تدل على عدم التفكيك بين النبي بما هو مبلغ وبين النبي بما هو ممتثل، وسأناقش بعض الاطروحات في هذا الشأن.
ومع ان عصمة الأنبياء الواحدة غير المجزأة في التبليغ والامتثال والعمل ظاهرة كحقيقة قرانيه وسنية وشرعية وعرفية وعقلائية بل وفطرية الا انه ارتكب القول بالتجزؤ وقيل به بسبب الفقه اللفظي السائد. ان الذي حصل وبسبب لفظية الفهم والمنهج اللفظي للفقه السائد حملت ظواهر آيات في القران واخبار احاد على خلاف حقيقة عصمة الأنبياء الذين هم أئمة علما وعملا؛ تبليغا وامتثالا. ولأجل الخروج من هذا الاشكال ميزوا بين النبي بما هو مبلغ وبين النبي بما هو ممتثل، فعصم في التبليغ ولم يعصم في الامتثال. من الواضح ان هذا التمييز اجتهادي وناتج عن الفهم اللفظي والفقه اللفظي والمنهج السندي لتناول النصوص الشرعية، وهو خطأ طالما اشرت اليه وان الصحيح اعتماد الفهم التصديقي والفقه التصديقي والمنهج العرضي قي تناول النصوص الشرعية والذي لا يمكنه ابدا التمييز بين تبليغية النبي وامتثاليته من حيث العصمة وعدمها، وهل النبي الا ذات واحدة بعقل واحد وحواس واحدة وروح واحدة؟ فكيف يتعقل التفكيك؟ ان هذا شيء يدعو الى التعجب حقا. وان ما يبطل التفريق بين النبي بما هو مبلغ والنبي بما هو ممتثل حقائق قرانيه واضحة لا ريب فيها منها:
الأولى: إطلاق أوامر طاعة الأنبياء عليهم السلام واتباعهم.
الثاني: إطلاق أوامر التأسي بالأنبياء عليهم السلام واتباعهم.
الثالث: إطلاق حكم العصيان على من يخالف الأنبياء عليهم السلام.
الرابع: ان هداية الأنبياء عليهم السلام دوما بأمر الله تعالى.
الخامس: ان حكم الأنبياء عليهم السلام دوما بالحق.
السادس: التطهير الخاص برسول الله صلى الله عليه واله واهل بيته من الرجس. وهو من المثال للأنبياء.
إضافة الى سيرة المسلمين بمتابعة النبي صلى الله عليه واله وتقليده المطلق في كل فعل، حتى انه عرفت السنة بانها كل فعل او قول من دون تخصيص.
وبعد هذا البيان الذي لا ريب فيه، لا اظن انه يبقى مجال للفقه اللفظي ان يحمل تلك الايات المتشابهات دلالة والاخبار المتشابهات صدورا التي ظاهرها وقوع الذنب العمدي من الأنبياء عليهم السلام على المعنى العمدي من الذنب القبيح والغواية المخالفة للرشد، بل تحمل على مخالفة غير عمدية فالمعصية غير عمدية والغواية على نقصان الخير والظلم هو الظلم للنفس بحرمان الخير والذي يوجب هذا الحمل المصدق هو ما عرفت من حقائق. فان الظاهر اللغوي للكلام ليس حجة بل الحجة هو الظاهر المعرفي التصديقي الذي يصدق ما هو ثابت ومعلوم. والمعنى الأول المخالف للعصمة لا يصدقه ما هو ثابت من معرفة بينما المعنى الثاني الموافق للعصمة هو المصدق فيكون هو الحق والعلم.
كما انه يكون من الواضح ان الأنسب والاصح بحث العصمة من حيث العمد والسهو أساسا ولا حاجة أصلا الى التفرعات الأخرى المشهورة ولا الى التمييز المعهود بين التبليغ والامتثال او أمور الحياة، فالعصمة لا تتجزأ لكن التمييز بين العمد والسهو واضح، سواء السهو التبليغي او الامتثالي، والسهو العلمي او العملي.
ولا يصح الالتفات الى اخبار الاحاد التي جاءت خلاف المعارف المصدقة من العصمة العمدية وان صح سندها ولا بالأقوال التي قيلت خلاف العصمة العمدية فانه ظن واشتباه وان صدرت من العلماء والاكابر والاتقياء رحمه الله تعالى وحفظ الاحياء منهم. وهنا لا بد من الإشارة ان صدور قول من العالم التقي النقي لا يعني دوما انه حق وان كان ذلك العالم يصل الى درجة يرى بنور الله تعالى، فان الله تعالى شاء الا يعطي كمالا لاحد وفق ساحته ومجاله، ولهذا انا اؤكد ان عصمة الأنبياء باطنية غيبية وليست ظاهرية شهودية وانها تزيد وتنقص وانها مراتب ولا تتعارض مع الصعود والنزول في تلك المراتب للشخص نفسه، ولا تتعارض مع التفضيل، ويمكن القول انها حالة فعلية تتأثر بالعلم والعمل في الوقت نفسه، ولهذا فإنها تزيد وتنقص في كل وقت الا انها في الأنبياء لا تخرج عن مجال العصمة والكون في حالة الرضا، فلا يعارضها بلوغ ادنى مستوياتها مما لا يخالف الخلوص والاجتباء لهم بما لا يصل القبح، ولا يعارضها بلوغ اعلى مستوياتها مما لا يخالف العبودية والمخلوقية والبشرية لهم.
وهنا مسألة وهي ان الأنبياء بشر، ولا دليل على اخراجهم من ذلك باي مستوى كان، لا على مستوى الروح ولا العلم ولا الحس، وما يقال خلاف ذلك ظن لا عبرة به، وليس لهم من الامر شيء ولا يضرون ولا ينفعون ولا يعلمون الغيب ولا يمتلكون أي قدرة في الكون ولا أية ولاية تكوينية على أي شيء، وانما هم يطلبون من الله ويدعونه فيستجيب لهم، انهم مقربون مفضلون محبوبون مسددون ملهمون موفقون، ولا شيء أكثر من ذلك. هذا هو شأنهم وعصمة الأنبياء عليهم السلام وان كانت كمالا بشريا نسبيا فلا يمكن مقارنته بالكمال الإلهي باي وجه ولا إدخاله في فيه فان هذا خطأ عظيم ومزلة كبيرة. كما ان الإشارات القرانية المشيرة الى اللوم والآيات التي في ظاهرها عبارات والفاظ المعصية والغواية والظلم والذنب فإنها صادرة من رب العزة الواحد المتعال فهو لا يسال عما يفعل وهم يسألون، كما انها تدلل على ان الكمال لله وحده مع ان كمال خلق الله تعالى بحسب حالهم هو دليل كمال صنعه تعالى. وخلاصة القول ان القول بعصمة الأنبياء وهو ظاهر القران لا يتعارض مع بشريتهم ولا مع واقعيتهم ولا مع عدم كمالهم النسبي ولا مع تفرد الله بالقدرة والكمال ولا يتعارض مع الوجدان والعرف والعقلانية والفطرية التي تبنى عليها الشريعة.
لا ريب ان افراد الله تعالى بالكمال والقدرة وبالمشيئة والإرادة من اهم عقائد التوحيد وان اشراك أي أحد فيها مخل بذلك، الا ان القول بعصمة الأنبياء لا يخل بذلك ولا يتعارض معه، كما انه ينبغي الاقتصار فيها على ما لا يصل الى أدني حد يقترب من ذلك، والقول بعدم العصمة اشتباها وتأويلا أفضل بكثير من القول بعصمة الأنبياء المدخل في خلل توحيدي، وهذا ما طالما أكد عليه اهل البيت عليهم السلام وبينته مفصلا في كتابي (المشكاة في تكفير الغلاة).
وهنا في هذا الكتاب سأتعرض لشيء من التفصيل للمعارف الشرعية التي تبطل القول بالتفصيل بين العصمة التبليغية والعصمة الامتثالية وبيان الفهم التصديقي المعرفي الصحيح في قبال الفهم اللفظي الخاطئ. وسيكون مصطلح الامتثال شاملا لعمل الطاعات والوصايا في المعاملات والمباحات من أمور المعاش والحياة فليلاحظ ذلك.
وسيكون الكلام في جهتين:
الأولى: في الأصول القرانية والسنية في العصمة الشاملة للتبليغ والامتثال.
الثانية: المناقشات.
ولا يحتاج الى مزيد كلام ان تمام البحث هو ببيان الأصول القرانية والسنية وبه ينتهي البحث وانما المناقشات هو من مزيد الاطلاع وهو هامشي ولا يدخل في البحث وأصله إرضاء اهل العصر فيما الفوه من ابحاث، والله الموفق.
وقبل ذلك من المفيد الإشارة الى ما ورد في القران من لفظة عصم ومشتقاتها
وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ﴿٢٧ يونس﴾
قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ﴿٤٣ هود﴾
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ﴿٣٣ غافر﴾
وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿١٠١ آل عمران﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴿١٠٣ آل عمران﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فأولئك مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١٤٦ النساء﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ ﴿١٧٥ النساء﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴿٦٧ المائدة﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال. بان يحاولوا ان يضلوه وهو صريح قوله تعالى (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ [النساء/113]
قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ﴿٤٣ هود﴾
وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴿٣٢ يوسف﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ﴿٧٨ الحج﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا ﴿١٧ الأحزاب﴾
وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ ﴿١٠ الممتحنة﴾ قال في الكشاف: والعصمة ما يعتصم به من عقد وسبب.
الايات المتقدمة تدل بلا ريب ان العصمة هي المنع، ولو قلنا ان أصلها المنع العملي لكان صحيحا، فمن الواضح ان اغلب تلك الايات في مقام الامتثال الاعتصام بالله تعالى والامتناع به من الفعل القبيح، بل لا أجد اية في غير ذلك، فانا لو اخرجنا آيات المنع من امر الله ستجد انها كلها في العمل والامتثال وهي ما يلي:
وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿١٠١ آل عمران﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴿١٠٣ آل عمران﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فأولئك مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١٤٦ النساء﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ ﴿١٧٥ النساء﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴿٣٢ يوسف﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ﴿٧٨ الحج﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
وعرفت ان قوله تعالى (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴿٦٧ المائدة﴾ شامل للعمل والامتثال. فمنه ان يحاولوا ان يضلوه وهو صريح قوله تعالى (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ [النساء/113] وهكذا في عصمة المؤمنين حيث قال تعالى (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [آل عمران/69] يفهم منها (فلا يضلونكم) وهو وعد من الله تعالى بعدم ضلال المسلمين كجماعة، وقد بينت انه لاجل ذلك لا بد ان يكون اجماعهم كليا وليس طائفيا وانه لا يخالف القران والسنة.
أقول ان من البين ان العصمة هنا هي المنع الشامل للعلم والعمل والقول والفعل والتبليغ والامتثال وهي شاملة للأنبياء والرسل. بل لو تدبرت الايات المتقدمة لوجدتها في العمل والامتثال قبل العلم والاعتقاد وان كانت شاملة له.
ومن الواضح بأوامر الاعتصام ان الاعتصام بالله تعالى في العمل والامتناع به من القبيح هو فرض قراني. فالمؤمن الممتثل معتصم وهو في تلك اللحظة معصوم، لكنه ان أخطأ او أذنب تختل عصمته، والفرق بينه وبين النبي ان النبي مطيع دوما فهو دوما في حالة العصمة الامتثالية. وهذا هو القدر الذي نريد بحثه ويهمنا هنا في بيان بطلان الفهم الظاهري اللفظي المفكك بين التبليغ والامتثال والمفصل للعصمة التبليغية والامتثالية ولو قلت ان هذه الايات تكفي المطالع بان العصمة شاملة للتبليغ والامتثال بل هي في الامتثال كالنص وان ما جاء في القران متشابها مخالفا لها في الظاهر بخصوص ذنوب ومعصية وظلم وقع من الأنبياء عليهم السلام لا يصح المصير اليه بل ينبغي ان يؤول وان الاخبار المخالفة لذلك ظن وان صح سندها، فليست صحة السند تعني العلم بالصدور وان روج البعض لخلاف ذلك.
في الحقيقة ان تعدد الشرائع والمناهج الالهية والأديان السماوية والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والظاهر والمؤول، واختلاف المفسرين واختلاف الفقهاء واختلاف المحدثين في ثبوت الاحاديث وفي دلالاتها يدل وبلا ريب على ان مرتبة العصمة التبليغية ليست بالمنزلة التي يشار اليها، والا لما جاز حصول اكثر تلك الأمور، بل لكان واجبا استمرا وجود الأنبياء بيننا او على الأصل ظهور الاوصياء وحضورهم بيننا، فان النبي يبلغ عن ربه والوصي يبلغ عن نبيه، وان اختلاف المسلمين والطوائف والمذاهب وان لم يكن بسبب المبلغ والتبليغ الا انه بلا ريب يتعارض مع المرتبة التي أعطيت للعصمة التبليغية. والصحيح ان التجلي الحقيقي لعصمة الأنبياء هو في العصمة الامتثالية وليس التبليغية. ولقد عرفت الايات التي تحدثت عن العصمة والاعتصام فإنها كلها في العمل، والشواهد النقلية والقولية على كفاية العمل بما يعلم وان الحجة فيما علم وان الغيب والواقع موضوع عن المكلف كلها تدل على ان العصمة حقيقة هي في الامتثال وهي الأصل وان من فروعها هو عصمة التبليغ، فقلب الوضع وجعل عصمة التبليغ أصلا وعصمة الامتثال فرعا خطأ بين.
ان الخطأ التبليغي يمكن تداركه بتبليغ مصحح، لكن الخطأ الامتثالي كيف يصحح؟ ولا يقال ان الاعتذار والتوبة والندم من الفاعل والمغفرة والعفو من الله تعالى مصحح، فان كل هذا ليس مصححا بل مزيل للأثر، واما الفعل ان وقع فلا مصحح له. ومن الواضح اننا نقصد بالخطأ الامتثالي أي التعمدي بالمخالفة، واما ما يكون عن غير تعمد ومع معذرية كاملة فلا ريب في امكان تصحيحه مع ملاحظة نفي الجهل بالحكم او موضوعه على العالم الكامل من نبي او وصي فانه ممنوع بل ممتنع. ومن هنا يتبين الخلل في الدليل العقلي الذي يستدل على العصمة المطلقة، اذ الأولى ان يقسم الخطأ الشرعي الى عمدي وسهوي تبليغا او امتثالا، علما او عملا، فما كان من التعمد فلا يمكن تصحيحه وهذا ممتنع من العارف الكامل من نبي او وصي، اما غير ذلك فيمكن تصحيحه سواء من جهة البيان والتبليغ للناس او من جهة الطاعة والامتثال لأمر الله تعالى ولا يخل ذلك بالعصمة، وهو الموافق لأصول الوجدان والفطرة والمعرفة العقلائية والعلمية الوضعية بخصوص البشر وطبيعتهم. فليلاحظ كيف ان العصمة الامتثالية أولى وأحق بالقول من العصمة التبليغية، كما ان على المؤمن ان يتنبه الى فداحة الذنب وانه علامة غباء وجهل فكيف يصح نسبته الى من أخلصهم الله واجتباهم؟ وفي الحقيقة لا يمكن وفق القران المساواة بين العصمة التبليغية والعصمة التمثيلية، اذ العصمة الامتثالية هي الأصل وهي الحقيقة، فكيف يصحح افراد العصمة بانها تبليغية فقط؟ ان القول بعدم العصمة الامتثالية للأنبياء خطأ بين ولولا ان آيات متشابهة دلالة وروايات متشابهة صدورا ودلالة ظاهرها وقوع الذنب والمعصية والظلم من الأنبياء لقلنا ان من يفتي بنفي العصمة الامتثالية ليس فقيها في المسألة، لكننا نقول ان من يفتي بنفي العصمة الامتثالية مشتبه ومخطئ في مستنده. وهذه المعارف التي سطرتها في الاسطر الأخيرة كلها استفادتها من أصول قرانيه ومن فروع تابعة لها، لا اعرف أحدا سبقني اليها، ولذلك انا ادعو علماء الإسلام ايدهم الله تعالى الى الاهتمام بهذا الطرح وتناوله، والقدر الذي انصح به وهو ضرورة الاطلاع على ما اكتبه فانه مستضيء بنور القران ان شاء الله ولا يقصد الا الحق والحقيقة بأذن الله والله العاصم.
ان من أهم صفات الشريعة الإسلامية الواضحة والقطعية انها مجموعة معارف متناسقة متوافقة متفقة متسقة لا اختلاف فيها ولا تناقض، وهذا لا يكون فقط على مستوى العلم والمعرفة بل على مستوى الخطاب والنصوص. ولأهمية النص القرآني بل واصليته وجوهريته واساسيته في المعارف الشرعية لا بد من عدم التعامل معه بسطحية وحشوية بل يجب دوما إدراك التناسق والاتساق في نصوصه وخطاباته.
ان من اهم صفات القرآن خطابا ونصا ومعرفة وعلما انه موضوعي وعقلائي وفطري ووجداني، وهذا ما يصحح اخضاع نصوصه كلها الى هذه الأصول وعدم صحة التعامل مع النص القرآني بأصول لفظية بحتة فان ذلك يؤدي وبلا ريب الى الظاهرية والحشوية التي تصاحبها في أحيان كثيرة أخطاء معرفية واضحة.
حينما امر الله تعالى في كتابه بإطاعة الأنبياء عليهم السلام وبين امامتهم ووجوب اتباعهم والاقتداء بهم، كان ذلك دالا بلا ريب على ان تقليد الأنبياء مطلق ولا اعرف أحدا خصصه، فكل من قرأت له في تفسير قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) انها طاعة مطلقة، وكل من تناول قوله تعالى (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) فانه قال بالتقليد المطلق لرسول الله صلى الله عليه واله وكل من تحدث في قوله تعالى ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) قال انها مطلقة بلا تخصيص، وعلى ذلك جاء تعريف السنة الاصطلاحي بانه فعله او قوله صلى الله عليه واله ولم اجد أحدا يخصص. من هنا يكون القول بالتفكيك بين الشخصية التبليغية والشخصية الامتثالية للنبي وبين أفعال التبليغ فيعصم فيها وأفعال الامتثال فلا يعصم فيها لا شاهد له، ولقد تتبعت المسالة فوجدت الاقوال مجردة عن بحث مفصل فيها وانما اكتفى كل من الطرفين بذكر القول المختار عندهم اعتمادا على المتعارف او الاجماع او المقرر دون بحث تفصيلي في ادلة ذلك. ومن المعلوم ان دين الله هو القران والسنة وان المعرفة الشرعية هي القران والسنة وكل ما عداهما قابل للمناقشة والاخذ والرد.
قبل كل كلام لا بد من التذكير بما قدمت من ان الشريعة الإسلامية وكل كتب الله تعالى واقواله ووصاياه تتميز بالتناسق والتوافق وان بعضها يصدق بعضا وانه لا اختلاف فيها، وأنها موافقة للفطرة والوجدان وسلوك العقلاء في المعرفة وبيانها. ومن الواضح اننا لا نجد اثرا للتفصيل بين أفعال التبليغ وافعال الامتثال للنبي صلى الله عليه واله لا في نصوص الشريعة ولا في الوجدان ولا فطرة العقلاء، اذ ان تصور كون النبي معصوما في التبليغ وغير معصوم في الامتثال غير متصور عقلائيا ومخالف للوجدان، ولا مجال للتعبد هنا لان الامر امر عرفي عقلائي. ومن هنا فالنقل المخالف لذلك هو ظن لا يثبت كأخبار الاحاد التي اشارت الى عدم عصمة الأنبياء في امتثالاهم وافعالهم العادية، وان ثبت الصدور قطعا كآيات القران فهو متشابه يجب ان يؤول الى ما يوافق المحكم. ان هذا هو المنهج الحق المخرج للشريعة من الظن ومن الظاهرية ومن الحشوية. وسابين هنا الأصول القرانية التي تدل على عدم التفكيك بين النبي بما هو مبلغ وبين النبي بما هو ممتثل، وسأناقش بعض الاطروحات في هذا الشأن.
ومع ان عصمة الأنبياء الواحدة غير المجزأة في التبليغ والامتثال والعمل ظاهرة كحقيقة قرانيه وسنية وشرعية وعرفية وعقلائية بل وفطرية الا انه ارتكب القول بالتجزؤ وقيل به بسبب الفقه اللفظي السائد. ان الذي حصل وبسبب لفظية الفهم والمنهج اللفظي للفقه السائد حملت ظواهر آيات في القران واخبار احاد على خلاف حقيقة عصمة الأنبياء الذين هم أئمة علما وعملا؛ تبليغا وامتثالا. ولأجل الخروج من هذا الاشكال ميزوا بين النبي بما هو مبلغ وبين النبي بما هو ممتثل، فعصم في التبليغ ولم يعصم في الامتثال. من الواضح ان هذا التمييز اجتهادي وناتج عن الفهم اللفظي والفقه اللفظي والمنهج السندي لتناول النصوص الشرعية، وهو خطأ طالما اشرت اليه وان الصحيح اعتماد الفهم التصديقي والفقه التصديقي والمنهج العرضي قي تناول النصوص الشرعية والذي لا يمكنه ابدا التمييز بين تبليغية النبي وامتثاليته من حيث العصمة وعدمها، وهل النبي الا ذات واحدة بعقل واحد وحواس واحدة وروح واحدة؟ فكيف يتعقل التفكيك؟ ان هذا شيء يدعو الى التعجب حقا. وان ما يبطل التفريق بين النبي بما هو مبلغ والنبي بما هو ممتثل حقائق قرانيه واضحة لا ريب فيها منها:
الأولى: إطلاق أوامر طاعة الأنبياء عليهم السلام واتباعهم.
الثاني: إطلاق أوامر التأسي بالأنبياء عليهم السلام واتباعهم.
الثالث: إطلاق حكم العصيان على من يخالف الأنبياء عليهم السلام.
الرابع: ان هداية الأنبياء عليهم السلام دوما بأمر الله تعالى.
الخامس: ان حكم الأنبياء عليهم السلام دوما بالحق.
السادس: التطهير الخاص برسول الله صلى الله عليه واله واهل بيته من الرجس. وهو من المثال للأنبياء.
إضافة الى سيرة المسلمين بمتابعة النبي صلى الله عليه واله وتقليده المطلق في كل فعل، حتى انه عرفت السنة بانها كل فعل او قول من دون تخصيص.
وبعد هذا البيان الذي لا ريب فيه، لا اظن انه يبقى مجال للفقه اللفظي ان يحمل تلك الايات المتشابهات دلالة والاخبار المتشابهات صدورا التي ظاهرها وقوع الذنب العمدي من الأنبياء عليهم السلام على المعنى العمدي من الذنب القبيح والغواية المخالفة للرشد، بل تحمل على مخالفة غير عمدية فالمعصية غير عمدية والغواية على نقصان الخير والظلم هو الظلم للنفس بحرمان الخير والذي يوجب هذا الحمل المصدق هو ما عرفت من حقائق. فان الظاهر اللغوي للكلام ليس حجة بل الحجة هو الظاهر المعرفي التصديقي الذي يصدق ما هو ثابت ومعلوم. والمعنى الأول المخالف للعصمة لا يصدقه ما هو ثابت من معرفة بينما المعنى الثاني الموافق للعصمة هو المصدق فيكون هو الحق والعلم.
كما انه يكون من الواضح ان الأنسب والاصح بحث العصمة من حيث العمد والسهو أساسا ولا حاجة أصلا الى التفرعات الأخرى المشهورة ولا الى التمييز المعهود بين التبليغ والامتثال او أمور الحياة، فالعصمة لا تتجزأ لكن التمييز بين العمد والسهو واضح، سواء السهو التبليغي او الامتثالي، والسهو العلمي او العملي.
ولا يصح الالتفات الى اخبار الاحاد التي جاءت خلاف المعارف المصدقة من العصمة العمدية وان صح سندها ولا بالأقوال التي قيلت خلاف العصمة العمدية فانه ظن واشتباه وان صدرت من العلماء والاكابر والاتقياء رحمه الله تعالى وحفظ الاحياء منهم. وهنا لا بد من الإشارة ان صدور قول من العالم التقي النقي لا يعني دوما انه حق وان كان ذلك العالم يصل الى درجة يرى بنور الله تعالى، فان الله تعالى شاء الا يعطي كمالا لاحد وفق ساحته ومجاله، ولهذا انا اؤكد ان عصمة الأنبياء باطنية غيبية وليست ظاهرية شهودية وانها تزيد وتنقص وانها مراتب ولا تتعارض مع الصعود والنزول في تلك المراتب للشخص نفسه، ولا تتعارض مع التفضيل، ويمكن القول انها حالة فعلية تتأثر بالعلم والعمل في الوقت نفسه، ولهذا فإنها تزيد وتنقص في كل وقت الا انها في الأنبياء لا تخرج عن مجال العصمة والكون في حالة الرضا، فلا يعارضها بلوغ ادنى مستوياتها مما لا يخالف الخلوص والاجتباء لهم بما لا يصل القبح، ولا يعارضها بلوغ اعلى مستوياتها مما لا يخالف العبودية والمخلوقية والبشرية لهم.
وهنا مسألة وهي ان الأنبياء بشر، ولا دليل على اخراجهم من ذلك باي مستوى كان، لا على مستوى الروح ولا العلم ولا الحس، وما يقال خلاف ذلك ظن لا عبرة به، وليس لهم من الامر شيء ولا يضرون ولا ينفعون ولا يعلمون الغيب ولا يمتلكون أي قدرة في الكون ولا أية ولاية تكوينية على أي شيء، وانما هم يطلبون من الله ويدعونه فيستجيب لهم، انهم مقربون مفضلون محبوبون مسددون ملهمون موفقون، ولا شيء أكثر من ذلك. هذا هو شأنهم وعصمة الأنبياء عليهم السلام وان كانت كمالا بشريا نسبيا فلا يمكن مقارنته بالكمال الإلهي باي وجه ولا إدخاله في فيه فان هذا خطأ عظيم ومزلة كبيرة. كما ان الإشارات القرانية المشيرة الى اللوم والآيات التي في ظاهرها عبارات والفاظ المعصية والغواية والظلم والذنب فإنها صادرة من رب العزة الواحد المتعال فهو لا يسال عما يفعل وهم يسألون، كما انها تدلل على ان الكمال لله وحده مع ان كمال خلق الله تعالى بحسب حالهم هو دليل كمال صنعه تعالى. وخلاصة القول ان القول بعصمة الأنبياء وهو ظاهر القران لا يتعارض مع بشريتهم ولا مع واقعيتهم ولا مع عدم كمالهم النسبي ولا مع تفرد الله بالقدرة والكمال ولا يتعارض مع الوجدان والعرف والعقلانية والفطرية التي تبنى عليها الشريعة.
لا ريب ان افراد الله تعالى بالكمال والقدرة وبالمشيئة والإرادة من اهم عقائد التوحيد وان اشراك أي أحد فيها مخل بذلك، الا ان القول بعصمة الأنبياء لا يخل بذلك ولا يتعارض معه، كما انه ينبغي الاقتصار فيها على ما لا يصل الى أدني حد يقترب من ذلك، والقول بعدم العصمة اشتباها وتأويلا أفضل بكثير من القول بعصمة الأنبياء المدخل في خلل توحيدي، وهذا ما طالما أكد عليه اهل البيت عليهم السلام وبينته مفصلا في كتابي (المشكاة في تكفير الغلاة).
وهنا في هذا الكتاب سأتعرض لشيء من التفصيل للمعارف الشرعية التي تبطل القول بالتفصيل بين العصمة التبليغية والعصمة الامتثالية وبيان الفهم التصديقي المعرفي الصحيح في قبال الفهم اللفظي الخاطئ. وسيكون مصطلح الامتثال شاملا لعمل الطاعات والوصايا في المعاملات والمباحات من أمور المعاش والحياة فليلاحظ ذلك.
وسيكون الكلام في جهتين:
الأولى: في الأصول القرانية والسنية في العصمة الشاملة للتبليغ والامتثال.
الثانية: المناقشات.
ولا يحتاج الى مزيد كلام ان تمام البحث هو ببيان الأصول القرانية والسنية وبه ينتهي البحث وانما المناقشات هو من مزيد الاطلاع وهو هامشي ولا يدخل في البحث وأصله إرضاء اهل العصر فيما الفوه من ابحاث، والله الموفق.
وقبل ذلك من المفيد الإشارة الى ما ورد في القران من لفظة عصم ومشتقاتها
وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ﴿٢٧ يونس﴾
قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ﴿٤٣ هود﴾
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ﴿٣٣ غافر﴾
وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿١٠١ آل عمران﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴿١٠٣ آل عمران﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فأولئك مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١٤٦ النساء﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ ﴿١٧٥ النساء﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴿٦٧ المائدة﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال. بان يحاولوا ان يضلوه وهو صريح قوله تعالى (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ [النساء/113]
قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ﴿٤٣ هود﴾
وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴿٣٢ يوسف﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ﴿٧٨ الحج﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا ﴿١٧ الأحزاب﴾
وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ ﴿١٠ الممتحنة﴾ قال في الكشاف: والعصمة ما يعتصم به من عقد وسبب.
الايات المتقدمة تدل بلا ريب ان العصمة هي المنع، ولو قلنا ان أصلها المنع العملي لكان صحيحا، فمن الواضح ان اغلب تلك الايات في مقام الامتثال الاعتصام بالله تعالى والامتناع به من الفعل القبيح، بل لا أجد اية في غير ذلك، فانا لو اخرجنا آيات المنع من امر الله ستجد انها كلها في العمل والامتثال وهي ما يلي:
وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿١٠١ آل عمران﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴿١٠٣ آل عمران﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فأولئك مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١٤٦ النساء﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ ﴿١٧٥ النساء﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴿٣٢ يوسف﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ﴿٧٨ الحج﴾ ت وهو شامل للعمل والامتثال.
وعرفت ان قوله تعالى (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴿٦٧ المائدة﴾ شامل للعمل والامتثال. فمنه ان يحاولوا ان يضلوه وهو صريح قوله تعالى (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ [النساء/113] وهكذا في عصمة المؤمنين حيث قال تعالى (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [آل عمران/69] يفهم منها (فلا يضلونكم) وهو وعد من الله تعالى بعدم ضلال المسلمين كجماعة، وقد بينت انه لاجل ذلك لا بد ان يكون اجماعهم كليا وليس طائفيا وانه لا يخالف القران والسنة.
أقول ان من البين ان العصمة هنا هي المنع الشامل للعلم والعمل والقول والفعل والتبليغ والامتثال وهي شاملة للأنبياء والرسل. بل لو تدبرت الايات المتقدمة لوجدتها في العمل والامتثال قبل العلم والاعتقاد وان كانت شاملة له.
ومن الواضح بأوامر الاعتصام ان الاعتصام بالله تعالى في العمل والامتناع به من القبيح هو فرض قراني. فالمؤمن الممتثل معتصم وهو في تلك اللحظة معصوم، لكنه ان أخطأ او أذنب تختل عصمته، والفرق بينه وبين النبي ان النبي مطيع دوما فهو دوما في حالة العصمة الامتثالية. وهذا هو القدر الذي نريد بحثه ويهمنا هنا في بيان بطلان الفهم الظاهري اللفظي المفكك بين التبليغ والامتثال والمفصل للعصمة التبليغية والامتثالية ولو قلت ان هذه الايات تكفي المطالع بان العصمة شاملة للتبليغ والامتثال بل هي في الامتثال كالنص وان ما جاء في القران متشابها مخالفا لها في الظاهر بخصوص ذنوب ومعصية وظلم وقع من الأنبياء عليهم السلام لا يصح المصير اليه بل ينبغي ان يؤول وان الاخبار المخالفة لذلك ظن وان صح سندها، فليست صحة السند تعني العلم بالصدور وان روج البعض لخلاف ذلك.
في الحقيقة ان تعدد الشرائع والمناهج الالهية والأديان السماوية والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والظاهر والمؤول، واختلاف المفسرين واختلاف الفقهاء واختلاف المحدثين في ثبوت الاحاديث وفي دلالاتها يدل وبلا ريب على ان مرتبة العصمة التبليغية ليست بالمنزلة التي يشار اليها، والا لما جاز حصول اكثر تلك الأمور، بل لكان واجبا استمرا وجود الأنبياء بيننا او على الأصل ظهور الاوصياء وحضورهم بيننا، فان النبي يبلغ عن ربه والوصي يبلغ عن نبيه، وان اختلاف المسلمين والطوائف والمذاهب وان لم يكن بسبب المبلغ والتبليغ الا انه بلا ريب يتعارض مع المرتبة التي أعطيت للعصمة التبليغية. والصحيح ان التجلي الحقيقي لعصمة الأنبياء هو في العصمة الامتثالية وليس التبليغية. ولقد عرفت الايات التي تحدثت عن العصمة والاعتصام فإنها كلها في العمل، والشواهد النقلية والقولية على كفاية العمل بما يعلم وان الحجة فيما علم وان الغيب والواقع موضوع عن المكلف كلها تدل على ان العصمة حقيقة هي في الامتثال وهي الأصل وان من فروعها هو عصمة التبليغ، فقلب الوضع وجعل عصمة التبليغ أصلا وعصمة الامتثال فرعا خطأ بين.
ان الخطأ التبليغي يمكن تداركه بتبليغ مصحح، لكن الخطأ الامتثالي كيف يصحح؟ ولا يقال ان الاعتذار والتوبة والندم من الفاعل والمغفرة والعفو من الله تعالى مصحح، فان كل هذا ليس مصححا بل مزيل للأثر، واما الفعل ان وقع فلا مصحح له. ومن الواضح اننا نقصد بالخطأ الامتثالي أي التعمدي بالمخالفة، واما ما يكون عن غير تعمد ومع معذرية كاملة فلا ريب في امكان تصحيحه مع ملاحظة نفي الجهل بالحكم او موضوعه على العالم الكامل من نبي او وصي فانه ممنوع بل ممتنع. ومن هنا يتبين الخلل في الدليل العقلي الذي يستدل على العصمة المطلقة، اذ الأولى ان يقسم الخطأ الشرعي الى عمدي وسهوي تبليغا او امتثالا، علما او عملا، فما كان من التعمد فلا يمكن تصحيحه وهذا ممتنع من العارف الكامل من نبي او وصي، اما غير ذلك فيمكن تصحيحه سواء من جهة البيان والتبليغ للناس او من جهة الطاعة والامتثال لأمر الله تعالى ولا يخل ذلك بالعصمة، وهو الموافق لأصول الوجدان والفطرة والمعرفة العقلائية والعلمية الوضعية بخصوص البشر وطبيعتهم. فليلاحظ كيف ان العصمة الامتثالية أولى وأحق بالقول من العصمة التبليغية، كما ان على المؤمن ان يتنبه الى فداحة الذنب وانه علامة غباء وجهل فكيف يصح نسبته الى من أخلصهم الله واجتباهم؟ وفي الحقيقة لا يمكن وفق القران المساواة بين العصمة التبليغية والعصمة التمثيلية، اذ العصمة الامتثالية هي الأصل وهي الحقيقة، فكيف يصحح افراد العصمة بانها تبليغية فقط؟ ان القول بعدم العصمة الامتثالية للأنبياء خطأ بين ولولا ان آيات متشابهة دلالة وروايات متشابهة صدورا ودلالة ظاهرها وقوع الذنب والمعصية والظلم من الأنبياء لقلنا ان من يفتي بنفي العصمة الامتثالية ليس فقيها في المسألة، لكننا نقول ان من يفتي بنفي العصمة الامتثالية مشتبه ومخطئ في مستنده. وهذه المعارف التي سطرتها في الاسطر الأخيرة كلها استفادتها من أصول قرانيه ومن فروع تابعة لها، لا اعرف أحدا سبقني اليها، ولذلك انا ادعو علماء الإسلام ايدهم الله تعالى الى الاهتمام بهذا الطرح وتناوله، والقدر الذي انصح به وهو ضرورة الاطلاع على ما اكتبه فانه مستضيء بنور القران ان شاء الله ولا يقصد الا الحق والحقيقة بأذن الله والله العاصم.